الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ٢

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

أُطِيعَ فيما أَمرَ وانْتُهِيَ عمّا زَجَرَ ، اللهًّ عزَّ وجلَّ المنشىءُ للأرواحِ والصُّورِ».

فقالَ له ابنُ أَبي العوجاءِ : ذكرتَ ـ أَبا عبدِاللهِّ ـ فأَحَلْتَ على غائِبٍ.

فقالَ الصّادقُ عليه‌السلام : «كيفَ يكونُ ـ يا ويلَكَ ـ عَنَّا غائباً من هو معَ خلقِه شاهدٌ ، وِاليهم أقربُ من حبلِ الوريدِ؟! يسمعً كلامَهم ويعلمُ اسرارَهم ، لا يخلو منه مكانٌ ، ولا يشتغل به مكانٌ ، ولا يكونُ إِلى مكانٍ أَقربَ من مكانٍ ، تشهدُ له بذلكَ آثارُه ، وتدلُّ عليه أَفعالهُ ، والّذي بعثَه بالآياتِ المُحكَمةِ والبراهينِ الواضحةِ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله جاءَنا بهذه العبادةِ ، فإِن شككتَ في شيءٍ من أَمرِه فاسأَل عنه أُوْضِحْه لكَ ».

قالَ : فأَبلسَ ابنُ أَبي العوجاءِ ولم يَدرِ ما يقولُ ، فانصرفَ من بينِ يديه ، وقالَ لأصحابه : سأَلتكُم أَن تلتمسوا لي خُمرة فالقَيتموني على جَمرةٍ ، قالوا له : اسكَتْ ، فواللهِّ لقد فَضَحْتَنا بِحَيْرتِكَ وانقطاعِكَ ، وما رأَيْنا أحقرَ مِنكَ اليومَ في مجلسِه ؛ فقالَ : أَلي تَقولونَ هذا؟! إِنه ابنُ من حلقَ رؤوسَ من تَرَوْنَ ، وأَومأ بيدِه إِلى أَهلِ الموسم (١).

وُرويَ : أنّ أبا شاكرِ الدّيصانيّ وقفَ ذاتَ يومٍ في مجلسِ أَبي عبدِاللهِ عليه‌السلام فقالَ له : إِنّكَ لأحدُ النجُّومِ الزّواهرِ ، وكانَ آباؤكَ بُدوراً بَواهِرَ ، وأُمّهاتكَ عقيلاتٍ عَباهِرَ (٢) ، وعُنصرُكَ من أَكرمِ العناصرِ ، وإذا

__________________

(١) روى الكليني قطعة منه في الكافي ٤ : ١٩٧ / ١ ، والصدوق في الامالي : ٤٩٣ / ٤ ، والعلل : ٤٠٣ / ٤ ، والطبرسي في الاحتجاج : ٣٣٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠ : ٢٠٩ / ١١.

(٢) ألعبهرة :هي المرأة التى جمعت الحُسْن والجسم والخُلق «لسان العرب ـ عبهر ـ ٤ : ٥٣٦».

٢٠١

ذُكِرَ العلماءُ فبكَ ثَنْيُ الخناصِرِ (١) خَبِّرنا أَيُّها البحرُ الزّاخرُ ، ما الدّليل على حدوث (٢) العالم َ؟

فقالَ أَبو عبدِاللهِّ عليه‌السلام : «مِنْ أقرب الدّليلِ على ذلكَ ما أَذكرهُ لكَ ؛ ثمّ دعا ببيضةٍ فوضعَها في راحتهِ وقالَ :َ هذا حصنٌ مَلمومٌ ، داخله غِرْقيءٌ (٣) ، رقيقٌ ، تُطيفُ به كالفضّةِ السّائلةِ والذّهبةِ المائعةِ ، أَتشكُّ في ذلكَ؟

قالَ أَبو شاكرٍ : لا شكَّ فيه.

قالَ أَبوعبدِاللهِّ عليه‌السلام : «ثمّ إِنّه يَنْفَلقُ عن صورةٍ كالطّاووسٍ ، أَدَخَلَه شيءٌ غيرُما عرفتَ؟».

قالَ : لا.

قالَ : «فهذا الدّليلُ على حَدَثِ العالمِ ».

فقالَ أَبو شاكرٍ : دَلَلْتَ ـ أَبا عبدِاللهِّ ـ فأَوضحتَ ، وقلتَ فأحسنتَ ، وذكرتَ فأَوجزتَ ، وقد علمتَ أَنّا لا نَقبلُ إِلّا ما أَدركْناه بأَبصارِنا ، أَو سمعْناه بآذانِنا ، أَوذقناه بأَفواهِنا ، أَو شممنْاه بأُنوفِنا ، أَو لمسْناه ببشرتِنا.

فقالَ أَبو عبدِاللهِّ عليه‌السلام : «ذكرتَ الحواسَّ الخمسَ وهي لا

__________________

(١) ثني الخناصر: بفلان تثنى الخناصر أي تُبتدأ به اذا ذكر أشكاله. «لسان العرب ـ خنصر ـ ٤ : ٢٦١ ».

(٢) في «ش» و «م» : حَدَثَ ، وما في المتن من نسخة «ح ».

(٣) الغرقئ : قشر ألبيض الرقيق الذي تحت القشر الصلب «الصحاح ـ غرقا ـ ١ : ٦١ ».

٢٠٢

تنفعُ فِى الاستنباطِ إِلّا بدليلٍ ، كما لا تقطعُ الظُّلمةُ بغيرِ مصباح » (١) يُريدُ عليه‌السلام أَنّ الحواسَّ بغيرِعقلٍ لا تُوصِلُ إِلى معرفةِ الغائباتِ ، وأَنّ الّذي أراه من حُدوثِ الصُّورةِ معقولٌ ِبنيَ العلمُ به على محسوسٍ.

فصل

وممّا حُفِظَ عنه عليه‌السلام في وجوبِ المعرفةِ باللهِّ تعالى وبدينهِ ، قولُه : «وجدتُ علمَ النّاسِ كلِّهم في أَربعٍ : أَوّلها : أَنْ تَعرفَ ربَّكَ ؛ والثّاني : أَن تَعرفَ ما صَنعَ بكَ ؛ والثّالثُ : أَن تَعرفَ ما أَرادَ منكَ ؛ والرّابعُ : أَن تعرفَ ما يُخرجًكَ عن دينكَ » (٢).

وهذه أقسامٌ تُحيط بالمفروضِ منَ المعارفِ ، لأنه أَوِّلُ ما يجبُ على العبدِ معرفةُ ربَه ـ جلَّ جلالُه ـ فإِذا علمَ أَنّ له إِلهاً ، وجبَ أَن يَعرفَ صُنعَه إِليه ، فإِذا عرفَ صُنعَه عرفَ به نعمتَه ، فاذا عِرفَ نعمتَه وجبَ عليه شكرُه ، فإِذا أَراد تأْديةَ شُكرِه ، وجبَ عليه معرفةُ مُرادِه ليُطِيعَه بفعلِه ، واذا وجبَ عليه طاعته ، وجبَ عليه معرفةُ ما يخرجه من دينهِ ليجتنبَه فتَخْلُص له طاعة ربِّه وشُكرُ إِنعامِه.

__________________

(١) رواه الصدوق في التوحيد : ٢٩٢ / ١ ، باختلاف يسير ، وروى الكليني قطعة منه في الكافي ١ : ٦٣ / ذيل ح ٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠ : ٢١١ / ١٢.

(٢) الكافي ١ : ٤٠ / ١١ ، الخصال : ٢٣٩ / ٨٧.

٢٠٣

فصل

وممّا حفظ عنه عليه‌السلام في التّوحيدِ ونفيِ التّشبيهِ قولهُ لهشام بنِ الحكمِ رحمه‌الله : «إِنَّ اللهَّ لا يشبهُ شيئاً ولا يُشْبِهُه شيءٌ ، وكلُّ ماوقعَ في الوهمِ فهو بخلافهِ » (١).

فصل

وممّا حفِظُ عنه عليه‌السلام من موجزِ القولِ في العدلِ قولُه لزُرارة بن أَعْينَ رحمه‌الله : «يا زرارةُ ، أُعطيكَ جملةً في القضاءِ والقَدَرِ».

قالَ له زرارة : نعم ، جُعِلْتُ فداكَ.

قالَ له : «إِنّه إِذا كانَ يومُ القيامةِ وجمعَ اللهُّ الخلائقَ سأَلهم عمّا عَهِدَ إِليهم ولم يسأَلْهم عمّا قضى عليهم » (٢).

فصل

وممّا حُفِظَ عنه عليه‌السلام في الحكمةِ والموعظةِ قولُه : «ما كُلُّ مَنْ

__________________

(١) توحيد الصدوق : ٨٠ / ذح ٣٦ ، عن المفضل بن عمر.

(٢) توحيد الصدوق : ٣٦٥ / ٢ ، إعتقادات الصدوق : ٧١ ، وفيهما من قوله : اذا كان يوم

٢٠٤

نَوى شيئاً قَدرَعليه ، ولا كل مَنْ قَدرَ على شيءٍ وُفقَ له ، ولا كلّ مَنْ وُفِّقَ أصابَ له مَوْضِعاً ، فإِذا اجتمعتِ النِّيّةُ والقُدرةُ والتّوفيق والإصابةُ فهنالكَ تمّتِ السّعادةُ» (١).

فصل

وممّا حُفِظَ عنه عليه‌السلام في الحثِّ على النّظرِ في دينِ الله ، والمعرفةِ لأولياءِ اللهِ ، قولُه عليه‌السلام : «أحسِنوا النّظرَ فيما لا يَسَعُكم جَهْلهُ ، وانْصَحُوا لأنفسِكم وجاهِدوها (٢) في طلب معرفةِ ما لا عُذْرَ لكم في جهلهِ ، فإِنّ لدينِ اللهِ أركاناً لا يَنفعُ مَنْ جَهِلَهَا شِدّةُ اجتهادِه في طلب ظاهرِ عبادتِه ، ولا يَضُرُّ مَنْ عَرفَها فدانَ بها حسنُ اقتصادِه ، ولا سبيلَ لأحدٍ إِلى ذلكَ إِلا بعونٍ منَ اللهِّ عزَ وجلَّ » (٣).

فصل

وممّا حُفِظَ عنه عليه‌السلام في الحثِّ على التّوبةِ قولُه : «تاْخيرُ التّوبةِ اغترارٌ ، وطولُ التّسويفِ حَيْرَةٌ ، والاعتلالُ على اللهِ هلكة ، والإصرارُ على الذّنبِ أَمن لمكرِ اللهِ ، ولا يأْمنُ مكرَ الله إلا القومُ

__________________

القيامة ...

(١) الفصول المهمة لابن الصباغ : ٢٢٨.

(٢) في هامش «ش» و «م» : وجاهدوا.

(٣) كنز الفوائد ٢ : ٣٣.

٢٠٥

الخاسرون » (١).

والأخبارُ فيما حُفِظَ عنه عليه‌السلام منَ العلمِ والحكمةِ والبيانِ والحجّةِ والزهدِ والموعظةِ وفنونِ العلمِ كلِّه ، أكثرُمن أَن تُحصى بالخطاب أَو تُحْوى بالكتاب ، وفيما أَثبتْناه منه كفايةٌ في الغرضِ الّذي قصدْناه ، واللهُ الموفِّقُ للصّوابِ.

فصل

وفيه عليه‌السلام يقولُ السّيِّدُ ابنُ محمّدٍ الحِمْيرَيّ رحمه‌الله وقد رجعَ عن قولهِ بمذهب الكيْسانيةِ (٢) ، لمّا بلغَه إِنكارُ أبي عبدِالله عليه‌السلام مقالَه ، ودعاؤه له إِلى القولِ بنظام الإمامةِ :

يَا رَاكِباً نَحْوَ المَدِيْنَةِ جَسْرَةً (٣)

عُذَافِرَةً (٤) (يَطويْ بهَا) (٥) كُلّ سَبْسَب (٦)

إِذا مَا هَدَاكَ اللهُ عَايَنْت جَعْفَراً

فَقُلْ لِوَليِّ اللهِ وابْنِ المُهَذَّبِ

أَلا يَا وَليّ اللهِّ وابْنَ وَلِيِّه

أَتُوْبُ إِلَى الرحْمانِ ثُم تأوّبيْ

إِلَيْكَ مِنً الذَّنْبِ الّذِيْ كُنْتُ مُطْنِبَاً

أجَاهِدُ فِيْهِ دَائِبَاً كُلّ مُعْرِبِ

__________________

(١) الفصول المهمة : ٢٢٨.

(٢) الكيسانية : هم القائلون بامامة محمد بن الحنفية ، وانه وصي الامام علي بن أبي طالب عليه‌السلام. «فرق الشيعة : ٢٣ ».

(٣) الجسرة : العظيمة من الابل. «الصحاح ـ جسر ـ ٢ : ٦١٣».

(٤) العذافرة : العظيمة الشديدة من الابل. «الصحاح ـ عذفر ـ ٢ : ٧٤٢».

(٥) في هامش «ش» : تطوي له.

(٦) السبسب : المفازة أو البادية «الصحاح ـ سبب ـ ١ : ١٤٥ ».

٢٠٦

وَمَا كانَ قَوليْ في (ابْنِ خَوْلَة) (١) دَائِبَاً

مُعَانَدَةً مِنِّيْ لِنَسْلِ المُطيّبِ

وَلكِنْ رَوَيْنَاَ عَنْ وَصِيِّ مُحمَّدٍ

وَلَمْ يَكُ فِيْمَا قَالَ بالْمُتَكَذّبِ

بِأنَّ وَليَّ الأمْرِ يُفْقدُ لا يُرى

سنِيْنَ كَفِعْلِ الخائف المُتَرَقًّب

فَتُقْسَمُ اَمْوَالُ الْفَقِيْد كأنَّمَا

تَغَيُّبَه (٢) بَيْنَ الصفيح المُنَصَّبَ

فَإِنْ قُلْتَ : لا ، فَالْحَقُّ قوْلُكَ وَالَّذِيْ

تَقُوْلُ فَحَتْمٌ غَيْرُ مَا مُتَغَضّبِ (٣)

وُأشْهِد رَبِّيْ أَنَ قوْلَكَ حُجَّةٌ

عَلَى الْخَلقِ طُرَّاً مِنْ مُطِيْعٍ وُمُذْنِبِ

بأَنَّ وَلِيَّ الأمْرِ وَالْقَائِمَ الَّذِيْ

تَطَلُّعُ نَفْسِيْ نَحْوَهُ وَتَطَربيْ

لهُ غَيْبَةٌ لا بُد أَنْ سيغيبها

فَصلَّى عَلَيْهِ اللهُّ مِنْ مُتَغَيِّب

فَيَمْكُثُ حِيْنَاً ثُمّ يَظْهَرُ أَمْرُهُ

فَيَمْلأ عَدْلا كُلَّ شرقٍ وَمَغْرِبِ (٤)

وفي هذا الشَعرِ دليلٌ على رجوعِ السّيِّدِ رحمه‌الله عن مذهبِ

__________________

(١) في هامش «ش» : محمد بنِ الحنفية ـ رحمة الله عليه ـ.

(٢) في هامش «ش» و «م» : نغيّبه.

(٣) في هامش «ش» : متعصّب.

(٤) روى الصدوق هذه القصيدة في إكمال الدين : ٣٤ ، باضافة خمسة ابيات بعد قوله : تغيبه بين الصفيح المنصب :

فيمكث حيَناً ثم ينبع نبعةً

كنبعة جدي من الافق كوكب

يسير بنصر الله من بيت ربه

على سؤدد منه وأمر مسبب

يسير الى اعدائه بلوائه

فيقتلهم قتلاً كحران مغضب

فلما رَوى ان ابن خولة غائب

صرفنا اليه ‌قولنا لم نكذب

وقلنا هوالمهدي والقائم الذي

يعيش به من عدله كل مجدب

وفي اخر القصيدة زاد آخر:

بذاك أدين الله سراً وجهرة

ولست وان عوتبت فيه بمعتب

٢٠٧

الكَيْسانيّةِ ، وقولهِ بإِمامةِ الصّادقِ عليه‌السلام ووجودِ الدّعوةِ ظاهرةً منَ الشَيعةِ في أَيّام أَبي عبدِاللهِ عليه‌السلام إِلى إِمامتهِ والقولِ بغيبةِ صاحب الزّمانِ عليه‌السلام ، وأنّها إِحدى علاماتهِ ، وهو صريحُ قولِ الإماميّةَ الأثنَى عشريّة.

٢٠٨

باب

ذكر أَولادِ أَبي عبدِاللهِ عليه السلامُ

وعددِهم وأَسمائهم وطرفٍ من أَخبارِهم

وكان لأبي عبدِاللهِّ عليه‌السلام عشرةُ أَولادٍ : إسماعيلُ وعبدُاللهِّ وأُمُّ فَرْوَةَ ، أُمّهم فاطمةُ بنت الحسينِ بنِ عليِّ بنِ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ عليهم‌السلام (١).

وموسى واسحاقُ ومحمّدٌ ، لأمِّ ولدٍ.

والعبّاسُ وعليٌّ وأَسماءُ وفاطمةُ ، لأمّهاتِ أَولادٍ شتّى.

وكانَ إِسماعيلُ أَكبرَ إِخوتهِ ، وكانَ أَبوه عليه‌السلام شديدَ المحبّةِ له والبرِّ به والإشفاقِ عليه ، وكانَ قومٌ منَ الشِّيعةِ يظَنُون أَنّه القائمُ بعدَ أبيه والخليفةُ له من بعدِه ، إِذْ كانَ أكبرَ إِخوتهِ سِنّاً ، ولميلِ أَبيه إِليه وِاكرامِه له ؛ فماتَ في حياةِ أَبيه بالعُرَيْض (٢) ، وحُمِلَ على رقاب الرِّجال إِلى أَبيه بالمدينةِ حتّى دُفِنَ بالبقيع.

ورُويَ :أَنّ أَبا عبدِاللهِّ عليه‌السلام جَزعَ عليه جَزَعاً شديداً ، وحَزِنَ عليه حُزْناً عظيما ، وتقدم سريره بلا (٣) ، حِذاءٍ ولارِداءٍ ، وأمَرَ بوضع سريرِه على الأرضِ قبلَ دفنهِ مِراراً كثيرةً ، وكان يَكْشِفُ عن وجهِه وينَظُرُ إِليه ،

__________________

(١) ذكر في عمدة الطالب (ص ٢٣٣) انها : فاطمة بنت الحسين الاثرم بن الامام الحسن بن علي ابن ابي طالب عليهم‌السلام ، والظاهر انه هو الصواب.

(٢) العريض : واد بالمدينة فيه بساتين نخل ، انظر «معجم البلدان ٤ : ١١٤ ».

(٣) في «م» وهامش «ش» : بغير.

٢٠٩

يُريد عليه‌السلام بذلكَ تحقيقَ أمر وفاتهِ عندَ الظّانِّينَ خلافتَه له من بعدِه ، وازالةَ الشُّبهةِ عنهم في حياتهِ (١).

ولمّا ماتَ إِسماعيلُ رضيَ الله عنه انصرفَ عنِ القولِ بإِمامتهِ بعدَ أبيه من كانَ يَظُنُّ ذلكَ فيعتقدُه من أصحاب أبيه عليه‌السلام ، وأقامَ على حياتِه شِرذمةٌ لم تكنْ من خاصّةِ أبيه ولا منَ الرُّواةِ عنَه ، وكانوا منَ الأباعدِ والأطرافِ.

فلمّا ماتَ الصّادقُ عليه‌السلام انتقلَ فريقٌ منهم إِلى القولِ بإِمامةِ موسى بن جعفرٍ عليه‌السلام بعدَ أبيه ، وافترقَ الباقونَ فريقينِ : فريقٌ منهم رجعوا عن حياةِ إِسماعيلَ وقالوا بإِمامةِ ابنهِ محمّدِ بنِ إِسماعيلَ ، لظنِّهم أَنّ الإمامةَ كانتْ في أَبيه وأَنّ الابنَ أَحقًّ بمقامِ الإمامةِ منَ الأخ ؛ وفريقٌ ثبتوا على حياةِ إِسماعيلَ ، وهم اليومَ شُذّاذٌ لا يُعرَفُ منهم أحدٌ يومَأُ إِليه. وهذان الفريقانِ يُسَمَّيانِ بالإسماعيليّةِ ، والمعروفُ منهم الانَ من يزعمُ أَنّ الأمامةَ بعدَ إِسماعيلَ في ولدِه وولدِ ولدِه إِلى اخرِ الزّمانِ.

فصل

وكانَ عبدُاللهِ بن جعفرٍ أكبرَ إِخوته بعدَ إِسماعيلَ ، ولم تكنْ منزلتُه عندَ أَبيه منزلةَ غيرِه من ولدِه في الإكرام ، وكانِ مُتّهَماً بالخلافِ على أَبيه في الاعتقادِ ، ويُقالُ أَنّه كانَ يُخالِط الحًشْويّةَ (٢) ، ويَميلُ إِلى مذاهبِ

__________________

(١) حكاه الطبرسي في اعلام الورى : ٢٨٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٧ : ٢٤٢.

(٢) الحشوية: هم القائلون ان علياً وطلحة والزبير لم يكونوا مصيبين في حربهم وأن المصيبين هم الذين قعدوا عنهم ، وأنهم يتولونهم جميعاً ويتبرؤون من حربهم ويردون امرهم الى الله عز وجل

٢١٠

المُرْجِئةِ (١) ، وادّعى بعدَ أبيه الأمامة ، واحتَجٌ بأَنّه أكبرُ إِخوته الباقينَ ، فاتّبعه على قوله جماعةٌ من أَصحاب أَبي عبدِاللهِّ عليه‌السلام ثمّ رجعَ أكثرُهم بعدَ ذلكَ إِلى القولِ بإِمامةَِ أخيه موسى عليه‌السلام لمّا تبيّنوا ضعفَ دعواه ، وقوّةَ أمرِ أبي الحسنِ عليه‌السلام ودلالة حَقِّه وبراهين إِمامتِه؛ وأقامَ نفرٌ يسير منهم على أَمرِهم ودانوا بإِمامةِ عبدِاللهِّ ، وهم الطّائفةُ الملقّبةُ بالفطحِيّة ، وأنّما لزمَهم هذا اللقبُ لقولهم بإِمامةِ عبدِاللهِ وكانَ أفَطحَ الرِّجْلين ، ويُقالُ إِنّهم لُقِّبوا بذلكَ لأنّ داعِيَتَهم إِلى إِمامةِ عبدِاللهِ كانَ يُقالُ له عبدُاللهِّ بنَ أفطحَ.

وكانَ إِسحاقُ بنُ جعفرٍ من أَهلِ الفضلِ والصّلاحِ والوَرَع وِالاجتهادِ ، وروى عنه النّاسُ الحديثَ والآثارَ ، وكانَ ابن كاسبٍ إِذا حَدَّثَ عنه يقولُ : حدّثَني الثِّقةُ الرّضِيُ إِسحاقُ بنُ جعفرٍ. وكانَ إِسحاقُ يقولُ بإِمامةِ أَخيهِ موسى بن جعفرٍ عليه‌السلام ، وروى عن أَبيه النّصَّ بالإمامةِ على أَخيه موسى عليه‌السلام (٢).

وكانَ محمّدُ بنُ جعفرٍ شجاعاً سخيّاً ، وكانَ يصومُ يوماً ويُفْطِرُ يوماً ، ويَرى رأْيَ الزّيديّةِ في الخروجِ بالسّيفِ.

ورُوُيَ عن زوجتهِ خديجةَ بنتِ عبدِاللهِ بنِ الحسينِ أَنّها قالتْ : ما

__________________

«فرق الشيعة : ١١٥ ».

(١) المرجئة : هم القائلون بأن أهل القبلة كلهم مؤمنون باقرارهم الظاهر بالايمان ، ويؤخرون العمل عن النية ويرجون المغفرة للمؤمن العاصي. «فرق الشيعة : ٦».

(٢) حكاه الطبرسي في اعلام الورى : ٢٩٠ ، وياتي هنا في باب النص على الامام موسى بن جعفر عليهما‌السلام.

٢١١

خَرجَ من عندِنا محمّدٌ يوماً قطُّ في ثوبٍ فرجعَ حتّى يكسُوَه (١) ، وكانَ يَذبَحَ في كل يومٍ كَبْشاً لأضيافِه.

وخرجَ على المأْمونِ في سنةِ تسع وتسعينَ ومائةٍ بمكّةَ ، واتّبَعَتْه الزّيديّةُ الجاروديّةً ، فخرجَ لقتالِه عيسى الجَلوديُّ ففرّقَ جمعَه وأَخذَه وأَنفذَه إِلى المأْمونِ ، فلمّا وصلَ إِليه أكرمَه المأْمونُ وأَدنى مجلسَه منه ووَصَلَه وأَحسنَ جائزتَه ، فكانَ مُقيماً معَه بخراسانَ يركبُ إِليه في موكبٍ من بني عمّه ، وكانَ الماْمونُ يحَتملُ منه ما لا يَحتملُه السُلطان من رعيّتهِ.

وروي :أَنّ المأْمونَ أنكرَ ركوبَه إِليه في جماعةٍ منَ الطّالبيِّينَ الذينَ خرجوا على المأْمونِ في سنة المِائَتَيْنِ فآمَنَهم ، فخرجَ التّوقيعُ إِليهم : لا تَركبوا معَ محمّدِ ابنِ جعفرٍ واركَبوا مع عُبَيْداللهِ بنِ الحسينِ ، فاَبَوْا أَن يَركبوا ولزِموا منازلَهم ، فخرجَ التّوقيعُ : اركَبوا معَ من أَحببتم ؛ فكانوا يَركبونَ معَ محمّدِ بنِ جعفرٍ إذا رَكِبَ إِلى المأْمونِ ويَنصرفونَ بانصرافِه (٢).

وذُكِرَ عن موسى بن سَلمةَ أنّه قالَ : أُتِيَ إِلى محمّدِ بنِ جعفرفقيلَ له: إِنّ غلمانَ ذي الرٌئاستينِ قد ضَربوا غلمانَكَ على حَطَبِ اشترَوْه ، فخرج مُؤتزِراً ببُردتينِ معَه هِراوة وهو يَرتجزُ ويقولُ :

الْمَوتُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ عَيْشٍ بِذلّ

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٥٣٨ ، تاريخ بغداد ٢ : ١١٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٧ : ٢٤٣.

(٢) اشار الى ذلك ابو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين : ٥٣٧ ، وحكاه الطبرسي في اعلام الورى :٢٨٥.

٢١٢

وتَبِعَه النّاس حتّى ضَربَ غلمانَ ذي الرِّئاستينِ وأَخذَ الحَطَبَ منهم. فرُفِعَ الخبرُ إِلى المأْمونِ ، فبَعثَ إِلى ذي الرِّئاستينِ فقالَ له : ائتِ محمّدَ بنِ جعفرٍ فاعْتَذِرْ إِليه ، وحَكِّمْه في غِلمانِكَ. قالَ : فخرَجَ ذو الرئاستينِ إِلى محمّدِ بنِ جعفرِ. قال موسى بن سَلَمَةَ : فكنت عندَ محمّدِ بن جعفرٍ جالساً حتّى أُتيَ فقيلَ له : هذا ذو الرِّئاستينِ ، فقالَ : لا يجلسُ إلّا على الأرض ؛ وتَناولَ بَساطاً كانَ في البيتِ فرَمى به هو ومن معَه ناحيةً ، ولم يبق في البيتِ إِلّا وسادة جلسَ عليها محمّدُ بنُ جعفرٍ ، فلمّا دخلَ عليه ذو الرِّئاستينِ وسّعَ له محمّدٌ على الوسادةِ فأَبى أَن يَجلسَ عليها وجلسَ على الأرضِ ، فاعتذرَ إِليه وحَكَّمَه في غلمانِه (١).

وتُوفِّي محمّدُ بنُ جعفرٍ بخُراسانَ معَ المأمونِ ، فرَكِبَ المأمونُ ليَشْهَدَه فَلقِيَهم وقد خرجوا به ، فلمّا نظرَ إِلى السّرير ِنزلَ فترجَّلَ ومشى حتّى دخلَ بينَ العمودَيْنِ ، فلم يَزَلْ بينَهما حتّى وُضِعَ فتقدّمَ وصلّى ثمّ حملَه حتّى بلغَ به القبرَ ، ثمّ دخلَ قبرَه فلم يَزَلْ فيه حتّى بُنيَ عليه ، ثمّ خرجَ فقامَ على القبر حتّى دُفِنَ ، فقال له عًبيدُالله بن الحسينِ ودعا له : يا أميرَالمؤمنينَ ، إنّكَ قد تعبتَ فلو رَكِبْتَ ؛ فقالَ المأمونُ : إِنّ هذه رحم قُطِعَتْ من مِائَتَيْ سنةٍ.

ورُوِيَ عن إِسماعيلِ بنِ محمّدِ بنِ جعفرِأَنّه قالَ : قلتُ لأخي ـ وهو إِلى جنبي والمأمونُ قائم على القبر ـ : لو كلّمناه في دَينِ الشّيخِ ، فلا نَجِدُه أقربَ منه في وقتِه هذا؛ فابتدأنَا المأمونُ فقالَ : كمْ تركَ أَبوجعفرمنَ الدَّينِ؟ فقلتُ : خمسةً وعشرينَ أَلفَ دينارٍ؛ فقالَ : قد قَضى اللهُ عنه دينَه ؛ إِلى مَنْ أَوصى؛ قلنا : إلى ابنٍ له يقالُ له يحيى بالمدينةِ؛ فقالَ : ليس

__________________

(١) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٧ : ٢٤٤.

٢١٣

هوبالمدينةِ ، وهوبمصرَ ، وقد عَلِمْنا بكونه فيها ، ولكنْ كَرِهْنا أَن نُعْلِمَه بخروجِه منَ المدينةِ لئلا يسوءه ذلكَ لعلمِه بكراهتِنا لخروجِه عنها (١).

وكانَ عليُّ بنُ جعفرٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ راويةً للحديثِ ، سديدَ الطّريقِ ، شديدَ الوِرَعَِ ، كثيرَ الفضلِ؛ ولزمَ أَخاه موسى عليه‌السلام وروى عنه شيئاً كثيراً.

وكانَ العبّاسُ بنُ جعفرٍ ـ رضيَ اللهُّ عنه ـ فاضلاً نبيلاً.

وكانَ موسى بن جعفرٍ عليه‌السلام أَجلَّ ولدِ أَبي عبدِاللهِ عليه‌السلام قَدْراً وأَعظمهَم محلاً ، وأَبعدَهم في النّاسِ صِيْتاً ، ولم يرَ في زمانِه أسخى منه ولا أَكرمُ نفساً وعِشْرةً ، وكانَ أَعبدَ أَهلِ زمانِه وأَورعَهم وأَجلَّهم وأفقهَهم ، واجتمعَ جمهورُ شيعةِ أبيه على القولِ بامامتِه والتّعظيمِ لحقِّه والتسليمِ لأمرِه.

ورووا عن أَبيه عليه‌السلام نصوصاً عليه بالإمامةِ ، واشاراتٍ إِليه بالخلافةِ ، وأَخذوا عنه معالِمَ دينِهم ، ورَوَوْا عنه منَ الآياتِ والمُعجزات ما يُقْطَعُ به على حجّتهِ وصوابِ القولِ بإِمامتِه.

__________________

(١) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٧ : ٢٤٤.

٢١٤

باب

ذكر الإمامِ القائمِ بعدَ أَبي عبدِاللهِ

جعفرِ بنِ محمّد عليهما السّلامُ من ولدِه ،

وتاريخ مولدِه ، ودلالِ إمامتِه ، ومبلغ سنِّه ،

ومدّة خلافتهِ ، ووقت وفاتِه وسببها ، وموضع

قبرِه ، وعدد أَولادِه ، ومختصر من أَخبارِه

وكانَ الإمامُ ـ كما قَدّمْناه ـ بعدَ أَبي عبدِاللهِ ابنَه أَبا الحسنِ موسى ابنَ جعفرٍ العبدَ الصّالحَ عليه‌السلام ، لاجتماع خِلالِ الفضلِ فيه والكمالِ ، ولنصِّ أَبيه بالإمامةِ عليه وإشارتهِ بها إِليه.

وكانَ مولده عليه‌السلام بالأبواء ِ(١) سنةَ ثمانٍ وعشرينَ ومائةٍ.

وقُبِضَ عليه‌السلام ببغدادَ في حَبْسِ السِّنْديِّ بنِ شَاهَكَ لستٍّ خَلَوْنَ من رجبٍ سنةَ ثلاثٍ وثمانينَ ومائةٍ ، وله يومئذٍ خمسٌ وخمسونَ سنةً.

وأُمًّه أُمُّ ولد يقالُ لها : حُمَيْدَةُ البَرْبَريّةُ.

وكانتْ مُدّةُ خلافتِه ومقامه في الإمامةِ بعدَ أبيه عليهما‌السلام خمساً وثلاثينَ سنةً.

وكان يُكنى أَبا إبراهيمَ وأَبا الحسنِ وأَبا عليٍّ ، ويُعرَفُ بالعبدِ

__________________

(١) الأبواء : قرية من اعمال الفُرْع من المدينة ، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً «معجم البلدان١ : ٧٩».

٢١٥

الصّالحِ ، وُينْعَتُ أَيضاً بالكاظِمِ.

فصل
في النّصِّ عليه بالإمامةِ من أَبيه عليهما السّلامُ

فمِمَّن روى صريحَ النّصِّ بالإمامةِ من أَبي عبدِاللهِ الصّادقِ عليه‌السلام على ابنهِ أَبي الحسنِ موسى عليه‌السلام من شيوخ أَصحاب أَبي عبدِاللهِ وخاصّتهِ وبطانتهِ وثِقاتِه الفقهاءِ الصّالحينَ ـ رضوانُ اللهِّ عليهم ـ المُفَضَّلُ بنُ عُمَرَ الجُعْفِيّ ، ومَعاذُ بنُ كثيرٍ ، وعبدُ الرحمن بن الحجّاجِ ، والفَيْضُ بنُ المختارِ ، ويعقوبُ السَرّاجُ ، وسليمانُ بنً خالدٍ ، وصَفْوانُ الجمّال ، وغيرهم ممّن يطولُ بذكرِهم الكتابُ (١).

وقد رَوى ذلكَ من إِخوتهِ إِسحاقُ وعليّ ابنا جعفرٍ وكانا منَ الفضلِ والوَرَعِ على ما لا يَختلفُ فيه اثنان.

فروى موسى الصّيْقلُ ، عنِ المُفَضّلِ بنِ عُمَر َرحمه‌الله قالَ : كنتُ عندَ أَبي عبدِاللهِّ عليه‌السلام فدخلَ أَبو إِبراهيمَ موسى عليه‌السلام ـ وهوغلامٌ ـ فقالَ لي أَبو عبدِاللهِّ : «استَوْصِ به ، وضَعْ أَمرَه عندَ من تَثِقُ به من

__________________

(١) ياتي تفصيل روايات هؤلاء بنفس الترتيب المذكور هنا ، لكن قد ذكر بعد رواية الفيض ابن المختار رواية منصور بن حازم وعيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن ابي طالب وطاهربن محمد ، ثم يذكر رواية يعقوب السراج وغيره ممن ذكروا هنا ، والمناسب ذكر منصور بن حازم ومن بعده هنا كما هو المعهود في سائر الابواب ، ولا يبعد وقوع سهو هنا في عدم ذكرهم.

٢١٦

أَصحابِكَ » (١).

وروى ثُبيت ، عن معاذِ بنِ كثيرٍ ، عن أَبي عبدِاللهِ عليه‌السلام قالَ : قلتُ : أَسأَل اللهَ الّذي رزقَ أَباكَ منكَ هذه المنزلَة ، أَنْ يَرزُقَكَ من عَقِبكَ قبلَ المماتِ مثلَها ، فقالَ : « قد فعلَ الله ذلكَ » قلتُ : من هوجُعِلْت فداكَ؟ فأَشارَ إِلى العبدِ الصّالحِ وهو راقدٌ ، قالَ : « هذا الرّاقدُ» وهو يومئذٍ غلامٌ (٢).

وروى أَبو عليٍّ الأرجانيُّ عن عبدِ الرحمن بنِ الحجّاجِ قالَ : دخلتُ على جعفرِ بنِ محمّدٍ عليهما‌السلام في منزلِه ، فإِذا هوفي بيتِ كذا من دارِه في مسجدٍ له ، وهو يدعو وعلى يمينهِ موسى بن جعفرٍ عليهما‌السلام يُؤَمِّنُ على دعائه ، فقلتُ له : جعلَني اللهُّ فداكَ ، قد عرفتَ انقطاعي إِليكَ وخدمتي لكَ ، فمن وليًّ الأمرِ بعدكَ؟ قال : «يا عبدَ الرحمن ، إِنّ موسى قد لبسَ الدِّرعَ واستوتْ عليه » فقلت له : لا أَحتاجُ بعدَها إِلى شيءٍ (٣).

وروى عبدُ الأعلى ، عنِ الفيضِ بنِ المختارِ قالَ : قلتُ لأبي عبدِاللهِ عليه‌السلام : خُذْ بيدي منَ النّارِ ، مَنْ لنا بعدَك؟ قالَ : فدخلَ أَبو إِبراهيمَ ـ وهو يومئذٍ غلامٌ ـ فقالَ : «هذا صاحبُكم فتمسك به » (٤).

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٤٦ / ٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٧ / ١٣.

(٢) الكافي ١ : ٢٤٥ / ٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٧ / ١٥.

(٣) الكافي ١ : ٢٤٥ / ٣ ، الفصول المهمة : ٢٣١ ، ونقله المجلسي في البحار ٤٨ : ١٧ / ١٧.

(٤) الكافي ١ : ٢٤٥ / ١ ، الفصول المهمة : ٢٣١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٨ / ١٨.

٢١٧

وروى ابنُ أَبي نَجرانَ ، عن منصورِ بنِ حازم قالَ : قلتُ لأبي عبدِالله عليه‌السلام : بأَبي أَنتَ وأُمِّي ، إِنّ الأنفسَ يُغدى عليها ويُراحُ ، فإِذا كانَ ذلكَ فمَنْ؟ فقالَ أَبو عبدِاللهِ عليه‌السلام : «إِذا كانَ ذلكَ فهو صاحبُكم » وضربَ على مَنْكِب أَبي الحسنِ الأيمن ، وهو فيما أعلمُ يومئذٍ خماسيٌّ ، وعبدُاللهِّ بن جعفرٍ جاَلسٌ معَنا (١).

وروى ابن أَبي نَجرانَ ، عن عيسى بن عبدِاللهِ بنِ محمّدِ بنِ عمر بن عليِّ بنِ أَبي طالبِ ، عن أَبي عبدِاللهِ عليه‌السلام؛ قالَ : قلتُ له : إن كانَ كَوْنٌ ـ ولا أَراني اللهُ ذلكَ ـ فبمن أئتمُّ؟ قالَ : فأَوما إِلى ابنهِ موسى ، قلتُ : فإِن حَدَثَ بموسى حَدَثٌ ، فبمن أَئتمُّ؟ قالَ : «بولدِه » قلتُ : فإِن حَدَثَ بولدِه حَدَثٌ؟ قالَ : «بولدِه » قلتُ : وإن حَدَثَ به حَدَثٌ وتركَ أَخاً كبيراً وابناً صغيراً؟ قال : «بولدِه ، ثمّ هكذا أَبداً» (٢).

وروى الفضلُ ، عن طاهرِ بنِ محمّدٍ ، عن أَبي عبدِاللهِّ عليه‌السلام ، قالَ : رأَيتُه يلومُ عبدَاللهِ ابنَه ويَعِظُه ويقولُ له : «ما يَمنعُكَ أَن تكونَ مثلَ أخيكَ؟! فواللهِ إِنِّي لأعرف النُّورَ في وجهِه » فقالَ عبدُاللهِ : وكيفَ؟ أَليس أَبي وأبوه واحداً ، وأَصلي وأَصلهُ واحداً؟ فقالَ له أَبو عبدِاللهِ عليه‌السلام : «إِنّه من نفسي وأَنتَ ابني » (٣).

__________________

(١) الكافي ١ : ٦ / ٢٤٦ ، الفصول المهمة : ٢٣٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٨ / ٢٠.

(٢) الكافي ١ : ٢٤٦ / ٧ ، وباختلاف يسير في كمال الدين : ٣٤٩ / ٤٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٦ / ١١.

(٣) الكافي ١ : ٢٤٧ / ١٠ ، الامامة والتبصرة : ٢١٠ / ٦٣ ، وفيهما : فضيل ، عن طاهر ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٨ / ٢٢.

٢١٨

وروى محمّدُ بنُ سِنانٍ ، عن يعقوبَ السّرّاجِ قالَ : دخلتُ على أَبي عبدِاللهِّ عليه‌السلام وهو واقفٌ على رأْسِ أَبي الحسنِ موسى وهو في المهدِ ، فجعلَ يُسارُّه طويلاً ، فجلستُ حتّى فرغَ فقمتُ إِليه ، فقالَ لي : «ادنُ إِلى مولاكَ فسلِّمْ عليه » فدنوتُ فسلّمتُ عليه ، فردَّ عَلَيَّ بلسانٍ فصيحٍ ثمّ قالَ لي : «اذهَبْ فغيِّرِ اسمَ ابنتِكَ الّتي سمَّيْتَها أَمسِ ، فإنّه اسمٌ يُبغضه اللهُ » وكانتْ وُلدتْ لي بنتٌ فسمّيْتُها بالحُمَيراءِ ، فقالَ أَبو عبدِاللهِ : «انْتَهِ إِلى أَمره تَرْشدْ» فغيّرتُ اسمها (١).

وروى ابنُ مًسْكانَ ، عن سُليمان بن خالدٍ قالَ : دعا أَبو عبدِاللهِ أَبا الحسنِ عليهما‌السلام يوماً ونحن عندَه فقالَ لنا : «عليكم بهذا بعدي ، فهو واللهِ صاحبُكم بعدي » (٢).

وروى الوَشاءُ ، عن عليِّ بنِ الحسينِ ، عن صَفوانَ الجّمالِ قالَ : سأَلتُ أَبا عبدِاللهِّ عليه‌السلام عن صاحب هذا الأَمرِ فقالَ : «صاحبُ هذا الأمرِ لا يَلهو ولا يَلعبُ » فأَقبلَ أَبو الحسنَ عليه‌السلام ومعَه بَهْمَةٌ (٣) له ، وهو يقولُ لها : «اسجُدي لربِّكِ » فأَخذَه أَبو عبدِاللهِ عليه‌السلام وضمَّه إِليه وقالَ : «بأَبي وأُمِّي ، من لا يَلهو ولا يَلعبُ » (٤).

وروى يعقوبُ بنُ جعفرٍ الجعفريّ قالَ : حدّثَني إِسحاقُ بنُ جعفر

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٤٧ / ١١ ، دلائل الامامة : ١٦١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ :١٩ / ٢٤.

(٢) الكافي ١ : ٢٤٧ / ١٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٩ / ٢٥.

(٣) يقال لأولاد الغنم ساعة تضعها ـ من الضان والمعز جميعاً ، ذكراً كان أو أنثى ـ : سخلة ثم هيّ البَهْمة. «لسان العرب ـ بهم ـ ١٢ : ٥٦ ».

(٤) الكافي ١ : ٥٤٨ / ١٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٩ / ٢٧.

٢١٩

الصّادقِ قالَ : كنتُ عندَ أبي يوماً فسأَلهَ عليُّ بنُ عمر بن عليٍّ فقالَ : جُعِلْتُ فِداكَ ، إِلى مَنْ نَفْزَعُ ويَفزعُ النّاس بعدَك؟ فقالَ : «إِلى صاحب هذَيْنِ الثّوبينِ الأصفرينِ والغَدِيرتَينِ (١) ، وهو الطّالعُ عليكَ منَ الباب » قال :َ فما لَبِثْنا أَن طَلعَتْ علينا كفّانِ آخِذتانِ بالبابينِ حتّى انفتَحا ، ودخَلَ علينا أبو إِبراهيمَ موسى عليه‌السلام وهو صبيٌّ وعليه ثوبانِ أَصفرانِ (٢).

وروى محمّد بن الوَليدِ قالَ : سمعتُ عليَّ بنَ جعفرِ بنِ محمّدٍ الصّادقِ عليه‌السلام يقولُ : سمعت أَبي ـ جعفرَ بنَ محمّدٍ ـ يقولُ لجماعةٍ من خاصتهِ وأَصحابِه : «استَوْصُوْا بابني موسى خيراً ، فإِنّه أَفضلُ ولدي ومن أُخلِّفُ من بعدي ، وهو القائمُ مَقامي ، والحجّةُ للّهِ تعالى على كافّةِ خلقِه من بعدي » (٣).

وكانَ عليُّ بنُ جعفرٍ شديدَ التّمسُّكِ بأَخيه موسى والانقطاعِ إِليه والتّوفّرِ على أَخْذِ معالمِ الدَينِ منه ، وله مسائلُ مشهورةٌ عنه وجواباتٌ رواها سماعاً منه.

والأخبارُ فيما ذكرْناه أَكثرُ من أَن تُحصى على ما بيّنّاه ووصفْناه.

__________________

(١) الغديرة : الذؤابة التي تسقط على الصدر. «لسان العرب ـ غدر ـ ٥ : ١٠ » والذؤابة : هي العقيصة والمضفور من شعر الرأس. «لسان العرب ـ ذأب ـ ١ : ٣٧٩».

(٢) الكافي ١ : ٢٤٦ / ٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ٢٠ / ٢٩.

(٣) حكاه الطبرسي في إعلام الورى : ٢٩١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ٢٠ / ٣٠.

٢٢٠