دفاع عن القرآن ضد منتقديه

الدكتور عبد الرحمن بدوي

دفاع عن القرآن ضد منتقديه

المؤلف:

الدكتور عبد الرحمن بدوي


المترجم: كمال جاد الله
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الدار العالميّة للكتب والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٩٩

وشاهوت متقيد بالمحاذير الآتية : أن لا يكون مدمنا للمشروبات الروحية «شولهان أروك ، يوره دياه (١ ، ٨)» ، أن لا يكون متهما باللامبالاة فى واجباته «المرجع السابق» (١٤) ، أن لا يكون فاجرا ، ومذنبا حسب القانون ، وألا ينتهك حرمه السبت «السابق (٥١)» «الموسوعة اليهودية ، ج (١١) ص (١١٣) نيويورك ولندن (١٩٠٥ م).

وفى الإسلام على عكس ذلك لا يوجد شىء من كل هذا ، لا رجل بعينه مختصا بعملية ذبح الأنعام ، ولا أية مؤهلات معينة فيمن يذبح ، والشيء الوحيد الذى يجب مراعاته أثناء الذبح هو ذكر اسم الله تعالى فى بدايته حتى تتحاش أن تكون الأضحية قد ذبحت من أجل صنم أو إله غير الله عزوجل ، وأن يقطع الحلقوم والمريء ، وهذه ليست عادة خاصة باليهودية.

نرى إذا أن الحالتين المذكورتين كحالات تأثير من الشريعة اليهودية على الشريعة الإسلامية لا يحال فيها لإثبات تأثير أى من الشريعتين على الأخرى ، ولن يفيد جولدتسهير فى شيء أن يضع ألفاظ الذبح فى العربية بجانب مثيلاتها فى العبرية ، أو العكس فلن ينطلى هذا الأمر على أحد ، لأن مفهوم اللفظ العربى يختلف كلية عن مفهوم اللفظ العبرى ، وهكذا يرجع إليه جولدتسيهر فى أحيان كثيرة.

وهو يستعمل أيضا نفس الوسيلة فى سوق أشياء كثيرة دون ذكر مصدرها ، فهو يقول فى «المرجع السابق ص (٦٥٦ أ) : «يحكى أن عائشة زوجة الرسول قد تلقت فكرة عذاب القبر» hidabulkabr «من امرأة يهودية ثم ضمها محمد إلى تعاليمه «من أين أتى بهذه القصة؟ هو نفسه لم يقل ونحن بدورنا لا نعلم عنها شيئا ، ولذلك فهى لا تستحق أن يقام لها وزن ، «انظر فنسنك المنظومة الإسلامية ص (١١٧ ، ١١٩)».

على أية حال يجب أن نعترف له أنه كان أكثر وسطية من مستشرقين آخرين أمثال الفريد فون كريمر فى كتابه «تاريخ حضارة المشرق تحت حكم الخلفاء» الجزء الأول صفحات (٢٢٥ ـ ٢٥٥) وقد ذهب بعيدا فزعم أن صياغة القانون

٨١

المدنى الإسلامى تأثرت بالشريعة التلمودية الحاخامية ، وقد لاحظ «جولدتسيهر» فى هذا الموضوع أن هناك شكا تشرعيا فى حالات كثيرة من هذه المقارنات ، ويمكن أن نتساءل عما إذا كان القانون الرومانى هو الذى أثر على تطور الشريعة الإسلامية ، وهل يشك فى ذلك أم لا؟ على اعتبار أنه المصدر المباشر الذى اقتبس منه الفقهاء المسلمون «المرجع السابق ص (٦٥٧)» ، ولكن هذا يعود بنا إلى معركة أخرى أشد خطورة ساهم فيها قبل ذلك بدراسة سطحية ، كما أعترف هو نفسه وعنوانها «دراسة محمدية» الجزء الثانى ص (٧٥) ملحوظة (٢) وعنوانها باللغة المجرية «حول بدايات علم الفقه الإسلامى» بودابست (١٨٨٤ م) ، المعهد المجرى أكاديمية العلوم ، وقد وعد باستئذانها من جديد ، وهو وعد لم ينجزه على ما يبدوا وقد أعطى أمثلة على هذا التشابه بين القواعد الفقهية الإسلامية واليهودية حيث جعل المصدر الأصلى هو القانون اليهودى وهى :

(أ) الاستصلاح فى الفقه الإسلامى ـ تيفون هاعلام فى القانون اليهودى.

(ب) الاستصحاب فى الفقه الإسلامى ـ Praesumptio فى القانون الرومانى.

(جـ) القاعدة الفقهية التى تقول : القاضى لا يحكم بعلمه فى الفقه الإسلامى تقابلها القاعدة التلموديةenladdayanel lamasheenawrooth.

وهذا درس فى الحذر يلقيه جولدتسيهر والذى كان من الجدير به أن يكمله ولكن للأسف كما أوضحنا طوال هذا الفصل فإنه لم يكمل منه إلا النذر اليسير.

٨٢

الفصل السادس

«الصابئون فى القرآن»

٨٣
٨٤

أحد أصعب مشاكل ترجمة القرآن هو مفهوم كلمة «الصابئون» ، ذلك الاسم الذى ذكر ثلاثة مرات فى الآيات الآتية :

١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١).

٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢).

٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٣).

ونستعرض الآن آراء مختلف المستشرقين الذين حاولوا شرح معنى الصابئين :

أولا ـ سبرنجر وهو يعتقد أن معنى الصابئين مقابل كلمة الحنيفيين ، وهو نفس رأي ج. بدرسون (J ـ Pederson) «دراسات شرقية ، برون ، كمبردج (١٩٢٣ م) ص (٣٦٦)».

وفى رأينا فإن هذا الرأي فاسد لما يلى :

(أ) كما يؤكد الشهرستانى فى الملل والنحل ص (١١٦) بترز ـ يونيسكو (١٩٨٦ م) أن الحنفاء عكس الصابئين ، وكل من الديانتين مختلفة عن الأخرى ومعارضة لها ، والحنيفيون هم أتباع إبراهيم بينما الصابئون هم عبدة الكواكب ، وهى عبادة حاربها إبراهيم عليه‌السلام ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)(٤) ، وقال الله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(٥).

__________________

(١) سورة المائدة ، آية (٦٩).

(٢) سورة البقرة ، آية (٦٢).

(٣) سورة الحج ، آية (١٧).

(٤) سورة الأنعام ، آية (٧٦).

(٥) سورة الأنعام ، آية (٧٨).

٨٥

(ب) لا يوجد أى شىء فى القرآن يقول : إن للصابئين كتابا مقدسا بينما كان لإبراهيم عليه‌السلام صحف قال الله تعالى : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(١) ، قال الله تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى)(٢).

ثانيا ـ يؤكد هورفيتز «دراسات قرآنية» ص (١٢١)» إن الصابئين هم أو مجمل طوائف المعمدين ، ويطور هانزهنرش شيدر هذا الرأي فى مجلد «عالم الشرق» العدد الرابع ص (٢٩٠) ، شتوتجارت (١٩٤٩ م) ، ويقول : «لقد سمع محمد وهو فى مكة عن المعمدين البابليين وهم الصابئون المذكورون فى القرآن ثلاث مرات ، وهى كلمة ترجع إلى الشكل البابلى الآرمى للكلمة التى تعنى «غطس فى الماء ، عمد «صبا ـ الكلمة السريانية صبا».

ونفس الرأي نجده عند ر. بيل «أصل الإسلام ص (٦٠)».

ثالثا ـ يقول كاراديفو (Carrade Vaux) فى مقال بعنوان «القرآن ومكانته فى قاموس أصول اللاهوت الكاثوليكى» مج (٣) ج (٢) ، (١٧٧٨ م) باريس ، (١٩٢٣ م)».

«إن بقية الشريعة المحمدية مقتبسة من مصادر يهودية مسيحية ، أو من مجموعة ، مقتبسة من المذهب التأليهى وكثير من هذه التعاليم يحمل اسم الصابئين ، وقد عرف الأدب العربى نوعين من الصابئين : أولئك الذين ذكرهم القرآن وأولئك الذين كانوا يسكنون «حران» وقد كانت هذه التعاليم تستخدم فى عبادة الكواكب والوضوء ، وقد عد محمد الصابئين ضمن أهل الكتاب أى ضمن الأمم التى لها كتب مقدسة ، وعلى ما يبدوا فقد تلقى عنهم تطور مذهب النبوة وأساطير الأنبياء ، وعادات الوضوء ، وقد هب ضد عبادة الكواكب ، وأما عن وصف الفردوس والأهمية التى أولاها للملائكة والجن فيتضح فيه تأثير التعاليم الفارسية».

__________________

(١) سورة الأعلى ، الآية (١٩).

(٢) سورة النجم ، الآية (٣٦ ، ٣٧).

٨٦

يجدر بنا أن نوضح هنا أن نص كاردى فو ملىء بالخلط كالتالى :

(أ) الخلط بين الطوائف المعمدنية وبين من يعبدون الكواكب.

(ب) الخلط بين التعميد والتعاليم المعمادية والوضوء المطلوب لكل صلاة فى الإسلام.

(جـ) الخلط بين قصص الأنبياء فى القرآن ، وقصص الأنبياء المحكى فى كتب المعمادنين المقدسة وخاصة كتابهم الكبير «الجنزا» (Ginza).

لندع إذا جانبا افتراضات كاردى فو ونلتفت فقط إلى الآراء الموجودة فى الباب بعالية.

كون النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سمع عن المندائية فهذا أمر محتمل ، ويمكن أن يكون قد عرفها من سلمان الفارسى الذى كان على دراية بالتعاليم الدينية المنتشرة فى بلده الأصلية «فارس» «انظر ـ ماسينيون ـ سلمان ـ باك ـ باريس (١٩٣٠ م) ترجمتنا لها إلى العربية ، القاهرة (١٩٣٧ م) تحت عنوان «شخصيات قلقة فى الإسلام» إذا اسم الصابئين أتى من كلمة «ماس بوتا» بمعنى تخمر فى الماء ، وهو شعيرة أساسية عند المندائيين.

ولكن من الصعب أن ينتشر هذا المصطلح بالعربية ، لأن فى العربية كلمة «صبا» تعنى أساسا «تخلص من» ، ثم تعنى استعارة «تخلص من دين ليعتنق دينا آخر ، واسم الفاعل منها «صابئ» وجمع المذكر السالم «صابئون» ، وكذلك يشرح أبو اسحاق معنى كلمة «صابئين» فى القرآن بمعنى : الذين تركوا دينهم واعتنقوا دينا آخر «انظر الزبيدى ـ تاج العروس ، مادة صبأ ج (١) ص (٣٠٧) مطبعة الكويت» ولكن من أية منطقة جاءت؟ من اليهود أم من النصارى ، وكما قال : ك ـ كولب فى مقال نشر فى الموسوعة تحت عنوان «الدين منذ فجر التاريخ حتى الوقت الحاضر جزء (٤) مادة «معمد» ص (٧١١) يقول : «أصل المندائيين يستلزم البحث بين التعاليم المعمدانية الموروثة من اليهود والنصارى وهم طوائف موجودون فى المناطق الحدودية بين سوريا وفلسطين ، وهذا ينطبق على اللفظ النعتى «صب» بدلا

٨٧

من «مد» ليشير إلى «الغمر فى الماء» وذلك بواسطة مراجع خاصة بتاريخ المنشقين اليهود الذين انفصلوا عن اليهودية.

ولو عولنا على الأصل العربى ، فإن كلمة الصابئين يكون معناها المنشقين الذين خرجوا من الدين اليهودى أو المسيحى ليكونوا دينا آخر ، ويجب الآن أن نعلم أى دين انشق عن اليهودية أو المسيحية؟.

من ناحية أخرى ، هل هم الصيباويون الذين أشار إليهم القديس «ابيفان» على أنهم طائفة سامرية أسبق من المسيحية ، وأنهم يتفقون بلا شك مع «المعمدين اليومين» لأن هناك كتابا آخرين كثيرين ، وخاصة من اللغة اليونانية كانوا قد ظهروا قبل المسيح فى المناطق القريبة من الأردن ، مثل الهلينين ه. أ.

رابعا ـ (٢٢ ، ٥) كوتست ـ أبوست ـ جيروم ـ هيريس ، أبيفان ، (٨ ، ١٩ ، ٥) محادثة بوستين (٥٠) ، كما أن التقاليد التلمودية تصفهم بأنهم «المعمودون الصباحيون» «بيراكلوث (٢)» tosephataladaism! ، أتا باردى فى قاموس أصول الدين الكاثوليكى ، مجلد (٩) الجزء الثانى (١٨١٤ م) وعلى ذلك فهم منفصلون عن اليهودية.

وقد جعلهم الشهرستانى ضمن القدماء أيضا حيث أكد أن الصابئين كانوا موجودين فى زمن إبراهيم ص (٦٣١).

ويمكننا هنا أن نذكر مختلف تفسيرات مفسرى القرآن المسلمين وعلماء اللغة لهذه الكلمة كالتالى :

(أ) فى «مختار الصحاح للجوهرى» الصابئون هم طائفة من أهل الكتاب.

(ب) فى التهذيب للأزهرى الصابئون هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ويزعمون أنهم على دين نوح

(ج) فى تفسير البيضاوى يقول : «الصابئون هم عباد الملائكة وقيل عبدة الكواكب ، وقد خصص الشهرستانى فى كتابه «الملل والنحل قسما كبيرا جدا للصابئين من ص (٢٠٣) إلى (٢٥١) طبعة وكاتون ـ لندن (١٨٤٦ م) ويحتوى الكتاب كله على (٤٥٨) صفحة».

٨٨

وقد عرض فى هذا الفصل مذهبهم فى شكل مجادلة بين الصابئين والحنيفيين وهم أتباع إبراهيم عليه‌السلام وقد خرج من هذه المناقشة بأن الصابئين يقيمون دينهم على أساس من الروحانيات ، والتى هى الوسائط بين الله الخالق العاقل والخالى من كل صفة من صفات الخلق وبين البشر ، وهذه الروحانيات خالصة من كل الاعتبارات ، فى المادة والفعل والحالة فى المادة لأنها خالصة من أى شىء مادى أو أى حركة ذاتية ، أو أى تغير مزاجى ، وحسب تعاليم أساتذتهم الأوائل أجدامون ، وهرمس ، وسطائهم عند الله الذى هو رب الأرباب وإله الآلهة ، وحتى يتعلقوا بهذه الروحانيات فإنهم يأخذون على عاتقهم تطهير أنفسهم من الرغبات الطبيعية وتطهر أخلاقهم من الرجس ، وإذا تطهروا على هذا النحو استطاعوا أن ينصرفوا إلى شئونهم ليلتمسوا بعد ذلك عفو الله «الشهرستانى ص (٢٠٣ ، ٢٠٤) ونرى من خلال عرض الشهرستانى أن ديانة الصابئين متأثرة بالثنائية الفارسية ولكن هذا يخرج بنا عن سياق الحديث.

ولكن لو كان الصابئون متأثرين بالثنائية الفارسية فالقرآن يميز بينهم وبين المجوس بصراحة فى القرآن كما تشهد الآية (١٧) من سورة الحج ، والتى ذكرناها فى بداية هذا الفصل.

وعلى هذا يجب أن نتساءل هنا لما ذا قال القرآن عنهم (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١) ، (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(٢) ، تماما كما تحدث عن اليهود والنصارى؟ هل هم أيضا من أهل الكتاب هؤلاء الصابئون؟ فبينما لم يحدثنا القرآن عن عنوان كتابهم عين لنا عناوين كتب اليهود والنصارى «التوراة والإنجيل» ، وما كان من الممكن أن يذكر القرآن كتاب «الجنزا» «الكنز فى العربية» ، لأن هذا الكتاب لم يكن قد جمع إلا فيما بعد فى القرنين السابع والثامن الميلادى ،

__________________

(١) سورة المائدة ، آية (٦٩).

(٢) سورة البقرة ، آية (٦٢).

٨٩

ويقال أيضا أنه لم يجمع أو يحرر من قبل ، الصابئين إلا لينهضوا أمام سلطة المسلمين باعتبارهم ضمن أهل الكتاب وتكون لهم نفس معاملة اليهود والنصارى فى الإسلام.

ومن ناحية أخرى لا يعترف الصابئون بالأنبياء لأن الأنبياء بشر لهم كل الصفات البشرية ، ويقول : الشهرستانى ص (٢٠٤) ، تقول الصابئة : إن الأنبياء مثلنا فى النوع ولهم نفس شكلنا ونشاركهم فى المادة ، وهم يأكلون ما نأكل ويشربون ما نشرب ولهم نفس هيئتنا ، إنهم بشر مثلنا فلما ذا إذا نطيعهم؟ (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ)(١) ، وتلك هى قضيتهم «المرجع السابق» إذا كانت هذه قضيتهم فيما يتعلق بالنبوة فكيف يضعهم محمد على قدم المساواة مع اليهود والنصارى؟ ، وبمراجعة الآية (٣٤) من سورة المؤمنون لما ذا يقول الليث «انظر رقم (٢) Supra ذكره الأزهرى فى «التهذيب» والفيروزآبادي فى «القاموس» يقول الليث : يزعم الصابئون أنهم على دين نوح ، لأنهم بعد عرض قصة نوح ، يتحدث القرآن عن جيل تال لقوم نوح أرسل إليهم رسول دعاهم إلى عبادة الله ، ولكن قومه رفضوا الانصياع لنعمه ولم يؤمنوا قائلين : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ* وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ)(٣).

وهناك جمة ثانية تعارض أن الصابئين المقصودين فى آيات «المائدة (٦٩) والبقرة (٦٢)» هم الذين يدعون أنهم على دين نوح ، لأن القرآن نعى عليهم بينما قال خيرا عن المقصودين فى الآيتين «المائدة (٦٩) والبقرة (٦٢).

وعلى ذلك تكون مشكلة تحديد الصابئين المقصودين فى هاتين الآيتين وأية الحج (١٧) قد أصحبت معقدة جدا ، لأنهم ليسوا هم الصابئة الذين وصفهم الشهرستانى ولا أتباع نوح حسب رأى الليث عند الأزهرى والفيروزآبادي.

__________________

(١) سورة المؤمنون ، آية (٣٤).

(٢) سورة المؤمنون ، آية (٣٤).

(٣) سورة المؤمنون ، آية (٣٣ ، ٣٤).

٩٠

فليسوا هم المعمدون كما زعم هورفيتز وآخرون ، لأن عقائد وشعائر المعمدين ما كان يمكن أن يقبلها النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل : عبادة الكواكب ، ورفض النبوة ، والقول بالتثنية وعبادة الكون وشعائر التعميد ، فهل من الممكن والحال هذه أن يمدح سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصابئين أو من على شاكلتهم ما داموا لا يعملون خيرا؟.

وبالرجوع إلى ج. باردى «قاموس أصول اللاهوت الكاثوليكى (٩ ، ٢) (١٨١٤ م) فى التعاليم التى سماها القديس ابيفان «نصائح هيريس ص (٦) مجلد (٤١ ، ٢٤٤) الصيباوية كلمة غامضة لأن ابيفان لم يقل شيئا عن عقيدة بهذه التعاليم ولكنه تحدث فقط عن تغييرهم تواريخ بعض الأعياد اليهودية ، وعلاوة على ذلك يخلط باردى دون دليل بينهم وبين معمدى حران الذين تحدث عنهم ابيفان فى الفصل السابع عشر والنذارين الذين تحدث عنهم فى الفصل الثامن عشر ص (٤١ ، ٢٥٥ ، ٢٥٩) ومع خلطه بين هذه الطوائف اليهودية الثلاثة لم يتوصل إلى تبرير الثناء على الصابئين فى القرآن.

هل يجب إذا أن نيأس من أن نجد حلا لمشكلة الصابئة فى القرآن؟ نعم وهذا ختام قولنا.

٩١
٩٢

الفصل السابع

«الرسل فى القرآن»

٩٣
٩٤

من بين الآراء الخيالية فنسنك وما أكثرها ما يلى :

«إن فكرة الرسل المرسلين إلى مختلف الأقوام يمكن أن تكون قد وصلت إلى محمد عن طريق قنوات مسيحية مثل تلك الخطة المذكورة فى طريقة نشر المسيحية عبر العالم ، والفرق يكمن فى حقيقة أنه لا محمد ولا المنهج الإسلامى يعرفان شيئا عن الرسل الاثنى عشر «المنظومة الإسلامية» ص (٢٠٣) كامبردج (١٩٣٣ م).

إننى لأتساءل بداية لما ذا يكون النبى محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قد تعلم فكرة الرسل المبشرين المرسلين إلى مختلف الأقوام إلا من خلال الطرق المسيحية؟ ألا توجد فكرة الرسل المبشرين المرسلين إلى أقوام لدى اليهود أيضا؟.

لقد تكررت هذه الفكرة فى عدة مواضع من العهد القديم :

١ ـ فى سفر الملوك الأول ، الأصحاح ١٤ ، الآية ٦ ، ٧ : «أنا مرسل إليك يقول فاسى اذهبى قولى ليربحام ، هكذا قال الرب إله إسرائيل من أجل أنى قد رفعتك من وسط الشعب وجعلتك رئيسا على شعبى إسرائيل».

٢ ـ فى سفر إشعياء ، الأصحاح ، الآية ٨ ، ٩ : «ثم سمعت صوت السيد قائلا من أرسل ومن يذهب من أجلنا فقلت ها أنا ذا أرسلنى فقد أذهب وقل لهذا الشعب».

ويقابل كلمة الرسول باللغة العبرية كلمة شالو (Shaloh) ، وقد ترجمت إلى الإغريقية بكلمة (Apostolos).

وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الكلمة أبستلس (Apostolos) لها عدة استعمالات ومعانى فى العهد القديم.

١ ـ فى إنجيل متى (١٠ ، ٢) ، وإنجيل مرقس (٦ ، ٣٠) ، وإنجيل لوقا (٦ ، ١٣) المقصود منها الرسل الاثني عشر الذين لم يشر إليهم القرآن مطلقا باعتراف فنسنك (حيث لم يرد سوى اسم الجنس ـ الحواريون).

٢ ـ أما فى إنجيل لوقا (١١ ، ٤٩) فإن كلمة أبستلس (Apostolos)

٩٥

يشار بها إلى رسل الله «لذلك أيضا قالت حكمة الله إنى أرسل إليهم أنبياء ورسلا».

٣ ـ فى الرسالة الثانية إلى أهل كورنتس (٨ ـ ٢٣) ، والرسالة إلى أهل فيلبى (٢ ، ٢٥) يقصد بها مبعوثى الكنيسة ، ولو كان فعلا لمحمد أن يطلع على فكرة الرسل المبعوثين للشعوب لفعل ذلك متأثرا باليهود وليس بالمسيحيين!.

ولا نريد أن نقول إن محمدا أخذ فكرة رسل الله عن أحدهما دون الآخر ، ولكن على العكس ، فإننا نريد أن نؤكد أنه لم يتعلمها من أى منهما.

والدليل أن مفهوم رسل الله مختلف تماما عن «شالوه» العبرية عن (Apostolos) الإغريقية ، إنه مختلف عن الشالوه عند اليهود لأن الرسول ليس فقط مبعوث من عند الله لإعلان أو نقل أمر ، ولكن يجب أن تكون له مهمة تستغرق حياته وهى إعلان دين بتبليغ كتاب مقدس ، إنه أكثر من مجرد نبى لأن النبى لا يأتى بكتاب مقدس ، ولذلك يقول علماء التوحيد المسلمون : إن الفرق بين الرسول والنبى يكمن فى أن الرسول هو من أرسله الله بدين جديد وكتاب مقدس ، هو المعبر عن هذا الدين ، بينما النبى هو الذى ليس له مهمة إلا البشارة والإنذار ، بينما كلمة (الشالوه) العبرية تعنى المرسل إلى شخص بعينه ، لكن كلمة رسول فى الإسلام تعنى المرسل إلى أمة ، وفيما يتعلق بالرسول فى الأناجيل والكنيسة المسيحية بصفة عامة ، فإن الرسل الاثنى عشر ليسوا مرسلين من قبل الله «الأب» ولكن من قبل السيد المسيح ، وهذا هو أول فرق بينهم وبين الرسل فى الإسلام ، والفرق الثانى هو أن أيا من هؤلاء الحواريين الاثنى عشر لا يحمل أى كتاب خاص ، ولكن كلا منهم بلا تفرقة يبشر بنفس الدين ويبلغ نفس الخبر ، إذا فمعنى الرسل فى الإسلام مختلف تماما عن معنى الحواريين فى المسيحية ، وهذا يشرح لما ذا لم يسم القرآن الحواريين الاثنى عشر «رسل» «جمع رسول» فلم يكونوا إلا تلاميذ للمسيح ، وحواريون مفرد حوارى ، وحسب رأى نولدكه «كلمة حوارى مقتبسة من الكلمة الإثيوبية (نولدكه ـ مقاله حول علم اللغات السامية

٩٦

ص (٤٩)» وفى المعاجم العربية ، توجد تفسيرات مختلفة ، والمقبول منها هو ما يؤكد أن الحوارى هو المخلص أو الأمين جدا ، ويسوق كلاما للنبى محمد يقول فيه : الزبير بن العوام ابن عمتى حوارى ، ومن أهل بيتى ، أى أنه أحد الأقربين إلى من بين أصحابى أو من بين المؤمنين ، أو مساعدى «معينى ـ تاج العروس ، المجلد الثانى ص (١٠٣) ط. الكويت» ولذا أطلق على المؤمنين بمحمد الحواريين ، ويقال أيضا الحوارى هو : النصير عامة ، أو الصديق الحميم ، أو المؤمن «المرجع السابق» ، وفى هذا المعنى استعملت كلمة حواريين فى القرآن لتعنى المؤمنين بعيسى المسيح ، وذلك فى (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(١).

وتكفى بعض الإشارات لتوضيح الأهمية القصوى لفكرة الرسل فى القرآن وهى :

(أ) ذكرت كلمة رسول (١٤٦) مرة فى القرآن وأغلبها يتعلق بالنبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ب) كلمة «رسوله» أى محمد «رسول الله» وردت (٨٤) مرة ، ورسولنا (٤) مرات.

(ج) مفهوم رسول فى الإسلام أكثر أهمية منه فى اليهودية والنصرانية ، ولذلك فمن العبث أن نعقد مقارنة فى هذا الموضوع بين المسيحية والإسلام والأكثر عبثا أن نزعم أن الرسول استعار مصطلح رسل من المسيحية.

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية (٥٢).

٩٧
٩٨

الفصل الثامن

«قراءة هللينية خيالية للقرآن»

٩٩
١٠٠