دفاع عن القرآن ضد منتقديه

الدكتور عبد الرحمن بدوي

دفاع عن القرآن ضد منتقديه

المؤلف:

الدكتور عبد الرحمن بدوي


المترجم: كمال جاد الله
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الدار العالميّة للكتب والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٩٩

يبقى أن نتبنى المعنى والاشتقاق التى اتفق عليه مفسرو القرآن وعلماء فقه اللغة العرب والمسلمون ، وقد لخص كازيميرسكى بعد اطلاعه على المعاجم العربية آرائهم كالآتى :

* (فرقان):

١ ـ مصدر الفعل : فرق.

٢ ـ كل ما يدل على التفريق ، الفرق بين الخير والشر ، بين المشروع واللامشروع ، ويوم (الفرقان) هو يوم التمييز ، إنه يوم معركة بدر ، أول انتصار لمحمد على الكفار.

٣ ـ أى كتاب مقدس (لأهل الكتاب) مثل الإنجيل وخاصة القرآن ، واستنادا على هذا نقترح التفسير الآتى :

أن «فرقان» مصدر الفعل فرق معناه : التمييز بين الخير والشر ، بين المشروع واللامشروع وبالقياس نجد أن كلمة «فرقان» تدل على معيار التمييز بين الخير والشر ، وأخيرا الكتاب المقدس هذا المعيار ويعبر عنه.

لنطبق إذن هذا التفسير على الآيات القرآنية الست سنجد الآتى :

أولا : فى الآيات ٥٣ من سورة البقرة ، ٤٨ من سورة الأنبياء ، تدل كلمة «فرقان» على التمييز بين الخير والشر والحلال والحرام.

ثانيا : أن المراد من كلمة «فرقان» فى الآيتين ٤ من سورة آل عمران ، والآية ١ من سورة الفرقان هو القرآن.

ثالثا : والمقصود من الآيتين ١٨٥ من سورة البقرة ، ٤١ من سورة الأنفال التمييز بين الخير والشر وبين الحق والباطل فى الدين.

وبالتالى نرفض أن يعطى لهذه الكلمة تفسيرا من نوع الإنقاذ (Salvation) أو ما يعادلها باللغات الأخرى مثل (Rettung) بالألمانية.

٦١
٦٢

الفصل الرابع

«الافتراضات الخيالية لمرجليوث»

٦٣
٦٤

دافيد صموئيل مارجليوث (١٨٥٨ م ـ ١٩٤ م) من الواضح أن الأسماء الثلاثة أسماء يهودية ، وهو ينحدر من عائلة يهودية ، وكلمة مرجليوث تعنى بالعبرية يتكلم ، ومن بين أقدم الأعضاء المعروفين فى هذه العائلة : يعقوب فون رينسبورج المتوفى ما بين (١٤٩٩ ، ١٥٢٢) الذى كان حاخام رينسبوج ، حاليا رانيسبون (Ratisbone) فى ألمانيا وعين ابنه صموئيل زعيما للمجتمع اليهودى فى بولونيا ومن قبل سيجسمنود الأول.

ولد دافيد صموئيل مرجليوث فى سنة (١٨٥٨ م) وكان الطفل الأول لحزقيال مرجليوث الذى اعتنق المسيحية وأصبح راهبا مسيحيا ، وقد اعتنق دافيد المسيحية مثل والده وأصبح قسيسا فى سنة (١٨٩٩ م) ، ولكنه ظل يهوديا بالقلب والروح واهتم كذلك بالدراسات اليهودية التى نذكر من بينها الكتب التالية :

١ ـ شرح كتاب (دانيال) لمؤلفه يافث بن على نشر وترجمة دافيد صموئيل مرجليوث سنة (١٨٩٩ م).

٢ ـ «مكانة الإكليرلية فى الأدب السامى» سنة (١٨٩٠ م).

٣ ـ «أصل العبرية فى الإكليروس» سنة (١٨٩٩ م).

٤ ـ «العلاقات بين العرب وبنى إسرائيل قبل ظهور الإسلام» سنة (١٩٢١ م) ، وطبع فى سنة (١٩٢٤ م).

لقد جند صموئيل مرجليوث نفسه طول حياته عدوا عنيدا ضد الإسلام ، ودفعه تعصبه العنيف إلى عرض مزاعم شديدة الغرابة لم يكن القصد منها سوى الهجوم على الرسول محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) والحط من رسالته.

وسوف نكشف هنا بعض هذه المزاعم التى رفض قبولها مستشرقون آخرون.

أولا ـ «أصل كلمة مسلم» :

أول هذه الادّعاءات الغريبة هى الادّعاء بأن كلمة (مسلم) تعنى فى الأساس واحد من أتباع مسيلمة مدعى النبوة ، والمعروف فى السنة النبوية

٦٥

الشريفة باسم الكذاب ، وقد أدلى مرجوليوث بهذا الرأى المتعصب فى مقال نشر فى جريدة المجمع الملكى الآسيوى ـ لندن صفحة (٤٧٦) ، وقد رد عليه تشارلزج. ليل وهو مستعرب إنجليزى كبير فى نفس المجلة صفحة (٧٧١) سنة (١٩٠٣ م).

وقد فند رأيه ورد عليه ردا لاذعا فلم يكرر مرجوليوث هذا الهذيان مرة أخرى فى كتبه التالية ، إننى لأتساءل كيف يمكن أن يرتكب مرجليوث وهو فى الخامسة والأربعين من عمره هذا الخطأ ألم يقرأ القرآن أبدا؟ ألم يقرأ السيرة النبوية؟ ألم يقرأ أى كتاب عن تاريخ الإسلام؟ ، كيف يمكن أن تشتق الصفة «اسم الفاعل» مسلم من اسم مسيلمة؟ ، لو كان يعرف حدا أدنى من اللغة العربية لعلم أن النسبة إلى مسيلمة هى مسيلمى وليس مسلم ولكن تعصبه أعماه.

ثانيا ـ «فرقان» و «بيركى أبوت» PirkeAbbot

لقد رأينا فى الباب السابق عبث المطابقة بين فرقان وبيركه ، وقد كان مرجوليوث ضحية موافقته لسابقه هيرشفيلد الذى تخيل فى كتابه «بحوث جديدة فى فهم وتفسير القرآن» لندن (١٩٠٢ م) أن كلمة فرقان هى المقابلة لكلمة بيركى وهى عنوان مجموعة من الحكم التى ألفها حاخامات اليهود.

ثالثا ـ «حول إبراهيم» :

وذلك فى مقال تحت عنوان «محمد ـ موسوعة الأديان والأخلاق» المجلد (٨) صفحة (٨٧١ ، ٨٨٠) أيدنبرج سنة (١٩١٥ م) وقد ساق مرجوليوث عددا من الأحكام الواهية التى لا تستند على أية وثائق تاريخية ونستعرض أولا ما يتعلق بإبراهيم.

(أ) يزعم أنه من غير المحتمل أن يكون اسم إبراهيم معروفا فى مكة قبل أن يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما وقد فعل ذلك فقد اصطدم بأرض صلبة ، لأن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى كانوا متفقين على وجود علاقة بين إبراهيم وقبائل شمال شبه الجزيرة العربية ، ولكن بما أنه كان هناك يهود ونصارى فى مكة قبل الإسلام كما

٦٦

يعترف بذلك مرجليوث نفسه ، فكيف إذا لن يدخل اليهود والنصارى اسم إبراهيم إلى مكة قبل الإسلام ؛ ولما ذا انتظروا مجىء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يكون اسم إبراهيم معروفا فى مكة؟ إن عبثية افتراض مرجليوث تبدو واضحة للعيان.

(ب) زعم أيضا أن ملة إبراهيم كانت معروفة لدى الصابئة فى حران (Harran) ، ثم أضاف قائلا : (يبدو أن الحرانيين كانوا يسمون» Hanpe «بمعنى وثنيين ، وكان يعرفهم بذلك جيرانهم النصارى ، وربما يفسر هذا غموض كلمة حنيف التى أطلقها القرآن على دين إبراهيم ، واعتبرها مرادفا لكلمة مسلم).

هذان الافتراضان لا أساس لهما من الصحة وهما :

١ ـ إن عبادة إبراهيم وجدت فى حران.

٢ ـ إن النصارى كانوا يطلقون على الحرانيين اسم الحنفاء ، لقد أطلق مرجليوث هذه الدعاوى دون أن يستند إلى أية مصادر ، ومن ناحية أخرى فلا يثبت أى مصدر أيا من هذين الافتراضين اللذين اختلقهما مرجليوث من خياله السقيم.

رابعا ـ «صلاة المسلمين أثناء الحروب» و «تاريخ الفاتحة» :

(أ) لقد وقع مرجوليوث فيما يثير الضحك حينما ادعى أن شعائر صلاة الإسلام مرتبطة بالتدريبات العسكرية التى لم تكن معروفة قبل ظهور الجيش.

(ب) ويتوصل مرجوليوث من ذلك إلى أن (الفاتحة) التى لا بد من قراءتها فى كل صلاة نزلت بعد الهجرة بينما لم يؤسس محمد جيشا قبل الهجرة.

ولكن هذا ادعاء طفولى وعبثى ... طفولى لأنه من السخف أن نعتبر شعائر الصلاة مثل التدريبات العسكرية ، وعبثى لأن القول بأن الفاتحة سورة مدنية يعنى بالضرورة أن سيدنا محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأصحابه لم يكونوا يؤدون الصلاة قبل الهجرة بينما الثابت فى كتب الحديث أن النبى محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أكد أنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب «انظر البخارى باب الأذان ـ الحديث (٩٣) ، والترمذى باب الصلاة ـ الحديث (٦٣) ، النسائى افتتاح حديث (٢٤) ، ابن ماجة كتاب الصلاة باب افتتاح القراءة حديث (٢)».

٦٧

ولهذا فمن المؤكد فى المصادر الإسلامية أن الفاتحة من أقدم السور القرآنية إن لم تكن أقدمها على الإطلاق «الديار بكرى ، (الخامس) ـ السيوطى ، (الإتقان) صفحة (٥٤)».

لكن مرجليوث توصل إلى تاريخ متأخر لسورة الفاتحة معتمدا على تفسير خاطئ للآية الأخيرة من هذه السورة ، وهو أن المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى.

«وبما أن معارك محمد واليهود لم تبدأ إلا بعد الهجرة ، وكذلك عداؤه مع النصارى لم يبدأ إلا بعد السنوات التالية للهجرة ، ولذلك يقول مرجليوث فى المرجع السابق صفحة (٨٧٥) إن الفاتحة نزلت فى زمن متأخر من زمن النبوة كما أوضح بلاشير فى ترجمته للقرآن صفحة (٢٩).

«وهذا التفسير لا يعتمد لوجود النفى فى التعبير الثانى «ولا الضالين» ، وفى الحقيقة أن الموضوع متعلق بغير المؤمنين بصفة عامة».

حتى رودى باريت (Rudi Paret) فى كتابه «القرآن تعليق وشرح» صفحة (١٢) يؤكد أن هذه الترجمة وهى : أن المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى تحديد يصعب تبريره.

وكذلك س. د. جواتين (S.D.Goitein) فى دراسته «الصلاة فى الإسلام ـ دراسات فى التاريخ والتعاليم الإسلامية» صفحة (٨٢ ، ٨٤) ليدن (١٩٦٦ م).

وهو يؤكد أن الفاتحة كانت تستعمل بنصها فى كل صلاة قبل الهجرة بزمن طويل ، ونلاحظ أيضا فى هذا الصدد أن ما ذكره جولد تسهير من أن الفاتحة هى القداس الأبوى» Nosternaster «عند المسلمين هو زعم كاذب بالكلية فليس هناك علاقة بين الصيغتين إن لم تكن كل منهما معارضة للأخرى.

(أ) فالفاتحة تؤكد هيمنة الله على العالم ، وعلى اليوم الآخر بينما القداس الأبوى يكتفى بتمجيد اسم الله.

٦٨

(ب) الفاتحة توكد وحدانية الله بينما يؤكد القداس الأبوى أبوه الله (أبانا).

(جـ) الفاتحة تؤكد خضوع الإنسان وخشوعه لأنه محتاج إلى عون الله ، بينما يأمر القداس الله فيقول : «امنحنا اليوم الخبز الذى نحتاجه واغفر خطايانا فى حقك كما غفرنا نحن خطايا الذين أخطئوا فى حقنا» ، يا له من غرور وصلف فى حق الله ، إنهم يكلمونه وكأنهم مساوون له فمثلا يقولون : «لا تعرضنا للغواية! هل هنا صلاة أم أمر أم إنذار؟».

من الواضح مخالفة روح الفاتحة لروح القداس الأبوى المسيحى ، إذا من أين لجولدتسيهر ومن ساروا على خطاه دون تفكير مثل بلاشير أن يؤكد أن الفاتحة هى القداس الأبوى فى الإسلام ، إن مرجليوث يخالف الحقيقة ويخادع حين يقول : إن الدعاء الذى يتفق مع القداس الأبوى هو الفاتحة.

خامسا ـ «الصوم وتحريم الخمور» :

نتيجة لتأثره بفكره النظام العسكرى ، فإن مرجوليوث أراد أن يشرح التعاليم والمحرمات فى الإسلام بهذه الفكرة.

ففي رأيه أن الصوم فى رمضان هو نظام عسكرى ، فمن ناحية يعود المحاربين على تحمل الحرمان ، ومن ناحية أخرى يدرب على التحول من الليل إلى النهار «المرجع السابق».

ولكن لو كان هذا هو السبب الذى شرع محمد الصوم لأجله فلما ذا فرض الصوم على غير المحاربين مثل النساء والصغار؟.

وكذلك يدعى مرجوليوث أن تحريم الخمر فى القرآن (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(١) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢) ، يبدو أنه يعود إلى نظام عسكرى

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية (٢١٩).

(٢) سورة المائدة ، الآية (٩٠).

٦٩

وهذا ما يؤكد صدق فكرة و. ج بلجريف فى كتابه «شرق ووسط الجزيرة العربية» صفحة (٤٢٨) لندن سنة (١٨٦٥ م) ، وهذا السلوك المحرم هو بالتأكيد ضد مقصد المسيحية (المرجع السابق).

ولكن كلا الرأيين رأى مرجليوث ورأي بالجراف لا يقيمان اعتبارا لتدرج تحريم الخمر والظروف التى شرحتها باستفاضة تفاسير المسلمين للقرآن وبعض كتب الفقه التى تكلمت عن هذا التحريم وظروفه والتى لم تدخل فى حسابها لا النظام العسكرى ولا مخالفة المسيحية ، ويكفى الرجوع إلى هذه التفاسير وإلى كتب الفقه.

سادسا ـ «التحريم الخاص بالأكل».

فيما يتعلق بتحريم بعض الأطعمة يؤكد مرجليوث أن محمدا اعتمد تحريم الخنزير واللحم البشرى عوضا عن النظام المفصل للأطعمة المحرمة ، والذى يحظى بمنزله بارزة فى شريعة موسى والمعتمد من مجلس أورشليم القدس ، وأقتبس محمد أصل هذه المحرمات مما كان موجودا فى تلك التعاليم (المرجع السابق) صفحة (٦ ـ ٨٧٥).

ولكن هذا القول غير دقيق فإذا نظرنا إلى ما يقوله كتاب «وقائع الحواريين» (٢١٥ ، ٢٢٠) ونظرنا إلى قرار مجلس أورشليم حيث كان يحضر بولس وبرنابا من جهة ، والحواريون الموجودون فى أورشليم من جهة أخرى لوجدنا نص القرار كالآتى : «أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام والزنا والمخنوق والدم» وحتى حين نتصفح نص هذا الخطاب فإن أحدا لم يترجم كلمة الدم بما تعنيه وهو قاتل الإنسان ، «العهد الجديد ٥ ـ ٢» ترجمة مسكونيه صفحة (٤٠٣) سنة (١٩٧٩ م) ، يقول : إن المحرم فى هذا النص هو فقط المنخنقة ودم الحيوانات ، هل يشتمل النص الأصلى على لحم الخنزير؟ ، لقد اخترع مرجوليوث هذا الزعم ليخدم قضيته وقضية اليهود بصفة عامة ، وحتى مع هذا الاختلاف ، فإن هذا لا يخدم ما أكده دون دليل لأن القرآن قد حدد المحرمات بقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ

٧٠

وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ)(١).

نرى إذن أن قائمة اللحوم المحرمة فى القرآن أكثر تفصيلا من الحالتين اللتين حرمهما مجلس أورشليم «وقائع الحواريين الجزء (١٥) صفحة (٢٠)».

من الواضح أيضا أن قائمة اللحوم التى حرمها القرآن تختلف عن تلك المحرمة عند النصارى أو بالأحرى التى حرمها موسى وهى الجمل والأرنب وكل ذى ظفر والسمك بدون قشر بينما يعتبرها الإسلام حلالا.

ونغض الطرف عن تلك الأحكام الذاتية غير الموضوعية التى أطلقها مرجوليوث فى نفس مقالة «فى موسوعة الدين والأخلاق» المجلد (٨) صفحة (٨٧١ ـ ٨٨٠) سنة (١٩١٥ م) أدنبرج ، حيث إنها تخرج عن نطاق ما نحن بصدده هنا ناهيك عن أنها تكشف عن تعصب أعمى.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية (٣).

٧١
٧٢

الفصل الخامس

«إجناس جولدتسيهر والقياس الخاطئ

بين الإسلام واليهودية»

٧٣
٧٤

كتب إجناس جولدتسيهر (IgnazGoldziher) (١٨٥٠ م ـ ١٩٢٠ م) مقالا عن الإسلام فى «الموسوعة اليهودية» الجزء السادس ص (٦٥١ ، ٦٥٩) نيويورك ولندن (١٩٠٤ م) حيث بحث بالأخص عن الأصل اليهودى للمفاهيم والتعاليم الإسلامية المختلفة ، فلنرى بالتفصيل مزاعمه فى هذا الموضوع :

١ ـ إله إسرائيل وإله الإسلام :

لقد أكد بداية أن المفهوم التوحيدى للإله والذى عارض به محمد الوثنية العربية يتفق فى مادته مع مفهوم التوحيد فى العهد القديم (المرجع السابق ص ٦٢٥).

(أ) هذا الزعم خاطئ ، لأن إله العهد القديم هو فقط إله إسرائيل ، وإسرائيل اختارها الرب «سفر الخروج (١٩ ـ ٦٤) والتثنية (٤ ، ٢٠ ، ٣٢ ، ٩ ، ٧٠ ، ٤١ ، ٨ ، ٩ ، ٤٣ ، ٢١) وإله الإسلام على عكس ذلك هو (رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) ، دون تفرقة شعب عن شعب ، ولم يصطف شعبا بوجه خاص.

(ب) إله إسرائيل هو الأب «أشعياء ، إصحاح (٦٣ ، ١٦) ، وإجماع (٦٤ ، ٧)» بينما الله فى الإسلام (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)(٢).

ولذلك فقد كان «باينتش» على حق حين قال فى كتابه «التوحيد عند إسرائيل والشرق القديم» : إن التوحيد اليهودى هو توحيد قومى ، أما التوحيد الإسلامى فعالمى.

٢ ـ الصوم اليهودى والصوم الإسلامى :

يزعم جولدتسيهر ومن بعده فنسنك «دائرة المعارف الإسلامية» أن محمدا قد أخذ الصوم عن اليهودية. وهذا قول خاطئ لما يلى :

__________________

(١) الفاتحة ، الآية (٢).

(٢) الإخلاص ، الآية (٣).

٧٥

(أ) لأن الصوم اليهودى مرتبط بأحداث معينة فى التاريخ اليهودى ، وهو مقتصر على يوم واحد هو الذى أمرتهم شريعة موسى بصومه ، وهو يوم الغفران «سفر الأوليين الإجماع السادس عشرا آية (٢٩)» ويأتى بعد ذلك صوم بعض أيام أخرى متفرقة هى أيام الأسر ، وهى مخصصة للصوم إحياء لذكرى النكبات التى حلت باليهود «سفر زكريا إجماع (٨) آية (٩)» وهذه الأيام هى : صوم الشهر الرابع «تموز» والشهر الخامس «آب» والشهر السابع «تشرين» والشهر العاشر «شباط» ، ويبدأ الصوم من طلوع الشمس وينتهى بظهور أول نجوم الليل فى المساء فيما عدا صوم يوم الغفران والتاسع من «آب» والذى يستمر من المساء حتى المساء التالى ، وخلال الصوم يمتنعون فقط عن الأكل والشرب ، وهكذا نرى أن الصوم اليهودى لا يتشابه إطلاقا مع الصوم الإسلامى لما يأتى :

(أ) الصوم الإسلامى يستغرق شهرا كاملا هو شهر رمضان ، وليس يوما واحدا ، أو يوما وليلة كما هو الحال عند اليهود.

(ب) الصوم الإسلامى ليس مرتبطا بأية أحداث فى التاريخ الإسلامى ولا أية نكبات قد حلت بالمسلمين ، ولكنه ركن أساسى من أركان الإسلام الخمسة ، وشعيرة أصلية ، وعلى عكس ذلك فإن الصوم اليهودى صوم اتفاقى وليس مفروضا إلا حين تتعرض الأمة اليهودية للاضطهاد ، وليس عند ما تعيش فى سلام «س. ه» (١٨) «الموسوعة اليهودية الجزء (٥) ص (٣٤٧)» ، إن الصوم كشعيرة دينية كان موجودا فى كثير من الأديان التى سبقت اليهودية ، وكان يتخذ أشكالا كثيرة وأهدافا كثيرة ، فقد كان فعلا من أفعال التوبة ، أو الكفارة ، كما كان عملا من أعمال التطهير ووسيلة لتقوية الشعائر السحرية ، كما كان أخيرا تعبيرا عن الحداد وبعيدا عن الحديث عن البدائيين ، كان الصوم فى مصر وسيلة غفران الذنوب ، وكان الصوم فى بابل شعيرة منظمة بهدف التوبة كما توضح ذلك مزامير التوبة عند البابليين ، ويصف التائب الصوم بأنه لا يأكل فى خلاله ولا يشرب الماء ، وهو فى أيام محدودة لا سيما فى فترات الأحزان والنوائب ، حيث يجب القيام بصيام خاص «انظر : بو سلمان البابلى

٧٦

ـ ليبزج ـ (١٨٨٥ م) ص (٣٤) ما سبرا «فجر البابلية ـ بوسطن ـ (١٨٩٨ م) ص (٣٢٠ ـ ٦٨٨)».

وما دام الصوم كان يمارس قبل ظهور اليهودية بآلاف السنين ، فبأى حق يدعى جولدتسيهر أن محمد أخذه عن اليهودية كما لو كانت اليهودية أول من اخترع الصوم ، ولكنه دوما نفس الابتسار ونفس الفكرة المتسلطة هى التى جعلته يرى ذلك هو ومن على شاكلته من اليهود ، كما أن سوء النية يظهر عنده حين وضع الكلمة العبرية «صوم» بين قوسين بعد اللفظ العربى «صيام» ولو كان أكثر ذكاء لقال : «صوم» بدلا من صيام حيث إنها تقترب من الكلمة؟؟؟ العبرية ليوضح أن اللفظ العربى هو تماما منقول عن الكلمة العبرية.

٣ ـ القبلة :

يزعم جولدتسيهر أن محمدا جعل بيت المقدس قبلة فى الصلاة أولا ليكسب مودة اليهود لأنه فى المدينة كان يعتمد على مساندة اليهود ذوى المكانة العالية ، لأنه لديهم يعتبر النبى المنتظر ، وآخر رسل الله الموجود فى كتبهم «المرجع السابق» ص (٦٥) ، ولما لم يحصل على تأييد اليهود غير القبلة متجها إلى البيت الحرام فى مكة ، هذا الرأى الشائع عند كثير من المستشرقين أمثال : «فييل ص (٩٠) ، موير الجزء (٣) ص (٤٥) ، ه. جريم : محمد (١) ص (٧١) ليون كيتانى ص (٤٦٦) ، فربوهى ص (٢١٢)» يفتقر إلى أسس سليمة حيث يمكن أن نأخذ عليه الملاحظات الآتية :

(أ) لا نعرف على وجه الدقة ما ذا كانت القبلة فى مكة قبل الهجرة ، وهناك ثلاثة آراء فى هذا الموضوع :

١ ـ القبلة كانت الكعبة «الطبرى : تفسير الطبرى الجزء الثانى ، (٤) البيضاوى ، تفسير سورة البقرة (١٩٣).

٢ ـ كانت القبلة دائما بيت المقدس «تفسير الطبرى الجزء الثانى (٣ ، ٨) تاريخ الطبرى الجزء الأول ص (١٢٣٠) ـ البلاذرى : الفتوح (٢) طبعة جويج».

٧٧

٣ ـ كان محمد قبل الهجرة يقف فى صلاته بحيث يرى أمامه على اليمين الكعبة وبيت المقدس «ابن هشام ـ السيرة ص (١٩٠ ، ٢٢٨).

ويؤيد كل من سبرنجر فى كتابه «حياة محمد وعلمه ، الجزء (٣) ص (٤٦) ملحوظة» (٢) وفنسنك فى كتابه «محمد واليهود فى المدينة ـ ليدن ـ (١٩٠٣ م) ص (١٠٨) الاحتمال الثانى ، وهو أن القبلة كانت فى مكة قبل الهجرة هى بيت المقدس ، وإذا كان الأمر كذلك فمن الخطأ أن نفترض أن محمدا اتخذ بيت المقدس قبلة ليتقرب إلى اليهود لأنه فى مكة قبل الهجرة لم يكن فى حاجة لذلك ، ولم يدخل فى علاقة مع اليهود إلا فى المدينة.

وفى رأينا أن ما يفسد هذا الرأى هو الآتى :

(أ) القول بأن محمدا غير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فى رجب من السنة الثانية للهجرة ، كما جاء فى ابن هشام طبعة فستنفيلد (Wistenfeld) ص (٣٨١) وابن سعد «الطبقات الكبرى» م (١٠) ص (٢٦١) ، الطبرى «تفسير الطبرى» ج (٢) ص (٣) ، أو فى شعبان من نفس العام كما جاء فى «تفسير الطبرى الجزء الثانى ص (٣٠) وابن الأثير الجزء الثانى ص (٩٨)» غير سليم لأن الآيات القرآنية التى تحدثت عن هذا الموضوع لم تتحدث عن الرجوع إلى قبلة قديمة ولكنها تقول فقط (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١) ، (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ)(٢) ، (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(٣).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية (١٤٢).

(٢) سورة البقرة ، الآية (١٤٣).

(٣) سورة البقرة ، الآية (١٤٤).

٧٨

(ب) ومن ناحية أخرى فإن الكعبة فى مكة قبل الهجرة كانت أيضا معبد الوثنية العربية وهى تتأهب لتكون قبلة الإسلام الوليد الذى جاء ليقضى على الوثنية ولا تلائم فى النهاية أن تكون قبلة للصلاة لهذا التجمع الجديد ، وكان الأمر يستلزم هذا البعد الكبير عن مكان الكعبة حتى يقضى على هذا الانطباع ولا نرى الكعبة كمكان رفيع للوثنية ، ولكن كأكبر قلاع الإسلام المقدسة.

(ج) ونضيف أيضا هنا أن الإسلام وهو دين إبراهيم وإبراهيم مؤسس الكعبة ، ولذلك كان من الطبيعى جدا أن يتحول المسلمون فى صلاتهم إلى الكعبة.

نعتقد أن هذه البراهين تكفى لدحض قضية من أقاموا علاقة أيا كانت بين اختيار بيت المقدس قبلة فى البداية ، ورأى محمد فى اليهود ، أو التجمعات النصرانية فى الجزيرة العربية كما زعم أيضا فريدريش شفالى فى «تاريخ القرآن» ص (١٧٥ ، ١٧٦) ناخدرك.

ولذلك فالقول بأن القبلة قبل الهجرة كانت بيت المقدس شىء ولكن القول بأن محمدا أخذ هذه الشعيرة من اليهود شىء آخر تماما ، صحيح أن اليهود يتجهون فى صلاتهم شطر بيت المقدس «ارو (٨ ، ٤٤ ، ٤٨) سفر دانيال (٦ ، ٢)» وأن كل إسرائيلى فى صلاته يتوجه نفس الوجهة «يس ـ بار (١٧ ، ٥)» ولكن السبب الذى من أجله توجه النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد الأقصى خلال العهد المكى ، هو أن الكعبة لم تكن قد طهرت من الأصنام ، أو كادت ولذلك كان المسجد الأقصى هو أنسب قبلة ، وقد تحدثت أول آية فى سورة الإسراء عن المسجد الأقصى ، صحيح أنه ليس هناك اتفاق على تحديد المسجد الأقصى ، ولكن التفسير الإسلامى فى عمومه يحدده بيت المقدس.

وقد انعقد الإجماع على أن هذه الآية مكية ، وأن رحلة الإسراء كانت من مكة إلى بيت المقدس.

وهنا يثور سؤال : أى قدس يقصد ، القدس السماوية ، أو القدس الأرضية الموجودة فى فلسطين؟ وهذا سؤال عبثى «طرحه بلاشير فى ترجمة

٧٩

القرآن ص (٣٠٦) ، وذلك لأن القدس السماوية وهم اخترعته كتابات يهودية متأخرة متعلقة برؤيا القديس يوحنا «ايتى هن (٩٠ ـ ٢٩) ليبين أن هناك قدسا أبديا شيده الله فى السماء وسوف يكون الملاذ الأخير للمؤمنين ، وهو نوع من الفردوس «سبير. رؤيا القديس يوحنا. بار (٢٠٤) ، (٤) اسردا (٨ ، ٥٢) ، حيث توجد شجرة الحياة وهى فى العهد الجديد تنشبث بأمل السلام ، وهى كذلك مذكورة فى «رؤيا القديس يوحنا (٢١ ، ١٠)» هكذا : «لقد نقلنى بالروح على قمة جبل عال كبير ، وأشار إلى المدينة المقدسة ، القدس التى تنزل من السماء من عند الله ويؤكد بلاشير «المرجع السابق» هذا الافتراض الخيالى وهو أن «المسجد الأقصى» يعنى «القدس السماوية» ولكنه يزعم «أن بعد فترة طويلة عند ما إن خلفاء بنى أمية بدمشق أرادوا أن يحرروا مكة من امتيازها كعاصمة دينية ووحيدة للإسلام فلم يعد تعبير «المسجد الأقصى» يعنى «القدس السماوية» ولكن مدينة يهودا نفسها».

***

الشريعة الإسلامية والهلاخا (الشريعة) اليهودية

أخيرا ، يسوق جولدتسيهر فى نفس مقاله فى «الموسوعة اليهودية» ـ الجزء الرابع ص (٦٦٥)» ادعاء وهو «تأثير الشريعة اليهودية على الشريعة الإسلامية» ولكن لم يحدد من هذا التأثير إلا طريقة ذبح حيوانات الأكل وغسل الميت قبل وضعه فى اللحد.

ولكن تغسيل الميت شعيرة قائمة منذ الأزمنة القديمة وحتى عند البدائيين «انظر موسوعة الدين والأخلاق ج (٤) ص (٤١٧) أدنبرج (١٩١١ م) «غسل الأبدان» ، إذا ليست هذه شريعة اخترعها اليهود.

أما عن ذبح الأنعام بغرض أكلها فتلك عملية معقدة جدا عند اليهود وبسيطة جدا عند المسلمين ، فعند اليهود يجب أن يقوم «دشاهوت» أي رجل مكلف بممارسة عملية الذبح حسب الطقوس ، ولا يسمح للنساء حسب مقتضيات التلمود بممارسة هذه المهنة «انظر يوره دياه (١ ، ١)(Yoreh Deah) (١ ، ١)

٨٠