دفاع عن القرآن ضد منتقديه

الدكتور عبد الرحمن بدوي

دفاع عن القرآن ضد منتقديه

المؤلف:

الدكتور عبد الرحمن بدوي


المترجم: كمال جاد الله
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الدار العالميّة للكتب والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٩٩

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)

صدق الله العظيم

(سورة هود : ٨٨)

٣
٤

مقدمة

لقد تعرض القرآن الكريم باعتباره الركيزة الأساسية للإسلام لهجمات كثيرة من الذين كتبوا ضد الإسلام ، سواء فى الشرق أو فى الغرب وكان ذلك بدءا من النصف الثانى للقرن الأول الهجرى / السابع الميلادى ، حتى الآن.

ولقد بدأ يوحنا الدمشقى حوالى (٦٥٠ ـ ٧٥٠ تقريبا) هذا الهجوم بتوجيه عدة انتقادات على النسق العام للقرآن ثم تبعه فى ذلك «أثيميوس زيجابينوس» فى كتابه «العقيدة الشاملة».

لكن أول هجوم مفصل على القرآن كان فى أعمال نيكيتاس البيزنطى فى مقدمة كتاب «نقد الأكاذيب الموجودة فى كتاب العرب المحمديين» ولا نعرف شيئا عن حياته سوى أنه ذاعت شهرته فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر حيث كان مجادلا لاذعا ضد الإسلام وكذلك ضد الكنيسة الأرثوذكسية الإرمينية التى انتقدها فى كتاب «دحض الكنيسة الإرمينية» وكذلك ضد الكنيسة الكاثوليكية فى روما «علم القياس الأساسى».

ولكن أكبر هجوم جدلى على القرآن والإسلام هو ما قام به امبراطور بيزنطة چان كنتاكوزين فى كتابيه «ضد تمجيد الملة المحمدية» ، «ضد الصلوات والتراتيل المحمدية» كان هذا الهجوم فى الشرق وباللغة اليونانية ، وهناك هجوم على القرآن باللغة السريانية والإرمينية والعربية.

وبسقوط القسطنطينية فى يد المسلمين (١٤٥٣) ، توقف الهجوم البيزنطى على القرآن والإسلام ، وتولت أوربا المسيحية الأمر من بعد ، فبدأ الكاردينال نيقولا دى كوزا (١٤٠١ ـ ١٤٦٤) مسيرة الهجوم الجديدة ، وكان بتوجيه من البابا بيوس الثانى كتب نيقولا كتاب «نقد وتفنيد الإسلام» وكذلك رسالة هجاء فى القرآن تحت عنوان «غربلة القرآن» وقسم هذه الرسالة إلى ثلاثة كتب.

فى الكتاب الأول زعم إثبات حقيقة الإنجيل استنادا إلى القرآن ، وفى الكتاب الثانى عرض وتوضيح للمذهب الكاثوليكى وفى الكتاب الثالث زعم

٥

بعض التناقضات فى القرآن وقد نشرت هذه الكتب مطبعة بلياندر فى بال بسويسرا سنة (١٥٤٣).

وقام عدد من الآباء الدومينيكانيين والجزويت بنشر كتب هاجموا فيها القرآن والإسلام ومنهم :

ـ دينيس فى كتابه «حول الخداع المحمدى» كولون (١٥٣٣ م).

ـ ألفونس سينا فى كتابه «التحصين الإيمانى» (ت ١٤٩١ م).

ـ چان دى تيريكريماتا فى كتابه «بحث للرد على الأخطاء الرئيسية الخادعة لمحمد» روما (١٦٠٦).

ـ لويس فييف فى كتابه «الإيمان المسيحى الحقيقى ضد المحمديين» بال (١٥٤٣).

ـ ميشيل نان فى كتابه «الكنيسة الرومانية اليونانية فى الشكل والمضمون للدين المسيحى ضد القرآن والقرآنيين دفاعا وبرهانا» باريس (١٦٨٠).

ولكن أشد الكتب هجوما على القرآن والإسلام ما كتبه «لوودقيجو مراش» (١٦١٢ ـ ١٧٠٠) فى كتاب «عالم النص القرآنى» نشر فى بادوا سنة (١٦٩٨) ، وهو كتاب فى مجلدين من الحجم الكبير عنوان المجلد الأول «مقدمة فى دحض القرآن» ، وقد نشر هذا الكتاب متفرقا فى أربعة أجزاء سنة (١٩٦١ م) ، وفيه تناول مراش حياة محمد حسب المصادر العربية ، وتناول المجلد الثانى النص العربى للقرآن مع ترجمة لاتينية وشرح النواحى الغامضة فى النص ثم نقده وتفنيده ، وكان مراش يعرف السريانية والعربية والعبرية.

ولقد كتب نللينو دراسة حول مصادر المخطوطات العربية التى قام عليها عمل لودوقيچو مراش حول القرآن ، ويمكننا القول أن عمل مراش هذا كان الأساس ونقطة الانطلاق للدراسات الجادة فى أوروبا عن القرآن وهو عمل حافل بالأخطاء والمجادلات الساذجة اللامعقولة ، وللأسف تكررت نفس هذه الأخطاء وهذه التجاوزات فى كل الدراسات المتصلة بالقرآن والتى قام بها المستشرقون الأوروبيون خلال القرنين التاليين لظهور كتاب مراش.

٦

حقا ، فإنه بداية من منتصف القرن التاسع عشر يبذل هؤلاء المستشرقون كل ما فى وسعهم ليبدوا موضوعيين فى كتاباتهم وفى جعل كتاباتهم أكثر دلالة وأكثر جدية وموضوعية ، وأكثر تدقيقا فى المنهج اللغوى ، لكن دون فائدة ، ذلك لأن الدوافع الداخلية التى تضطرم بالحقد فى قلوبهم ضد الإسلام وكتاب الإسلام المقدس ونبى الإسلام ظلت كما هى بل ازدادت تأججا.

وبرغم أن هؤلاء الكتاب قد توفرت لهم أدوات فهم اللغات منذ بداية القرن الأخير حتى يومنا هذا ، إضافة إلى توافر نشر المخطوطات ، إلا أنهم أصروا على تقديم نظرياتهم الخاطئة ، من خلال تصوراتهم الزائفة للقضايا الوهمية التى طرحوها حول القرآن وطرحوا نتائج زائفة توصلوا إليها.

ومن أجل ذلك تصدينا فى كتابنا هذا لفضح هذه الجرأة الجهولة الحمقاء عند هؤلاء المستشرقين حول القرآن ، ونبدأ بتسجيل بعض الملاحظات العامة :

١ ـ إن معرفة هؤلاء المستشرقين للغة العربية من الناحية الأدبية أو الفنية يشوبها الضعف ، ويمكن القول أن هذه الملاحظة تخصهم جميعا تقريبا.

٢ ـ إن معلوماتهم جميعا المستقاة من مصادر عربية جزئية ناقصة وضحلة وغير كافية ، وهم يرمون بأنفسهم فى مغامرة طرح فرضيات خطيرة وخاطئة يعتقدون أنهم أول من توصل إليها ، دون تكليف أنفسهم عناء التقصى لدى تلك المصادر عن نفس المعضلات التى يثيرونها ، إذ تطرق الكتاب المسلمون فى حقيقة الأمر لهذه الفرضيات واعترضوا عليها.

٣ ـ إن ما يحرك بعض المستشرقين دافع الضغينة والحقد على الإسلام ، مما يفقدهم الموضوعية ويعمى بصيرتهم بطريقة أو بأخرى ، وهذا ينطبق خاصة على هيرشفيلدHirschfeld هوروفيتز ، سبير.

٤ ـ لقد ذهب بعض من السطحيين إلى الإعلان بأعلى صوته أن فى القرآن انتحال وتقليد وسرقة ، معتمدين على تشابه لا أساس له. وهذا ما قام به مستشرقون مثل : جولد تسيهر ـ شفالى ـ مرجوليوث ، ونتحفظ نوعا ما فيما

٧

يتعلق بنولدكة الذى يتبرأ نوعا ما من مؤلفه «تاريخ القرآن» عند ما رفض إعادة طبعه تاركا المستشرق شفالى يقوم بهذه المهمة ، فطبع الكتاب ثانية وأصبح يعرف بكتاب نولدكه ـ شفالى.

٥ ـ لقد كان بعضا من هؤلاء المستشرقين مدفوعا بالتبشير والتعصب المتحفز ، مثلما هو الأمر بالنسبة للمستشرق وليم مويرWilliam Muir وزويمرZwemer.

ولن نعالج بطبيعة الحال فى هذا الكتاب كل القضايا التى أثارها المستشرقون بصدد القرآن ، فلم نتطرق إلا لتلك القضايا التى بدت لنا أكثر أهمية ، كما حصرنا بحثنا فى الفترة ما بين منتصف القرن التاسع إلى منتصف القرن العشرين.

ومنهجنا فى بحثنا هذا هو المنهج الوثائقى والموضوعى الواضح ، وهدفنا كشف القناع عن العلماء المزعومين الذين قدموا الضلال والخداع لشعب أوروبا ولغيره من الشعوب الأخرى.

لكننا فى نفس الوقت نؤكد أن القرآن يخرج دائما منتصرا على منتقديه.

د. عبد الرحمن بدوى

٨

ما ذا يعنى الوصف «أمى»

الذى يطلق على النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

٩
١٠

أحد الكلمات المثيرة للجدل فى ترجمة المصطلحات القرآنية كلمة «أمى» خاصة حين يوصف بها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفى الواقع أن هذه الكلمة فى القرآن تنطبق على النبى ، فى الآيات الآتية :

١ ـ قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١).

٢ ـ قال الله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٢).

وتطلق كلمة «أمى» على الأميين فى الآيات القرآنية :

١ ـ قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٣).

٢ ـ قال الله تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)(٤).

٣ ـ قال الله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : (١٥٦ ـ ١٥٧).

(٢) سورة الأعراف ، الآية : (١٥٨).

(٣) سورة الجمعة ، الآية : (٢).

(٤) سورة آل عمران ، الآية : (١٩).

١١

وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(١).

٤ ـ قال الله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(٢).

ننظر أولا إلى الحالة الأولى وهى كلمة «أمى» التى تصف النبى محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ونجد أن التفسير الأكثر اعتمادا لدى مفسرى القرآن الكريم واللغويين هو ما جاء فى لسان العرب «محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) نبى الله وصف بأنه أمى لأن الأمة العربية لم تكن تعرف القراءة ولا الكتابة فأرسل الله لهم رسولا من أنفسهم لا يقرأ ولا يكتب وكانت هذه إحدى معجزاته حيث كان يتلو عليهم كتاب الله مباشرة من الوحى الذى يبلغه عن الله عزوجل دون تغيير أو تبديل كلماته ، بينما كان الخطيب من العرب يعتمد على الإضافة أو الحذف فى أى خطاب يعيده مرة أخرى ولقد اقتضت حكمة الله أن يظل كتابه محفوظا لا دخل لنبيه فيما نزل منه وأخبره عن الذين أرسلهم قبله وهو ما يتميز به عنهم ، وأنزل عليه بمناسبة ذلك قول الله عزوجل : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ)(٣).

نستنتج من هذا الاستشهاد ما يلى :

١ ـ أن النعت (أمىّ) تعنى من لا يقرأ ولا يكتب.

٢ ـ أنها من كلمة «أمة» وتعنى أمة العرب حيث كانت هذه الأمة فى مجملها أمية ، ولسان العرب يؤكد هذه الفكرة أكثر بقوله : «كان العرب يسمون بالأميين لأن الكتابة كانت لديهم نادرة أو غير موجودة» واستشهد بالحديث النبوى الشريف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت إلى أمة أمية».

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : (٧٥).

(٢) سورة البقرة ، الآية : (٧٨).

(٣) سورة العنكبوت ، الآية : (٤٨).

١٢

٣ ـ معنى أخر يورده لسان العرب للفظ (أمىّ) و (أميون) وهو معنى ينطبق أكثر على الأمم ، أى الحالة الثانية التى ذكرناها قبل ذلك ويستشهد هنا برأى العالم اللغوى الكبير أبى إسحاق الزجاج المتوفى فى (٣ جمادى الثانى سنة ٣١١ ه‍ / ٢٥ ـ ٩ ـ ٩٢٤ م) ، الخامس والعشرين من سبتمبر سنة (٩٢٣ م) ، حيث يقول الزجاج : «الأمى هو الذى يظل كما ولدته أمه» ، أى : لم يتعلم الكتابة فهو أمى لأن الكتابة صنعة مكتسبة وهو فى هذه الحالة ظل كما ولدته أمه وتبعا للمعنى فإن كلمة «أمى» جاءت من كلمة «أم» ونحن هنا أمام أصلين لهذه الصفة «أمى».

الأصل الأول : أمى مصدرها من أمه.

الأصل الثانى : أمى مصدرها من الأم.

وكلا الأصلين للكلمة يمكن أن يقبل من الناحية النحوية وليس هناك مشكلة فى هذا الصدد ، ولكن من ناحية المعنى هناك اختلاف كبير ينشأ عن استخدامنا للأصل الأول أو الأصل الثانى لأن الأصل الثانى للكلمة «أمى مشتقة من الأم» يسمح لنا أن نقصد بكلمة أمى من لا يقرأ ولا يكتب ، أما الأصل الأول للكلمة «أمى مشتقة من أمة» فلا يسمح لنا أن نقصد بهذه الكلمة من لا يقرأ ولا يكتب.

ولذلك فإن الذين يظنون أن معنى كلمة أمى التى يوصف بها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ينتمى إلى الأمة العربية يخدعون أنفسهم لأنه من الزيف أن نقول : إن الكتابة كانت نادرة أو غير موجودة عند العرب ومن ناحية أخرى فإن كثيرا من الأمم كانت على نفس شاكلة الأمة العربية فى هذه الحالة .. لما ذا إذن حصر هذا النعت على الأمة العربية لتختص به وحدها دون سواها ، خاصة أنه يمكن الاعتراض على هذا استنادا إلى الآيات التى استدللنا بها فى الحالة التى ورد فيها لفظ (أمىّ) و (أميون) للدلالة على الأمم ، حيث أن الأمر يتعلق بأمم كثيرة متعارضة أو موازية مع أمتى التوراة (اليهود) والإنجيل والمسيحيين ، أى أهل الكتاب بصفة عامة.

١٣

* أولا : آراء المستشرقين :

نعرض الآن لآراء المستشرقين الأوروبيين حول معنى كلمة أمى وأميون :

ـ من أوائل الذين تناولوا هذه القضية سبرنجر فى كتابه «حياة وعقيدة محمد» برلين سنة (١٨٦١ م) وذلك من ثلاث زوايا.

١ ـ فى الجزء الأول (ص ٣٠١) «لقد كان أهل الجزيرة العربية قبل محمد منقسمين إلى أهل الكتاب والوثنيين ... وكان أهل الكتاب يتشكلون من اليهود والنصارى والصابئين وهم القبائل التى لها وحى منزل فيما لم يكن للوثنيين أى شىء من ذلك».

٢ ـ الجزء الثانى (ص ٢٢٤) أمى تساوى وثنى.

٣ ـ الجزء الثالث (٤٠١ ـ ٤٠٢) «يزعمون أن أمى تعنى الإنسان الذى يستطيع القراءة لكنه لا يستطيع الكتابة وهذا الرأى يعتمد على آية فهمت خطأ فى القرآن الكريم فى سورة البقرة وهى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ* فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(١) ، وعلى أى حال فإن هذه الآية حرفت عن معناها حيث يقول ابن إسحاق : إن كلمة أميين والتى ترجمتها بمعنى قراء وهى توجد فى آيات أخرى من القرآن بهذا المعنى وتعنى أيضا قراءة ... ويعتبر معنى الآية التى استشهد بها سبرنجر ومنهم أميون لا يستطيعون الكتابة وإنما القراءة أى أن (الأمانى) تعنى القراءة ... ونجد البغوى يفسر معنى أمانى بمرادفها فيقول : «أمانى تعنى الأحاديث المفتعلة» ويذهب أبو عبيدة فى تفسيره بعيدا حيث يقول : «الأمانىّ» أشياء محفوظة عن ظهر قلب تتلى بغير كتاب ... ولقد فسر الفراء الأمى بقوله : «الأميون هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب».

البراهين التى ساقها «سبرنجر» تستدعى الملاحظات التالية :

١ ـ البرهان الأول باطل لأن سبرنجر لم يعتمد على وثيقة ... فلو وجدنا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : (٧٨ ـ ٧٩).

١٤

نصا جاهليا من عصر ما قبل الإسلام يؤيد تلك التفرقة بين أهل الكتاب والأميين (الوثنيين) لما كان هناك مشكلة ، ولكن سبرنجر أوقع نفسه فى حلقة مفرغة.

٢ ـ القول الثانى كون كلمة أمى تعنى وثنى ، فهذا فرض سار عليه كل من فنسنك هورفيتز وبلاشير ورودى باريت وآخرون غيرهم.

٣ ـ القول الثالث ويتعلق بالرأى القائل : إن (الأمىّ) هو الذى يقرأ ولا يكتب» ، وهو رأى ينسب إلى الإمام الشيعى جعفر الصادق (انظر المرجع فى المقال «أمىّ» فى كتاب إدوارد وليم ـ القاموس العربى الإنجليزى ـ لندن أدنبرة (١٨٦٣ ـ ١٨٩٣).

لننتقل بعد هذا للمستشرق فنسنك وهورفيتز :

١ ـ أما عن فنسنك فإنه يؤكد فى مقال نشره فى مجلة «الشئون الشرقية» من الصفحة (٢) إلى (١٩) أن كلمة «أمى» تقال لوصف غير أهل الكتاب وهو نفس المعنى الذى حدده سبرنجر قبله بأكثر من خمسين عاما ... ولكنه أضاف أن كلمة «أمىّ» مشتقة من أمة بمعنى شعب وثنى «عرقى» ويتوافق مع الكلمة العبرية «جويم» وردد فنسنك نفس الرأى فى كتابه «العقيدة الإسلامية» كمبردج (١٩٣٢) صفحة (٦٠) ، والجديد عنده هو المقارنة بين الكلمة العربية «أمة» والكلمة اليهودية «جويم».

كلمة «جويم» موجودة فى التوراة «سفر التكوين» (١٤ : ١) فى عبارة «تدعال ملك جويم وتدعال كان أحد أربع ملوك شنوا الحرب ضد الملك برشاع فى وادى الأردن ومن الممكن أن يكون (تدعال) هو نفس الملك المشهور هتييتى تودها ، أما معنى كلمة «جويم» تطلق على شعوب الإمبراطورية الحيثية وكذلك تطلق «جويم» على منطقة أعلى الزاب ففي كتاب يشوع كان أحد الملوك الكنعانيين الذين غلبهم يشوع اسمه ملك جويم الجلجال كما جاء فى الترجمة الإخائية باسم «ملك جلجال الغريب» القاموس الموسوعى للتوراة جويم تورنهدت ـ بريولس (١٨٩٦ م) ، وعلى العموم

١٥

فكلمه جويم فى العبرية تعنى الأمم ، ويمكن أن تكون ترجمة للكلمة الأكادية «عومان» انظر الموسوعة اليهودية ـ جويم (٦٨٣).

وهكذا نرى أن كلمة جويم لم تكن واضحة لدى اليهود ولا معروفة عند العرب قبل الإسلام إذن افتراض فنسنك مزيف بصورة كاملة.

٢ ـ كذلك بحث هورفيتز عن مقابل عبرى آخر تناول القضية فى اثنين من كتبه.

* «الأسماء اليهودية ومشتقاتها فى القرآن» ـ حولية كلية الاتحاد العبرى ـ المجلد الثانى ـ أوهايو (١٩٢٥ م) ـ طباعة أوفست ـ هيلدشيم.

* «مباحث قرآنية» ـ برلين وليبزج (١٩٢٦).

ويدعى هورفيتز وهو عالم متحيز ويحمل نوايا سيئة تجاه الإسلام يدعى أن (أمىّ) تعنى وثنى ، ولذلك فهو يترجم التعبير العبرى «أمة هاعولام» بمعنى «شعوب العالم فى مقابل شعب إسرائيل».

ولكن من السهل علينا تفنيد هذا الرأى الفاسد (فأمىّ) لا تعنى وثنى والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصف نفسه بأنه نبى أمى وهو يجادل اليهود ، ومن المستحيل والمخالف للواقع أن يصف النبى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) نفسه بأنه (أمىّ) وهو يقصد كافرا أو وثنيا لأن بهذا المعنى تكون صفة أمى فيها نوع من الإهانة.

* أيضا هل كان فرانتس بول (Frants Buhl) محقا فى قوله : «إنه لمن المثير للدهشة أن يقتبس محمد بن اليهود كلمة فى لغتهم تعنى الاحتقار» (حياة محمد ـ ترجمة ألمانية هيلدبرج سنة ١٩٥٥ م) ، وحسب قول بول فان تعبير أمى مشتق من أمة والتى تقابل اللفظ اليونانى لايكوس (علمانى) LAIKOS ويرى «بول» أن محمدا كان يعرف فن القراءة والكتابة لكن الكتب المقدسة لدى اليهود والنصارى لم تكن مفهومة بالنسبة له ، وهذا القول يطابق الواقع ، فلقد أوضحه القرآن غير مرة ... إن نقل محمد لعبادات أو قصص توراتية تكشف عن إهانات كان من المستحيل أن تورد لو كان محمد يستطيع قراءة الكتابة التوراتية.

١٦

إذا «فبول» يرى أن محمدا كان يعرف القراءة والكتابة ولكنه فقط لم يقرأ التوراة مباشرة وإلا لما كان من الممكن أن يهان لمرات عديدة فى نقله أو تسجيله لعبارات أو قصص توراتية وحسب قول بول فإن محمدا لم يكن يعرف التوراة والأناجيل إلا من خلال الذين علموها له.

ولكى نوضح ذلك فكيف نفسر كلمة «أمى» حسب رأى «بول» بأنها مشتقة من أمة بمعنى شعب ، أى : أنها تعنى غير دينى أى : أن محمد رجل غير عالم بالأمور الدينية أى : جاهل دينيا وفيما يتعلق بنبى مؤسس دين فإن هذا الوصف مثير للسخرية إذ كيف يمكن أن يصف النبى محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) نفسه أمام اليهود والنصارى بأنه رجل جاهل بالمسائل الدينية ؛ ولذلك نرى «بول» أكثر عبثية من فنسك وهورفيتز.

* كتب نللينو (NAllino) حول الموضوع مقالا صغيرا نشر بعد موته ضمن أعماله الكاملة (الأعمال والمخطوطات المنشورة وغير المنشورة) المجلد الثانى فى روما (١٩٤٠ م) صفحة (٦٠ ـ ٦٥) تحت عنوان «معانى المفردات القرآنية».

«أمى» ذلك اللفظ المنطبق على محمد وكذلك الأميين حيث يؤيد الرأى القائل بأن أمى مشتقة من الأمة العربية ، وهذا هو الرأى الذى وجدناه فى لسان العرب لابن منظور ولكنه أورده مبتسرا دون أن يوضح أن العرب لم يكونوا فى مجملهم يعرفون الكتابة أو القراءة ويرى نللينو أن «أمى» تأخذ بعدا عرقيا أو متعصبا للقومية.

ورأى «نللينو» لا يمكن أن يقبل على أى حال لأنه قائم على فرضية خاطئة تماما وهى أن محمدا مرسل فقط إلى الأمة العربية كما كان موسى مرسلا إلى شعب إسرائيل وعيسى مرسلا إلى أمة فلسطينية (ما هى لا أحد يعرف) ان خطأ تلك الفرضية المتعصبة يبدوا واضحا للعيان وذلك لأن :

(أ) النبى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل فى سنة (٦٢٨ م) خطابات إلى ملوك العالم الأربعة فى عهده وهم : هرقل الثانى إمبراطور بيزنطة ، وكسرى أنو شروان ملك الفرس ، والمقوقس حاكم مصر ، وملك الحبشة وهذا يوضح بجلاء أن

١٧

محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) كانت رسالته عالمية لكل أمم العالم ولو كان نبيا مرسلا فقط إلى الأمة العربية لما فكر فى إرسال هذه الرسائل الأربع إلى حكام العالم المعروفين فى ذلك الوقت يدعوهم إلى اعتناق الإسلام هم وشعوبهم.

(ب) يؤكد القرآن بوضوح أن النبى محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مرسل إلى الجنس البشرى كله :

قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(١).

قال الله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٢).

قال الله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٣).

إذا ليس ثمة ريب فى أن النبى محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) رسول من الله عزوجل إلى كل البشر دون تفرقة بسبب الجنس أو القومية أو الحدود أو اللغة واللون إن عالمية الرسالة المحمدية حقيقة ثابتة لا مراء فيها.

* ثانيا ـ تفسيرنا :

فى ضوء تلك الحقيقة الثابتة نطرح تفسيرنا لكلمة «الأمىّ» التى تنطبق على النبى محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

إن كلمة «أمىّ» صفة نسب من كلمة «أمم» جمع «أمة» وكما يوضح علم الصرف فإنه لكى ننسب إلى اسم جمع لا بدّ أن «نرده» إلى المفرد «أمة».

إذا فى رأينا أن كلمة «أمى» المشتقة من «أمم» فى الجمع المردودة إلى أمة فى المفرد تعنى عالمى وصالح وموجه لكل «الأمم».

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية : (٢٨)

(٢) سورة النساء ، الآية : (٧٩)

(٣) سورة الأعراف ، الآية : (١٥٨)

١٨

إذا النبى الأمى هو النبى المرسل والموجه إلى كل «الأمم» أو بمعنى أصح النبى العالمى.

أما عن الأميين «بالجمع» التى وردت أربع مرات فى القرآن الكريم (١) تعنى البشر من مختلف الأمم أو كل الأمم.

وفى ضوء هذا التفسير يمكن أن نفهم المواضع الأربعة التى أوضحناها كالتالى :

١ ـ قال الله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(٢).

وتفسير هذه الآية أن من بين الأمم من لا يفهمون الكتاب إلا بطريقة جزئية ومزيفة.

وأن الله عزوجل أرسل إلى الأمم رسولا من بينهم أى إنسانا من البشر ليس مجسدا كما يقول النصارى وليس شخصا فوق البشر كما يقول اليهود ، وتفسيرنا ينطبق بشكل «تام» على المواضع الأربعة التى يوجد بها لفظة أميين فى القرآن الكريم.

وتبدو للعين مباشرة عبثية التفسير الذى يجعل من (الأميين) مرادفا للوثنيين (سبرنجر ـ فنسنك ـ بلاشير ... إلخ) خاصة عند ما نقرأ الآية الكريمة (٧٨) من سورة البقرة (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) لأن هذه الآية ستكون حشوا لا فائدة منه.

فالأميون لا يعرفون الكتب المقدسة ، ومن هنا لا يعقل لومهم على فعل كهذا وإلا لكان من الممكن أن نلوم المسيحى لأنه لا يعرف الكتابات البوذية ... وهكذا ختاما نرى أن كلمة «أمى» المنطبقة على النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعنى «عالمى» مرسل إلى جميع الأمم ، وكلمة «أميين» تعنى الأمم كل الأمم.

وربما كان من المفيد أن نتتبع تاريخ هذه الكلمة «أمىّ» واستعمالها لدى الشعراء والناثرين على الأقل خلال القرون الخمسة الهجرية الأولى ، وسوف نرى إلى أى مدى كان لها معنى «الذى لا يجيد القراءة والكتابة».

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : (٧٨) ، وآل عمران ، آية : (٢٠ ، ٧٥) ، والجمعة ، آية : (٢).

(٢) سورة البقرة ، آية : (٧٨).

١٩
٢٠