اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

مثلا صدق عليها أنها ممتنعات غيرية.

والنسبة بينه وبين الممتنع الذاتي عموم مطلق إذ كل ممتنع ذاتي ممتنع غيري فإنه لا يعقل تحقق علة للممتنع الذاتي فيكون ممتنعا غيريا أيضا وليس كل ممتنع غيري ممتنعا ذاتيا كالممكنات غير الموجودة فالذاتي أخص من الغيري.

الثامن : الامتناع الوقوعي وهو كون الشيء بحيث يلزم من وقوعه باطل ومحال وإن لم يكن ذاتا بمحال ، وذلك كصدور معلول واحد عن علتين مستقلتين فالحرارة المحدودة المعينة في ماء مثلا لا يمكن صدورها عن النار والشمس على الاستقلال ، فهي وإن كانت بنفسها ممكنة إلّا أن صدورها عن علتين مستقلتين ممتنع لاستلزامه صدور الواحد عن اثنين مع أن المشهور أنه لا يصدر الواحد إلّا عن الواحد ، وهذا أخص من الممتنع الغيري فكل ممتنع وقوعي ممتنع غيري إذ لا يعقل وجود العلة للممتنع الوقوعي فيكون غيريا أيضا وليس كل غيري وقوعيا إذ غالب ما لم يوجد علته ممتنع غيري مع عدم لزوم محذور من وجوده.

٨١

الانحلال

استعمال هذا العنوان في علم الأصول يقع في موارد :

منها : مورد وجود العلم الإجمالي بالتكليف المنجز ، وينقسم بهذا الإطلاق إلى الانحلال الحقيقي والانحلال الحكمي.

بيان ذلك أنه إذا حصل للمكلف علم إجمالي بوجوب أحد الشيئين أو الأشياء مثلا ثم حصل له الإحراز التفصيلي بالنسبة إلى بعض الأطراف بأن انكشف له أن المعلوم بالإجمال هو هذا دون ذاك وزال العلم الأول وتحقق علم تفصيلي بالواجب أو الحرام سمي زوال الأول وحدوث الثاني انحلالا.

مثلا إذا علم المكلف إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ثم علم على التفصيل بأن الواجب هو الظهر دون الجمعة أو علم أولا بخمرية ما في أحد الإناءين ثم علم تفصيلا بأن الخمر في هذا الإناء دون ذاك يقال حينئذ إنه قد انحل العلم الإجمالي.

هذا هو الانحلال الحقيقي وفي حكمه ما سموه بانحلال الحكمي ، مثاله ما إذا قام دليل معتبر على تعيين المعلوم بالإجمال من دون حصول العلم على طبقه كما إذا أخبر العادل بأن الواجب هو الظهر لا الجمعة أو قامت البينة على أن الخمر هي ما في هذا الإناء دون ذاك ، فيجوز حينئذ الأخذ بمفاد ذاك الدليل وترتيب حكم الواقع عليه

٨٢

وترك الاحتياط في الطرف الآخر وسمي ذلك بالانحلال الحكمي لأنه في حكم الانحلال الحقيقي في جواز أخذ مؤديه وطرح الآخر بلا ترتب عقاب على المكلف ولو كان الدليل مخطئا عن الواقع.

تنبيه :

العلم التفصيلي الطاري بعد العلم الإجمالي يتصور على صور بعضها موجب للانحلال قطعا وبعضها غير موجب له على المشهور وبعضها مختلف فيه.

فالأول : هو ما لو علم انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل كما إذا علم تفصيلا بأن المغصوب الموجود في البين هو ما في هذا الإناء دون ذاك.

والثاني : ما إذا كان المعلوم بالتفصيل تكليفا حادثا أو عنوانا آخر غير عنوان المعلوم بالإجمال كما إذا علم إجمالا بغصبية أحد الإناءين ثم وقع قطرة من البول في أحدهما المعين أو علم إجمالا بالغصبية ثم علم تفصيلا بكون هذا الإناء نجسا من أول الأمر وإن احتمل الانطباق في كلتا الصورتين.

والثالث : ما إذا احتمل وحدة التكليف واتحاد العنوانين كما إذا علم إجمالا بخمرية أحد الإناءين ثم علم بنجاسة أحدهما المعين مع احتمال أن يكون نجاسته لكونه هو الخمر ، أو علم إجمالا بنجاسة أحدهما ثم علم تفصيلا بأن هذا الإناء خمر ، أو علم بحرمة أحدهما إجمالا ثم علم بحرمة هذا ولم يعلم وجه الحرمة في متعلق العلمين ، ففي المثال الأول عنوان المعلوم بالإجمال معلوم دون عنوان المعلوم بالتفصيل وفي الثاني الأمر بالعكس وفي الثالث كلا العنوانين مجهولان ، وفي هذه الموارد وقع الإشكال والاختلاف في الانحلال وعدمه فراجع المطولات.

ومنها : مورد انحلال الحكم التكليفي المنشإ بإنشاء واحد إلى أحكام كثيرة مستقلة فإذا قال المولى أكرم كل عالم ، فالإنشاء في هذا الكلام وإن كان واحدا إلّا أنه ينحل لدى العقل والعرف إلى إنشاءات كثيرة وأحكام مستقلة شتى بعدد أفراد الموضوع ومصاديقه ، فكأن المولى أنشأ لإكرام كل فرد وجوبا مستقلا بإنشاء مستقل فلكل منها

٨٣

امتثال مستقل وعصيان كذلك وكذا إذا قال حرمت عليك الكذب.

ومنها : مورد انحلال الحكم التكليفي المنشإ بإنشاء واحد إلى أبعاض كثيرة ،

وذلك في الحكم الوحداني المتعلق بموضوع مركب ذي أجزاء ، فإذا ورد تجب صلاة الصبح أو يحرم تصوير ذوات الأرواح ، كان الوجوب المترتب على الصلاة أمرا وحدانيا بسيطا منبسطا على أجزاء العمل المركب ، فللوجوب وحدة حقيقية وتعدد اعتباري باعتبار أبعاضه ، ولمتعلقه تركب حقيقي ووحدة اعتبارية باعتبار اجتماعه تحت طلب المولى ، فيقال حينئذ إن الحكم الواحد منحل إلى أجزاء المركب وتعلق بكل جزء منه حصة من الأمر ويطلق على تلك الحصة الأمر النفسي الضمني ، وبهذا الاعتبار تجري البراءة في الأقل والأكثر إذ يرجع الشك في جزئية شيء للمأمور به إلى الشك في تعلق ذلك الأمر الضمني به والأصل عدم تعلقه وكذلك الكلام في الحرمة من حيث انبساطها على أجزاء الحرام لا في إجراء البراءة عند الشك كما تقدم في آخر عنوان الأقل والأكثر.

ومنها : مورد انحلال الحكم الوضعي المنشإ بإنشاء واحد أحكام وضعية مستقلة أو أبعاض عديدة غير مستقلة ، فلو قال البائع بعد تعيين قيمة كل واحد من الأجناس المختلفة مريدا لإيقاع بيع مستقل على كل واحد منها ، بعت هذه الأشياء بما عينته لها من القيمة انحل التمليك والبيع الواحد إلى تمليكات كثيرة وبيوع مستقلة لكل واحد منها حكمه من اللزوم والجواز وطرو الخيار وعروض الفسخ والإقالة ، ولو قال بعت هذه الدار مثلا انحل البيع الواحد إلى أبعاض كثيرة وتمليكات ضمنية فكل جزء من الدار مبيع ضمنا وجزء من بيع المجموع ، وبهذا الاعتبار قد ينحل ذلك بظهور بعض المبيع مستحقا للغير ويحصل تبعض الصفقة فهذا من انحلال الحكم الوضعي أعني الملكية إلى أبعاض كثيرة.

٨٤

الإنشائي والاعتباري والانتزاعي

قسموا الأمور المتصورة للإنسان ، إلى المتأصل وغير المتأصل والثاني إلى الإنشائي ويرادفه الاعتباري وإلى الانتزاعي.

فالمتأصل ، هو ما له وجود حقيقي في عالم التكوين معلول عن علل خاصة تكوينية ولا توجد بإنشائه باللفظ ولا بقصده وإرادته ، كالأعيان الخارجية وأوصافها المقولية المتأصلة.

وأما الإنشائي أو الاعتباري ، فهي الأمور المفروضة المقدرة القابلة للوجود في وعاء الفرض وعالم الاعتبار بمجرد الجعل والإنشاء بلفظ أو غير لفظ يعتبر لها أهل العرف والعقلاء بعد تحقق عللها نحوا من الوجود يكون منشأ للآثار وموضوعا للأحكام.

وأما الانتزاعي فقد يظهر من عدة ترادفه مع الاعتباري ، وقد يفرق بينه وبين سابقيه بأن الأمر المتأصل له وجود حقيقي وثبات في عالم التكوين ، والأمر الاعتباري له تقرر وثبات في عالم الاعتبار فيراه العقلاء أمرا متحققا منشأ للآثار ، وأما الانتزاعي فلا تقرر له بنفسه في أي وعاء ، ولا يراه العقلاء أمرا متحققا موضوعا لحكم وأثر ، وإنما الوجود والتقرر لمنشإ انتزاعه ، وذلك كالكليات المنتزعة عن الأعيان الخارجية كان انتزاعها عن مقام الذات أو عن مرحلة اتصافها بإحدى المقولات كالإمكان والوجوب

٨٥

والفوقية والتحتية والمحاذاة ونحوها ، فهي أمور تصورية تفترق عن المتأصل في أنها لا تأصل لها ولا وجود وعن الاعتباري في أنها لا تقبل الجعل والإنشاء بل هي تابعة لتحقق منشإ انتزاعها.

فرعان يتعلقان بالاعتباري :

الأول : المعتبر الذي بيده الجعل والإنشاء قد يكون هو الشارع وقد يكون أهل العرف والعقلاء ،

والنظر منهما قد يختلف في اعتبار شيء وقد يأتلف ، فربما يعتبر الشارع أمرا اعتباريا في مورد لا يعتبره فيه العقلاء وأهل العرف كملكية مال الميت لبعض الوراث وملكية الحبوة للولد الأكبر والزكوات والأخماس للفقراء والسادة والحدث الأكبر والأصغر على قول ونجاسة بعض الأعيان وطهارة بعضها ، وقد يعتبره العقلاء دون الشارع كملكية الخمر والخنزير وبعض الأعيان النجسة وتحقق الضمان لمتلفها والزوجية مع بعض المحارم ، وموارد التوافق كثيرة.

الثاني : سبب الجعل ومنشأ الاعتبار تارة يكون أمرا تكوينيا ، وأخرى فعلا من الأفعال الاختيارية ، وثالثة فعلا غير اختياري ، ورابعة لفظا من الألفاظ ، وخامسة مجرد القصد والإرادة

وقد يتصور غير هذه فهاهنا أقسام :

أولها : كموت المورث ووقوع الصيد في الحبالة وحصول الاحتلام والنوم ،

فهي أسباب تكوينية ، والملكية والحدث الأكبر والأصغر أمور اعتبارية تعتبر عند حصول تلك الأسباب.

ثانيها : كبيع المعاطاة وحيازة المباحات وصيد الوحوش والجماع والبول وإتلاف مال الغير عدوانا ونحوها ،

فهي أفعال اختيارية ، والملكية والحدث والطهارة من الحدث والضمان وغيرها أمور اعتبارية تعتبر عند تحقق تلك الأفعال.

ثالثها : كأخذ اللقطة والإتلاف الخطائيّين والقتل بغير عمد ونحوها

فهي أفعال غير اختيارية وضمان العين أو البدل ووجوب الكفارة واشتغال الذمة بدية المقتول أمور اعتبارية تعتبر عند حصول تلك الأفعال.

رابعها : كصيغ الأوامر والنواهي وسائر الكلمات الصادرة من الشارع مثلا المنشإ

٨٦

بها الأحكام التكليفية والوضعية فالأسباب ألفاظ والأحكام أمور اعتبارية منشأة بها ، فينشئ الشارع بقوله من حاز شيئا ملكه أو من قتل قتيلا فله سلبه ملكية المحوز للحائز والسلب للقاتل.

وبقوله على اليد ما أخذت ضمان الآخذ ، وبقوله فإذا قالت نعم فهي زوجتك زوجية المرأة للعاقد ، وبقوله جعلته حاكما أو قاضيا منصب الحكومة والقضاوة للفقيه وبقوله ما أدي عني فعني يؤدي حجية خبر الثقة وبقوله يا أبان اجلس في المسجد وأفت للناس حجية فتواه ونحو ذلك.

ومن هذا القسم أيضا صيغ العقود والإيقاعات فينشئ المجري لتلك الصيغ الملكية والزوجية والطلاق والانعتاق والإبراء والخيار والفسخ في العقود والرجعة في الطلاق ونحوها فهي أمور إنشائية وأسبابها ألفاظ صادرة من المكلفين.

ومنه أيضا المتكلم بكلمة أزيد قائم وليت الشباب يعود ولعل الله يشفي المريض وألفاظ المدح والذم ونحوها فإن الاستفهام والتمني والترجي والمدح والذم أمور إنشائية اعتبارية توجد بتلك الألفاظ.

خامسها : كإباحة بعض الأشياء للمكلفين برضا الشارع حيث قلنا بعدم الإنشاء وإباحة الأموال للمتصرف برضا صاحبها وحرمة ما أباحه بعدوله عن رضاه ونحوها.

٨٧

الانفتاح والانسداد

لا إشكال في انفتاح باب العلم وإمكان الوصول إلى الأحكام الواقعية الاعتقادية عقلية كانت أو نقلية كوجوب معرفة الباري جل شأنه ومعرفة أوصافه ووجوب معرفة الأنبياء والأئمة «عليهم‌السلام» وأصل المعاد وبعض خصوصياته ، فلنا أدلة كثيرة عقلية وسمعية توجب العلم بتلك الأحكام.

فباب العلم بالأحكام الاعتقادية مفتوح وهذا انفتاح في الاعتقاديات والعلماء فيها انفتاحيون.

وأما الأحكام الشرعية الفرعية من التكليفية والوضعية والواقعية والظاهرية ، فقد اختلفت فيها آراء الأصحاب.

فمنهم : من يدعي إمكان الوصول إليها علما وأن لنا إليها طريقا حقيقيا منجعلا وهو العلم ولا فرق بين حال حضور الإمام «عليه‌السلام» وإمكان التشرف بحضرته وبين حال الغيبة ، فلنا ظواهر قطعية وأخبار متواترة تورث للمتتبع العلم الوجداني بالأحكام كلها أو جلها وليسم هذا المعنى انفتاحا حقيقيا ، والقائل بذلك كان بعض علمائنا في الصدر الأول كالسيد المرتضى وغيره ممن كانوا قريبي العهد من عصر بعض الأئمة «عليهم‌السلام» وكان يمكنهم تحصيل العلم والاطلاع على الأحكام.

٨٨

ومنهم : من ينكر الوصول بنحو العلم ويدعي انفتاح باب العلمي إلى غالب الأحكام بمعنى أن لنا طرقا وأدلة مجعولة من طرف الشرع والعقل موصلة إلى معظمها أو جميعها وافية في إثباتها ، كخبر الثقة والإجماع المحصل والمنقول والشهرة الفتوائية وحكم العقل ، وتلك الطرق مقطوعة الاعتبار ويطلق عليها العلمي للعلم باعتبارها وكون دليل اعتبارها قطعيا ، فهو يدعي انفتاح باب العلمي دون العلم ، وليسم هذا المعنى انفتاحا حكميا والقول به مشهور شهرة عظيمة تقرب من الاتفاق.

ومنهم : من يدعي الانسداد وأنه لا طريق لنا إلى الواقع لا علما ولا علميا ويطلق على هذا المعنى الانسداد وعلى قائله الانسدادي.

ثم اعلم أن للقائل بالانسداد عند الشك في التكاليف الواقعية دليلا عقليا يطلق عليه دليل الانسداد ، وعلى مقدماته مقدمات الانسداد ، ونتيجة ذلك الدليل وجوب العمل بكل ظن تعلق بثبوت الأحكام الواقعية أو بسقوطها سواء حصل من ظواهر الكتاب والسنة أو غيرهما ويعبرون عن كل ظن ثبت حجيته بهذا الدليل بالظن المطلق في مقابل الظن الخاص الذي ثبت حجيته بغير هذا الدليل.

وهذا الدليل مبني على مقدمات خمس :

الأولى : أنا نعلم إجمالا بوجود أحكام واقعية كثيرة في الشرع.

الثانية : أنه قد انسد علينا باب العلم والعلمي بكثير منها.

الثالثة : أنه لا يجوز لنا إهمالها والإعراض عنها وعن التعرض لموافقتها وامتثالها لأنه مستلزم للخروج عن الدين.

الرابعة : أنه لا يجب أو لا يجوز الاحتياط الكلي في أطرافها

بمعنى فعل جميع مظنونات الوجوب ومشكوكاته وموهوماته من أفعال المكلفين وترك جميع مظنونات الحرمة والمشكوكات والموهومات منها فإنه مستلزم للعسر والحرج فلا يجب أو لاختلال النظام فلا يجوز ، ولا يجوز التقليد أيضا لأن الكلام في المجتهد الذي يرى عدم وفاء نصوص الكتاب والمتواتر من الأخبار إلّا بالقليل من الأحكام وعدم حجية أخبار الآحاد ، فرجوعه إلى المجتهد الآخر وأخذ فتاويه المأخوذة من الخبر الواحد مثلا من قبيل رجوع العالم إلى الجاهل.

٨٩

الخامسة : أن ترجيح المرجوح على الراجح قبيح.

وحاصل تلك المقدمات أنه بعد العلم بوجود أحكام فعلية وعدم إمكان العلم التفصيلي بها وعدم جواز إهمالها أو الاحتياط التام في أطرافها يلزمنا التبعيض في الاحتياط فيدور الأمر بين أن نعمل بظننا ونأتي بمظنونات الوجوب مثلا ونترك ما شككنا أو وهمنا وجوبه وبين عكسه ولا إشكال في وجوب الأول فينتج لزوم العمل بالظن.

تنبيه :

اختلف القائلون بالانسداد وتمامية هذا الدليل في أن مفاده ونتيجته هل هو حجية الظن عقلا بمعنى أن العقل يحكم بلزوم العمل عليه كحكمه بحجية القطع بلا حصول جعل من الشارع ، أو أن مفاده حجيته شرعا بمعنى أنا نستكشف منه أن الشارع جعله حجة وأمرنا باتباعه كخبر العدل والثقة عند من قال بحجيتهما ، وعلى التصوير الأول يقال إن الظن الانسدادي حجة على الحكومة وعلى التصوير الثاني يقال إنه حجة على الكشف والمنشأ في هذا الاختلاف هو أن عدم لزوم الاحتياط هل هو بحكم العقل أو بحكم الشرع.

٩٠

انقلاب النسبة ودوامها

مورد هذين العنوانين هو تقابل أكثر من دليلين مع إمكان الجمع العرفي بينها أو بين بعضها مع بعض آخر ، فإذا لوحظ ابتداء حال أحدهما مع صاحبه وعمل بينهما على نحو يقتضيه نظر العرف ثم لوحظ حاله مع الثالث فتارة تنقلب النسبة بينهما عما كانت قبل ذلك فيتحقق عنوان انقلاب النسبة وأخرى لا تنقلب فيوجد عنوان دوامها.

مثال الانقلاب ما إذا ورد أكرم العلماء وورد لا تكرم الفساق منهم وورد أيضا لا تكرم النحويين منهم ، فالنسبة ابتداء بين الثاني والثالث عموم من وجه وبين كل منهما مع الأول عموم مطلق ، فإذا جعلنا الخاص الأول مخصصا للعام تغير عنوان العام وانقلبت النسبة بينه وبين الخاص الثاني إلى العموم من وجه فكأنه قال أكرم العلماء غير الفساق ولا تكرم النحويين منهم فمادة الافتراق من ناحية الأول العالم الفقيه ومن الثاني النحو الفاسق ومادة الاجتماع العادل النحوي.

ثم إن الحكم هنا هو ملاحظة النسبة الأولية وجعل كلا الخاصين مخصصا للعام في عرض واحد ما لم يستلزم الاستغراق أو التخصيص المستهجن ، فإن استلزم ذلك يؤخذ بأحد الخاصين ويخصص به العام ويطرح الخاص الآخر.

ومثال عدم الانقلاب ما إذا ورد أكرم العلماء وورد لا تكرم الأصوليين وورد

٩١

أيضا لا تكرم النحويين وفرضنا التباين بين الخاصين ، فإذا خصصنا العام بالخاص الأول وصار عنوان العام العالم الغير الأصولي كان النسبة بينه وبين الخاص الثاني هي النسبة الأولى بعينها فإن كل عالم نحوي عالم غير أصولي وليس كل عالم غير أصولي عالما نحويا كالفقيه القليل المعرفة بالنحو.

ثم إن أقسام انقلاب النسبة وعدمه كثيرة جدا وأحكامها مختلفة اقتصرنا على المثالين خوفا من الإطالة فراجع مظانها.

٩٢

التبادر

هو في الاصطلاح عبارة عن انسباق المعنى إلى الذهن من اللفظ عند سماعة ، فإن كان ذلك من نفس اللفظ بلا معونة قرينة كان ذلك علامة كون ذلك اللفظ حقيقة في ذلك المعنى وموضوعا له بوضع تخصيصي أو بوضع تخصصي ، لبداهة أنه لو لا وضعه له لما تبادر ذلك منه ولما انسبق ، فإذا سمعت قول المولى جئني بأسد واستبق إلى ذهنك من الكلام وجوب الإتيان بالحيوان المفترس قلت إن هيئة الأمر حقيقة في الوجوب وكلمة أسد حقيقة في الحيوان المفترس وهكذا.

٩٣

التجري

هو في اللغة الجرأة وعدم الخوف في مورد يكون معرضا له.

وفي اصطلاح هذا العلم فعل أو ترك ، يقطع أو يتخيل كونه مخالفة للمولى وعصيانا لحكمه ، مع عدم المخالفة واقعا.

كما أن المعصية الحقيقية هو الإقدام على مخالفة المولى فيما صادف الواقع ، فالنسبة بين التجري والمعصية الحقيقية هو التباين ، فمن شرب الماء معتقدا لخمريته تحقق التجري دون المعصية ، ومن شرب الخمر ملتفتا إلى الخمرية والحرمة تحقق العصيان دون التجري.

وقد يطلق التجري على مطلق الجرأة على المولى صادف الواقع أم خالفه وعليه يكون التجري أعم مطلقا من العصيان.

ثم إن التجري هل هو عنوان ينطبق على إرادة الشخص المتجري ، فهو فعل من أفعال القلب ومعناه العزم على العصيان والقصد إلى مخالفة المولى مع إتيان ما يعتقد كونه عصيانا ، أو هو عنوان ينطبق على الفعل الخارجي فهو من أفعال الجوارح ومعناه العمل الذي يعتقد أنه مخالفة للمولى ، قولان اختار كل واحد منهما عدة من المحققين.

فعلى الأول : يكون قبح التجري عقليا ، من جهة خبث باطن الشخص وسوء قصده

٩٤

وإرادته ويطلق عليه القبح الفاعلي ، وعلى الثاني يكون من أجل سوء عمله الخارجي ويطلق عليه القبح الفعلي ، وفي استلزام القبح العقلي فعليا كان أو فاعليا للحرمة الشرعية كلام سيجيء التعرض له.

تنبيهان :

الأول : يقع الكلام تارة في قبح التجري عقلا وأخرى في حرمته شرعا وثالثة في سببيته لاستحقاق العقوبة ، وعلى التقادير إما أن نقول بانطباق عنوان التجري على القصد والإرادة وإما بانطباقه على الفعل المتجرى به.

وحينئذ نقول إن للأصوليين هاهنا أقوالا :

منها : القول بانطباق عنوان التجري على الإرادة وسببيته لاستحقاق العقاب مع عدم قبحه عقلا وعدم حرمته شرعا ، وهذا هو مختار صاحب الكفاية رحمه‌الله على ما يظهر من كلامه فذهب إلى أن الإرادة المستتبعة لفعل ما يعتقد كونه معصية لا تكون قبيحا عقلا ولا حراما شرعا ، فإنهما من عوارض الأمر الاختياري والإرادة ليست اختيارية ، والاستحقاق معلول للبعد عن المولى الحاصل بتلك الإرادة.

وأما الفعل الخارجي كشرب الماء المقطوع بخمريته فهو باق على ما هو عليه من الأحوال والأحكام ولم ينطبق عليه عنوان يجعله قبيحا أو حراما.

ومنها : القول بانطباقه على الإرادة وقبحه عقلا مع عدم حرمته وعدم العقاب عليه شرعا وذلك لأجل أن النية والقبح الفاعلي لا تكون حراما ولا توجب استحقاق العقاب ، وأن كان قبيحا عقلا ، والملازمة بين القبح العقلي والحرمة الشرعية على القول بها إنما هي في القبح الفعلي الذي هو مجرى قاعدة الملازمة لا الفاعلي كما فيما نحن فيه ، وهذا أيضا مع بقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه وعدم انطباق عنوان عليه يغيره وهذا هو مختار الشيخ رحمه‌الله في رسائله.

ومنها : القول بانطباق التجري على الفعل الخارجي وقبحه عقلا وسببيته لاستحقاق العقاب مع عدم حرمته شرعا فإن القبح والاستحقاق العقليين لا يستلزمان

٩٥

الحرمة الشرعية فهما حينئذ مترتبان على عنوان هتك حرمة المولى والإهانة له وطغيان العبد وخروجه عن زيّ الرقيّة ، وكل تلك العناوين تنطبق على الفعل المتجرى به فيكون قبيحا عقلا وسببا لاستحقاق العقاب.

بل العلة التامة للاستحقاق حتى في المعصية الحقيقية إنما هي تلك العناوين لا تفويت المصلحة الواقعية بترك الواجب أو الوقوع في المفسدة الواقعية بفعل الحرام ، ولا مخالفة الأمر والنهي الواقعيين ، فإنهما يتحققان كثيرا في موارد الخطاء والنسيان والجهل القصوري مع عدم العقاب حينئذ قطعا ، وبالجملة ما يمكن أن يكون علة للعقاب أمور ثلاثة :

الأول : تفويت المصلحة أو الوقوع في المفسدة.

الثاني : مخالفة الأمر أو النهي.

الثالث : هتك حرمة المولى والطغيان عليه ، والأظهر لدى التأمل هو الثالث وهو موجود في صورة التجري أيضا كالمعصية الحقيقية وهذا القول قوي.

الثاني : أن هنا عنوانا آخر يسمى بالانقياد يضاهي التجري ويماثله ، وهو الفعل أو الترك لما يقطع أو يتخيل كونه طاعة للمولى ومطلوبا له مع عدم كونه في الواقع كذلك ، ويقابله الطاعة الحقيقية وهو الإقدام على طاعة المولى فيما صادف الواقع.

والبحث في الانقياد نظير البحث في التجري ، في أنه هل هو عنوان ينطبق على القصد أو على الفعل الخارجي ، وأنه هل يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا وسببا لاستحقاق المثوبة أم لا. والحاصل أنهما متماثلان توأمان مرتضعان من أم واحدة بلبن واحد.

٩٦

التخصص

هو في الاصطلاح خروج مورد عن موضوع دليل خروجا حقيقيا وجدانيا بلا وساطة تعبد ولا معاونة دليل كخروج الخل عن موضوع دليل حرمة الخمر وخروج زيد الجاهل عن دليل وجوب إكرام العلماء.

فنقول مثلا في مقام بيان : إن الحرمة مترتبة على أفراد الخمر وأما الخل فهو خارج عن موضوع ذلك الدليل تخصصا ، ونقول في مقابل من تخيل أن زيدا عالم يجب إكرامه إن الواجب هو إكرام العالم وأما زيد فهو خارج عن موضوع الوجوب تخصصا ، فيطلق على هذا النحو من الخروج التخصص وعلى الدليل المخرج عنه المتخصَص بالفتح وعلى المورد المحكوم بالخروج الخارج بالتخصص والفرق بينه وبين الورود سيجيء تحت عنوان الورود.

٩٧

التخطئة والتصويب

التخطئة : في الاصطلاح عبارة عن أن يكون لحكم أو موضوع ذي حكم وجود واقعي محفوظ قد يخطئه المجتهد المريد للوصول إليه بطريق معتبر من علم أو أمارة وقد يصيب فالقائلون بواقع محفوظ للشيء قد يصيبه طالبه وقد لا يصيبه يسمون بالمخطئة.

والتصويب : عبارة عن تبعية واقع الشيء لما أدّى إليه الطريق المعتبر والقائلون بذلك يسمون مصوبة.

ثم إن التخطئة والتصويب تارة يلاحظان في الحكم العقلي وأخرى في الحكم الشرعي وثالثة في الموضوع المرتب عليه الحكم ، وعلى كل تقدير إما أن يلاحظا فيما إذا حصل للمجتهد القطع بهذه الأمور أو يلاحظا فيما إذا قامت الأمارة المعتبرة عليها ، وأما الأصول العملية فهي ليست طرقا إلى الواقع فلا يلاحظ فيها عنوان التخطئة والتصويب.

أما الأول : أعني العقليات سواء كان الطريق إليها علما أو غير علم فلا إشكال بل لا خلاف ظاهرا في التخطئة فيها ، فالعقل يحكم بامتناع اجتماع الضدين والنقيضين وحسن الإحسان وقبح الظلم وغيرها مما استقل به العقول والمعتقد على وفق تلك الأمور مصيب وعلى خلافها مخطئ ، وليس اجتماع الضدين وامتناعهما تابعين لعلم

٩٨

الناس فمن اعتقد الامتناع امتنع في حقه ومن اعتقد الجواز جاز.

وكذا الكلام في الموضوعات سواء كانت عرفية محضة أو شرعية مستنبطة فإنه لا يعرف القائل بالتصويب فيها ، فلكل موضوع كالغني والفقير والبيع والإجارة والكر والقليل بل والطهارة والنجاسة واقع محفوظ يصيبه الطريق تارة ويخطئه أخرى لا أن البيع مثلا عند المعتقد بيعيته بيع وعند الجاهل ليس ببيع.

وأما الأحكام الشرعية فقد وقع الاختلاف فيها على أقوال : الأول : التصويب مطلقا في صورة العلم بالواقع وقيام الأمارات عليه ، الثاني : التخطئة كذلك ، الثالث : التفصيل بين العلم والأمارات بالقول بالتخطئة في الأول وأما الثاني فبالنسبة إلى الحكم الواقعي الإنشائي القول بالتخطئة أيضا وبالنسبة إلى الظاهري الفعلي القول بالتصويب.

ومنشأ القولين الأخيرين هو الاختلاف في أن حجية الأمارة هل هي بنحو الطريقية أو السببية ، فمن قال بالأول ذهب إلى القول الثاني ومن قال بالثاني ذهب إلى القول الثالث.

مثلا إذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة وأمر الشارع بتصديقه فبناء على الطريقية يكون أمره بتصديقه عبارة عن جعل قوله طريقا إلى الواقع من دون جعل حكم آخر في قبال الواقع وهذا الطريق قد يكون مصيبا منجزا للواقع وقد يكون مخطئا معذّرا عن تركه فلنا واقع ثابت أصبناه تارة وأخطأناه أخرى.

وأما بناء على السببية يكون مفاد وجوب التصديق هو جعل حكم نفسي على طبق إخباره صادف قوله الواقع أو خالفه ويرجع الواقع إلى المرتبة الإنشائية فهذا الطريق بالقياس إلى الواقعي الإنشائي وإن كان يلاحظ فيه الخطاء والصواب إلّا أنه بالقياس إلى الفعل الظاهري لا معنى له بل ذلك الحكم تابع لقيامه وهذا ما قالوا من التخطئة والتصويب الإضافيين.

تنبيهات :

أولها : أن مراد القائلين بالتصويب مطلقا يتصور على أقسام :

٩٩

الأول : أن لا يكون في فعل المكلف الجاهل بالحكم مصلحة ولا مفسدة أصلا تقتضيان جعل الحكم في حقه فلم ينشئ الله تعالى بالنسبة إليه حكما واللوح المحفوظ المكتوب فيه حكم كل شيء خال عن حكم فعل هذا المكلف لخلوه عن علل الأحكام ومصالحها ، فإذا تتبع وتفحص وقام عنده طريق معتبر على حكم من الأحكام أنشأ الله وأوجده في حقه وأمر بأن يكتب في اللوح المحفوظ. وحينئذ إذا قام عند أحد طريق على وجوب الجمعة مثلا وعند آخر طريق على حرمتها وعند ثالث على استحبابها ، تولد في فعل الأول المصلحة الملزمة فينشئ الله تعالى وجوبها في حقه وفي فعل الثاني المفسدة الملزمة فينشئ حرمتها في حقه وهكذا.

الثاني : أن يكون في الواقع في كل فعل من الأفعال الاقتضائية مصلحة أو مفسدة ملزمة أو غير ملزمة ، وتكون أحكام الأفعال أيضا منشأة على حسب اقتضاء تلك المصالح والمفاسد سواء في ذلك العالم والجاهل ، لكنه إذا تفحص الجاهل فأصاب الواقع كان ذلك هو حكمه الثابت غير المتغير ، وإن أخطأ طريقه وأدى إلى غير الواقع زال الملاك الواقعي من المصلحة والمفسدة وانتفى الحكم المسبب عنه أيضا إنشاء وفعلية وحدث ملاك على طبق تأدية طريقه وحدث حكم مناسب للملاك الحادث أو غلب الملاك الحادث على الملاك السابق فتبعه الحكم ، فلو كانت الجمعة ذات مفسدة ومحرمة وقام طريق عنده على وجوبها زالت المفسدة بالكلية أو غلبت المصلحة عليها بحيث كان المقدار الزائد بحد الإلزام فصارت واجبة في حقه.

الثالث : أن يكون الفعل كالصورة السابقة ذا ملاك وحكم في الواقع وبعد قيام الطريق على خلافه أيضا لم يزل ملاكه باقيا ولم يحدث فيه نقص أصلا ولم ينتف الحكم الواقعي أيضا إلّا عن مرتبة الفعلية فالجمعة المحرمة واقعا محرمة وإن قامت الأمارة على خلافها إلّا أن الحادث بسبب قيام الأمارة أمور :

أحدها : سقوط الحكم الواقعي عن الفعلية ورجوعه إلى مرتبة الإنشاء.

ثانيها : حدوث مصلحة في أمر الشارع بتبعية تلك الطريق كمصلحة تسهيل الأمر على المكلف أو احترام العادل مثلا ليجبر بها ما فات من الواقع.

ثالثها : حدوث حكم ظاهري مسبب عن تلك المصلحة الحادثة.

١٠٠