اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

فاستصحاب الحياة ينفع لترتيب حرمة التصرف في ماله وأما لزوم التصدق بدرهم أو دينار في المثال السابق فإثباته يحتاج إلى إجراء الاستصحاب في نفس التنفس والتلبس وهذا معنى ما اشتهر من أن الأصل المثبت غير حجة ، ومرادهم أن الأصل الذي يراد به إثبات اللوازم للمستصحب ليترتب عليها آثارها لا يكون بحجة.

فإن قلت إذا حكم الشارع بحياة زيد مثلا بالاستصحاب فلازمه ترتيب آثار التنفس والتلبس ونحوهما أيضا إذ الملازمة بينهما واضحة عقلا وعادة فكيف يحكم بترتيب آثار الحياة دون آثارها.

قلت المفروض أن أصل الحياة ولوازمها كلها مشكوكة وجدانا وحكم الشارع بترتيب الآثار تعبدا لم يثبت إلا في خصوص ما وقع مجرى الاستصحاب وهو الحياة فالجوانب لم تحرز بعد بالقطع ولا بحكم تعبدي بترتيب آثارها.

٦١

الأصول

عرفوا المعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة بتعاريف كثيرة :

والأولى : تعريفها بأنها العلم بالقواعد الممهدة لرعاية الأحكام الشرعية الفرعية إثباتا أو إسقاطا.

فخرج بالعلم بالقواعد علم الفقه فإنه علم بنفس الأحكام الشرعية والوظائف العملية لا بالقواعد المعدة لكشف حالها.

وبعبارة أخرى هنا قواعد معينة مدونة قابلة لأن يصل بها الباحث إلى الأحكام الفرعية والوظائف العملية ، فالعلم بتلك القواعد يسمى بعلم الأصول ، والعلم بتلك الأحكام والوظائف يسمّى بعلم الفقه.

مثلا إذا وقع البحث عن خبر الثقة وأثبتت له الحجية ، سميت النتيجة مسألة أصولية ، والعلم بها علم الأصول ، وإذا جعلت تلك النتيجة كبرى لقياس مؤلف ، فقيل وجوب الجمعة مما أخبر به الثقة وكلما أخبر به الثقة ثابت فالوجوب ثابت ، سميت النتيجة مسألة فقهية والعلم بها فقها واجتهادا.

وخرج بقيد الرعاية القواعد التي لم يكن تمهيدها لخصوص رعاية الأحكام كعلم اللغة والمنطق وغيرهما.

٦٢

وخرج بالتقييد بالفرعية ما له دخل في استخراج الأحكام الشرعية الأصولية كوجوب الاعتقاد بالمبدإ تعالى والمعاد وسفرائه إلى العباد.

ثم إن تلك القواعد أعم مما يوجب القطع بالحكم وغيره ، ومن الشرعية والعقلية ، ومن الأمارات والأصول ، ومن مثبتات الأحكام ومسقطاتها فيدخل في التعريف حجيّة نصوص الكتاب والأخبار المتواترة وهي مفيدة للقطع ، وحجيّة ظواهر الكتاب وأخبار الآحاد وهي تفيد الظن ويدخل أيضا الحديث والإجماع والشهرة مثلا وهي أمارات ، والاستصحاب والبراءة والاحتياط وهي أصول عملية ، ويدخل أيضا أخبار الآحاد والاستصحاب والبراءة النقلية وهي قواعد شرعية ، والظن الانسدادي على الحكومة وقاعدة الملازمة والبراءة والاحتياط العقليين ونحوهما وهي قواعد عقلية ، ويدخل أيضا كل أمارة أو أصل مثبت حكما من الأحكام وكلما ينفيه ويسقطه.

تنبيهان :

الأول : مقتضى التعريف المذكور أنه ليس لهذا العلم موضوع معين معلوم المفهوم ، بل هو القدر الجامع بين شتات موضوعات المسائل فبعد وقوع البحث عن خبر العدل وظاهر الكتاب والظن الانسدادي واليقين بثبوت شيء والشك في بقائه ونحوها ينتزع من تلك الموضوعات عنوان جامع يكون هو موضوع العلم وسيأتي الكلام في ذلك تحت عنوان الموضوع.

الثاني : مسائل هذا العلم عبارة عن النتائج الحاصلة من أبحاثه القابلة لأن تقع كبرى كلية في مقام الاستنباط كحجية الخبر والملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ولزوم إبقاء ما كان ونحوها وبذلك يعلم أن الغرض منه النيل إلى هدف الاستنباط وتحصيل الأحكام الشرعية.

٦٣

الاطراد وعدم الاطراد

إذا أطلق لفظ على معنى باعتبار لحاظ ملاك وخصوصية كإطلاق لفظ العالم على زيد باعتبار وصف العالمية وأريد أن يعلم أن هذا الإطلاق هل هو بنحو الحقيقة أو المجاز فلا بد من الاختبار ، فإن صح إطلاقه على كل شيء كان له ذلك الوصف كعمرو العالم وغيره يطلق على هذا المعنى الاطراد ، أي شيوع استعمال اللفظ في المصاديق الواجدة لملاك الاستعمال ، ويجعل ذلك علامة على كون اللفظ حقيقة في ذلك المعنى وإن لم يصح الإطلاق كان ذلك علامة المجاز ويسمى بعدم الاطراد ، كاستعمال لفظة أسد في زيد باعتبار مشابهته بالأسد فإنه لا يصح استعماله في كل شيء كان شبيها بالأسد في شيء من الصفات وبشباهة ما من الشبه. فاللفظ هنا كلمة أسد والمستعمل فيه زيد والملاك والخصوصية هي الشباهة في شيء من الصفات فمع وجود هذا الملاك في فرد آخر كعمرو مثلا لا يصح الاستعمال وهو معنى عدم الاطراد وجعلوه قرينة على أن استعمال أسد في زيد مجاز.

ولا يخفى عليك أن هذا البيان يتم لو كان المراد من الملاك أصل الشباهة بلا لحاظ مصاديقها فإن استعمال أسد في زيد لشبه الشجاعة لا يصحح استعماله في الحجر لشبه الصلابة أو في المعز لكثرة الشعر ، وأما لو كان الملاك في الاستعمال نوعا

٦٤

مخصوصا من العلائق وقسما معينا من الشباهات كالشجاعة مثلا فيطرد الاستعمال هنا أيضا ، فكل حيوان كان له شجاعة مثل الأسد صح الاستعمال فلا يكون الاطراد من علائم الحقيقة.

٦٥

الأقل والأكثر

(الاستقلاليان والارتباطيان)

هما في الاصطلاح عبارة عن فعلين أحدهما أقل من الآخر في الكمية ملحوظين في مقام تعلق التكليف ، فإذا علم بتوجه بعث أو زجر وشك في أنه تعلق بالقليل أو الكثير تحقق عنوان دوران الأمر بين الأقل والأكثر وجرى الاختلاف والبحث في أنه هل يجب الإتيان بالأكثر أو أنه يكفي الأقل أيضا ، أو أنه هل يحرم الإتيان بالأكثر فقط أو يحرم الأقل أيضا.

ثم إن معنى الاستقلاليين كون إتيان الأقل على فرض تعلق الحكم بالأكثر في الواقع ، مجزيا بمقدار الأقل وامتثالا في الشبهة الوجوبية وعصيانا بمقداره ومخالفة في الشبهة التحريمية ، بخلاف الارتباطيين فإنه لو كان التكليف متعلقا بالأكثر في الواقع لكان إتيان الأقل لغوا وفاسدا لا طاعة فيه ولا مخالفة كما سيظهر من أمثلة الباب.

وبعبارة أخرى التكليف في الاستقلاليين متعدد ، فالمكلف يعلم بوجود تكليف أو تكليفين مثلا ويشك في وجود ما زاد عنه ، بخلاف الارتباطيين فإن التكليف فيهما واحد لا شك فيه وإنما الشك في أنه متعلق بالأقل أو بالأكثر ، ومن هنا قالوا إن مرجع الشك في الاستقلاليين إلى الشك في التكليف وفي الارتباطيين إلى الشك في المكلف به.

٦٦

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الأقل والأكثر إما أن يكونا استقلاليين أو ارتباطيين وعلى كلا التقديرين فإما أن يلاحظا في الشبهة الوجوبية أو في الشبهة التحريمية.

فهنا صور أربع :

الأولى : الأقل والأكثر الاستقلاليان في الشبهة الوجوبية ومثاله ما إذا علم المكلف بفوات صلوات منه وشك في عددها وأنها ثلاث أو أربع ، فهو عالم بتعلق الوجوب وشاك في وجوب القليل أو الكثير ، وكذا إذا علم بأن عليه دين لزيد وشك في أنه درهم أو درهمان.

فذهب الأكثر فيه إلى وجوب إتيان الأقل وإجراء أصالة البراءة عن الأكثر ، إذ قد عرفت أن الشك هنا يرجع إلى الشك في التكليف المستقل بالنسبة إلى ما زاد عن الأقل فتجري البراءة.

الثانية : الأقل والأكثر الاستقلاليان في الشبهة التحريمية ، ومثاله ما إذا علم الجنب أو الحائض بحرمة قراءة العزائم وشك في أن المحرم خصوص آية السجدة أو جميع أجزاء السورة فيقول إن التكليف بالأقل معلوم وما زاد منه مشكوك يجري فيه أصالة البراءة.

الثالثة : الأقل والأكثر الارتباطيان في الشبهة الوجوبية وهذا القسم هو المهم المقصود بالبحث للأصوليين والاختلاف بينهم فيه كثير ويسمونه تارة بالأقل والأكثر الارتباطيين ، وأخرى بالشك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته له. مثاله ما لو علم بتكليف وجوبي وشك في أنه تعلق بالصلاة مع السورة أو بالصلاة بلا شرط السورة فالتكليف معلوم ومتعلقه مردد بين الأقل والأكثر فيرجع هذا الشك إلى الشك في جزئية السورة للصلاة وعدمها.

والأقوال فيه ثلاثة :

أحدها : جريان البراءة العقلية والنقلية بالنسبة إلى تعلق التكليف بالأكثر.

فيقال الأصل عدم تعلق الوجوب بالصلاة المركبة من السورة مثلا وأما تعلقه بالأقل فهو معلوم لا مورد للبراءة فيه أو جريان حديث الرفع وغيره بالنسبة إلى الحكم الوضعي أعني جزئية المشكوك وإليه ذهب الشيخ رحمه‌الله في رسائله.

ثانيها : جريان البراءة الشرعية في الجزئية ورفعها بأدلة البراءة الشرعية دون البراءة

٦٧

العقلية ، بل المورد بحسب العقل من موارد الاحتياط وهذا مذهب صاحب الكفاية قدس‌سره.

ثالثها : عدم جريانها مطلقا بل لزوم الاحتياط بإتيان الأكثر ، ويظهر هذا من كلمات بعض المتأخرين وربما ينسب إلى بعض المتقدمين أيضا.

الرابعة : الأقل والأكثر الارتباطيان في الشبهة التحريمية ، مثاله ما إذا علمنا بحرمة تصوير ذوات الأرواح نقشا أو تجسيما وشككنا في أن الحرام هل هو نقش تمام الصورة أو أن البعض أيضا كذلك فالحرمة معلومة والشك إنما هو في تعلقها بالأقل أو بالأكثر وحكم الارتباطيين في هذه الشبهة يباين حكم الارتباطيين في الوجوبية ، فالأكثر هنا معلوم الحرمة والأقل مشكوك تجري فيه البراءة كما أن الأكثر كان هناك مشكوكا والأقل معلوم الوجوب.

٦٨

الأمارة

(أي الطريق المجعول في حق الجاهل بالواقع)

المجعول في حق الجاهل بالواقع إن كان له كاشفية ذاتية عن الواقع ناقصة وناظرية وحكاية ولو نوعية واعتبره الشارع بلحاظ كشفه ونظره يسمى ذلك دليلا وأمارة ، وإلا فأصلا كما تقدم وقد يطلق على المجعول لكشف حال الأحكام الدليل وعلى المعتبر لبيان حال الموضوعات الأمارة.

فقوام أمارية الأمارة بأمرين : أحدهما : وجود كاشفية ناقصة فيها بالذات. والثاني : كون إمضائها بنحو تتميم كشفها وإمضاء طريقيتها.

مثلا إذا أخبر العادل بوجوب الجمعة أو حرمة العصير فقوله حاك عن الواقع ظنا وبعد ورود أدلة تدل على وجوب تصديقه والعمل على طبقه يصير قوله دليلا اجتهاديا وأمارة على الأحكام ومثل ذلك الظن الانسدادي والإجماع المنقول والشهرة في الفتوى على القول بحجيتها.

وإذا قامت البينة على كون المال المعين ملكا لزيد كان ذلك دليلا وأمارة في الموضوعات ويجب ترتيب آثار المخبر به بواسطة إخبارها.

٦٩

تنبيهات :

الأول : أن المعتبر للدليل إن كان هو الشارع يسمى ذلك دليلا شرعيا وأمارة شرعية كخبر العدل والثقة والظن الانسدادي على الكشف ، وإن كان هو العقل يسمى دليلا عقليا وأمارة عقلية كالظن الانسدادي على الحكومة فراجع عنوان الحكومة.

الثاني : أن الدليل الشرعي قد يكون هو جعل الحجية له من الشارع جعلا بدئيا من غير سبق عمل عليه من العقلاء فيقال إنه دليل شرعي تأسيسي ، وإن كان مع عمل العقلاء بذلك والشارع أمضى عملهم ولو بالسكوت وعدم نهيهم عنه فيقال إنه دليل إمضائي ، وجل الأدلة لو لم يكن كلها إمضائية رخص الشارع فيها العمل بما عليه العقلاء.

الثالث : أن وجه تقييد الدليل بالاجتهادي أحيانا بملاحظة ما قيل في تعريف الاجتهاد ، فإنهم عرفوا الاجتهاد بأنه استفراغ الوسع وبذل الجهد في تحصيل الأحكام الواقعية فالمجتهد هو الطالب للأحكام الواقعية كما أن الدليل هو الحاكي عن تلك الأحكام فناسب أن ينسب هذا النحو من الدليل إليه.

الرابع : أن أفراد الأمارة المعتبرة في الأحكام قليلة جدا فالذي تسلمه الجل لو لا الكل هو خبر العدل أو الثقة وحكم العقل.

وأما الإجماع المنقول وبعض مصاديق المحصل والشهرة في الفتوى والظن الانسدادي ونحوها فيمكن دعوى الشهرة من المتأخرين على عدم حجيتها.

وأما أدلة الموضوعات فهي كثيرة عمدتها البينة أعني إخبار العدلين فما زاد.

ومنها : إخبار ذي اليد بالطهارة والنجاسة والملكية والكرية ونحوها.

ومنها : إخبار المرأة في بعض الموارد.

ومنها : الأمور المختصة بهن كالطهر والحيض والعدة ونحوها.

ومنها : إخبار العدل مع انضمام اليمين.

ومنها : إخبار الصبيان في القتل.

٧٠

ومنها : إخبار الشخص فيما لا يعرف إلا من قبله كعلمه وجهله ونحوهما.

ومنها : اليد المثبتة للملكية بناء على كونها أمارة.

الخامس : قد ظهر مما ذكرنا أن قول العدل الواحد حجة في الأحكام دون الموضوعات إلا في الجملة والوجه في ذلك الاستظهار من الروايات.

ثم إن البحث عن كون حجية الأمارات بنحو السببية أو الطريقية سيجيء إن شاء الله تحت عنوان السببية.

٧١

الامتثال

هو عبارة عن موافقة التكليف خارجا والجري على وفقه عملا بعثا كان التكليف أو زجرا ، أكيدا كان أو ضعيفا ، وله مراتب أربع :

الأولى : الامتثال التفصيلي وهو إتيان متعلق التكليف مع إحراز أنه متعلقه بعينه ، والإحراز قد يكون علميا كما إذا كان إحراز نفس العمل أو أجزائه وشرائطه بالعلم الوجداني ، فإذا علم المكلف بأن الواجب هو الظهر دون الجمعة فأتى به كان هذا امتثالا تفصيليا علميا ، وهكذا العلم بالقبلة والطهارة وغيرهما ، وقد يكون ظنيا بالظن المعتبر كما لو كان إحراز أصل العمل أو كيفياته بدليل معتبر أو أصل كذلك ، فإذا أدت الأمارة أو الأصل إلى وجوب الظهر أو جزئية السورة أو تعيين القبلة مثلا وعمل المكلف على طبقها كان ذلك امتثالا تفصيليا ظنيا ومنه العمل على طبق الظن الانسدادي على الحكومة والكشف.

الثانية : الامتثال العلمي الإجمالي كالاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة الوجوبية منها والتحريمية ، فبعد حصول العلم الإجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر كان الإتيان بهما امتثالا علميا إجماليا ومثله ترك الإناءين المشتبهين.

الثالثة : الامتثال الظني بظن غير معتبر كإتيان الصلاة إلى القبلة المظنونة مع

٧٢

إمكان الإحراز العلمي.

الرابعة : الامتثال الاحتمالي كإتيان أحد أطراف الشبهة المحصورة في الوجوبية وترك أحدها في التحريمية.

تنبيه :

لا إشكال في عدم كفاية الامتثال الاحتمالي مع إمكان الامتثال الظني ولا الظني مع إمكان الامتثال العلمي وأما جواز الاكتفاء بالعلمي الإجمالي مع إمكان الإحراز التفصيلي بقسميه ففيه اختلاف بين الأعلام.

٧٣

الأمر

هو في اللغة موضوع لمعان كثيرة وفي هذا الاصطلاح عبارة عن الطلب الإنشائي ، والتقييد بالإنشائي لإخراج الطلب الحقيقي الذي هو الإرادة القلبية فلا يطلق عليها الأمر إلا مجازا.

وهل يعتبر في الطلب الذي هو معنى الأمر أن يكون أكيدا ينتزع عنه الوجوب فالطلب الضعيف المنتزع عنه الاستحباب ليس بأمر حقيقة ، أو يعتبر فيه كونه صادرا من العالي فالصادر من المساوي والداني ليس بأمر ، أو يعتبر فيه كون الطالب مستعليا مرتفعا وإن لم يكن عاليا فالصادر من المتواضع الخافض جناحه ليس بأمر ، أو يعتبر فيه أحد الأمرين إما كون الطالب عاليا ولو طلب بخفض الجناح أو كونه مستعليا ولو لم يكن عاليا فالصادر من غير العالي بخفض الجناح ليس بأمر وجوه بل أقوال.

وينقسم الأمر بتقسيمات :

منها : تقسيمه إلى الأمر المولوي والأمر الإرشادي.

فالأول : هو البعث والطلب الحقيقي لمصلحة موجودة في متعلقه غالبا بحيث يحكم

٧٤

العقل بترتب استحقاق المثوبة على موافقته والعقوبة على مخالفته مضافا إلى مصلحة الفعل المطلوب ، كغالب الأوامر الواقعة في الكتاب والسنة فإذا أمر المولى بالصلاة والصيام وحصل من العبد امتثال ذلك الأمر ترتب عليه أمران : أحدهما : حصول غرض المولى من أمره وهو نيل العبد إلى المصالح الموجودة في الصلاة والصيام ، وثانيهما : حكم العقل باستحقاقه للجزاء والمثوبة بواسطة حصول الطاعة منه.

والثاني : هو البعث الصوري الذي ليس بطلب وأمر حقيقة بل ليس بالدقة إلا إخبارا عن مصلحة الفعل وإرشادا وهداية إلى فعل ذي صلاح بحيث لا يترتب لدى العرف والعقلاء على موافقته إلا الوصول إلى مصلحة العمل المرشد إليه وعلى مخالفته إلا فوت تلك المصلحة ، فقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بعث إلى إطاعة الأوامر الصادرة منه تعالى فهو أمر بالصلاة والزكاة والحج ونحوها فيجتمع حينئذ في الواجبات والمستحبات أمران ، أمرها الأولى من قوله صل وصم وحج وغيرها ، وأمرها الثانوي بواسطة انطباق عنوان الإطاعة عليها ، فلصلاة الظهر مثلا أمر بعنوان أنّها ظهر وأمر بعنوان أنها إطاعة للأمر الأول والأول حقيقي مولوي كما ذكرنا والثاني إرشادي يهدي إلى المصلحة الثابتة في متعلقه وهو الإطاعة بإتيانه ، فحينئذ إذا أتى العبد بالظهر لم يترتب على موافقة أمرها الثانوي إلا نفس ما في الإطاعة مع قطع النظر عن هذا الأمر وهو درك مصلحة الظهر وثواب إطاعة الأمر المولوي ، لا أنه يستحق جزاء للأمر الأول وجزاء ومثوبة للأمر الثاني ، ولو خالف ولم يأت بها لم يترتب عليها أيضا إلا فوت مصالح الظهر وترتب عقاب الأمر الأول لا أن هنا عقابين أحدهما للأمر الأول والثاني للأمر الثاني وهكذا سائر موارد الإرشاد.

ثم إن تعيين كون الأمر مولويا أو إرشاديا وتشخيص مواردهما موكول إلى حكم العقل ونظر أهل الفن وقد اختلفت كلماتهم في ذلك فقال بعضهم إن كل مورد يكون للعقل فيه حكم بالاستقلال فالحكم الوارد فيه حكم إرشادي كقبح الظلم وحسن الإحسان ، وقال آخرون إن كل مورد يلزم من إعمال المولوية فيه اللغوية فهو مورد الإرشاد ، وذهبت عدة ثالثة إلى أن كل مورد يلزم من جعل الأمر المولوي محذور عقلي

٧٥

كالدور والتسلسل فهو مورد الإرشاد كالأوامر الإطاعة فإنها لو كانت مولوية لزم حصول إطاعة أخرى لها وحدوث أمر جديد وهكذا فيتسلسل.

ومنها : تقسيمه إلى التعبدي والتوصلي وإلى النفسي والغيري وإلى التعييني والتخييري وإلى العيني والكفائي ويأتي جميع ذلك إن شاء الله تحت عنوان الوجوب.

٧٦

الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أم لا؟

من الأبحاث الراجعة إلى الأمر بحثهم عن أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا؟

وبيانه أنه إذا تعلق أمر المولى بفعل من الأفعال كإزالة النجاسة عن المسجد ، فلا محالة يتصور له ضد أو أضداد يعاند وجوده وينافي تحققه ، وجوديا كان المعاند كالصلاة والأكل والنوم ، أو عدميا كترك ذلك الفعل.

فوقع البحث حينئذ في أنه هل يكون للأمر الدال على وجوب فعل بالمطابقة دلالة على النهي عن تلك المعاندات أم لا؟.

وأوجز البيان في المقام أن نقول إنه لا بأس بالقول بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن المعاند العدمي وهو ترك المأمور به بالملازمة العقلية فإن إيجاب الإزالة مثلا يلازم عقلا عدم رضا الآمر بتركها ومبغوضية ذلك الترك.

وأما الأضداد الوجودية ففيها وجهان :

أحدهما : دلالته على النهي عنها بتخيل أن ترك الأضداد مقدمة لفعل المأمور به ، فيترشح من الطلب المتعلق بالفعل طلب غيري متعلق بترك الأضداد وهو معنى النهي عنه.

٧٧

أو بتخيل أن فعل المأمور به وترك الأضداد متلازمان والأمر بأحد المتلازمين يستلزم الأمر بالملازم الآخر فطلب الفعل يستلزم طلب ترك ضده وهو معنى النهي عنه.

وثانيها : عدم الدلالة لأن وجود المأمور به وعدم الضد أمران متقارنان في الوجود لا علية لأحدهما الآخر ولا توقف ، بل كل منهما معلول لعلة مستقلة ، فالمكلف الداخل في المسجد إذا قصد الإزالة ولم يقصد الصلاة أو النوم ، يكون قصده للإزالة علة لحصول الإزالة وعدم قصده للصلاة علة لعدم الصلاة إذ يكفي في عدم الشيء عدم تحقق علة وجوده ، فالمأمور به معلول لعلة ، وترك الضد معلول لعلة أخرى وحيث لا علية بينهما فلا توقف ولا تقدم ، فإن توقف شيء على شيء فرع كون الثاني من أجزاء علة الأول.

نعم هما متلازمان في التحقق والوجود إلّا أن طلب أحد المتلازمين لا يستلزم طلب الآخر بل غاية الأمر عدم جعل حكم له يخالف حكم ملازمه.

إذا فلا يدل الأمر بالشيء على النهي عن أضداده الوجودية.

ثم إن ثمرة هذه المسألة حرمة الأضداد الوجودية على الاقتضاء وعدمها على العدم وتنتج الحرمة بطلان الضد إذا كان عبادة كما في المثال.

٧٨

الإمكان والوجوب والامتناع

ينقسم الإمكان إلى الذاتي والوقوعي وينقسم كل من الوجوب والامتناع إلى الذاتي والغيري والوقوعي ويعرف حقيقة كل منها ونسبته مع صاحبه في ضمن مثاله فنقول :

الأول : الإمكان الذاتي وهو كون الشيء بحيث ليس في ذاته اقتضاء للوجود ولا للعدم بل رجحان كل من وجوده وعدمه يحتاج إلى علة وإن كان يكفي في طرف عدمه عدم علة الوجود ، وهذا كجميع الممكنات الموجودة والمعدومة ، فالفلك والشمس والقمر والفرس والنجم والشجر ممكنات اقتضت إرادة الله تعالى وجودها والإنسان الذي له ألف رأس ممكن لم يرد الواجب تعالى وجوده.

الثاني : الإمكان الوقوعي وهو كون الشيء بحيث لا يستلزم وجوده وعدمه ووقوعه ولا وقوعه محذورا عقليا كاجتماع النقيضين والضدين والخلف والقبح على الحكيم ونحوها ، ومثاله غالب الحركات والأفعال الصادرة منا والنسبة بين هذا الإمكان وسابقه عموم مطلق ، فكل ممكن وقوعي ممكن ذاتي ولا عكس لأنه قد يكون الممكن الذاتي واجبا وقوعيا أو ممتنعا وقوعيا كما ستعرف ، فالإمكان الذاتي أعم من الإمكان الوقوعي.

الثالث : الوجوب الذاتي وهو كون الشيء بحيث يقتضي الوجود لذاته اقتضاء

٧٩

حتميا ويحكم العقل بمجرد تصور ذاته بأنه لا بد له من الوجود ويمتنع في حقه العدم ، وهذا المعنى منحصر المصداق في ذات الله تعالى فهو الواجب لذاته دون غيره.

الرابع : الوجوب الغيري وهو وجود علة الشيء وتحققها خارجا ، فيطلق على الشيء حينئذ أنه واجب غيري ، أما وجوبه فلأنه لا يمكن أن لا يوجد مع فرض وجود علته التامة وأما كونه غيريا فلأن المقتضي لوجوده ليس نفس ذاته بل وجود علته والنسبة بينه وبين الواجب الذاتي هي التباين.

الخامس : الوجوب الوقوعي وهو كون الشيء بحيث يلزم من عدم وجوده محذور عقلي ويستلزم عدمه أمرا باطلا أو محالا عقليا وإن كان ممكنا ذاتا ، وذلك كالمعلول الصادر من العلة الواجبة لذاتها والآثار اللازمة للواجب بالذات ، فكل موجود خلقه الله تعالى لاقتضاء ذاته وصفاته تعالى خلقه وإيجاده من العقل والروح والنور والماء ونحوها فهو واجب وقوعي ، إذ يلزم من عدمه عدم ذات الواجب وصفاته وهو خلف محال ، والنسبة بينه وبين الوجوب الغيري عموم من وجه فمادة الافتراق من الغيري أفعال العباد ومعلولات الممكنات غالبا إذ لا يلزم من عدم فعلنا إلّا عدم إرادتنا التي هي علة ولا محذور فيه ، ومادة الافتراق من الواجب الوقوعي ذات الباري تعالى فإنه كما هو واجب ذاتي واجب وقوعي أيضا إذ يلزم من عدمه الخلف وعدم كونه واجب الوجود ، ومادة الاجتماع المعلول الأول الصادر من الله تعالى فإنه واجب وقوعي وواجب غيري ، ومنه تعرف النسبة بين الواجب الذاتي والوقوعي أيضا فإن الأول أخص من الثاني إذ كل واجب ذاتي واجب وقوعي وليس كل وقوعي ذاتيا.

السادس : الامتناع الذاتي وهو كون الشيء بحيث يقتضي بذاته العدم اقتضاء حتميا ويحكم العقل بمجرد تصوره أنه ممتنع الوجود كشريك الباري واجتماع النقيضين والضدين وتقدم الشيء على نفسه وصدور القبيح من الحكيم كما قيل.

السابع : الامتناع الغيري وهو عدم تحقق علة الشيء ، فكل شيء لم يوجد علته التامة يطلق عليه أنه ممتنع غيري ، أما امتناعه فلعدم إمكان الشيء بلا علة وأما كونه غيريا فلأن عدمه ليس لاقتضاء ذاته بل لعدم علة وجوده.

ومثاله غالب الممكنات فإذا لم يصدر منك الأكل والشرب والنوم في وقت معين

٨٠