اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

ومن كلمة إلى بيان حال منتهاه ، فالمعاني الحرفية ملحوظة حالة للغير.

ومنها : ما ذكروه في مقام الفرق بين القطع الطريقي والموضوعي بالنسبة إلى بعض الألفاظ كالعلم والقطع والإرادة والقصد ونحوها ، فإنها قد تلاحظ آلية وقد تلاحظ استقلالية ، فربما يقول المولى إذا علمت بورود زيد إلى بلدك فزره فيريد ترتيب حكم الزيارة على نفس المجيء والورود لا على العلم به ، فالمقصود إذا ورد بلدك فزره ، وحيث إن انكشاف الورود وثبوته لا يكون إلا بالعلم أطلق اسم الكاشف وأريد المنكشف كناية. وهذا هو العلم الذي يسمى في باب القطع بالقطع الطريقي.

وربما يقول إذا علمت بأنك تسافر فصل ركعتين أو تصدق على فقير ، أو يقول إذا أردت الأكل فقل بسم الله ، أو يقول إذا قطعت بكون مائع عصيرا حرم عليك شربه ، ويريد ترتيب تلك الأحكام على صفة العلم والإرادة فيقال حينئذ إن تلك العناوين لوحظت استقلالية ، ويسمى هذا القطع في بابه بالقطع الموضوعي.

ومنها : ما ذكروه في باب الاستصحاب بالنسبة إلى كلمة اليقين من كون اليقين الوارد في أخبار ذلك الباب ملحوظا بنحو الآلية لا الاستقلالية كقوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض اليقين بالشك» فمن شك في بقاء حياة زيد مثلا يكون المراد من إسناد حرمة النقض ووجوب الإبقاء إلى يقينه إسنادهما إلى متيقنه كحياة زيد فكأنه قال لا تنقض حياة زيد بالشك فمن شدة الارتباط بين اليقين والمتيقن أطلق اليقين وأريد به المتيقن كناية ولذلك أيضا أسند آثاره إليه وأريد من حرمة نقض آثار اليقين ووجوب ترتيب أحكامه ، حرمة نقض آثار المتيقن كحياة زيد وكرية الماء مثلا.

٤١

أصالة الاحتياط

ويعبر عنها بأصالة الاشتغال ومجراها في الأغلب الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

وهي على قسمين : أصالة الاحتياط العقلية وأصالة الاحتياط الشرعية.

فالأولى : عبارة عن حكم العقل بلزوم إتيان فعل يحتمل الضرر الأخروي في تركه ولزوم ترك فعل يحتمل الضرر الأخروي في فعله ، فهي حكم عقلي كلي له موضوع ومحمول موضوعه الشيء المحتمل فيه لضرر الأخروي من فعل أو ترك ومحموله لزوم الاجتناب عنه عقلا ، فإذا علمنا بوجوب صلاة يوم الجمعة قبل صلاة العصر وشككنا في أنها الظهر أو الجمعة فترك كل واحدة منهما مما يحتمل فيه الضرر الأخروي فالعقل يحكم بلزوم إتيان كلتيهما احتياطا ، وكذا إذا علمنا بتحريم الشارع مائعا معينا وشككنا في أنه الخمر أو العصير العنبي ففعل كل منهما يحتمل فيه الضرر الأخروي فيحكم العقل بلزوم ترك كليهما احتياطا.

والثانية : عبارة عن حكم الشارع بلزوم إتيان ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته ، فموضوعها مشكوك الوجوب والحرمة ومحمولها وجوب الفعل أو الترك شرعا.

ثم إن أصالة الاحتياط أيضا تنقسم إلى شبهة وجوبية وتحريمية حكمية وموضوعية.

أما الشبهة الوجوبية فكالشك في أن الواجب هذا أو ذاك.

٤٢

فتارة يكون منشأ الشك فيها عدم النص على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على وجوب أحدهما بنحو الإجمال.

وأخرى يكون المنشأ هو إجمال النص كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وكانت الوسطى مرددة بين الصبح والظهر.

وثالثة : يكون المنشأ تعارض النصين أو النصوص على التعيين كمسألة الظهر والجمعة.

ورابعة : يكون اشتباه المصداق والموضوع كما إذا حصل الشك في أن العالم الواجب إكرامه هذا أو ذاك أو أنه نذر الإطعام أو الصيام والأمثلة الثلاثة الأول شبهة وجوبية حكمية والأخير وجوبية موضوعية.

وأما الشبهة التحريمية : ففيها أيضا تارة يكون منشأ الشك عدم الدليل على تعيين الحرام.

وأخرى يكون المنشأ إجمال النص الدال عليه.

وثالثة تعارض النصوص.

ورابعة اشتباه الأمور الخارجية أعني اشتباه المصداق لأجلها كما إذا لم يعلم أن الخمر هل هو في هذا الإناء أو ذاك. ثلاثة منها شبهة حكمية وواحد موضوعية.

تنبيهات :

الأوّل : قسم الشيخ الأعظم قدس‌سره مجرى أصالة الاحتياط بتقسيم آخر مغاير لما ذكرنا وحاصله : أنا إذا علمنا بنوع التكليف من وجوب وحرمة وشككنا في متعلقه وأنه هذا الفعل أو ذاك ، فتارة يدور الأمر بين الواجب وغير الحرام كما إذا شككنا في أن الواجب يوم الجمعة هل هو صلاة الظهر أو الجمعة فكل من الصلاتين يدور أمرها بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام الثلاثة الباقية وأخرى بين الحرام وغير الواجب كما إذا علمنا حرمة أحد الإناءين فإن كلا منهما يدور أمره بين الحرمة وغير الوجوب من تلك الأحكام. وثالثة بين الحرام والواجب.

٤٣

ويسمى القسم الأول بالشبهة الوجوبية للاحتياط ، والثاني بالشبهة التحريمية ، والثالث داخل في مسألة التخيير.

ثم إن في كل واحد من الأقسام الثلاثة إما أن يكون منشأ الشك عدم النص أو إجماله أو تعارضه أو اشتباه المصداق والموضوع فالأقسام فيها ترتقي إلى اثني عشر قسما ثمانية منها داخلة تحت مسائل الاحتياط وأربعة في مسائل التخيير كما سيجيء.

الثاني : مجرى أصالة الاحتياط لا ينحصر في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي كما يظهر من تقسيم الشيخ قدس‌سره ، بل قد تجري في الشبهة البدوية أيضا كما إذا كان التكليف المشكوك مهما ، فإذا أراد رمي شبح من بعيد ولم يعلم أنه إنسان أو حجر مثلا لزم الاحتياط على المشهور وكذا في كل ما شك في وجوبه أو حرمته بالشبهة الحكمية وكان قبل الفحص وكذا إذا شك المكلف في إتيانه بالواجب الموقت قبل انقضاء وقته وغير ذلك من الموارد.

الثالث : الدليل على أصالة الاحتياط العقلي هو احتمال الضرر الأخروي أو الضرر المهم ، فالعقل حاكم بلزوم الاجتناب عن كل ما احتمل فيه الضرر الأخروي موهوما كان ذلك الضرر أو مشكوكا أو مظنونا كما أن العقل حاكم بلزوم ترك مقطوعه فهذه قاعدة كلية عقلية ، ولزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إنما هو من جهة أن كل فرد من الأطراف داخل تحت هذه الكلية وكذا بعض الشبهات البدوية كما ذكرنا فإذا علمت بخمرية أحد الإناءين أشرت إلى واحد منهما وقلت هذا مما احتمل فيه الضرر الأخروي وكل ما احتمل فيه الضرر الأخروي يجب الاجتناب عنه فهذا يجب الاجتناب عنه.

فإن قلت : ما الفرق بين كل واحد من الإناءين في هذا المثال والإناء المحتمل الحرمة في الشبهة البدوية حيث حكموا في الأول بالاحتياط وفي الثاني بالبراءة مع أن احتمال الحرمة في الكل مستلزم لاحتمال العقاب الأخروي قلت : الفرق هو أن العلم الإجمالي في الأول حجة على المكلف منجز للواقع ، فالمحتمل في كل طرف هو التكليف المنجز واحتماله مستلزم لاحتمال الضرر الأخروي فيجب تركه ، وهذا بخلاف الشبهة البدوية التي لا علم فيها بالتكليف ومعه لا يكون منجزا أو يقبح العقاب

٤٤

عليه فالمحتمل فيه تكليف غير منجز والعقاب فيه مأمون منه.

وأما الاحتياط النقلي فقد استدل عليه بعدة أخبار.

منها : أخبار التوقف كقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «قفوا عند الشبهة» وقوله «عليه‌السلام» : «الوقوف عند الشبهة خير عن الاقتحام في الهلكة» فيجب الوقوف عملا والاحتياط في كل محتمل التحريم من فعل أو ترك.

ومنها : قوله «عليه‌السلام» : «إذا خفت ضلالة فإن الكف عنده خير من ركوب الأهوال.» ومنها : قوله «عليه‌السلام» : «وأمر اختلف فيه فرده إلى الله ورسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

ومنها : قوله «عليه‌السلام» : «ومن ارتكب الشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».

الرابع : الظاهر أن أكثر علمائنا الأخباريين قدس‌سرهم قائلون بالاحتياط النقلي فقط في موارد العلم الإجمالي بمقتضى الأخبار المتقدمة ، وبعضهم قائل بالشرعي والعقلي كليهما ، وأما الأصوليون قدس الله أسرارهم فمنهم من قال بالاحتياط العقلي فقط وحمل الأخبار السابقة على الإرشاد إلى حكم العقل أو على الاستحباب أو على الاحتياط في المسائل الاعتقادية ، ومنهم من قال بكلا قسمي الاحتياط العقلي منه والنقلي فراجع.

٤٥

أصالة البراءة

هي على قسمين : أصالة البراءة العقلية وأصالة البراءة الشرعية.

فالأولى : عبارة عن حكم العقل بعدم استحقاق العقوبة على ما شك في حكمه ولم يكن عليه دليل ، فأصالة البراءة العقلية قاعدة كلية عقلية لها موضوع ومحمول ، موضوعها الفعل المشكوك الذي لا بيان على حكمه من الشارع ومحمولها الحكم بعدم العقوبة عليه وعدم حرمته بالفعل ، فإذا شك المكلف في حرمة العصير التمري مثلا بعد غليانه فتفحص ولم يجد دليلا على حرمته تحقق موضوع البراءة العقلية ، فيحكم عقله بعدم استحقاق العقاب على شربه ، وكذا إذا شك في وجوب الصوم أول كل شهر ولم يجد بيانا على الوجوب حكم عقله بعدمه.

والثانية : عبارة عن حكم الشارع بعدم التكليف الفعلي أو بالإباحة والرخصة في فعل أو ترك شك في حكمهما الواقعي ، فموضوعها العمل المشكوك حكمه واقعا ومحمولها الإباحة والرخصة ، فإذا شك في حرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ولم يوجد دليل على حرمة الأول ووجوب الثاني حكم الشارع بالإباحة فيهما.

ثم إن مسألة أصالة البراءة مطلقا تنقسم إلى مسائل ثمان ، فإنه إما أن يكون الشك في وجوب شيء أو يكون في حرمته ، والأول يسمى بالشبهة الوجوبية للبراءة

٤٦

والثاني بالتحريمية لها وعلى كل تقدير إما أن يكون الشك في الحكم الكلي للموضوع الكلي أو في الحكم الجزئي للموضوع الجزئي ، وعلى الأول إما أن يكون منشأ الشك هو عدم وجود دليل في المورد أو يكون إجمال الدليل الوارد أو يكون تعارضه مع آخر ، كما أنه على الثاني يكون منشأ الشك اشتباه الأمور الخارجية.

فالشبهة الوجوبية لها مسائل أربع :

الأولى : أن يشك في الوجوب الكلي وكان منشأ الشك هو عدم الدليل كالشك في وجوب الإطعام في أول كل شهر مثلا.

الثانية : أن يشك في الوجوب الكلي من جهة إجمال النص كما إذا ورد اغتسل للجمعة وشككنا في أن هيئة الأمر تدل على الوجوب أو على الاستحباب.

الثالثة : أن يشك في الوجوب الكلي من جهة تعارض الدليلين كما إذا ورد صل في أول كل شهر الصلاة الفلانية وورد أيضا لا تصلها ، فإذا تعارض الدليلان فتساويا فتساقطا رجعنا إلى أصالة البراءة وهذه الأقسام الثلاثة تسمى بالشبهة الحكمية ، لأن الشك فيها إنما هو في حكم الشارع دون موضوعه ، ورفع الشك وكشف الحجاب عن الواقع فيها يتوقف على بيان الشارع ولا يمكن إلا من قبله.

الرابعة : الشك في الوجوب الجزئي كما إذا شك في وجوب إكرام هذا الشخص وعدم وجوبه من جهة الشك في أنه عالم أو ليس بعالم ويسمى هذا القسم بالشبهة الموضوعية تارة والمصداقية أخرى ، لأن المفروض العلم بأن كل عالم يجب إكرامه وإنما الشك في أن هذا عالم أو ليس بعالم فالشبهة في المصداق والموضوع وفي الحكم الجزئي دون الكلي.

والشبهة التحريمية أيضا تنقسم إلى مسائل أربع ، مثل ما إذا شككنا في حرمة الفقاع من جهة عدم الدليل أو إجماله أو تعارضه وهذه أقسام الشبهة الحكمية التحريمية ، أو شككنا في أن هذا المائع فقاع أم لا مع العلم بأن كل فقاع حرام ، وهذه هي الشبهة الموضوعية التحريمية منشأ الشك فيه اشتباه الأمور الخارجية.

٤٧

تنبيهات :

الأول : أنهم ذكروا أن الدليل على البراءة العقلية هي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بتقريب أن العقل حاكم بالاستقلال بأنه لو التفت عبد إلى حكم فعل من أفعاله وشك في وجوبه الواقعي وعدم وجوبه أو في حرمته وعدمها وتتبع وتفحص بقدر الوسع والإمكان فلم يجد دليلا على الحكم فترك مشكوك الوجوب وفعل مشكوك الحرمة كان عقاب المولى ومؤاخذته عليه قبيحا ، وهذا ما هو المشهور من أن دليل الأصل العقلي هو قبح عقاب الحكيم بلا بيان ومؤاخذته بلا برهان.

والدليل على البراءة الشرعية :

أولا ظاهر الكتاب كقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) والمعنى ما كان عادتنا سابقا ولاحقا أن نعذب أحدا على ترك واجب وفعل حرام حتى نبين حكمهما فبعث الرسول كناية عن بيان حكم الأفعال.

وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) بناء على أن المراد الوسع العلمي. و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) بناء على أن الإيتاء الإعلام.

وثانيا الأخبار ، فمنها : قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في حديث الرفع : «رفع عن أمتي ما لا يعلمون» فإن الإيجاب والتحريم المجهولين من قبيل ما لا يعلم فيكونان مرفوعين.

ومنها قوله «عليه‌السلام» في حديث الحجب : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

ومنها قوله «عليه‌السلام» : «الناس في سعة ما لا يعلمون» أي أنهم من ناحية مجهولاتهم في سعة لا يؤاخذون عليها ولا يعاقبون.

ومنها قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه» أي كل مشكوك الحرمة والحلية في الواقع فهو لك حلال ظاهرا وهو معنى البراءة.

ومنها قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء لك مطلق حتى يرد فيه نهي» أي كل فعل أنت مرخص فيه حتى يصل إليك حرمته.

٤٨

الثاني : أدلة البراءة الشرعية من حيث عمومها للشبهة الوجوبية والتحريمية مختلفة

فالإجماع والكتاب وأكثر الأخبار تشمل الشبهتين جميعا ، والروايتان الأخيرتان لا تدلان إلا على البراءة في الشبهات التحريمية فقط.

الثالث : اختلف أقوال الأصحاب قدس‌سرهم في القول بالبراءة فالمشهور من الأصوليين القول بها مطلقا عقليها ونقليها في الوجوبية والتحريمية ، وفصل بعض المحققين منهم في البراءة العقلية بين الشبهات الحكمية والموضوعية فقال بالجريان في الأولى دون الثانية.

ومعظم الأخباريين منعوا البراءة العقلية مطلقا وعزلوا العقل عن الحكم في هذا المضمار وأجروا البراءة النقلية في خصوص الشبهة الوجوبية فهم في الوجوبية قائلون بالبراءة ومشكوك الوجوب عندهم مباح وفي التحريمية قائلون بالاحتياط ومشكوك الحرمة عندهم حرام وهنا أقوال أخر أعرضنا عن ذكرها طلبا للاختصار.

الرابع : للعلامة الأنصاري قدس‌سره في بيان أقسام الشبهة الوجوبية والتحريمية للبراءة تقسيم ببيان آخر غير ما ذكرنا ، وحاصله أن التكليف المشكوك فيه إما تحريم مشتبه بغير الوجوب وإما وجوب مشتبه بغير التحريم وإما تحريم مشتبه بالوجوب ، ويعبر عن الأول بدوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، وعن الثاني بدورانه بين الوجوب وغير الحرمة ، وعن الثالث بدورانه بين الوجوب والحرمة ، وعلى كل من الأقسام الثلاثة تارة يكون متعلق التكليف الواقعة الكلية ويكون منشأ شكها عدم النص أو إجماله أو تعارضه ، وأخرى الواقعة الجزئية مع كون منشأ شكها اشتباه الأمور الخارجية ، فكل من الأقسام الثلاثة ينقسم إلى أقسام أربعة والمجموع اثنا عشر قسما ثمانية منها داخلة في مسائل البراءة وأربعة في مسائل التخيير كما سيجيء.

٤٩

أصالة التخيير

هي عبارة عن حكم العقل بتخيير المكلف بين فعل شيء وتركه أو تخييره بين فعلين مع عدم إمكان الاحتياط ، فهو حكم عقلي كلي له موضوع ومحمول فموضوعه الأمران لا رجحان لأحدهما على الآخر ولا إمكان للاحتياط ومحموله جواز اختيار أيهما شاء ويتحقق موضوعه في موردين :

أحدهما : العمل الواحد ، كما إذا علمنا بجنس التكليف المشترك بين الوجوب والتحريم أعني أصل الإلزام المتعلق بعمل المكلف وشككنا في تعلقه بإيجاد ذلك العمل أو بتركه ، ويعبر عنه تارة بدوران الأمر بين الوجوب والحرمة وأخرى بدورانه بين المحذورين ، فإذا علمنا أن صلاة الجمعة مثلا إما واجبة وإما محرمة ولا ترجيح لأحدهما على الآخر حكم العقل بالتخيير بين فعلها وتركها.

ثانيهما : العمل المتعدد كما إذا كان هنا فعلان وعلمنا بوجوب أحدهما وحرمة الآخر ولكن لم نعلم أن هذا واجب وذاك حرام أو أن ذاك واجب وهذا حرام حكم العقل أيضا بالتخيير بين فعل أحدهما وترك الآخر ولا يجوز فعلهما معا ولا تركهما معا لأن في الأول يحصل العلم بمخالفة قطعية للحرام وفي الثاني بمخالفة قطعية للواجب وكلاهما ممنوعان.

٥٠

وبعبارة أخرى لا يخلو حال المكلف من أنه إما أن يفعلهما معا أو يتركهما معا أو يفعل أحدهما ويترك الآخر ، ففي كل من الأولين يحصل العلم بالمخالفة القطعية والموافقة القطعية وعلى الثالث لا علم في البين بل احتمال الموافقتين واحتمال المخالفتين والعقل يحكم باختياره.

ثم إن مسألة أصالة التخيير أيضا تنقسم إلى مسائل أربع فإن الشك إما أن يكون من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما أو إجماله أو تعارضه أو اشتباه الأمور الخارجية ، فأمثلة الشبهة الحكمية للمورد الأول من التخيير ما إذا قام الإجماع على أن صلاة الجمعة في يومها لا تخلو من حكم إلزامي ، وشك في أن ذلك الحكم هو الوجوب أو الحرمة لعدم الدليل على التعيين أو أنه «عليه‌السلام» قال : «صل الجمعة في يومها» ولم يعلم أنه استعمل الأمر في الإيجاب أو التهديد وهذا إجمال النص أو أنه ورد في رواية صل الجمعة وفي أخرى لا تصلها وهذا تعارض النصين ، ومثال الشبهة الموضوعية ما لو علم بأنه نذر السفر أو أمره والده بذلك فشك في أن النذر أو أمر الوالد كان بفعله أو بتركه.

وأمثلة الشبهة الحكمية للمورد الثاني من التخيير الظهر والجمعة بناء على القول بأنه لو كانت إحداهما واجبة كانت الأخرى محرمة ذاتا ولا دليل على تعيين الواجب والحرام ، ومثل ما لو قال صل الصلاة الوسطى ولا تصل الأخرى وشك في أن الوسطى هل هي الجمعة والأخرى الظهر أو العكس وهذا إجمال النص ، ومثل ما لو ورد في خبر صل الجمعة ولا تصل الظهر وفي آخر صل الظهر ولا تصل الجمعة وهذا تعارض النصين ومثال الشبهة الموضوعية كما إذا كان هنا فعلان كالسفر وإطعام زيد وعلم بأن والده أمر بأحدهما ونهى عن الآخر ونسي ما عينه الوالد.

تنبيهان :

الأول : في مسألتنا هذه أقوال :

أولها : حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك كما ذكرنا والدليل عليه قبح الترجيح من غير مرجح وأما من حيث الشرع فالمورد خال عن الحكم الظاهري.

ثانيها : الحكم بالبراءة في كل من الطرفين عقلا ونقلا ، فإذا شككنا في وجوب

٥١

دفن المنافق وحرمته كان كل من الوجوب والحرمة مجهولا يجري فيه أصالة البراءة ، ولا يستلزم إجراء البراءة هنا مخالفة عملية إذا الفرض أنها غير ممكنة هنا.

ثالثها : وجوب الأخذ بأحدهما معينا والبناء القلبي عليه والعمل به ، كما ادعي أنه يجب الأخذ بالحرمة بالخصوص وترك الوجوب لأن دفع الضرر عند العقلاء أرجح من جلب المنفعة.

رابعها : وجوب الأخذ بأحدهما تخييرا بأن يبني قلبا على أنه واجب فيأتي به أو حرام فيتركه.

خامسها : التخيير عقلا كسابقه مع الحكم على كل واحد من الطرفين بالإباحة شرعا وهذا هو مختار صاحب الكفاية وببالي أنه يظهر من كلمات الشيخ رحمه‌الله أيضا.

الثاني : دوران الأمر بين الوجوب والحرمة يتصور على أقسام أربعة :

أولها : دورانه بين الوجوب والحرمة التوصليين بأن نعلم أنه لو كان واجبا فوجوبه توصلي لا يحتاج إلى نية التقرب ولو كان حراما فحرمته كذلك.

ثانيها : دورانه بين الوجوب والحرمة التعبديين بأن نعلم أنه لو كان واجبا فامتثاله لا يحصل إلا بقصد القربة ولو كان حراما فتركه قربي أيضا كتروك الصائم والمحرم مثلا.

ثالثها : أن يعلم بأن أحدهما المعين تعبدي والآخر توصلي كأن يعلم بأن صلاة الجمعة لو كانت واجبة فاللازم إتيانها قربيا ولو كانت محرمة فالمطلوب مجرّد الترك ولو بلا نية.

رابعها : أن يعلم بأن أحدهما غير المعين تعبدي والآخر كذلك توصلي ، ولا يخفى عليك أن الأقوال المذكورة في التنبيه السابق إنما تجري في الصورة الأولى والأخيرة من هذه الصور ، وأما الوسطان فلا مناص فيهما عن اختيار القول الثالث أو الرابع لاستلزام غيرهما المخالفة العملية القطعية ، مثلا إذا حكمنا بإباحة صلاة الجمعة في المثالين ولكن أتينا بها اقتراحا وبلا نية حصل لنا العلم بمخالفة حكم الله واقعا فإنها لو كانت واجبة لم نكن ممتثلين إذ إتيانها بلا نية كتركها ولو كانت محرمة لم يتحقق منا الترك فضلا عن كون الترك بقصد القربة.

٥٢

أصالة الصحة في عمل الغير

هي الحكم بصحة العمل الصادر عن الغير وترتيب آثارها عليه عند الشك في صحته وفساده ، فللقاعدة موضوع ومحمول ، موضوعها العمل الصادر عن الغير المشكوك في صحته وفساده ، ومحمولها الحكم بصحته وترتيب آثارها عليه ، عبادة كان المشكوك أو معاملة ، عقدا كان أو إيقاعا ، وهذه نظير قاعدة الفراغ إلا أن مجراها عمل الغير ومجرى تلك القاعدة عمل نفس الشاك.

فإذا رأينا أحدا غسل ميتا أو صلى عليه فشككنا في صحة عمله جاز ترتيب آثار الصحة والحكم بسقوط الواجب عن ذمتنا.

وإذا رأينا عادلا يصلي الفريضة جاز إجراء أصالة الصحة في صلاته والاقتداء به.

وإذا وقع من أحد بيع أو شراء أو ذبح حيوان أو غسل ثوب أو نكاح امرأة أو طلاقها أو إتيان عمل استيجاري ، حكمنا بالصحة في الكل ورتبنا عليها آثارها.

تنبيهات :

الأول : أنّ الدليل على القاعدة أمور :

٥٣

أولها : الإجماع القولي المستفاد من تتبع كلمات الأعلام في مواطن كثيرة من الفقه ، كتقديمهم قول مدعي الصحة على مدعي الفساد ونحوه.

ثانيها : السيرة العملية من المسلمين لو لا العقلاء على حمل الأعمال على الصحيح وترتيب آثار الصحة في العبادات والمعاملات.

ثالثها : عموم التعليل الوارد في موارد قاعدة اليد ، فإنه «عليه‌السلام» قال : «ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» فمعنى التعليل أن كل ما يلزم من عدمه وترك العمل به اختلال السوق فهو لازم العمل المحكوم بترتيب الأثر عليه ، وادعي فيما نحن فيه أنه لو لا الحمل على الصحة لاختل السوق وبطل الحقوق.

الثاني : مورد جريان القاعدة ما إذا كان الشك في الصحة موضوعيا ناشئا من جهة اشتباه الأمور الخارجية ، لا حكميا ناشئا من ناحية الدليل ، فإذا كان اعتقاد الإمام والمأموم وجوب السورة في الصلاة ، فشك المأموم أن الإمام تركها عمدا أم لا حمل فعله على الصحة.

وإذا كانت شرطية العربية في النكاح محرزة عند الفاعل والحامل فشك الحامل في أن العاقد أخل بها عمدا أو نسيانا أم لا حمل أيضا على الصحة.

وأما إذا علم الشخص بأن الغير اشترى شيئا بالمعاطاة وشك في صحة المعاطاة شرعا فليس ذلك موردا لجريان هذا الأصل ، وإن أمكن الحكم بالصحة تمسكا بعموم الأدلة وإطلاقها إلا أن هذه قاعدة أخرى وأصل لفظي يجريها الشخص في عمل نفسه وغيره لدى الشك في شمول العموم والإطلاق وأصالة الصحة المبحوث عنها أصل عملي.

الثالث : مورد القاعدة كما ذكرنا هو الشك في الحكم الوضعي وهي الصحة والفساد ، فالموضوع هو مشكوك الصحة والمحمول ترتيب آثار الصحة.

وأما إذا شك في حلية فعل صادر عن الغير وحرمته فهنا أصل آخر يسمونه بأصالة الصحة التكليفية وإن شئت فسمها بأصالة الحلية في فعل الغير ، وبينه وبين أصالة الصحة تباين ذاتا وعموم من وجه تحققا.

فإذا شككنا في أن كلام المتكلم أو أكله أو شربه وقع بنحو الحرام أو الجائز

٥٤

جرى حينئذ أصالة الإباحة دون أصالة الصحة ، وإذا علمنا بوقوع المعاملة منه وقت النداء إلى صلاة الجمعة وشككنا في صحتها من جهة اختلال شرائطها جرى أصالة الصحة دون أصالة الإباحة للعلم بحرمتها التكليفية ، وإذا شككنا في كون البيع الصادر منه ربويا أو غير ربوي جرى الأصلان.

ثم إن الدليل على قاعدة أصالة الحلية أخبار كثيرة تدل على لزوم حمل فعل المسلم على الحسن دون القبيح ففي الكافي في تفسير قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال «عليه‌السلام» : «لا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو».

وفيه أيضا عن علي «عليه‌السلام» قال : «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه ، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير سبيلا».

وما ورد مستفيضا أن : «من اتهم أخاه انماث الإيمان في قلبه ، أو فلا حرمة بينهما ، أو أنه ملعون» وغيرها من الروايات.

٥٥

الأصل

هو في الاصطلاح عبارة عن الحكم المجعول للشاك ليس فيه ناظرية وجهة كشف.

بيانه أن المجعول للجاهل بالواقع لو كان فيه جهة كشف بالذات وكان الجعل بتتميم كشفه وإعطاء الطريقية له فهو يسمى أمارة ودليلا ، ولو لم يكن كذلك بل فرض المشكوك موضوعا من الموضوعات ورتب عليه حكم من الأحكام سمي ذلك أصلا ، فالأصل كالأمارة حكم ظاهري مجعول في موضوع الجهل بالواقع وينقسم بتقسيمات :

الأول : تقسيمه إلى الأصل العملي والأصل اللفظي

أما العملي : فهو الحكم الظاهري المحتاج إليه في مقام العمل من دون ارتباط له بمقام الألفاظ ، فكل حكم ظاهري كان مجراه باب الألفاظ فهو أصل لفظي ، وكل حكم ظاهري كان مجراه عمل المكلف وتعيين وظيفة له بالنسبة إلى عمله فهو أصل عملي ، كأصالة البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب والطهارة والصحة والفساد وغيرها ، فراجع عنوان مجاري الأصول وعناوين نفس تلك الأصول.

وأما الأصل اللفظي : فهو الحكم الظاهري الذي يعمل به في باب الألفاظ ويسمى أصلا لفظيا عقلائيا ، أما كونه أصلا فلكونه مجعولا في حق الشاك ، وأما كونه

٥٦

لفظيا فلكون مجراه باب الألفاظ ، وأما كونه عقلائيا فلكون مدركه بناء العقلاء وعملهم وإن كان الشارع قد أمضاه أيضا بالعمل على طبق طريقتهم وهو كثير يرجع جهلها إلى مقام وضع اللفظ واستعماله في معناه وإرادة معناه منه ، كأصالة عدم الوضع وأصالة عدم الاشتراك وأصالة عدم النقل وأصالة عدم الإضمار وأصالة الظهور وأصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الإطلاق وغيرها.

بيان ذلك : أن العقلاء إذا شكوا في أن هذا اللفظ المعين مثلا موضوع أم لا؟ بنوا على عدم الوضع ، وإذا علموا بوضعه لمعنى فشكوا في وضعه لمعنى آخر أم لا؟ بنوا على العدم أيضا ويعبر عنه بأصالة عدم الاشتراك ، وإذا شكوا في أنه أضمر في الكلام شيء من المضاف والمتعلق ونحوهما بنوا على العدم ويعبر عنه بأصالة عدم الإضمار ، وإذا شكوا في أنه أريد ما كان اللفظ ظاهرا فيه ولو بالقرينة أم لا؟ بنوا على إرادته ويعبر عنه بأصالة الظهور ، وإذا شكوا في أنه أريد المعنى الحقيقي أم أريد غيره بنوا على إرادة المعنى الحقيقي ويعبر عنه بأصالة الحقيقة ، وإذا شكوا في ألفاظ العموم هل أريد منها الكل أو البعض بنوا على إرادة العموم ويعبر عنه بأصالة العموم ، وإذا شكوا في الألفاظ الموضوعة للطبائع الكلية مثلا أنه هل أريد منها مطلق الطبيعة السارية في الأفراد ولو بنحو البدل أو أريد الطبيعة المحدودة المقيدة؟ بنوا على إرادة نفس الطبيعة ويعبر عنه بأصالة الإطلاق وهكذا.

تنبيهان :

الأول : أن هنا أصلين آخرين لا بد من التعرض لهما

أحدهما : أصالة التطابق وتوضيح معناها أنه إن قلنا بأن استعمال العام والمطلق مع إرادة الخاص والمقيد مجاز فالأصل الجاري فيهما هو أصالتا العموم والإطلاق وهما من مصاديق أصالة الحقيقة غير أن مورد هذين الأصلين الشك في مجازية العام والمطلق ومورد أصالة الحقيقة الشك في مجازية كل لفظ واستعماله في غير ما وضع له ، وإن قلنا بعدم المجازية كما هو مذهب عدة من المحققين

٥٧

لا يستعمله مطلقا إلا في العموم ولا يريد منه إلا تفهيم العموم للمخاطب ليرتب عليه حكما عاما ويعطي قاعدة كلية يعمل بها المخاطب.

ثم إن السامع تارة يعلم بكون مراده الجدي موافقا لظاهر كلامه فيكون الحكم المرتب على جميع الأفراد حكما فعليا حقيقيا ويطابق الإنشاء الظاهري الإرادة الجدية فيقال حينئذ إن الإرادة الاستعمالية قد طابقت الإرادة الجدية.

وأخرى : يعلم بكون المراد مخالفا لظاهر الكلام فلم يرد بنحو الجد شمول الحكم لبعض الأفراد مع شمول العام له استعمالا وترتب الحكم عليه إنشاء فيكون الحكم المرتب عليه حكما إنشائيا ويقال حينئذ إن الإرادة الاستعمالية قد خالفت الإرادة الجدية.

وثالثة : يحصل التردد في بعض الأفراد ويشك في أن المراد الجدي موافق للاستعمال أم لا؟ فيبني العقلاء حينئذ على كون المراد الجدي مطابقا لظاهر الاستعمال ، ويعبر أهل الفن عن هذا البناء تارة بأصالة التطابق بين الإرادة الجدية والاستعمالية ، وأخرى بأصالة العموم أو الإطلاق ، فظهر لك أن مجرى أصالة العموم والإطلاق على قول المشهور الشك في الاستعمال وعلى مبنى بعض المحققين الشك في الإرادة مع العلم بالاستعمال فراجع بحث الإرادة الجدية والاستعمالية.

ثانيهما : أصالة عدم الادعاء وبيانها أنه قد يدعى في بعض المجازات عدم استعمال اللفظ في غير معناه بل فيه مع دعوى الاتحاد بينه وبين المعنى المجازي فإذا قال القائل جاءني أسد مريدا به الرجل الشجاع فمعناه جاءني الحيوان المعهود وهو هذا الرجل فالشك في المجازية حينئذ يرجع إلى الشك في أنه هل أراد المعنى المجازي بدعوى الاتحاد أم لا؟ فيبني العقلاء حينئذ على عدم تحقق الادعاء ويسمى هذا بأصالة عدم الادعاء.

الثاني : أنه هل يبني العقلاء على إرادة الحقيقة أو العموم أو غيرهما ابتداء من غير توسيط شيء آخر أو هم يبنون ابتداء على عدم وجود قرينة مانعة عن إرادة الحقيقة فيبنون بواسطته على تلك الأمور فيكون مرجع تلك الأصول حقيقة إلى أصالة عدم القرينة ، قولان مشهوران بين الأصحاب ، وهذا الخلاف هو المراد من قولهم إن حجية الظواهر هل هي من جهة أصالة الحقيقة أو من جهة أصالة عدم القرينة؟ وتظهر الثمرة

٥٨

بينهما فيما إذا شك في إرادة الظاهر مع العلم بعدم وجود القرينة فإنه بناء على الأول يكون الظاهر حجة وبناء على الثاني لا معنى لأصالة عدم القرينة مع العلم بعدمها.

الثاني : تقسيمه إلى الأصل الشرعي والأصل العقلي

أما الأول : فكل حكم ظاهري كان مجعولا من ناحية الشارع فهو أصل شرعي ، كالاستصحاب الشرعي والبراءة الشرعية وأصالة الطهارة والصحة ونحوها.

وأما الثاني : فكل ما كان بحكم العقل وبناء العقلاء فهو أصل عقلي ، كأصالة البراءة العقلية وأصالة التخيير والاحتياط وجميع الأصول الجارية في باب الألفاظ كما ذكرنا.

الثالث : تقسيمه إلى الأصل المحرز والأصل غير محرز

قد عرفت أن معنى الأصل هو الحكم المجعول للجاهل بالواقع الذي ليس له إليه طريق ، وحينئذ فإن لوحظ في جعل تلك الأحكام حال الواقع وكان لسان الدليل جعل الأحكام المماثلة له سمي ذلك أصلا محرزا ، وهذا كالاستصحاب وأصالة الصحة وقاعدة الفراغ والتجاوز ، ففي استصحاب حياة زيد مثلا يحكم بترتيب آثار الحياة ويكون الحكم المذكور مماثلا للواقع فكأنه محرز له ولذا سمي بالأصل المحرز.

وإن لم يلاحظ ذلك بل كان المجعول حكما ظاهريا مستقلا بلا لحاظ كون المجعول مما يماثل الواقع سمي أصلا غير محرز ، كالبراءة والتخيير ونحوهما فإن حكم الشارع بالإباحة في مشكوك الحرمة ليس بلسان ترتيب حكم الواقع بل هو حكم ظاهري مستقل.

الرابع : تقسيمه إلى الأصل المثبت وغير المثبت

توضيحه : أن كل موضوع له أثر شرعي لا بد في ترتيب أثره عليه من إحراز ذلك الموضوع بالقطع أو بأمارة معتبرة أو بأصل عملي ، فإن أحرز بالقطع فلا إشكال ولا كلام في لزوم ترتيب آثار نفس ذلك الموضوع وآثار جوانبه.

٥٩

بيانه أن الشيء يتصور له جوانب أربعة : اللازم والملزوم والملازم والمقارن ، فحياة زيد ملزوم وتنفسه وتغذيه وتلبسه ونبات لحيته لوازم عقلية وعادية والتنفس بالنسبة إلى نبات اللحية ملازم ، وفيما لو حصل العلم الإجمالي بموت زيد وعمرو فموت كل منهما بالقياس إلى حياة الآخر مقارن ، ثم إنه لا إشكال في أن القطع بالشيء مستلزم للقطع بتحقق جميع لوازمه ، فحينئذ إذا كانت تلك الجوانب لها آثار شرعية فلا إشكال في لزوم ترتيب آثارها عند القطع بأصل الشيء لأن الجوانب أيضا تكون محرزة بالوجدان كنفس الشيء.

وأما لو لم يحصل القطع وكان حياة زيد مثلا مشكوكة فمن الواضح أن الجوانب أيضا تكون مشكوكة بالوجدان ، إذ كما أن القطع بالملزوم مستلزم للقطع باللازم فكذلك الشك فيه مستلزم للشك فيه ، فإذا فرضنا قيام أمارة معتبرة على الشيء كإخبار البينة عن حياة زيد فلا إشكال في لزوم ترتيب آثار نفس الحياة من حرمة التصرف في ماله وحرمة تزويج زوجته ووجوب الإنفاق عليه فإنه معنى تصديق البينة في إخبارها ، وأما الآثار الشرعية المترتبة على الجوانب كما إذا كان ناذرا للتصدق بدرهم لو كان زيد متنفسا وبدينار لو كان متلبسا أو إذا نبت له لحية فالظاهر أيضا وجوب ترتيب تلك الآثار بمجرد قيام البينة على حياة زيد إذ لا إشكال في أن إخبار العادل بالحياة كما أنه حاك عن نفس الحياة بالمطابقة حاك عن الجوانب بالملازمة والشارع كما أمر بالعمل على ما حكي عنه بالمطابقة أمر بالعمل على ما حكي عنه بالملازمة فيجب ترتيب آثار الجميع وهذا معنى ما يقال إن مثبتات الأمارة حجة ، ومرادهم أن الأمارة تثبت لوازم ما أدى إليه أيضا وجوانبه فيجب ترتيب آثارها.

هذا حال الأمارات وأما الأصول العملية الجارية في الموضوع عند عدم الأمارة كاستصحاب حياة زيد مثلا فهل يثبت بها نفس الحياة ويجب ترتيب آثارها فقط أو يثبت بها آثار المستصحب وآثار جوانبه كالأمارة وجهان بل قولان :

أشهرهما أنه لا يثبت به إلا آثار نفسها وأما آثار الجوانب كما عرفت فلا تكاد تترتب بإجراء الاستصحاب في نفس الحياة ، فلو أريد إثبات تلك الآثار فلا بد من إجراء استصحاب آخر بالنسبة إلى كل من الجوانب لو كان لها حالة سابقة وجودية ،

٦٠