اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

الإجزاء

هو في اللغة بمعنى الكفاية ، وفي الاصطلاح عبارة عن تأثير إتيان متعلق الأمر في حصول غرض الآمر لينتج سقوط الأمر ، وحيث إنهم قسموا الأمر إلى واقعي أولي وواقعي ثانوي كالأمر الاضطراري وإلى ظاهري ، وقع البحث منهم في مواضع ثلاثة :

أولها : في إجزاء إتيان متعلق كل أمر بالنسبة إلى نفس ذلك الأمر فهل يجزي إتيان المأمور به بالأمر الواقعي كصلاة الصبح مثلا في سقوط ذلك الأمر وإتيان المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري كالصلاة بالتيمم أو مع استصحاب الطهارة في سقوط أمرهما أم لا ، والمخالف في هذا المقام نادر والنزاع فيه لا يليق بحال العلماء ، فإنه لو أمر المولى بفعل وأتى المكلف به بتمام ما له دخل في غرض المولى ومتعلق أمره فلا معنى لعدم سقوط غرضه وأمره.

ثانيها : في إجزاء إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري ونحوه في سقوط الأمر الواقعي بأن يقال إنه لو أتى الفاقد للماء صلاة بتيمم ثم وجد الماء في الوقت أو خارجه فهل تجزي تلك الصلاة الاضطرارية عن الأمر الواقعي فيسقط الإعادة والقضاء أم لا يجزي فيجبان.

ثالثها : في إجزاء إتيان المأمور به بالأمر الظاهري في سقوط الأمر الواقعي ، فإذا

٢١

صلى بإجراء أصالة الطهارة في ثوبه أو استصحابها مثلا ثم انكشف الخلاف في الوقت أو خارجه فهل تجزي تلك الصلاة الظاهرية عن الواقع فلا يجب الإعادة والقضاء أم لا فيجبان.

تنبيه :

استدلوا على إجزاء الأوامر الاضطرارية بالنسبة إلى الواقعية بإطلاق مثل قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) إلخ وقوله «عليه‌السلام» : «التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين» ونحوهما ، فإن ظاهرها كون العمل الاضطراري في هذه الحالة مشتملا على جميع مصالح الاختياري أو معظمها في حال الاختيار ، ولازمه الإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء.

ولو لم يكن إطلاق لذلك الدليل فمقتضى أصالة البراءة حينئذ عدم الوجوب فإنه لشك في تجدد التكليف بعد رفع الاضطرار والأصل عدمه.

واستدلوا أيضا على إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي بأن مريد الصلاة مثلا إذا شك في الطهارة فأجرى قاعدة الطهارة أو استصحابها كان الأصلان مثبتين للطهارة حاكمين على إطلاق ما دل على أنه لا صلاة إلا بطهور ولازم ذلك إحراز الشرط وإجزاء العمل وهنا تفاصيل لا يناسب هذا المختصر ذكرها.

٢٢

الإجماع

يطلق الإجماع تارة ويراد به اتفاق جميع علماء الإسلام أو التشيع حتى الإمام «عليه‌السلام» ولو في عصر واحد على أمر من الأمور الدينية.

ويطلق أخرى ويراد به اتفاق عدة من العلماء فيهم الإمام «عليه‌السلام» ولو كانوا فئة قليلة.

ويطلق ثالثة ويراد به اتفاق الجميع غير الإمام «عليه‌السلام» ولو في عصر واحد.

ويطلق رابعة على قول الإمام «عليه‌السلام» وحده.

أما القسم الأول والثاني : فيسمى كل منهما إجماعا دخوليا لدخول الإمام في المجمعين ، فمتى حصل لأحد ذلك النحو من الاتفاق وعلم به كان حجة على إثبات ذلك الأمر المجمع عليه لاشتماله على ما هو من أعلى الحجج أعني قول المعصوم «عليه‌السلام» ولكن الكلام في حصول العلم والاطلاع على ذلك ، نعم قد يتصور القسم الثاني بأنه لو ورد أحد من المؤمنين في مجلس أو مسجد فرأى عدة جالسة فسألهم عن حكم السورة في الصلاة مثلا فأفتوا جميعا بالوجوب ثم علم بعد ذلك أن الإمام «عليه‌السلام» كان داخلا فيهم وإن لم تحصل له المعرفة بشخصه فهذا الاتفاق إجماع دخولي فممكن حصوله.

٢٣

وأما القسم الثالث : ففي حجيته بالنسبة إلى من حصله أو من نقل إليه اختلاف بين الأعلام فقال عدة منهم بالحجية لأجل الملازمة بين اتفاقهم على حكم وقول الإمام «عليه‌السلام» بقاعدة اللطف ، بتقريب أن المجمعين لو أخطئوا في الحكم جميعا لوجب على الإمام «عليه‌السلام» عقلا من جهة وجوب اللطف عليه أن يردعهم عن خطائهم بنحو من الأنحاء ، فحيث لم يردعهم فهم مع الحق والحق معهم ، ويسمى هذا إجماعا لطفيا والقائل به الشيخ وعدة آخرون.

وقال عدة أخرى بالحجية للملازمة بينهما بقاعدة التقرير بمعنى أنّهم لو أخطئوا جميعا لوجب على الإمام «عليه‌السلام» شرعا من باب إرشاد الجاهل تنبيههم على خطائهم فحيث لم ينبههم عليه فهم على الحق ، ويسمى هذا إجماعا تقريريا.

وذهب عدة ثالثة إلى إنكار الملازمة بين قوله «عليه‌السلام» وقولهم ، وقالوا إنه إنما يكون حجة من جهة أنه يحصل غالبا لمحصل هذا الاتفاق قطع أو اطمينان بتوافق رأيهم مع رأي الإمام «عليه‌السلام» ، فإنه يبعد كل البعد أن يتلبس مثلا جميع جنود سلطان بلباس مخصوص مع عدم اطلاع سلطانهم عليه وأمرهم به ويسمى هذا إجماعا حدسيا.

وذهب عدة رابعة إلى عدم الملازمة وعدم حصول القطع بقول الإمام «عليه‌السلام» إلا أنهم قالوا بأن اتفاقهم كاشف عن وجود دليل معتبر في البين فهو حجة من هذه الجهة ويسمى هذا إجماعا كشفيا.

وأما القسم الرابع : فقد يتفق فيما إذا وصل أوحدي من الناس في زمان الغيبة إلى حضرة الإمام «عليه‌السلام» وتشرف بخدمته وأخذ منه «عليه‌السلام» حكما من الأحكام ولا يريد إظهار الأمر على النّاس ، فيقول هذا الحكم مما قام عليه الإجماع مريدا به نفس الإمام «عليه‌السلام» فإنه واحد كالكل ولأجله خلق البعض والكل فبهم فتح الله وبهم يختم وهذا يسمى إجماعا تشرفيا.

تنبيهان :

الأول : قد عرفت أن الإجماع على أقسام ستة ، دخولي ولطفي وتقريري وحدسي

٢٤

وكشفي وتشرفي ،ومتى حصل لأحد قسم من تلك الأقسام ونقله لغيره فهو بالنسبة إلى من حصّله وتحقق في حقه يسمى إجماعا محصلا ، وبالنسبة إلى من نقل إليه إجماعا منقولا.

الثاني : وجه حجية الإجماع لمحصله وللمنقول إليه هو قول الإمام «عليه‌السلام» فالدخولي والتشرفي لا إشكال في حجيتهما للسامع إذ الناقل ينقل قول الإمام «عليه‌السلام» بلا واسطة وإن ضم إليه أقوال آخرين فهو خبر عالي السند.

وأما أربعة الآخر فحجيتها في حق المنقول إليه منوطة باعتقاده اللطف والتقرير والكشف أو بحدسه قول الإمام «عليه‌السلام» مثل الناقل بواسطة نقله وإلا فلا حجية فيها.

٢٥

أحوال اللفظ وتعارضها

اعلم أنه يعرض للفظ من ناحية الوضع والاستعمال حالات مختلفة وضعوا لكل منها اسما خاصا وعنوانا معينا.

فبملاحظة حاله قبل الوضع مهمل.

وحاله بعده موضوع.

وبلحاظ كون معناه جزئيا متشخصا علم شخص ، وكونه طبيعة كلية اسم جنس ، وبلحاظ وضعه لمعان مختلفة بأوضاع متعددة مشترك لفظي ، ولمعنى قابل للانطباق على كثيرين مشترك معنوي ، وبلحاظ وضع ألفاظ متعددة لمعنى واحد مترادف ، وبلحاظ نقله عن معنى إلى آخر منقول ، وبلحاظ استعماله في ما وضع له حقيقة واستعماله في غير ما وضع له مجاز وبملاحظة كون إسناده إلى ما هو له حقيقة في الإسناد ، وإلى غير ما هو له مجاز في الإسناد ، وبملاحظة حذف شيء وتقديره مجاز في الحذف إلى غير ذلك من الحالات.

ثم إن علم الوضع وكيفية الاستعمال وأنه وقع بنحو معين من تلك الأنحاء فلا كلام.

وإن جهل الأمر وتردد بين بعضها مع بعض إما من جهة الشك في كيفية الوضع

٢٦

كأن شك في لفظ أنه مشترك لفظي بين معنيين أو معان أو مشترك معنوي ، أو من جهة كيفية الاستعمال كأن شك في أنه مجاز في الكلمة أو في الإسناد.

فقد وضع الأصوليون لترجيح بعض الاحتمالات على بعض قواعد عقلية لا تسمن ولا تغني من جوع.

فحكموا مثلا بكون المجاز أرجح من الاشتراك اللفظي والمعنوي كالأمر المستعمل في الوجوب والندب ، فإذا دار أمره بين كونه حقيقة في الوجوب مجازا في الندب وبين كونه مشتركا لفظيا بينهما أو معنويا قدم الأول لعدم حصول إجمال فيه على الأول دون الأخيرين.

وحكموا أيضا بكون الاشتراك أرجح من النقل فالحكم بكون لفظ الصلاة مشتركا بين الدعاء والأركان أرجح من الحكم بكونه منقولا إلى الثاني ، لأن النقل يقتضي نسخ الوضع الأول والأصل عدمه.

وغير ذلك من الترجيحات والاستحسانات العقلية الباطلة في باب وضع الألفاظ.

والحق أنه كلما كان الشك راجعا إلى الوضع كانت الأصول العقلائية الجارية هناك محكمة وسيأتي ذلك تحت عنوان الوضع.

وكلما شك في الاستعمال يرجع فيه إلى القرائن الشخصية أو النوعية إن كانت وإلا فيحكم بالإجمال.

تنبيه :

أفردوا لبيان بعض حالات اللفظ في هذا العلم بابا مستقلا كالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والظهور والإجمال ونحوها فراجع مظانها.

٢٧

الإرادة

هذه الكلمة موضوعة لغة واصطلاحا لصفة خاصة من صفات النفس تتعلق بإيجاد فعل أو تركه ، وتكون علة تامة لتحقق ذلك في الخارج.

ولهذه الصفة مقدمات تحصل في النفس قبل حصولها ، كما أن لها معلول ومسبب يوجد في الخارج بعد وجودها :

أما المقدمات :

فمنها : تصور فعل شيء أو تركه.

ومنها : الميل إليه المسمى بهيجان الرغبة.

ومنها : التصديق بحسنه وعدم البأس في صدوره بالتفكر في مصلحة الصدور ودفع مفسدته.

ومنها : الجزم به والعزم عليه وهي الحالة الشبيهة بالإرادة المتصلة بها ، وبعد كمال تلك المقدمات يتكون في النفس شوق مؤكد يقتضي تحريك المريد نحو المراد أو مقدمته ويكون موجبا لحركة العضلات إليه ، ويسمى ذلك الشوق بالإرادة كما قال الحكيم السبزواري : «عقيب داع دركنا الملائما شوقا مؤكدا إرادة سما».

وأما معلولها فقد علم أنه حركة عضلات المريد نحو المراد أو نحو مقدماته فيما كان فعليا.

ثم إنها تقسّم بتقسيمات :

٢٨

الأول : تقسيمها إلى الإرادة الفعلية والإرادة الاستقبالية.

فالأولى : هي التي تتعلق بأمر حالي كما إذا أراد الإنسان تحريك يده أو أكله لشيء أو شربه بالفعل.

والثانية : هي التي تتعلق بأمر استقبالي ، كما إذا أراد الإنسان الصوم في الغد أو السفر بعد يوم أو شهر ، وهذا تقسيم لها بالعرض والمجاز وإلا فهو في الحقيقة تقسيم للمراد.

الثاني : تقسيمها إلى الإرادة الحقيقية والإرادة الإنشائية وهذا التقسيم مبني على تخيل كون لفظ الإرادة مترادفا مع الطلب وحسبان أن لمعناهما مصداقين ، مصداقا حقيقيا هي الصفة النفسانية المذكورة آنفا ، ومصداقا إنشائيا هو الطلب الإنشائي والإرادة الإنشائية وسيجيء الكلام فيه.

الثالث : تقسيمها إلى الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية.

فالأولى : إرادة الشخص صدور الفعل عنه بنفسه بلا تخلل إرادة غيره في صدوره ، كما في إرادة الله تعالى خلق العالم وإيجاد الأرض والسماء ، وكإرادتك أكلك وشربك وصلاتك وصيامك ، فيسمى هذا القسم بالإرادة التكوينية.

والثانية : إرادة الشخص صدور الفعل عن غيره بإرادته واختياره كما في إرادة الله تعالى صدور العبادات والواجبات من عباده باختيارهم وإرادتهم ، لا مجرد حصولها بأعضائهم وصدورها بأبدانهم بدون تخلل القصد منهم ، وكما في إرادتك صدور الفعل من ابنك وخادمك بلا إجبار منك وإلجاء ، وتسمى هذه بالإرادة التشريعية.

تنبيهان :

الأول : أن تخلف إرادة الله تعالى عن مراده في الإرادة التكوينية مستحيل عقلا ، للزوم عجزه عن إيجاد مراده ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وأما في التشريعية فليس التخلف بمستحيل بل هو واقع كثيرا ، فإن موارد عصيان العباد وتركهم طاعة ربهم من الإيمان والعقائد القلبية والواجبات البدنية ، من قبيل تخلف إرادة الله التشريعية عن

٢٩

مراده ولا بأس بذلك.

الثاني : هل الطلب والأمر لفظان موضوعان للمعنى الذي وضع له لفظ الإرادة

فالجميع ألفاظ مترادفة حاكية عن معنى واحد ، أو هما موضوعان لمعنى آخر هو البعث والتحريك نحو فعل أو ترك ، سواء كان بعثا خارجيا كجر المأمور قسرا نحو المأمور به ، أو بعثا اعتباريا منشئا باللفظ كقوله اضرب أو اشرب ، فهما في أنفسهما مترادفان ومعناهما يباين معنى الإرادة إذ البعث والتحريك الفعلي أو الإنشائي غير الصفة المتأصلة الحاصلة في النفس ، وجهان اختار أولهما المحقق الخراساني لكن الأظهر هو الثاني.

الرابع : تقسيمها إلى الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية.

فالأولى إرادة المتكلم استعمال اللفظ في المعنى ، والثانية إرادته المعنى المستعمل فيه اللفظ.

واعلم أنه ربما يعلم أن المتكلم استعمل اللفظ في معنى من المعاني ويشك في أنه هل أراد المعنى المستعمل فيه حقيقة أم رتب عليه الحكم في الكلام ظاهرا فقط ، فيقال حينئذ إن الإرادة الاستعمالية محققة موجودة والإرادة الجدية مشكوكة بمعنى أن استعمال اللفظ في المعنى ثابت وقصد المعنى مشكوك ، فالمراد من الإرادة الاستعمالية نفس استعمال اللفظ في معناه ، فإذا ورد أكرم العلماء أو أعتق الرقبة نحكم باستعمال كلمة العلماء في معناها الحقيقي أعني الاستغراق ، والرقبة في الطبيعة لا بشرط السارية في كل فرد.

ثم إذا شككنا في أنه هل أراد جميع الأفراد جدا أم لم يرد الفساق من العلماء والكافرة من الرقاب نقول إن الإرادة الجدية بالنسبة إلى العالم الفاسق والرقبة الكافرة مشكوكة.

ثم إن للعقلاء في هذه الموارد أصلا كليا يعملون به ، وهو بناؤهم على تحقق الإرادة الجدية في مورد الشك وتطابقها مع الاستعمالية ، ويسميه الأصوليون بأصالة التطابق بين الإرادتين وحيث إنه ينتزع من الإرادة الاستعمالية الحكم بمرتبته الإنشائية ومن الإرادة الجدية الحكم بمرتبة الفعلية والتنجز تكون نتيجة بنائهم على تحقق الإرادة

٣٠

الجدية ، البناء على فعلية الحكم والعمل عليه.

ثم إنه لو ظهر بعد ذلك وجود الإرادة بنحو القطع يعلم بكون الحكم بإكرام الفساق مثلا حكما فعليا واقعيا ، ولو ظهر عدمها كما لو فرض الظفر بمخصص ينكشف كون الحكم بوجوب إكرام الفساق حكما إنشائيا محضا.

ثم إن هذا كله لو قلنا بأن تخصيص العام وتقييد المطلق لا يخرجهما عن حقيقتهما ، بل التخصيص مثلا تصرف في الإرادة لا في الاستعمال ، وأما على مبنى المشهور فالتلازم بين الإرادتين ثابت ، فإذا ظهر تخصيص فرد فكما يحصل العلم بعدم تعلق الإرادة الجدية له يحصل العلم بعدم الاستعمال أيضا ، ولو شك في التخصيص شك في الإرادتين ، وأهل هذا المبنى أيضا يدعون أن هنا أصلا عقلائيا هو بناؤهم على استعماله في العموم وإرادته ، ويسمونه بأصالة العموم وهي من مصاديق أصالة الحقيقة كما سيجيء تحت عنوان الأصل.

٣١

الاستحسان

هو رجحان ينقدح في نفس الفقيه بالنسبة إلى حكم خاص لموضوع خاص بسبب كثرة ملاحظة أحكام الشرع في الموارد المناسبة لهذا الموضوع بلا ورود دليل عليه بالخصوص ، كرجحان حرمة التكلم مع المرأة الأجنبية أو حرمة تخيل صورتها في نظره بواسطة ملاحظة حال النظر واللمس والتقبيل ونحوها ، وصورة قياسه أن يقال حرمة التكلم والتخيل مثلا مما يترجح في النظر لمناسبتهما لموارد حكم الشرع وكلما ترجح في النظر لذلك فهو حكم الله فحرمة التكلم والتخيل حكم الله تعالى ، ثم إنه لا إشكال في بطلان الاستحسان عندنا كالقياس المستنبط علته.

٣٢

الاستصحاب

هو حكم المكلف ببقاء شيء وترتيبه آثار البقاء فيما كان متيقنا ثبوتا ومشكوكا بقاء ، فله موضوع ومحمول ، موضوعه المتيقن ثبوته والمشكوك بقاؤه ومحموله الحكم بالبقاء بترتيب آثار بقائه في حال الشك ، وعليه تكون حقيقة الاستصحاب هو فعل المكلف.

وعرفه في الكفاية بأنه حكم الشارع بلزوم إبقاء الشيء وترتيب آثار بقائه لدى الشك فيه فتكون حقيقته عنده هو حكم الشارع وتعريف الشيخ رحمه‌الله له بأنه إبقاء ما كان يرجع إلى أحد التعريفين السابقين.

وإطلاق الحجة عليه على التعريف الأول بمعنى كونه واجبا لازما وعلى الثاني بمعنى كونه ثابتا منكشفا بالأدلة.

ثم إن الدليل عليه عند عدة من الأصحاب أخبار مستفيضة.

منها : قوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض اليقين بالشك».

ومنها : قوله : «من كان على يقين فشك فليبن على يقينه». وعند عدة أخرى بناء العقلاء وعند طائفة حكم العقل بذلك. وعند آخرين الظن بالبقاء ولو نوعا مع حكمهم بحجية ذلك الظن.

٣٣

تنبيه :

اعلم أن للاستصحاب تقسيمات باعتبار نفس الشيء المستصحب وتقسيما باعتبار الدليل الدال على ثبوت المستصحب سابقا وتقسيمات أيضا باعتبار الشك الطاري في بقاء المستصحب أما تقسيماته بالاعتبار الأول فهي كثيرة :

منها : تقسيمه إلى الاستصحاب الوجودي والاستصحاب العدمي كاستصحاب وجوب الجمعة وحياة زيد واستصحاب عدم وجوب الظهر وعدم كرية الماء.

ومنها : تقسيمه إلى الاستصحاب الحكمي والاستصحاب الموضوعي ، والأول نظير استصحاب حلية العصير بعد غليانه والثاني كاستصحاب حياة زيد وكرية الماء.

ومنها : تقسيمه إلى استصحاب الحكم التكليفي والحكم الوضعي ، والأول كاستصحاب الوجوب والحرمة ، والثاني كاستصحاب الطهارة والنجاسة والملكية والزوجية.

ومنها : تقسيمه إلى الاستصحاب التعليقي والاستصحاب التنجيزي.

والأول : ما كان المستصحب فيه حكما تعليقيا كما إذا ورد يحرم العنب إذا غلى واستفدنا منه للعنب حكما تحريميا تعليقيا معلقا على الغليان فإذا بقي العنب مدة وصار زبيبا وشككنا في بقاء حرمته التعليقية وعدمه كان الاستصحاب الجاري في حرمته استصحابا تعليقيا لكون المستصحب ومورد جريانه تعليقيا.

والثاني : ما كان المستصحب فيه حكما تنجيزيا كاستصحاب حلية أكل العنب بعد صيرورته زبيبا وطهارته وملكيته لمالكه ونحوها.

ومنها : تقسيمه إلى استصحاب الجزئي والكلي ، وتقسيم الكلي إلى القسم الأول والقسم الثاني والقسم الثالث ، وتقسيم القسم الثالث أيضا إلى أقسام ثلاثة.

بيانه أن المستصحب تارة يكون أمرا جزئيا كحياة زيد وكرية ماء معين فيسمى ذلك باستصحاب الجزئي وأخرى يكون كليا وهو على أقسام ثلاثة.

الأول : أن يكون المستصحب كليا مع كون منشإ الشك في بقائه بقاء الفرد الذي تحقق في ضمنه ، فإذا علمنا بوجود زيد في الدار وتحقق كلي الإنسان في ضمنه ثم شككنا في بقاء الإنسان فيها لأجل الشك في بقاء زيد ، وفرضنا أن الشارع قال إذا كان زيد في الدار تصدق بدرهم وإذا كان الإنسان فيه تصدق بدينار ، كان إجراء

٣٤

الاستصحاب في بقاء زيد لترتيب أثره من استصحاب الجزئي وإجرائه في بقاء الإنسان لترتيب أثره من استصحاب الكلي بنحو القسم الأول.

الثاني : أن يكون المستصحب كليا أيضا مع كون منشإ الشك في بقائه تردد الخاص الذي تحقق الكلي في ضمنه بين فرد مقطوع البقاء وفرد مقطوع الارتفاع ، مثلا إذا حصل لنا العلم بدخول حيوان إلى الدار وشككنا في أنه بق أو فيل مع فرض أن البق لا يعيش أزيد من ثلاثة أيام ، ثم شككنا في اليوم الرابع والخامس مثلا في بقاء الحيوان في الدار وعدمه لأجل الشك في أنه هل كان متحققا في ضمن البق حتى لا يكون باقيا أو كان متحققا في ضمن الفيل حتى يكون باقيا ، فحينئذ إن أردنا إجراء الاستصحاب في خصوص البق فهو على فرض جريانه من استصحاب الجزئي وإن أردنا إجراءه في الحيوان الكلي وترتيب آثاره سمي ذلك باستصحاب الكلي بنحو القسم الثاني.

الثالث : أن يكون المستصحب كليا أيضا مع كون منشإ الشك وجود فرد آخر ، مقارن لوجود الفرد الزائل أو تحققه مقارنا لارتفاعه أو احتمال تبدل الفرد الأول بفرد آخر فهنا صور ثلاث يسمى جميعها باستصحاب الكلي بنحو القسم الثالث.

الصورة الأولى : أن يعلم بارتفاع الفرد الذي كان الكلي متحققا في ضمنه ويشك في بقاء الكلي لاحتمال وجود فرد آخر مع الفرد الزائل ، مثالها ما إذا رأينا زيدا أنه دخل الدار فحصل لنا العلم بوجود الإنسان فيها ثم رأيناه قد خرج عن الدار وذهب بسبيله ، فشككنا في وجود الإنسان فيها بالفعل من جهة احتمال كون عمرو فيها معه ، فاستصحاب الإنسان الكلي في هذا المثال يسمى باستصحاب الكلي بنحو القسم الأول من القسم الثالث.

الصورة الثانية : أن يعلم أيضا بارتفاع الفرد المعلوم ويشك في بقاء الكلي لأجل احتمال حدوث فرد مقارنا لارتفاع الأول ، كما إذا علمنا في المثال بأنه لم يكن أحد في الدار غير زيد إلا أنا شككنا أيضا في وجود الإنسان في الدار بعد خروجه لاحتمال دخول عمرو إلى الدار مقارنا لخروج زيد ، ويسمى هذا باستصحاب الكلي بنحو القسم الثاني من القسم الثالث.

٣٥

الصورة الثالثة : أن يشك في بقاء الكلي في مورد لأجل الشك في أن الفرد الذي كان الكلي متحققا في ضمنه هل تبدل بفرد آخر أو أنه انعدم من غير تبدل ، كما إذا رأينا الخمر في الإناء فعلمنا بوجود المائع فيه ثم حصل لنا العلم بعدم وجود الفرد الذي تحقق الكلي في ضمنه أعني الخمر إما لاتفاق إراقته أو تبدله بالخل فشككنا في بقاء الكلي أعني المائع في الإناء فإجراء الاستصحاب في بقاء المائع الكلي في الإناء يسمى باستصحاب الكلي بنحو القسم الثالث من القسم الثالث.

ومنها : تقسيمه إلى الاستصحاب المثبت وغير المثبت ، وسيأتي شرحهما تحت عنوان الأصل.

وأما تقسيمه بالاعتبار الثاني : أعني باعتبار الدليل فهو أن الدليل الدال على ثبوت المستصحب في السابق إما أن يكون دليلا شرعيا لفظيا كظاهر الكتاب والسنة أو يكون إجماعا قوليا أو عمليا أو يكون حكم العقل.

فالأول : مثل ما إذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره أو في طهارة الماء الذي شككنا في ملاقاته للنجس ، فدليل الثبوت في السابق فيها قوله الماء ينجس إذا تغير وقوله الماء كله طاهر.

والثاني : كما إذا قام الإجماع على نجاسة العصير العنبي ثم شككنا في بقائها بعد صيرورته دبسا قبل ذهاب الثلثين.

والثالث : كما إذا حكم العقل بوجوب رد الوديعة في حال كون الودعي موسرا متمولا وفرضنا حكم الشارع أيضا على طبقه بقاعدة الملازمة ثم عرض للودعي الفقر الموجب لحصول الشك في وجوب ردها فنجري استصحاب الوجوب الشرعي المستنبط من الحكم العقلي.

وأما تقسيماته بالاعتبار الثالث : أعني الشك المأخوذ في موضوعه ، فهي أيضا كثيرة.

أولها : تقسيمه إلى الاستصحاب في الشبهة الموضوعية والاستصحاب في الشبهة الحكمية.

فالموضوعية ما كان الشك في بقاء الشيء لأجل اشتباه الأمور الخارجية كما إذا

٣٦

شك في بقاء طهارة ثوب من جهة الشك في ملاقاته للنجس وعدمها أو في بقاء نجاسة الماء من جهة ورود الكر عليه وعدمه.

والحكمية ما إذا كان الشك في بقاء الحكم لأجل عدم النص على البقاء أو إجماله أو تعارضه مع مثله ، كما إذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره لأجل عدم الدليل على البقاء ، وفي بقاء وجوب الصوم بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقية لأجل إجمال قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل وتردد الليل بين أن يكون أوله الاستتار أو ذهاب الحمرة ، وشككنا في بقاء وجوب الجمعة وعدمه في زمان الغيبة لأجل تعارض النصوص ، وتسمى هذه الأقسام الثلاثة بالشبهة الحكمية.

ثانيها : تقسيمه إلى الاستصحاب في صورة الظن بالبقاء والظن بالارتفاع والشك المتساوي في البقاء والارتفاع ، فإذا علمنا بحياة زيد يوم الخميس وحصل لنا التردد يوم الجمعة فقد يكون بقاؤها راجحا مظنونا وقد يكون مرجوحا مظنون الارتفاع وقد يكون مشكوكا بلا رجحان في البين ، فبناء على حجية الاستصحاب من جهة الأخبار جاز إجراؤه في الصور الثلاث ، وبناء على حجيته من جهة الظن الشخصي جاز في الصورة الأولى فقط ، وبناء على الظن النوعي أو بناء العقلاء فجريانه في الصورة الأولى والأخيرة بلا إشكال وفي الصورة الثانية مورد كلام وإشكال.

ثالثها : تقسيمه إلى استصحاب في الشك في المقتضي والشك في الرافع وتقسيم الشك في الرافع إلى أقسام ، أما الشك في المقتضي فهو ما إذا كان الشك في البقاء لأجل الشك في مقدار استعداد الشيء للبقاء وكمية اقتضائه له ، كما إذا علمنا بثبوت خيار الغبن للمغبون وشككنا في أنه فوري وزمانه قصير أو هو باق وزمانه طويل.

وأما الشك في الرافع فهو عبارة عن الشك في البقاء بعد إحراز استعداد الشيء للدوام واقتضاء ذاته للبقاء والاستمرار فيكون الشك في حدوث رافع له عن صفحة الوجود ويتصور هذا على أنحاء.

أولها : الشك في وجود الرافع كما إذا شك المتطهر من الحدث في خروج البول منه أو عروض النوم عليه.

ثانيها : الشك في رافعية الموجود من جهة كون المتيقن السابق مرددا بين شيئين

٣٧

كما إذا علم المكلف باشتغال ذمته يوم الجمعة بصلاة ولم يعلم بكونها الظهر أو الجمعة ، فإذا أتى بصلاة الجمعة مثلا فإنه يشك في رافعيتها لاشتغال الذمة ، فإنه لو كان الاشتغال بصلاة الظهر فهو باق ولو كان بالجمعة فهو مرتفع ، فاستصحاب بقاء الاشتغال في المثال لأجل الشك في رافعية الموجود.

ثالثها : الشك في رافعية الموجود من جهة الشك في وجود صفة الرافعية فيه كما إذا خرج المذي من المتطهر فشك في أنه رافع كالبول أم لا.

رابعها : الشك في رافعية الموجود من جهة الشك في أنه مصداق للرافع المعلوم المفهوم كما إذا خرج عنه البلل وشك في أنه بول أم لا.

خامسها : الشك في رافعية الموجود من جهة الشك في أنه مصداق للرافع المجهول المفهوم كما إذا علم بكون البلل مذيا وشك في مفهوم البول وأنه خصوص ما هو المعروف أو أنه أعم منه ومن المذي.

٣٨

الاستقراء

قيل هو عبارة عن تصفح الجزئيات لإثبات الحكم الكلّي والتام منه يفيد القطع كما إذا تصفحنا جميع ما وصلنا إليه من أفراد الحيوان فوجدناه جسما فحكمنا بأن كل حيوان جسم ، والناقص منه يفيد الظن سواء أحصل من تتبع قليل الأفراد أم كثيرها.

فالأول : كما إذا رأينا واحدا من أهل بلد يتكلم بكلام مخصوص أو يلبس لباسا مخصوصا ثم رأينا الثاني والثالث إلى خمسين مثلا حصل الظن بأن من هو ساكن هناك حاله كذا.

والثاني : كما إذا رأينا أكثرهم على ذلك المنوال ، والاستقراء أعم من الغلبة عموما مطلقا فإنه يحصل بقليل الأفراد دون الغلبة وكلاهما يشتركان في أن النظر فيهما إلى إثبات الحكم الكلي من تصفح حال الجزئي ، ثم الاستقراء أيضا ليس بحجة عندنا ما لم يفد العلم.

٣٩

الاستقلالي والآلي

يطلق هذان الوصفان غالبا على المعنى الملحوظ عند استعمال اللفظ فالمعنى الملحوظ بما هو آلة وحالة للغير معنى آلي ، والمعنى الملحوظ بنفسه بما هو هو معنى استقلالي ، والكلام في هذين العنوانين وقع في الأصول في موارد :

منها : معاني الحروف والأسماء فقيل إن معاني الحروف آلية ومعاني الأسماء استقلالية لا بمعنى أنها غير ملتفت إليها أصلا بل بمعنى توجه الذهن إليها ولحاظها حالة للغير توضيح ذلك أنك إذا قلت سرت من البصرة إلى الكوفة فكلامك هذا مركب من أربعة أسماء وثلاثة حروف ، أما الأسماء فمادة سرت وضمير المتكلم وكلمتا البصرة والكوفة وأما الحروف فهيئة الفعل وكلمتا من وإلى ، فألفاظ ذلك الكلام سبعة كما أن معانيه أيضا سبعة ، أربعة معان مستقلة باللحاظ وثلاثة منها غير مستقلة أما المستقلة فهي السير والمتكلم والبصرة والكوفة ، وأما غير المستقلة فهي حالات السير الموجود في الخارج وصفاته ، أحدها ارتباطه بالمتكلم بصدوره عنه ، ثانيها كون مبدئه البصرة ، ثالثها كون منتهاه الكوفة ، ولا إشكال في أن المتكلم لاحظ في مقام الاستعمال الألفاظ السبعة والمعاني السبعة فاستعملها فيها لتفهيم المخاطب ، فمراده من هيئة الفعل أعني سرت بيان ارتباط السير بالمتكلم بنحو الصدور ومن كلمة من بيان حال مبدئه

٤٠