اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

واستحقاق العقوبة عليها عقلا وهو واضح ،كما أنه لا إشكال في حرمة المخالفة الالتزامية للأحكام الأصولية الاعتقادية ، فإذا وجب عقد القلب على كون المعاد والمعراج جسمانيين كان ترك الاعتقاد بهما مخالفة التزامية وعصيانا ، وأما حرمة المخالفة الالتزامية ووجوب موافقتها بالنسبة إلى الأحكام الفرعية ففيه خلاف وإشكال ، والمشهور عدمها إذ لا يستفاد من قوله ادفن الميت مثلا إلا وجوب الدفن خارجا وحرمة تركه عملا لا لزوم الاعتقاد بوجوبه قلبا مضافا إلى العمل خارجا ، فلو دفن الميت لم يكن مستحقا للعقاب ولو لم يعتقد قلبا بل فعله اقتراحا ، كما أنه لو تركه لم يستحق العقاب إلا على تركه عملا اللهم إلا أن تستلزم المخالفة الالتزامية المخالفة العملية كما في العبادات.

وبعبارة أخرى لا يخلو حال المكلف عن أحد أمور أربعة : العمل خارجا والالتزام قلبا وترك العمل والالتزام معا وفعل الأول وترك الثاني وعكسه ، فعلى القول بوجوب الالتزام مضافا إلى العمل يلزم استحقاقه لثوابين في الأول ولعقابين في الثاني ولثواب وعقاب في الثالث والرابع ، وهذا خلاف عمل العقلاء وبناؤهم في التكليف الواحد فيرون المكلف مستحقا لثواب واحد في الأول والثالث ولعقاب واحد في الثاني والرابع ، فنعلم حينئذ أن الملاك في الثواب والعقاب هو العمل لا الاعتقاد.

الثاني : المراد من الالتزام المذكور هو البناء الباطني والعقد القلبي وفي اتحاد هذا المعنى مع العلم أو مغايرته له أقوال :

أحدها : مغايرته له بمعنى كونه قلبيا اختياريا يجتمع مع العلم بالمعتقد والشك فيه ويمكن تركه ولو مع وجود اليقين ، فالشك في وجوب الجمعة مثلا أمر وعقد القلب عليه أمر آخر ، والأول قهري الحصول والزوال غالبا والثاني اختياري دائما ، وكذا اليقين بوجوبها أمر والالتزام به وعدم الالتزام أمر آخر ، فبينهما تباين ذاتا وعموم من وجه تحققا.

ثانيها : أنه عين العلم بالحكم ولا نتعقل معنى للالتزام الباطني وعقد القلب على الوجوب مثلا سوى العلم به.

ثالثها : أنه وإن كان غير العلم إلا أنه لا يتحقق إلا في مورد العلم دون الشك

٢٦١

والظن فإذا علم بشيء أمكن عقد القلب عليه.

الثالث : لا إشكال في إمكان الموافقة العملية القطعية ومخالفتها في غالب موارد العلم بالتكليف وقد يوجد مورد لا يمكن فيه الموافقة العملية القطعية ولا المخالفة كذلك ، وهو مورد دوران الأمر بين وجوب فعل وحرمته ، فإذا علم المكلف إجمالا بأن دفن الميت المنافق إما واجب وإما حرام. فلا يعقل أن يعمل عملا تحصل به الموافقة القطعية أو المخالفة القطعية بل هو إما أن يفعل أو أن يترك وعلى كل منهما يحصل احتمال الموافقة والمخالفة.

وأما الموافقة والمخالفة الالتزاميتان فهما ممكنتان حتى في مورد الدوران بين المحذورين أيضا ففي مثال الدفن يلتزم قلبا بما هو حكم الله في الواقع إذ لا يشترط في الالتزام بحكم العلم بذلك تفصيلا فتكفي الموافقة إجمالا.

ولو قلنا باشتراط ذلك وأن الواجب هو الالتزام بحكم معلوم بالتفصيل ، فهنا لا يخلو أمر المكلف من أحد أمور ثلاثة : عدم الالتزام بشيء منهما والالتزام بأحدهما والالتزام بكليهما ، والصواب هو الأول ، إذ على الثاني لو التزم بالوجوب مثلا احتمل أن يكون ما التزم به هو الواقع فيكون التزامه واجبا أو هو ضد الواقع فيكون حراما فالتزامه دائر بين الواجب والحرام ولا ترجيح في البين ، وعلى الثالث كما أنه يعلم بالالتزام بالواقع يعلم بالالتزام بضده أيضا وهو أيضا باطل فانحصر الأمر في الأول.

٢٦٢

الموضوع

وقد يقابله المتعلق

يطلق هذه الكلمة في علم الأصول في موارد :

منها : في مقام بيان موضوع علم الأصول فتستعمل هناك ويراد منها موضوع العلم وحريّ بنا أن نتعرض هنا لبيان كلي الموضوع أولا ولبيان موضوع علم الأصول ومسائله ثانيا فنقول :

أما الأول : فهو الذي يبحث في العلم عن الأوصاف العارضة له حقيقة ، كالصحة والمرض للإنسان ، والرفع والنصب للكلمة ، وهي التي تسمى بالعوارض الذاتية في مقابل ما ينسب إليه عناية ومجازا كالسرعة المنسوبة إلى الطائر ، فإنها عارضة لحركته لا لنفسه وهو المسمى بالعرض الغريب كما سيأتي في عنوان الواسطة.

وأما الثاني : فقد قيل في موضوعه أقوال :

أحدها : أنه ذوات الأدلة الأربعة ، أعني الكتاب العزيز والسنة الصادرة عن المعصوم «عليهم‌السلام» والإجماع والعقل ، مع قطع النظر عن كونها حجة ودليلا في الفقه ، وعلى هذا فالبحث عن حجية تلك الأمور بحث عن المسألة الأصولية ويكون من مسائل هذا العلم ، نعم يخرج عنها عدة من مباحث الألفاظ ، كبحث الصحيح والأعم والمشتق والأمر والنهي وكذا الظن الانسدادي والظن الاستصحابي ، بل البحث عن

٢٦٣

حجية قول العدل والثقة ، إذ ليس البحث فيها عن أموال الأدلة الأربعة.

ثانيها : أن الموضوع هو الأدلة الأربعة بعد الفراغ عن دليليتها فالموضوع ظاهر الكتاب الثابت حجيته والسنة المفروغ عن حجيتها ، وعليه يكون البحث عن حجية ظاهر الكتاب والسنة خارجا عن مسائل هذا العلم داخلا في مباديه ، إذ البحث عن وجود الموضوع أو عن جزئه وقيده يكون من المبادي لا المسائل.

ثالثها : أن الموضوع هو عنوان الدليل في الفقه أو عنوان ما يمكن أن يقع في طريق الاستنباط وهذا أعم من سابقيه ، فيشمل قول العدل والظن الانسدادي والاستصحابي ، ويكون البحث عن حجية الشيء في مقام الاستنباط وعدمها من مسائل هذا العلم ، إذ البحث عن انطباق عنوان الموضوع على مورد أو عن فعلية ما له شأنية الحجة بحث عن حالاته.

رابعها : أن الموضوع هو كلي موضوعات المسائل والقدر المشترك بينها ولا نعلمه باسمه وعنوانه.

توضيح ذلك أن الغرض من هذا العلم معلوم وهو التمكن من استنباط الأحكام الفرعية ، فإذا جمعنا قضايا متشتتة مختلفة الموضوع والمحمول بلحاظ دخالتها في ذلك الغرض ، وسميناها بعلم الأصول ، تعينت مسائل هذا العلم كتعين غرضه ، فحينئذ إذا سئلنا عن موضوعه أشرنا إلى موضوعات تلك المسائل وقلنا إن الموضوع هو القدر الجامع بينها والكلي المنطبق عليها فسمه بأي اسم شئت وهذا مختار صاحب الكفاية رحمه‌الله.

وأما مسائله فهي القضايا المختلفة التي يبحث فيها عن أحوال أدلة الفقه بناء على غير الأخير من الأقوال ، كقولك ظاهر الكتاب حجة ، أو هي كل مسألة لها دخل قريب في استنباط الحكم الشرعي الفرعي ، وبعبارة أخرى كل مسألة تقع كبرى كلية لاستنتاج الحكم الشرعي بناء على القول الأخير كحجية قول العدل فإذا أثبتت حجيته قلت ، وجوب الجمعة مما أخبر به العدل وكلما أخبر به العدل ثابت فالوجوب ثابت.

ثم إنه علم مما ذكرنا الغرض من هذا العلم وهو التمكن من الاستنباط.

ومنها : ما وقع التعرض له في باب الاستصحاب في مقام بيان اشتراط بقاء

٢٦٤

الموضوع في استصحاب الحكم ، فقسموه إلى موضوع عقلي ودليلي وعرفي.

بيان ذلك أنهم اشترطوا في جواز إجراء استصحاب الحكم إحراز بقاء الموضوع فيلزم في استصحاب كرية الماء إحراز بقاء نفس الماء ، ومع القطع بعدم البقاء أو الشك فيه لا يجوز إجراء استصحاب الكرية ، ثم إن تشخيص موضوعات الأحكام وتمييز الأوصاف الدخيلة فيها عن غيرها يختلف باختلاف الأنظار ، أعني نظر العقل المبني على الدقة ، ونظر العرف بما يفهمون الموضوع من ظاهر الدليل ، ونظرهم بعد ملاحظة القرائن والمناسبات المغروسة في أذهانهم لدى ترتب الأحكام على الموضوعات ، ففي موارد الشك في بقاء الموضوع قد لا يكون باقيا بنظر العقل ولو من جهة انتفاء ما له دخل في موضوعيته ، لكنه باق بنظر غيره ، فإذا أخذ مقدار من ماء كر ثم شك في بقاء كريته لم يجر الاستصحاب بناء على الموضوع العقلي ، فإن الماء الباقي بنظره غير الماء السابق وجرى بناء على الموضوع العرفي فإن الباقي هو السابق ذاتا وإن حصل له تغيير في كميته ووصفه.

وإذا ورد دليل على أن الماء المتغير بأوصاف نجس العين نجس ، وكان هناك ماء متغير فزال تغيره من قبل نفسه فشككنا في بقاء نجاسته ، لم يكن الموضوع الدليلي باقيا ، فإن ظاهر الدليل بنظر العرف البدوي هو الماء المقيد بالتغير ، والمقيد ينتفي بانتفاء قيده إلا أن الموضوع العرفي باق في المثال فإن أهل العرف يعدون الموضوع للنجاسة نفس الماء ويحسبون أن التغير من أوصاف الموضوع وله دخل في ترتب الحكم عليه لا أنه قيد للموضوع ومعروض للنجاسة ، فيجعلون ما هو قيد بحسب الدليل خارجا عن القيدية راجعا إلى حالاته ، فيرون الموضوع باقيا فإذا حصل الشك في بقاء الحكم لأجل زوال ما يحتمل دخله فيه جرى الاستصحاب ، فالموضوع باق بهذا النظر وإن كان زائلا بالنظرين الأولين.

ومنها : موارد يقع التعرض فيها لموضوعات الأحكام الشرعية ومتعلقاتها فيقع الكلام هنالك في الفراق بين الموضوع والمتعلق.

بيانه أن الأفعال الصادرة عن المكلف على قسمين : قسم لازم لا يتعدى منه إلى غيره كالصلاة والصيام والركوع والقيام ، وقسم يتعدى ويتعلق بأمر آخر كالأكل

٢٦٥

والشرب والتمليك والغصب فهنا أمران : الفعل الصادر عن الفاعل والأمر الخارجي المتعلق به الفعل كالطعام والماء والمال.

فحينئذ نقول إنه قد يطلق كل واحد من الموضوع والمتعلق على كل واحد من الفعل ومتعلقه فيقال إن الصلاة والشرب والخمر متعلقات أو موضوعات ، وقد يطلق الموضوع على خصوص الأفعال الصادرة عن المكلف لازمة أو متعدية والمتعلق على الموضوع الخارجي ، ويستعملان ثالثة على عكس ذلك كما أنه قد يطلق المتعلق على نفس المكلف أيضا.

٢٦٦

الناقل والمقرر

والحاظر والمبيح

الناقل والمقرر في اصطلاح الأصوليين وصفان للخبرين المتعارضين أو لمطلق الدليلين كذلك فيما كان أحدهما موافقا للأصل الجاري في موردهما والأخر مخالفا له ، فيطلق على الدليل المخالف للأصل اسم الناقل لاقتضائه نقل المكلف عن مقتضى الأصل إلى التكليف المخالف له ، وعلى الموافق اسم المقرر لتقريره المكلف وتثبيته على طبق الأصل ، سواء أكان تعارضهما في إثبات الوجوب أو في إثبات الحرمة ، فإذا أخبر أحد العدلين بوجوب الجمعة والآخر بعدم وجوبها أو أخبر أحدهما بحرمة شرب العصير والأخر بعدمها أطلق على الخبر المفيد للوجوب أو الحرمة الناقل وعلى مقابلهما المقرر.

وأما الحاظر والمبيح فهما أيضا وصفان للدليلين المتعارضين فيما كان مورد تعارضهما الحرمة والإباحة فيطلق على الخبر المخالف لأصالة الإباحة اسم الحاظر لكونه مانعا عن الفعل والحظر المنع ، وعلى الموافق لها اسم المبيح لموافقة مضمونه لأصالة الإباحة فموردهما أخص من مورد العنوانين الأولين ، فعلم أن بين عنواني الناقل والمقرر والحاظر والمبيح عموم مطلق.

٢٦٧

النسخ

هو في اللغة بمعنى الإزالة وفي الاصطلاح ارتفاع الحكم الكلي المجعول للأمة في الشرعية عن موضوعه الكلي لأجل تمام أمده وانتفاء الملاك في جعله.

فخرج بقيد الكلي ارتفاع الحكم الجزئي ، سواء أكان بانتهاء أمده أو بانعدام موضوعه. فارتفاع وجوب الصوم عن المكلف بعد دخول الليل أو حرمة الاصطياد للمحرم بعد الإحلال لأجل انتهاء الأمد ليس بنسخ.

كما أن ارتفاع وجوب إكرام زيد بموته أو حرمة الشرب من إناء معين بإراقته لانعدام الموضوع ليس بنسخ.

وخرج بقيد المجعول للأمة ارتفاع الحكم الكلي عن موضوعه بالنسبة إلى شخص خاص فارتفاع الأحكام الكلية عن زيد مثلا بسبب عروض جنون أو موت لا يسمى نسخا.

والتقييد بكون الارتفاع بانتهاء الأمد والملاك لبيان أن النسخ ليس رفعا في الحقيقة ، بل هو في مقام الثبوت دفع للحكم وانقضاء لاقتضائه بيانه أنه قد يكون مقتضى المصلحة جعل الحكم على الموضوع محدودا بحد وموقتا بوقت ، فيريد الشارع الجاعل للحكم العالم بالملاك إنشاء الحكم الموقت ، إلا أنه قد ينشئه مطلقا غير محدود

٢٦٨

في مقام الإنشاء مع قصده إبلاغ حد الحكم ووقته في مقام آخر. أو عند انتهاء أمد الحكم ، فيكون حينئذ مقتضى ظاهر الدليل دوامه واستمراره ، فالحكم حينئذ موقت في مرحلة الثبوت مستمر دائم في مرحلة الإثبات.

فإذا ورد دليل النسخ كان ذلك كاشفا عن انتهاء أمد الحكم بتمام مقتضيه وملاكه فيحسب ذلك دفعا للحكم بالنظر إلى الواقع ورفعا بالنظر إلى الظاهر ، ومن هنا قيل إن النسخ دفع ثبوتي ورفع إثباتي.

تنبيهان :

أحدهما : في إمكان النسخ والآخر في وقوعه :

أما الأول : فقد ادعي استحالته في الأحكام الصادرة عن الحكيم ، بتوهم أنه إذا أنشأ حكما كليا ثم أنشأ نسخه بعد مدة ، فإن كان لذلك الحكم ملاك ومصلحة في جعله ، كان نسخه باطلا قبيحا ، وإن لم يكن مصلحة في جعله كان إنشاؤه من أصله لغوا باطلا ، فالنسخ من الحكيم يستلزم دائما أحد المحذورين إما خلاف الحكمة في الجعل وإما في النسخ.

وجوابه : أن جعل الحكم ثم نسخه بعد مدة يتصور على قسمين :

أولهما : أن لا تكون هناك مصلحة في جعل الحكم أصلا ، أو كانت في جعله موقتا محدودا ، فاعتقد الجاعل وجود ملاك دائم فأنشأ حكما مستمرا ، ثم ظهر له خطاؤه في اعتقاده فنسخه.

أو كانت المصلحة في جعله دائما مستمرا فاعتقد كونه موقتا فنسخه بعد مدة زعما منه تمام أمد الحكم وهذا القسم هو الذي يلزم منه لغوية الجعل تارة والنسخ أخرى ولا يتصور هذا في الشارع المحيط بجميع الأشياء علما والعالم بملاكات الأمور سعة وضيقا.

ثانيهما : أن تكون المصلحة في جعل الحكم موقتا محدودا فقصد الجاعل إنشاء حكم كذلك ، إلا أنه أنشأه بكلام مطلق من حيث الزمان ظاهر في الاستمرار والدوام ،

٢٦٩

إما لوجود مانع عن التقييد إثباتا أو لمصلحة في تأخير بيان الأمد ، إذ لا يجب عقلا بيان أمد كل حكم عند جعله وتشريعه فالحكم في الفرض موقت ثبوتا ظاهر في الدوام إثباتا ، فيكون نسخه دفعا ثبوتيا ورفعا إثباتيا ، وهذا القسم لا يقبح من الحكيم تعالى بل قد يحسن ويجب وما يدعى وقوعه في الشريعة من هذا القسم فلا محذور.

الثاني : لا إشكال في وقوع النسخ بالنسبة إلى أصل شريعة ودين فكلما كانت تحدث شريعة في الأزمنة السابقة كانت تنسخ الشريعة التي قبلها بمعنى رفع عدة من أحكامها لا رفع جميعها ، ولذا قيل إن النسخ رفع المجموع لا رفع الجميع.

وأما نسخ بعض الأحكام في شريعة مع بقاء أصلها فقد ادعي وقوعه في شرعنا وعد لذلك موارد لا يسلم أغلبها من الخدشة والمسلم من ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإنها نسخت بقوله تعالى في الآية اللاحقة لها : «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إلخ».

بيانه أن الله تعالى أوجب على كل من أراد التكلم والنجوى مع النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أن يتصدق قبل ذلك شيئا على الفقراء ، فلما ظهر إشفاق الناس من ذلك وتركوا النجوى وأخذ الأحكام بخلا بالمال نسخ الحكم وتاب على المشفقين فالآية الأولى منسوخة والثانية ناسخة لها.

وروى الصدوق عن علي «عليه‌السلام» أنه قال في عداد مناقبه وأما الرابعة والعشرون فإن الله أنزل على رسوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت إذا ناجيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أتصدق قبل ذلك بدرهم والله ما فعل هذا أحد غيري من أصحابه قبلي ولا بعدي فأنزل الله : «أَأَشْفَقْتُمْ إلخ.»

٢٧٠

النهي

المشهور بين الأصوليين أن النهي عبارة عن الطلب الإنشائي المتعلق بترك الشيء وعدمه ، فهو يتحد مع الأمر في الحقيقة النوعية أعني كونه الطلب الإنشائي ويفترق عنه في المتعلق ، فإن متعلق الطلب في الأمر هو وجود الشيء ومتعلقه في النهي هو عدمه.

فمعنى لا تشرب الخمر ولا تكذب في القول أطلب عدم الشرب وترك الكذب وعند بعض المحققين هو عبارة عن الزجر الإنشائي المتعلق بوجود الفعل ، فعلى هذا يختلف النهي مع الأمر بحسب الحقيقة والماهية إذ الأمر هو البعث الإنشائي نحو وجود الشيء في مقابل البعث التكويني ، والنهي هو الزجر الإنشائي عن الوجود في مقابل الزجر التكويني ، ويتحدان في المتعلق فإن المتعلق في كليهما هو الوجود.

ثم إن في بيان حدود ماهيته وتعيين متعلقه على كلا القولين اختلافا من جهات :

الأولى : أنه هل هو عبارة عن مطلق الطلب أو الزجر فيشمل الكراهة ، أو هو عبارة عن الطلب أو الزجر الأكيدين فلا يشمل الكراهة.

الثانية : هل يشترط في حقيقته صدوره عن خصوص العالي أو عن خصوص المستعلي أو صدوره عن أحدهما أو لا يشترط شيء منها فيه خلاف وأقوال مضت في باب الأمر.

٢٧١

الثالثة : بناء على كون حقيقته هو الطلب ، فهل يكون متعلقه مجرد ترك الشيء أو هو كف النفس عن الشيء فعلى الأول يكون معنى لا تشرب الخمر أطلب عدم تحقق شرب الخمر ، وعلى الثاني يكون المعنى أطلب كف النفس عن شربها ، وحينئذ لو كف المكلف نفسه عن شربها وتركها عن اشتياق إلى الشرب تحقق الامتثال على كلا القولين واستحق المثوبة ولو تركها مع عدم الميل إليها لم يتحقق الامتثال واستحقاق المثوبة على الثاني إذ كف النفس عن الشيء فرع ميلها واشتياقها إليه ، ويتحقق على الأول.

٢٧٢

النهي عن الشيء يقتضي الفساد أم لا؟

وقع البحث بين الأصوليين في أن تعلق النهي بشيء هل يقتضي فساده أم لا.

وليعلم أولا أن مورد الكلام هي الأفعال القابلة لأن تتصف بالصحة بمعنى كونها تامة واجدة للآثار المطلوبة منها ، وأن تتصف بالفساد بمعنى كونها ناقصة فاقدة لتلك الآثار ، وذلك كالغسل والصلاة وسائر العبادات وصيغ العقود والإيقاعات وكالاصطياد والذبح ونحوهما من الموضوعات ، فإن لها أفرادا جامعة لما له دخل في كمالها فيترتب عليها الآثار المطلوبة منها ، وأفرادا فاقدة للكمال والآثار.

وحينئذ نقول إذا تعلق نهي تحريمي بفعل من تلك الأفعال فيقع الكلام تارة في أنه هل يحكم العقل بالملازمة بين المبغوضية والفساد فيحكم بفساد المنهي عنه وعدم ترتب الآثار على متعلقه أم لا فالمسألة حينئذ عقلية ، وأخرى في أنه هل يدل لفظ النهي على عدم ترتب الآثار على متعلقه أم لا فالمسألة حينئذ لفظية.

وأخصر البيان في تحرير المسألة أن نقول إن كان متعلق النهي عبادة كالصلاة المزاحمة للإزالة والنافلة الواقعة في وقت الفريضة مثلا. فالأظهر القول بالبطلان وعدم الأثر عقلا لكن لا من جهة دلالة اللفظ ، وذلك لحكم العقل بعدم اجتماع المبغوضية المستفادة من النهي مع المقربية التي هي قوام العبادة وإذ لا صحة فلا يترتب أثرها من

٢٧٣

سقوط التكليف واستحقاق الأجر عليها وكونها وفاء للنذر ونحوها من الآثار ، هذا إن كان متعلق النهي عبادة.

وإن كان غير عبادة فلا وجه للحكم بالفساد حينئذ لعدم دلالة النهي إلا على مبغوضية الفعل وعدم وجود الملازمة بين المبغوضية وعدم ترتب الآثار عقلا.

فلو غسل ثوبه النجس بالماء المغصوب أو ذبح الحيوان المغصوب أو باع ماله وقت النداء أو اصطاد ما نذر عدم صيده لم تقع تلك الأمور فاسدة وإن وقعت محرمة وفي المسألة أقوال أغمضنا عن ذكرها روما للاختصار.

وهنا فرعان :

الأول : أنه لا مجرى لهذا النزاع في الأفعال التي لا تتصف بالصحة والفساد بل تتصف بالوجود والعدم فهي قد توجد وقد لا توجد كمسببات العقود والإيقاعات فإذا حرّم الشارع نقل مال أو عتق عبد فباع المكلف وأعتق يحكم بحصول النقل والعتق وتحقق العصيان ولا معنى للنزاع في الصحة والبطلان فيهما.

الثاني : أن محل البحث في المسألة هو النهي المولوي تحريميا كان أو تنزيهيا وأما النهي الإرشادي أعني الذي سيق لهداية المكلف إلى فساد العمل وبطلانه فلا كلام في دلالته على الفساد كما أنه قد ادعي ظهور النواهي المتعلقة بتلك الأعمال في كونها إرشادا إلى البطلان ، وذلك كما إذا ورد النهي عن الصلاة في أيام الحيض أو في الثوب النجس أو مستدبر القبلة مثلا أو ورد النهي عن غسل الثوب بالماء المضاف أو عن ذبح الحيوان بغير ذكر اسم الله تعالى عليه أو بغير الآلة الحديدية ونحو ذلك.

٢٧٤

الواجب

هو كل فعل أو ترك تعلق به البعث الأكيد وقسموه بتقسيمات :

الأول : تقسيمه إلى الموقت وغير الموقت والموقت إلى الموسع والمضيق.

ومنشأ التقسيم هو أن الزمان وإن كان لا بد منه في فعل المكلف عقلا إذ هو زماني لا يوجد إلا فيه ، إلا أنه قد لا يكون له دخل في الفعل شرعا وقد يكون له دخل فيه ، وعلى الثاني قد يكون الزمان الدخيل فيه أوسع منه وقد يكون بمقداره.

فالأول : يسمى واجبا غير موقت كالصدق في الكلام وترك شرب الخمر.

والثاني : يسمى واجبا موسعا كالصلاة الواجبة (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ).

والثالث : يسمى واجبا مضيقا كالصوم الواجب بين الطلوع الأول والغروب.

والثاني : تقسيمه إلى العيني والكفائي.

فالأول : هو الفعل المطلوب من شخص خاص.

والثاني : هو الفعل المطلوب من طبيعي صنف معين أو نوع خاص ، وحينئذ فإن كان المأتي به فردا واحدا من طبيعة العمل فلا إشكال سواء أتى به فرد واحد من المكلفين أو أكثر كغسل الميت إذا أوجده شخص أو اشترك فيه أشخاص ، وكذا لو كان المأتي به فردين أو أفرادا إذا أتي بها دفعة واحدة سواء كان الآتي شخصا أو

٢٧٥

أشخاصا ، كالإعتاق الواجب كفاية فأعتق شخص واحد عبيدا متعددين دفعة واحدة وكصلاة الميت المأتي بها جماعة ، وأما لو كان المأتي به فردين أو أفرادا وأتي بها تدريجا كما لو غسل الميت ثانيا وثالثا سواء غسله الغاسل الأول أو شخص آخر ففيه خلاف وإشكال من جهة عدم تعقل الامتثال بعد الامتثال.

الثالث : تقسيمه إلى المعلق والمنجز.

أما المعلق : فهو الفعل الذي تعلق به الوجوب فعلا ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور زمانا كان أو غيره ، أو على أمر مقدور لم يترشح عليه الوجوب ويعبر عنه بأنه ما كان الوجوب فيه فعليا والواجب استقباليا مثلا إذا استطاع المكلف الحج في شهر شوال وتوجه إليه الخطاب بالحج فيقال إن الحج في حقه واجب معلق لعدم مجيء وقته وتوقفه على الزمان الذي لا يقدر المكلف على انجازه ، ولو فرضنا أن المولى أوجب بالوجوب الفعلي إكرام زيد عند مجيئه مع عدم قدرة المكلف على تحصيل مجيئه فهذا معلق على أمر غير مقدور غير الزمان وإذا أوجب إكرامه وقال أكرم زيدا عند شرائك الدار مع عدم إيجابه شراء الدار بل لو اتفق له الشراء بميله وطيب نفسه فهذا معلق على مقدور لم يترشح عليه الوجوب.

وأما المنجز فهو العمل الواجب مع عدم توقفه على أمر غير مقدور كالصلاة بعد دخول وقتها.

الرابع : تقسيمه إلى التوصلي والتعبدي.

فالأول : ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصوله في الخارج سواء أتى به المكلف بداعي أمر المولى أو بدواع آخر ، كغسل الثوب مثلا فإنه يطهر ويحصل الغرض منه بأي قصد غسله ، إلا أنه إذا غسله بداعي الأمر والتقرب حصل عنوان الإطاعة واستحق عليه المثوبة وإلا فلا إطاعة ولا مثوبة.

والثاني : هو الفعل الذي لا تترتب عليه المصلحة ولا يحصل غرض الآمر إلا بإتيانه قربيا ، وذلك كالصلاة والصيام وسائر العبادات.

ثم إن الإتيان القربي الذي به يكون العمل عباديا ويسمى بالتعبدي على أنحاء :

الأول : الإتيان به بقصد الأمر.

٢٧٦

الثاني : الإتيان به بقصد أن يتقرب من الآمر.

الثالث : الإتيان به لكون الفعل حسنا ذاتا.

الرابع : الإتيان به لكونه ذا مصلحة.

الخامس : الإتيان به لمجرد كون الآمر مستحقا لأن يطاع وجديرا بأن يعبد.

السادس : الإتيان به رجاء ثوابه وطمعا في أخذ شيء منه تعالى.

السابع : الإتيان به خوفا من عذابه تعالى وفرارا عن عقابه.

الثامن : الإتيان به لكونه شكرا لنعمه تعالى.

وهل يكفي في مقام الامتثال كل واحد من تلك القصود لكن تختلف مراتب الثواب باختلافها ، أو أن بعضها غير كاف في تحقيق العبادة وجهان مقرران في الفقه فراجع.

٢٧٧

الواسطة في العروض

والثبوت والإثبات

إذا فرضنا عروض عارض على شيء أعني صحة حمله عليه فإما أن لا يكون هنا واسطة في البين فهو واضح ، كعروض الناطق للحيوان والحيوان للناطق ، وإما أن يكون في البين واسطة فيتحقق حينئذ أمور ثلاثة : الواسطة والعارض والمعروض ويطلق عليه ذو الواسطة أيضا.

ثم إنهم قسموا الواسطة بين العارض والمعروض إلى أقسام ثلاثة :

الأول : الواسطة في العروض ، وهي ما كان العارض حقيقة عارضا لنفس الواسطة ويكون نسبته إلى المعروض بالعرض والمجاز ، كوساطة الحركة لعروض السرعة على الجسم في قولك الفرس سريع مثلا ، فالسرعة عارض والفرس معروض والحركة واسطة في العروض مجازا ومعروض حقيقة.

الثاني : الواسطة في الثبوت ، وهي علة ثبوت العارض لمعروضه خارجا بحيث يكون اتصاف المعروض بذلك العارض حقيقيا سواء كانت الواسطة أيضا متصفة به أم لا ، فالأول كوساطة النار لعروض الحرارة على الماء ، والثاني كوساطة الحركة لعروض الحرارة على الجسم والتعجب لعروض الضحك على الإنسان.

الثالث : الواسطة في الإثبات ، وهي ما كان علة للعلم بثبوت العارض لمعروضه

٢٧٨

سواء كانت في الخارج أيضا علة أو كانت معلولا أو كانت ملازما.

والأول : كقولك الصلاة ذات مصلحة ملزمة وكل ما فيه مصلحة ملزمة فهو واجب فالصلاة واجبة فيما إذا صار علمك بالمصلحة سببا للعلم بالوجوب.

والثاني : كقولك الحج واجب وكل واجب له مصلحة ملزمة فالحج له مصلحة ملزمة فيما إذا صار علمك بالوجوب طريقا إلى علمك بالصلاح.

والثالث : كقولك الصلاة تنهى عن الفحشاء وكل ما ينهى عن الفحشاء فهو معراج المؤمن فهي معراج بناء على تلازمهما ، ومن هنا قيل إن الواسطة إن كانت علة في العين والذهن فهي واسطة في الثبوت وإن كانت علة في الذهن فهي واسطة في الإثبات وهذا يكون في وسائط القياس.

ثم إن النسبة بين الواسطة في العروض والثبوت هي التباين ، فلا شيء من وسائط العروض واسطة في الثبوت ولا شيء من وسائط الثبوت واسطة في العروض ، إذ لا يعقل أن يكون شيء معروضا لعرض وعلة لثبوت نفس ذلك العرض لمعروض آخر ، والنسبة بين الواسطة في العروض والإثبات عموم مطلق فكل واسطة في العروض يكون العلم بها علة للعلم بالاتصاف المجازي ولا عكس ، فتقول هذا الفرس ذو حركة سريعة وكل ما كان كذلك فهو سريع فالفرس سريع.

والنسبة بين الواسطة في الثبوت والإثبات أيضا كذلك فكل واسطة في الثبوت واسطة في الإثبات أيضا ولا عكس ، ففي قولك العالم متغير وكل متغير حادث ، المتغير واسطة في الثبوت والإثبات ، وفي قولك الصلاة واجبة وكل واجب فيه مصلحة ملزمة ، الوجوب واسطة في الإثبات وليس واسطة في الثبوت.

ثم إن الاحتياج إلى بيان الوسائط في هذا العلم يقع في موارد : منها بيان أن مسائل هذا العلم من قبيل الأمور العارضة لموضوعه مع الوساطة في الثبوت أو الإثبات ، فإن الحجية مثلا عارض وخبر العدل معروض والمصلحة الداعية إلى جعل الحجية له واسطة في الثبوت وما دل على ذلك من الكتاب والسنة واسطة في الإثبات ، وكذلك يقال في علم الفقه فالوجوب عارض وصلاة الجمعة مثلا معروض ومصلحة الفعل واسطة في الثبوت والدليل الدال على الوجوب واسطة في الإثبات وهكذا.

٢٧٩

الوجوب

هو أحد الأحكام الخمسة التكليفية ، وحقيقته إما الإرادة الأكيدة الحاصلة في نفس الآمر المتعلقة بفعل المأمور ، أو هو أمر انتزاعي ينتزع لدى العرف عن إنشاء الطلب بواسطة لفظ أو غير لفظ مع عدم قرينة على الترخيص في الترك ، واختار الوجه الأول فريق من العلماء والوجه الثاني فريق آخرون.

ثم إن له عند أهل الفن تقسيمات :

الأول : تقسيمه إلى الوجوب المطلق والمشروط.

فالمطلق هو البعث الأكيد غير المقيد بأمر وجودي أو عدمي ، والمشروط هو البعث الأكيد المقيد بقيد بحيث لو لم يوجد القيد لم يوجد البعث.

واللازم في الحكم بالإطلاق والتقييد هو ملاحظة أمر معين وقياس الوجوب إليه ثم الحكم بأنه مطلق أو مقيد ، فكل أمر لم يكن البعث منوطا به كان الوجوب بالنسبة إليه مطلقا ، وكلما كان منوطا به كان بالقياس إليه مقيدا ، فالإطلاق والتقييد أمران إضافيان فترى أن كل تكليف أكيد بالنسبة إلى الشرائط العامة أعني البلوغ والعقل والقدرة والالتفات مقيد ، وبالنسبة إلى أمور أخر قد يكون مطلقا وقد يكون مقيدا.

مثلا وجوب الصلاة اليومية بالنسبة إلى الوقت مشروط ، فما لم يدخل الوقت لم

٢٨٠