اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

ثالثها : المرجحات الخارجية غير المعتبرة ، كالشهرة الفتوائية والإجماع المنقول وقاعدة أولوية الحرمة للأخذ بها من الوجوب ونحوها ، فإذا ورد تجب صلاة الجمعة وورد أيضا تحرم صلاة الجمعة ، فقد يقدم الثاني لموافقته للشهرة أو قاعدة الأولوية.

رابعها : المرجحات الخارجية المؤثرة في أقربية المضمون ، كموافقة أحد الخبرين لظاهر الكتاب بناء على حجية الخبر من باب الطريقية ، فإن المرجح بالكسر والمرجح بالفتح كليهما حاكيان عن الواقع فيتعاضدان مضمونا.

خامسها : المرجحات الخارجية غير المؤثرة ، كموافقة أحد الخبرين للأصل العملي فإن الخبر ناظر إلى الواقع وحاك عنه والأصل غير ناظر إليه بل هو حكم تعبدي ، فلا يعاضد به مضمون الخبر.

في مرجحات باب الظواهر

وأما القسم الثاني : أعني مرجحات باب الظواهر ، فهي تلاحظ فيما كان الدليلان ظاهرين في المراد بحيث كان رفع اليد عن ظاهر كل منها ممكنا فيرجح أحدهما على الآخر بتلك المرجحات ، وعلى هذا فيخرج النص والظاهر عن محل الكلام لعدم احتمال الخلاف في النص ، فالمتعين فيها أخذ النص وتأويل الظاهر فحينئذ نقول إن مرجحات هذا الباب على أقسام ثلاثة :

أحدها المرجحات الشخصية ، بمعنى ما يوجب تقديم شخص من الظواهر وفرد منها على فرد آخر بالوضع أو قرائن شخصية احتفت بالكلام وجعلته أظهر من صاحبه ، وهذا القسم لا يدخل تحت ضابط كلي ، بل تلاحظ الموارد الشخصية فيرجح بها ، كما في قولك رأيت أسدا يرمي ، فإن ظهور يرمي في رمي السهم أقوى من ظهور أسد في الحيوان المفترس ، فيحمل على الرجل الشجاع لا أنه يؤخذ بظهور أسد ويحمل الرمي على رمي التراب.

ثانيها : المرجحات النوعية بمعنى ما يوجب تقديم نوع من الظواهر على نوع آخر منها ، فترى أن أهل الفن يقدمون نوعا معينا على نوع آخر وذكروا لها موارد كثيرة :

منها : ترجيح ظهور الكلام في الاستمرار والدوام أعني عمومه الأزماني على العموم

٢٤١

الأفرادي ، ويعبر عن ذلك بأن التخصيص أولى من النسخ ، فإذا ورد خاص متقدم كقوله لا تكرم فساق العلماء ، ثم ورد عام متأخر كقوله أكرم العلماء ، فللخاص ظهور في الشمول الأزماني وإن حكمه مستمر دائم ولازمه تخصيص العام به ، وللعام ظهور في شمول حكمه لجميع أفراده حتى الفساق ولازمه نسخ الخاص به والحكم بانقضاء مدته ، فدار الأمر بين نسخ الخاص وتخصيص العام ، فقالوا حينئذ بلزوم ارتكاب الثاني ، وكذا الكلام فيما إذا ورد عام ثم ورد خاص بعد العمل به فدار الأمر بين كون العام منسوخا أو مخصصا.

ومنها : ترجيح ظهور العام على إطلاق المطلق ، فإذا ورد أكرم العالم وورد لا تكرم الفساق ، دار الأمر في العالم الفاسق بين رفع اليد عن الإطلاق أو عن العموم فيرجح ظهور العام فيقيد المطلق.

هذا إذا كان عموم العام المقابل للمطلق وضعيا ، وأما إذا كان هو أيضا بالإطلاق فيرجع الكلام إلى تعارض الإطلاق البدلي مع الإطلاق الشمولي ، فيكون المورد من تعارض الصنفين من الظهور كما إذا ورد اجتنب يوم الجمعة عن التكسب في مقابل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ).

ومنها : تقديم مفهوم القضية الغائية على مفهوم الشرطية ، كما إذا ورد لا تكرم الفساق إلى أن يصيروا علماء وورد أكرم العلماء إن كانوا عدولا ، وهذا ما حكموا به من أظهرية القضية الغائية في دلالتها على المفهوم من القضية الشرطية.

ومنها : ترجيح مفهوم القضية الشرطية على مفهوم الوصفية ، كما إذا ورد أكرم العلماء إن كانوا عدولا وورد لا تكرم الفساق الجهال فيقدم الأول على الثاني.

ومنها : تقديم الظواهر غير العموم على ظهور المطلق ، كما إذا ورد يجب إكرام العالم وورد ينبغي إكرام زيد فيدور الأمر بين تقييد المطلق وبين حمل كلمة ينبغي على الوجوب وهو خلاف ظاهره.

ومنها : ترجيح ظهور الكلام في استمرار الحكم على غيره من الظهورات ، كما إذا ورد أكرم العلماء وورد بعد العمل به ينبغي إكرام العلماء ، فرجحوا حمل الثاني على الوجوب حفظا لظهور الأول في الاستمرار.

٢٤٢

ومنها : ترجيح سائر الظواهر على العموم ، كما إذا ورد أكرم العلماء وورد ينبغي إكرام زيد فلا بد من التخصيص حفظا لظهور كلمة ينبغي.

هذه أنواع من الظواهر يقدم بعضها على بعض والمرجح في هذه الموارد هو نفس العنوان الذي قدموه على ما يقابله.

ثالثها المرجحات الصنفية : فترى أن صنفا من المرجحات يرجح على الصنف الآخر ولو كان الصنفان من نوع واحد وعدوا لهذا القسم أيضا موارد :

منها : تقديم ظهور اللفظ في المجاز الراجح على ظهوره في المجاز المرجوح ولذا يحمل الأسد في رأيت أسدا يرمي على الرجل الشجاع دون الرجل الأبخر ، ويحمل الأمر المصروف عن معناه الحقيقي على الاستحباب لا الإباحة.

ومنها : تقديم بعض أصناف التخصيص على البعض الآخر ، فإذا تعارض عموم الجمع المحلى باللام مع عموم المفرد المحلى به بناء على إفادته العموم ، يرجح الصنف الأول على الثاني ، فإذا ورد أكرم العالم وورد لا تكرم الفساق يرتكب التخصيص في الأول دون الثاني ، وكذا يقدم العموم القليل الأفراد على العموم الكثير الأفراد.

وأما القسم الثالث : أعني مرجحات باب التزاحم فراجع البحث تحت عنوان التزاحم.

٢٤٣

المشتق

هو في الاصطلاح كل لفظ أطلق على الذات باعتبار اتصافها بمبدإ من المبادي ، سواء كان مشتقا نحويا أم غيره ، وسواء كان اتصاف الذات بتلك الصفة باعتبار حلول الصفة فيها أو صدورها منها أو انتزاعها عنها.

فالعالم والجاهل مشتقان بهذا الاصطلاح ، كما أنهما مشتقان عند أهل الأدب أيضا والزوج والزوجة والحر والعبد مشتقات بهذا الاصطلاح وجوامد عند أهل الأدب وفي الحي والحار مثلا اتصاف الذات بالمبدإ بنحو حلول الصفة في الذات وفي الضارب والقاتل بنحو صدورها عن الذات.

وفي المالك والمملوك بنحو انتزاع الصفة عنها ، إذ الملكية أمر ينتزع عن زيد مثلا وماله الذي يتصرف فيه.

ثم إن استعمال المشتق في معناه يتصور على أنحاء ثلاثة :

الأول : استعماله في ذات متلبسة بالمبدإ في حال النسبة ، كما تقول حاكيا عن زيد المتلبس بالسفر حال تكلمك زيد مسافر ، فزمان نسبة السفر إلى زيد هو الآن ، وزمان اتصافه بالسفر أيضا ذلك واستعمال المشتق في زيد في هذا الفرض استعمال حقيقي عند الكل.

٢٤٤

الثاني : استعماله في ذات كانت متلبسة بالمبدإ قبل حال النسبة كما تقول لزيد الوارد من السفر زيد مسافر ، فزمان النسبة هو الآن وزمان التلبس بالمبدإ هو الأمس وفي كون هذا الاستعمال حقيقة أو مجازا اختلاف بين الأعلام.

الثالث : استعماله في ذات لم تتلبس بعد بالمبدإ ولكنه سيتلبس أو سوف يتلبس ، كما تقول لزيد المريد للسفر غدا زيد مسافر فزمان النسبة هو الآن وزمان التلبس هو الغد ، والظاهر الاتفاق على أن إطلاقه بهذا النحو مجاز محتاج إلى القرينة والعناية.

تنبيه : عرّف أهل الأدب المشتق بأنه لفظ مأخوذ من لفظ آخر مع اشتماله على حروفه وموافقته معه في الترتيب أو مطلقا ،

وعلى هذا فالنسبة بين المشتق باصطلاح الأصوليين وبين المشتق عندهم هو العموم من وجه ، فالزوج والزوجة مشتقان بهذا الاصطلاح دون اصطلاحهم ، والماضي والمضارع بل المصدر مشتقات عندهم دون هذا الاصطلاح ، لأن الأفعال وضعت لبيان النسبة بين الذات والصفة لا للذات المتصفة بالصفة واسم الفاعل والمفعول مشتقان في كلا الاصطلاحين.

٢٤٥

المطلق والمقيد

أما المطلق : فهو في اللغة بمعنى المرسل وما لا قيد له وفي الاصطلاح هو اللفظ الدال على معنى له نحو شيوع وسريان بالفعل فهو من صفات اللفظ وقد يقع صفة للمعنى أيضا.

وأما المقيد : فهو يقابل المطلق تقابل العدم والملكة فهو اللفظ الذي لا شيوع له بالفعل مع قابليته لذلك بالذات.

ثم إنهم عدوا للمطلق مصاديق :

منها : أسماء الأجناس من الأعيان والأعراض والأفعال ، فإذا قال المولى يجب عليك في أول الشهر إعطاء الحنطة للفقير ، كان لفظ الشهر والإعطاء والحنطة والفقير كلها مطلقات لوجود الإرسال والشيوع في معانيها.

وإذا قال يجب عليك في أول الشهر الحرام إعطاء الحنطة الحمراء سرا للفقير العادل كانت تلك الألفاظ مقيدات.

ومنها : النكرة وهي عبارة عن اسم الجنس الذي دخل عليه التنوين المستفاد منه الوحدة ، فهي أيضا لفظ دال على الشيوع في مصاديق جنسه ، سواء أكان الشيوع بنظر السامع فقط كما في جاءني رجل وقوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ) أو في نظر القائل

٢٤٦

والسامع كليهما كما في جئني برجل ، فلو قال جاءني رجل عالم أو جئني برجل شاعر كان اللفظان مقيدين.

تنبيهات :

الأول : أن الإطلاق والتقييد أمران إضافيان بمعنى أنه لا بد من مقايسة مجرى الإطلاق والتقييد بالأمور الخارجية

فكل أمر لم يكن له دخل في مورد الإطلاق فالمورد بالقياس عليه مطلق وكل أمر له دخل فيه فالمورد بالنسبة إليه مقيد فإذا قال أعتق رقبة مؤمنة كانت الرقبة بالنسبة إلى الأيمان مقيدة وبالنسبة إلى العدالة مثلا مطلقة.

الثاني : أن كلا من الإطلاق والتقييد يلاحظ تارة في اللفظ الدال على نفس الحكم الشرعي ،

وأخرى فيما دل على موضوعه ، وثالثة في ما دل على متعلقه ، فإذا قال المولى يجب إكرام العالم يقال إن الوجوب والبعث غير مقيد لأن كلمة يجب مطلقة ، وإن فعل الإكرام أيضا غير مقيد لإطلاق كلمة الإكرام ، وكذا لفظ العالم أيضا مطلق غير مقيد ، فالألفاظ مطلقات والمعاني أيضا مطلقات ، ولو قال يجب في يوم الخميس إكرام العالم أو يجب إكرامه بالضيافة أو يجب إكرام العالم العادل كان اللفظ الدال على الحكم في المثال الأول وعلى الموضوع في الثاني وعلى المتعلق في الثالث مقيدات كما أن المعاني أيضا مقيدات.

الثالث : الإطلاق قد يلاحظ بالنسبة إلى أفراد المعنى فيسمى إطلاقا أفراديا ،

وقد يلاحظ بالنسبة إلى حالاته فيسمى إطلاقا أحواليا ، والمراد من الأول شيوع المعنى الكلي في أفراده ومن الثاني شمول المعنى بحسب أحواله.

وبين الإطلاقين عموم من وجه ، فقد يتحقق الأحوالي دون الأفرادي كما إذا قال المولى أكرم زيدا ، فزيد وإن كان جزئيا لا يتصف بالإطلاق الأفرادي إلا أنه يتصف بالإطلاق الأحوالي ، فهو مطلق من هذه الجهة قابل للتقييد بأن يقول أكرمه إذا كان مسافرا أو مريضا.

٢٤٧

ونظيره ما إذا ورد أكرم العلماء فإن للعلماء وإن كان عموما أفراديا إلا أن لكل واحد من الأفراد إطلاقا أحواليا.

وقد يتحقق الأفرادي دون الأحوالي كما إذا قال أعتق رقبة ثم قال وجميع حالاتها عندي متساوية ، أو إنه لم يكن من جهة الحالات في مقام البيان فالرقبة مطلقة من حيث الأفراد ولا إطلاق لها من حيث الأحوال.

وقد يتحققان معا كما إذا قال إن ظاهرت فأعتق رقبة فللرقبة إطلاقان من حيث الأفراد والأحوال أي أيّة رقبة كانت وفي أيّ حال كانت.

الرابع : قد يكون مجرى الإطلاق والتقييد اللفظ وقد يكون الغرض المستفاد من المولى ،

فالأول : هو اللفظ المشكوك في شموله لما له من المعنى كالأمثلة السابقة.

والثاني : هو المعنى المستفاد فإذا استفدنا من ناحية المولى حكما من الأحكام بعثا أو زجرا أو غيرهما بواسطة لفظ أو غير لفظ وشككنا في دخالة شيء في غرضه أو مانعية أمر عن ذلك ، وكان في مقام بيان تمام ما له دخل في غرضه ولم يتعرض لشيء ولم ينبه على غير ما علمناه أمكن التمسك حينئذ لعدم دخل شيء في غرضه بأنه لو أراد ذلك لأفاد وأشار إلى ما يبين المراد ويسمى هذا بالإطلاق المقامي في مقابل الإطلاق اللفظي ، فإذا قال اغتسل من الجنابة وشككنا في شرطية قصد الأمر في الغسل جاز التمسك لنفي الشرطية بهذا الإطلاق وإن لم يجز التمسك بالإطلاق اللفظي للزوم الدور أو الخلف. وكذا لو كان في مقام بيان شرائط المأمور به مثلا فعدّ شروطا خاصة جاز التمسك بعدم شرطية غيرها بالإطلاق ، ويسمى هذا بالإطلاق المقامي.

الخامس : يعرف مما ذكرنا أن ألفاظ المطلق كالمذكورات وغيرها لا دلالة لها وضعا إلا على الماهية المبهمة ، فالشيوع والسريان من طواريها وعوارضها الثانوية يكون خارجا عما وضع له وحينئذ فلا بدّ في دلالة اللفظ عليه من قرينة مقالية كقوله : أعتق رقبة ، أية رقبة كانت ، أو حالية كما إذا علم من حاله أنه يحبّ عتق الرقاب مطلقا ، وقد تكون الدلالة بما يسمى مقدمات الحكمة ، وهي مركبة من مقدمات ثلاث :

إحداها : إحراز كون المتكلم في مقام بيان المراد لا بيان أمر مجمل وإحالة التوضيح إلى مقام آخر.

٢٤٨

ثانيتها : عدم وجود قرينة حالية أو مقالية في مقام التخاطب.

ثالثتها : عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، فإذا قال أعتق رقبة وكان في مقام البيان ولم يقل مؤمنة ولم يعلم من حاله أنه يبغض عتق الكافرة ، ولم يرتكز في أذهان السامعين مثلا عدم إمكان عتق الكافرة انعقد الإطلاق للفظ بهذه المقدمات وهي كثيرة التحقق.

٢٤٩

المفهوم والمنطوق

عرفوا المنطوق بأنه حكم مذكور في الكلام لموضوع مذكور.

والمفهوم بأنه حكم غير مذكور تستلزمه خصوصية المعنى المذكور.

وينقسم المفهوم إلى قسمين : المفهوم الموافق والمفهوم المخالف.

فالأول : هو المعنى غير المذكور الموافق للمعنى المذكور ، في الإيجاب والسلب.

والثاني : هو المعنى غير المذكور المخالف للمذكور فيهما ، فظهر أن المنطوق والمفهوم وصفان للمعنى دون اللفظ ، وأن الأول من قبيل المداليل المطابقية والتضمنية ، والثاني من قبيل المداليل الالتزامية.

مثال المنطوق والمفهوم الموافق قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) فحرمة التأفيف وهو التلفظ بأف حكم مذكور ومنطوق ، وحرمة الضرب والشتم حكم غير مذكور يسمى بالمفهوم ، وهذا الحكم لازم لخصوصية المعنى الأول وهي كون التأفيف أدنى مرتبة من الإيذاء والعقوق للوالدين ، فحرمة الفعل الأدنى بهذه الخصوصية تستلزم حرمة الأعلى.

ومثال المنطوق والمفهوم المخالف ففي مفهوم الشرط ، كما إذا ورد : إن جاء زيد فأكرمه ، فإن وجوب إكرام زيد عند مجيئه منطوق ، وعدم وجوبه عند عدم المجيء مفهوم مخالف وهو لازم لخصوصية في المعنى المذكور وهو انفهام كون المجيء علة

٢٥٠

منحصرة للوجوب ، فلازم العلية المنحصرة انتفاء الحكم عند انتفائها.

وفي مفهوم الوصف كما إذا ورد في الغنم السائمة زكاة ، فالوجوب الثابت للسائمة منطوق ، وعدمه للمعلوفة مفهوم ، والخصوصية هو إشعار الكلام بكون السوم علة منحصرة للوجوب.

وفي مفهوم الغاية كما إذا قيل هذا الغذاء حلال لك إلى مجيء زيد ، أو قيل سر من البصرة إلى الكوفة ، فيكون عدم الحلية بعد مجيء زيد وعدم وجوب السير بعد دخول الكوفة مفهومين لازمين لخصوصية تحديد الحكم بذلك الحد المعين في المثال الأول ، وتحديد الموضوع بالحد المذكور في المثال الثاني.

وفي مفهوم اللقب : كما إذا قيل أكرم زيدا فإن عدم وجوب إكرام عمرو مفهوم مخالف للزومه لخصوصية حصر الوجوب في زيد والمراد من اللقب الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس وغيرها من الجوامد.

وفي مفهوم الاستثناء كما إذا قيل جاءني القوم إلا زيدا ، فنسبة المجيء إلى قوم ليس فيهم زيد أعني الموضوع المتخصص بتلك الخصوصية تستلزم عدم مجيء زيد وهو مفهوم مخالف ، وهذا مبني على كون كلمة الاستثناء حرفا موضوعا للمعنى الآلي ، وهو تخصص القوم بخصوصية عدم كون زيد مثلا فيهم ، وأما بناء على كونها اسما أو فعلا فيكون الحكم المزبور منطوقا أيضا كقولك أستثني زيدا وقس عليها سائر المفاهيم.

تنبيهان :

الأول : أنك قد عرفت أن المعتبر في المفهوم هو كون الحكم غير مذكور ،

سواء كان الموضوع والمتعلق مذكورين أو كانا غير مذكورين ، أو كان الأول مذكورا والثاني غير مذكور أو كان على عكس ذلك ، فالأمثلة أربعة.

أولها : كمفهوم الشرط فإن الإكرام الذي هو الموضوع وزيدا الذي هو المتعلق مذكوران في الكلام.

ثانيها : كما إذا ورد لا تقل لأمك أف واستفدنا منه حرمة ضرب الأب أيضا ،

٢٥١

فالضرب والأب موضوع ومتعلق غير مذكورين.

ثالثها : كوجوب الزكاة في السائمة المستفاد منه عدمها في المعلوفة ، فالموضوع أي الزكاة مذكور والمتعلق أعني المعلوفة غير مذكور.

رابعها : كآية التأفيف للأبوين بالنسبة إلى ضربهما ، فالموضوع أعني الضرب غير مذكور والمتعلق أعني الأبوين مذكور.

الثاني : هل المفاهيم المذكورة كلها حجة أو ليس شيء منها بحجة ، أو الموافق منها حجة دون المخالف ،

أو إن الشرط حجة دون غيره ، أو إن الغاية حجة دون غيرها وجوه يرجع إلى مظانها.

٢٥٢

المفهوم المردد والفرد المردد

يقع التكلم في هذين العنوانين في علم الأصول في باب الاستصحاب فيقال هل يجوز إجراء الاستصحاب في المفهوم المردد أم لا أو هل يجري في الفرد المردد أم لا.

وتوضيح العنوان الأول : أنه لو كان هنا لفظ لم يعلم مفهومه على التفصيل وكان مرددا بين أمرين أو أمور كلفظ الكر مثلا إذا فرضنا الجهل بمعناه الشرعي وتردده بين أن يكون ثلاثة وأربعين شبرا تقريبا أو ستة وثلاثين فمفهوم الكر مردد بينهما ، فإذا علمنا بوجود ماء في الحوض بمقدار المفهوم الأول ثم أخذنا منه مقدارا فنقص وصار بمقدار الثاني ، فهل يجوز استصحاب بقاء كريته فيقال إنه كان كرا قبل نقصانه فالآن هو أيضا كر ، أو لا يجوز الاستصحاب لأن الشك ليس في هذا الموجود بل في تعيين المعنى المراد من اللفظ وأن المستعمل فيه اللفظ هذا أو ذاك وليس هو بمجرى الاستصحاب ، قولان ذكروهما في ذيل مسألة استصحاب الكلي.

ومن ذلك أيضا ما لو شككنا في معنى النهار وأنه عبارة عن استتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية ، فإذا استتر القرص ولم تذهب الحمرة جرت مسألة جواز استصحاب النهار وعدمه ، ومنه أيضا ما لو شككنا في معنى العدالة وأنها ترك الذنوب كلها أو خصوص ترك الكبائر ، فإذا كان زيد عادلا قطعا أي تاركا لجميع الذنوب ثم

٢٥٣

ارتكب ذنبا صغيرا فالكلام في صحة استصحاب العدالة وعدمها هو الكلام في سابقتها.

والحاصل أن في تلك الأمثلة يشك في بقاء المفهوم لتردده بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء.

وتوضيح العنوان الثاني : أنه لو كان هنا لفظ معلوم المفهوم ووجد له مصداق في الخارج وحصل الشك في أن الموجود هل هو الفرد الفلاني أو فرد غيره وتردد الأمر بينهما تحقق حينئذ معنى الفرد المردد ، فإذا علمنا بوجود حيوان في الدار وشككنا في أنه بق أو فيل فمضت ثلاثة أيام فعلمنا أنه لو كان بقا لمات وانعدم ولو كان فيلا كان باقيا ، فتارة يتكلم في جواز جريان الاستصحاب في نفس المفهوم الكلي كالحيوان وأخرى يتكلم في جريانه في الفرد المردد ، فيقال إن الموجود المردد بين ذاك وذاك ، المعلوم وجوده في الثلاثة باق بعدها أيضا بالاستصحاب ، وهذا هو استصحاب الفرد المردد ، والمشهور عدم جريانه ، ولا فرق في الكلي المرددة أفراده بين الجنس كالمثال أو النوع والصنف.

٢٥٤

المقدمة

هى في الاصطلاح مطلق ما يتوقف عليه الشيء فتطلق على العلة التامة وعلى كل جزء من أجزائها.

وتنقسم بانقسامات :

الأول : انقسامها إلى المقدمة الداخلية والخارجية.

والأولى : عبارة عن كل جزء من أجزاء الشيء المركب ، فكل جزء مقدمة بالنسبة إلى وجود مجموع ذلك المركب وحصول ماهيته ، فللشيء بعدد أجزائه مقدمات داخلية.

فإن قلت يلزم على هذا في المقدمات الداخلية اتحاد المقدمة وذي المقدمة فإن ذا المقدمة هو المركب والمقدمة هي الأجزاء وهي أيضا عين المركب.

قلت لا يلزم الاتحاد فإن ذا المقدمة هو المجموع والمقدمة كل جزء من الأجزاء وليس كل جزء عين الكل قطعا ، نعم اللازم هنا اتحاد ذي المقدمة مع جميع المقدمات فإن المركب عين جميع الأجزاء فالصلاة ذو المقدمة والركوع مقدمة والسجود مقدمة وهكذا.

٢٥٥

والثانية : عبارة عن الأمور الخارجة عن الشيء مما يتوقف الشيء عليه كالصلاة بالنسبة إلى غسل الثوب فهي مقدمة خارجية لها.

الثاني : انقسامها إلى العقلية والشرعية والعادية.

فالأولى : كالصعود بالنسبة إلى الكون على السطح ، وطي الطريق بالإضافة إلى الكون في مكة مثلا.

والثانية : كالطهارات الثلاث بالنسبة إلى الصلاة وطهارة الماء والتراب بالنسبة إلى الطهارات.

والثالثة : كالتلبس بلباس خاص بالنسبة إلى الحضور عند بعض العظماء مثلا أو كالدخول من الباب بالإضافة إلى الكون في داخل البيت مع إمكان الدخول من كوّة في السطح وكركوب خصوص السيارة للكون في مكة فإنه وإن كان الجامع بين الأمرين أو الأمور مقدمة عقلية إلا أن خصوص الدخول من الباب وركوب السيارة مقدمة عادية لإمكان إيجاد ذي المقدمة بلا إتيان هذه المقدمة عقلا.

الثالث : انقسامها إلى المتقدمة والمقارنة والمتأخرة زمانا بالنسبة إلى ذي المقدمة ،

وينقسم كل منها أيضا إلى ثلاثة أقسام لأن كلا منها إما أن يكون مقدمة للحكم التكليفي أو للحكم الوضعي أو للمأمور به ، فالأقسام تسعة ثلاثة للمقدمة المتقدمة زمانا وثلاثة للمقارنة وثلاثة للمتأخرة.

فالمقدمة المتقدمة للحكم التكليفي كما إذا ورد إن جاء زيد فأكرمه بعد مجيئه بيوم ، فمجيء زيد اليوم مقدمة لحدوث وجوب إكرامه في الغد.

والمقدمة المتقدمة للحكم الوضعي كالعقد في الوصية ، فإن ملكية الموصى له للعين الخارجية بعد موت الموصي موقوفة على الإنشاء السابق الواقع من الموصي.

والمقدمة المتقدمة للمأمور به كالطهارات الثلاث بالإضافة إلى الصلاة ، والأغسال الليلية للمستحاضة بالنسبة إلى صوم اليوم البعدي ، بناء على كون المقدمة نفس تلك الأفعال لا الحالة الحاصلة منها المقارنة للعمل.

وأما أقسام المقدمة المقارنة ، فالمقارنة للحكم التكليفي كالبلوغ والعقل والقدرة بالنسبة إلى وجوب الصلاة والصيام ونحوهما ، فيشترط وجودها حاله ولا يلزم تقدمها

٢٥٦

زمانا.

والمقارنة للحكم الوضعي كشرائط المتعاقدين من البلوغ والعقل بالنسبة إلى حصول الملكية والزوجية وغيرهما.

والمقارنة للمأمور به كالاستقبال والستر وطهارة الثوب بالنسبة إلى الصلاة.

وأما أقسام المقدمة المتأخرة.

فالمتأخرة عن الحكم التكليفي كما إذا ورد إن سافر زيد فأكرمه قبل ذلك بيوم ، فسفره في الغد مقدمة لوجوب إكرامه اليوم ، وكذا سببية يوم الجمعة لاستحباب غسلها في يوم الخميس لمن لم يتمكن منه يومها ، وسببية يوم الفطر لوجوب الفطرة من أول شهر رمضان على القول به.

والمتأخرة عن الحكم الوضعي كإجازة المالك في عقد الفضولي عن القول بالكشف ، فإن الملكية الموجودة حال العقد تتوقف على الإجازة المتأخرة بناء على ذلك القول.

والمتأخرة عن المأمور به كالأغسال الليلية للمستحاضة بالإضافة إلى صوم يومها الماضي ، فالصوم المتقدم يتوقف على الغسل المتأخر.

الرابع : انقسامها إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة الوجوب ومقدمة العلم أعني العلم بامتثال التكليف.

فالأول : كالأجزاء والشرائط الركنية مما له دخل في تحقق مسمى المأمور به بالإضافة إلى المأمور به على القول بالأعم ومثل جميع الأجزاء والشرائط على القول بالصحيح فالركوع مثلا مقدمة وجودية للصلاة على الأعم والقراءة ، وطهارة الثوب أيضا مقدمة وجودية لها على الصحيح.

والثانية : كالجزء اللازم غير الركني مثل السورة والذكر في الصلاة فإنه مقدمة للصحة لا للوجود بناء على الأعم إذ الوجود يتحقق بدونه أيضا.

والثالثة : كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج فإنها شرط لوجوبه لا لوجوده.

والرابعة : كالعمل على طبق الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي ، فإذا علم المكلف إجمالا بوجوب صلاة واحدة يوم الجمعة قبل صلاة العصر ، وشك في أنها الظهر

٢٥٧

أو الجمعة فهو إذا أتى بالظهر مثلا وفرضنا أن الواجب واقعا في حقه هو الظهر ، فحينئذ وإن حصل به الامتثال واقعا لكنه لم يحصل له العلم بذلك فإذا أتى بالجمعة يحصل له العلم بالامتثال فيكون إتيان المحتملات مقدمة للعلم بامتثال التكليف لا لنفس الامتثال والعلم بالامتثال واجب عقلا كنفس الامتثال فتكون مقدمته كذلك.

الخامس : انقسامها إلى الموصلة وغير الموصلة.

بيانه : أن القائلين بوجوب المقدمة وكونها واجبة بوجوب غيري مترشح من الوجوب النفسي اختلفوا في إطلاق تعلق الوجوب بها وإطلاق إنصافها بصفة الوجوب أو تقيدهما بقيد على أقوال :

الأول : كون وجوبها الغيري مشروطا بقصد إتيان ذي المقدمة ، فإذا قصد المكلف الإتيان بالصلاة مثلا صارت مقدماتها واجبة وإلا فلا ، فقصد الإتيان بذي المقدمة بالنسبة إلى وجوب المقدمة من قبيل الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، فعلى هذا يكون وجوب الصلاة بعد دخول الوقت مطلقا ووجوب مقدماتها مشروط بإرادة الصلاة وهذا نوع من القول بالمقدمة الموصلة ومعناه أن المقدمة إن قصد بها الوصول إلى ذي المقدمة تعلق بها الوجوب وإلا فلا ، وهذا مختار صاحب المعالم قدس‌سره.

الثاني : أن الوجوب المتعلق بها وإن كان مطلقا إلا أن اتصافها بصفة الوجوب مشروط بقصد الوصول إلى ذيها ، وعليه إذا دخل الوقت لصلاة الظهر مثلا ، فكما يتعلق الوجوب النفسي بالصلاة يتعلق الوجوب الغيري أيضا بمقدماتها من غسل الثوب والوضوء ونحوهما ، إلا أنه متعلق بالمقدمة المقصود بها التوصل لا بغيرها ، والفرق بينه وبين سابقه أن قصد الوصول كان هناك شرطا للوجوب فقبل تحقق القصد لا وجوب أصلا وهو هنا شرط للواجب والمقدمة الموصلة وغير الموصلة بهذا المعنى نظير المقدمة المحللة والمحرمة ، فكما أن الوجوب الغيري لا يتعلق إلا بالمحللة دون المحرمة فكذا لا يتعلق هنا إلا بالمقصود بها التوصل دون غيرها وهذا مختار الشيخ رحمه‌الله.

وتظهر الثمرة بينهما فيما إذا نذر الشخص بأنه متى توجه إليه وجوب غيري تصدق بدرهم ، فإذا دخل وقت الصلاة في المثال ولم يقصد إتيانها لم يتوجه إليه وجوب غيري أصلا فلا يجب التصدق على قول صاحب المعالم رحمه‌الله ، وتوجه إليه ذلك ووجب التصدق

٢٥٨

على مختار الشيخ رحمه‌الله.

الثالث : القول بإطلاق الوجوب الغيري كسابقه إلا أن اتصاف المقدمة بالوجوب مشروط بترتب ذي المقدمة عليها وتحققه بعدها ، سواء قصد الوصول إليه أم لا وسواء كان تحققه بعدها اتفاقيا أو لأجل كون هذه المقدمة علة تامة لحصوله ، والشرط هنا أيضا من قبيل شرط الواجب لا شرط الوجوب إلا أن الشرط في سابقه كان قصد الوصول وهنا نفسه ، فإذا أتى الشخص بالمقدمة مع عدم قصده الإتيان بالواجب كأن غسل ثوبه النجس لا لغرض إتيان الصلاة ثم بدا له في فعلها وأتى بها اتصف الغسل بالوجوب الغيري بناء على هذا الوجه ولم يتصف به على الوجه السابق وهذا مختار صاحب الفصول رحمه‌الله.

الرابع : إطلاق الوجوب أيضا إلا أنه مترتب على خصوص المقدمة المستلزمة لوجود ذي المقدمة والعلة التامة له ، فيختص الوجوب بالعلة التامة من بين المقدمات ، ففي الأفعال الاختيارية لا يتصف بالوجوب من مقدماتها إلّا إرادة المكلف إن قلنا بصحة تعلق الوجوب بها إذ هي العلة التامة للفعل دون غيرها ، وفي الأفعال التوليدية كالقتل بالتسبيب مثلا تتصف به المقدمة الأخيرة كرمي السهم والإلقاء في النار والماء ، وهذا هو المعنى الرابع للمقدمة الموصلة وهو الذي أورده صاحب الكفاية على الفصول بأنه يلزمه القول بوجوب ذلك.

٢٥٩

الموافقة والمخالفة

يلاحظ كل واحد من العنوانين في الاصطلاح منسوبا إلى تكاليف الآمر ومضافا إليها فالمراد بها هاهنا موافقة الأحكام الشرعية ومخالفتها.

ثم إن كلا منهما إما أن يلاحظ في العمل أعني فعل الجوارح أو في الالتزام أعني فعل القلب والجوانح ، ويسمى الأول بالموافقة والمخالفة العمليتين والثاني بالموافقة والمخالفة الالتزاميتين ، وعلى التقادير إما أن تكون قطعية أو احتمالية فالأقسام ثمانية فإذا اعتقد المكلف بوجوب دفن ميت مثلا فتركه وذهب بسبيله فهو مخالفة عملية قطعية ، وإذا لم يعتقده قلبا لكنه دفنه خوفا منه أو كراهة لرائحته فهو مخالفة قطعية التزامية ، وإذا لم يعتقد ولم يدفن مع قيام الدليل على وجوب دفنه فهما مخالفتان قطعيتان عملية والتزامية ، ولو اعتقد بعد حصول العلم الإجمالي بوجوب الظهر والجمعة وجوب إحداهما فأتى بها ولم يعتقد وجوب الأخرى فتركها حصلت الموافقة الاحتمالية العملية والالتزامية بالنسبة إلى ما أتى بها والمخالفة الاحتمالية كذلك بالنسبة إلى الأخرى.

تنبيهات :

الأول : لا إشكال ولا خلاف في حرمة المخالفة العملية للأحكام الفرعية

٢٦٠