اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

قاعدة القرعة

القرعة في اللغة السهم والنصيب ، وفي عرف الفقهاء والعرف العام الاحتيال في تعيين المطلوب لدى الشبهة والإبهام بكتابة ونحوها.

فللقاعدة موضوع ومحمول ، موضوعها ما عينه الاحتيال ومحمولها ترتيب آثار الواقع عليه ، أو موضوعها الاحتيال ومحمولها إعطاء الطريقية له وجعله كالعلم تعبدا وتنزيلا.

والأول مبني على كونها أصلا والثاني على كونها أمارة.

فتشمل القاعدة موارد الاشتباه في الظاهر مع وجود واقع محفوظ ، وموارد الإبهام وعدم التعين في الواقع ونفس الأمر.

فإذا أوصى الميت بعتق عبد معين من عبيده فحصل الاشتباه بعد موته في أنه زيد أو عمرو عين المطلوب بالقرعة وحكم بكونه الموصى به واقعا ، كما أنه إذا أوصى بعتق عبد من عبيده من غير تعيين عين أحدهم بالقرعة وأعتق ، وإن شئت فسم نظائر المثال الأول بالمشتبه والمجمل ، ونظائر المثال الثاني بالمبهم والمهمل ، وسم كلا القسمين بالمشكل والمجهول.

تنبيهات :

الأول : استدلوا على مشروعية القرعة في الجملة بعدم الخلاف بين المسلمين بل

٢٠١

إجماعهم عليها ، وبقوله تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ).

وبقوله تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ). وبأخبار يدعى تواترها ، منها قول الكاظم «عليه‌السلام» : «كل مجهول ففيه القرعة فقلت إن القرعة تخطىء وتصيب فقال كل ما حكم الله به فليس بمخطئ».

وقول الصادق «عليه‌السلام» : «ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله إلا خرج سهم المحق».

الثاني : أن هذه القاعدة هل هي من الأمارات ، بمعنى أن الشارع جعل الاحتيال بالكتابة ونحوها طريقا إلى إحراز الواقع تأسيسا أو إمضاء.

أو هي أصل من الأصول العملية ، بأن حكم الشارع بترتيب آثار الواقع على ما عين بها تعبدا من دون نظر إلى إيصال المكلف إلى واقع محفوظ وجهان أظهرهما الثاني ، لشمولها لموارد الإبهام مع عدم وجود واقع محفوظ هناك حتى تكون الأمارة مؤدية إليه ، فراجع أخبار الباب.

وتظهر الثمرة في تقدمها على الأصول العملية حكومة أو ورودا وعدمه ، فعلى الأمارية تتقدم وعلى فرض كونها أصلا يتعارضان.

الثالث : لا تشمل قاعدة القرعة للشبهات الحكمية ، والموضوعات المستنبطة ، للإجماع المحقق على ذلك ، فليس للفقيه إذا شك في حرمة شرب التتن مثلا وإباحته تعيين الحكم الواقعي بالقرعة ، وكذا في موارد الاشتغال والتخيير ونحوهما.

كما أنه ليس له تعيين أجزاء الصلاة وشرائطها لدى الشك بها.

فيختص موردها بالموضوعات الصرفة ، كتعيين أن الملك الذي يدعيه زيد وعمرو ولا يد لأحدهما عليه ، لزيد أو لعمرو وأن الفرد الموطوء من قطيع غنم هذا أو ذاك.

ثم إنه حيث كانت أدلة القرعة عامة لكل مورد شبهة ، حكمية أو موضوعية مع قيام الإجماع على عدم العمل بها على ذلك العموم والشمول بل كان الخارج من تحتها أكثر من الباقي.

فلا جرم كان دلالتها ضعيفة موهونة ومن هنا اشتهر أن التمسك بها في مواردها يحتاج إلى جبر بعمل الأصحاب فراجع.

٢٠٢

قاعدة لا ضرر

هى إخبار الشارع بعدم جعله الحكم الضرري في شرعه ودينه تكليفيا كان أو وضعيا ، أو هي حكمه بانتفاء الموضوع الضرري ادعاء بعناية عدم جعل الحكم له.

فللقاعدة موضوع ومحمول ، موضوعها الحكم الضرري أو الموضوع الخارجي الضرري ، ومحمولها الإخبار عن عدم جعل ذلك الحكم حقيقة أو عدم ذلك الموضوع تنزيلا وادعاء بلحاظ عدم حكمه.

مثلا إذا فرضنا في مورد تضرر المكلف بالتوضؤ فإيجاب الشارع للوضوء حينئذ يكون حكما ضرريا ينشأ منه تضرر المكلف ، فنقول حينئذ إن وجوب الوضوء هاهنا حكم ضرري وكل حكم ضرري مرفوع ، فالوجوب هنا مرفوع أو نقول الوضوء مثلا موضوع ضرري فهو مرفوع بعناية رفع حكمه ، ومثله الغسل والصوم والقيام في الصلاة وغيرها.

ونقول في رفع حكم الحرمة إن حرمة الكذب أو شرب الخمر ضررية في هذا المورد فهي مرفوعة ، أو إن نفس الكذب أو الشرب مرفوع بعناية رفع حكمه أعني الحرمة.

ونقول في رفع الإباحة مثلا إن إباحة إضرار شخص بشخص أو إتلاف ماله حكم ضرري فهي مرفوعة.

وفي الحكم الوضعي أن لزوم بيع المغبون حكم وضعي ضرري فهو مرفوع أو أن

٢٠٣

نفس البيع مرفوع بعناية رفع لزومه.

تنبيهات :

الأول : ما ذكرنا من الترديد في كون معنى القاعدة هو نفي الحكم أو نفي الموضوع إنما هو لأجل الاختلاف فيما يستفاد من الأدلة من معناها كما سيجيء في التنبيه الثاني ، والمعنيان في الغالب متحدان في النتيجة وقد يختلفان فيها.

ففي الإناءين المشتبه مضافهما بمطلقهما إذا فرضنا أن المكلف لا يتضرر بوضوء واحد ويتضرر بوضوأين ، فعلى المعنى الأول يرتفع الوجوب ، إذ بقاؤه مستلزم للاحتياط المستلزم للضرر فالضرر ينشأ من الحكم الشرعي فهو ضرري محكوم بالارتفاع بالقاعدة ، وعلى المعنى الثاني فالموضوع الواقعي أعني التوضؤ بالماء ليس ضرريا بنفسه والضرر إنما ينشأ من ضم غير الموضوع إلى الموضوع فهو غير مرفوع بالقاعدة إلا إذا حكم العقل بعدمه ، أو فرض شمول قاعدة الحرج للمورد وهو أمر آخر.

الثاني : أن المدرك للقاعدة ، عدة أخبار يشتمل أكثرها على الجملة المشهورة وهي قوله لا ضرر ولا ضرار إما مطلقا أو مقيدا بقوله على مؤمن أو بقوله في الإسلام ، وحيث إن الضرر موجود في الخارج وجدانا وجب التصرف في ظاهر الكلمة ، فذهب شيخنا الأنصارى (قدس‌سره) إلى المجاز في الحذف أي لا حكم ضرري ، وصاحب الكفاية إلى المجاز في الإسناد وأن المنفي نفس الضرر والنقص البدني أو المالي بعناية نفي حكمه كقوله «عليه‌السلام» : «يا أشباه الرجال ولا رجال».

الثالث : تجري القاعدة في رفع الأحكام التكليفية الخمسة كما تجري في الوضعية ، فالبعث المتعلق بالصوم الضرري كالزجر المتعلق بشرب الخمر ، يرتفعان عند الضرر.

وأما إباحة الشيء واستحبابه فهما بالنسبة إلى نفس المكلف وماله لا يكونان ضرريين ، فترخيص الشارع للمكلف في قطع يده أو إتلاف ماله بل وطلبهما منه على وجه الاستحباب ليسا بضرريين ، إذ الموقع له في الضرر حينئذ إرادته واختياره لا ترخيص الشارع وطلبه ، نعم الشارع لم يمنعه عن الإضرار بنفسه أو ماله فأوقع نفسه فيه

٢٠٤

وهذا غير إيقاع الشارع له في الضرر.

نعم إباحة إضراره للغير في نفسه وماله أو طلب ذلك منه يكون حكما ضرريا مرفوعا بالقاعدة.

الرابع : النسبة بين هذه القاعدة والأحكام الأولية الثابتة لموضوعاتها هي نسبة الحاكم إلى المحكوم ، وقد مر تفصيل ذلك تحت عنوان الحكومة.

٢٠٥

قاعدة المقتضي والمانع

هي الحكم بوجود المسبب والمقتضى بالفتح في كل ما أحرز سببه ومقتضيه وشك في وجود مانعه ، فللقاعدة موضوع ومحمول فموضوعها إحراز المقتضي بالكسر والشك في وجود المقتضى بالفتح ومحمولها هو الحكم بوجوده وترتيب آثاره ، مثلا إذا علمنا بوقوع النار على ثوب أو فراش وشككنا في أنه هل هناك رطوبة مانعة عن الاحتراق أم لا حكمنا بناء على القاعدة بحصول الاحتراق ، وكذا إذا علمنا بملاقاة النجاسة للماء المقتضية لتنجسه وشككنا في كريته المانعة وعدمها حكمنا بنجاسة الماء لهذه القاعدة ، ومثله ما لو علمنا بوجود مصلحة ملزمة أو مفسدة ملزمة في فعل وشككنا في تعلق الوجوب أو التحريم به وعدمه لاحتمال وجود مانع عن جعل الحكم ، حكمنا بوجوبه أو حرمته.

ثم إن المشهور عدم حجية هذه القاعدة وعدم دليل عليها من نقل أو عقل. وأيضا إن هذه القاعدة على فرض تماميتها فيما إذا كان وجود الشرط أيضا معلوما وكان المشكوك هو المانع فقط فلو فرض الشك في الشرط أيضا لم تكن جارية ، كما أنه ليس هنا قاعدة تجري فيما إذا علم عدم المانع وشك في وجود الشرط ، فلو علم بإرادة زيد الحج في عام معين وحصول شرائطه وشك في المانع جرت القاعدة ورتب آثار الحاج على زيد ولو علم المقتضي وعدم المانع وشك في تحقق بعض الشروط لم تترتب تلك الآثار فليس هنا قاعدة تسمى بقاعدة المقتضي والشرط. كما أنا لم نقل بالأولى أيضا.

٢٠٦

قاعدة الملازمة

بين حكم العقل والشرع

اعلم أن القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين كما مر في تلك المسألة اختلفوا في ثبوت الملازمة بين حكم العقل والشرع وعدمه.

وهذه المسألة تنقسم إلى مسألتين : الأولى : أن كلما حكم به العقل هل يحكم به الشرع أم لا ، والثانية : أن كلما حكم به الشرع هل يحكم به العقل أم لا.

أما المسألة الأولى : فحاصلها أن كل فعل أدرك العقل حسنه وكونه بحيث يمدح فاعله هل يلازمه حكم الشرع بالوجوب بحيث كلما ثبت الأول كشف عن الثاني ، وأن كل فعل أدرك العقل قبحه هل يلازمه حكم الشرع بحرمته ليستكشف الحرمة منه بالملازمة أم لا.

فقال عدة من الأصحاب بالملازمة ، بتقريب أن الشارع أعقل العقلاء بل هو العقل كله ، وهو العقل من خارج ، كما أن العقل شرع من داخل ، فلا يعقل تخالفهما في الحكم فما حكم به أحدهما هو ما حكم به الآخر بعينه.

وذهب عدة أخرى منهم إلى عدمها لأن وجود الحسن والقبح في الفعل لا يستلزم جعل الحكم من الشرع ، إذ الملاكات من قبيل المقتضيات للأحكام غالبا لا العلل التامة ، فربما يكون وجود الملاك مقارنا لفقد شرط من شرائط جعل التكليف أو

٢٠٧

وجود مانع من موانعه فيدرك العقل حسنه وقبحه لإدراكه الملاك ولا يحكم الشارع بوجوبه وحرمته لأجل الموانع ولهذه الدعوى شواهد في موارد :

منها : أفعال الصبي المقارن للبلوغ ، فإنه لا إشكال في أن صدقه في الكلام ووفاءه بالعهد وإنقاذه الغريق وإنجاءه الحريق مشتملة على مصالح تلك الأفعال الثابتة في حق البالغين الكاملين ، وأن كذبه وخيانته وقتله النفوس وإغارته على الأموال مشتملة على المفاسد كذلك. فيدرك العقل في هذه الموارد حسنها وقبحها مع أن الشارع لم يلزمه إيجابا وتحريما ، بل الواجبات في حقه مستحبات والمحرمات في حقه مكروهات فأين قولهم كلما حكم العقل بحسنه حكم الشرع بوجوبه فظهر الانفكاك بين الحكمين.

ومنها : موارد الواجبات المهمة عند تزاحمها مع ما هو أهم منها ، كالصلاة المزاحمة بإزالة النجاسة أو كإنقاذ الغريق المهم المزاحم مع الإنقاذ الأهم ، فإنه لا حكم إلزامي حينئذ للمهم مع كونه واجدا للملاك الملزم ، فالعقل يدرك الحسن والشارع لا يحكم بالوجوب إذا فلا ملازمة بين الحكمين.

ومنها : جل الأحكام الواجبة والمحرمة في بدء حدوث الشرع فإن عدم استعداد العباد حينئذ للتحريم والإيجاب لقرب عهدهم من الإسلام بحيث ربما كان يوجب بعثهم على الأحكام على نحو الحتم والإلزام نفرتهم عن دين الإسلام ، فلم يكن يلزمهم الشارع ، مع أن حكم العقل بالحسن والقبح كان على حاله.

ومنها : بعض موارد الحكم الإرشادي كوجوب الإطاعة للأوامر والنواهي وحرمة المخالفة لها فإن عنوان الإطاعة مما يحكم العقل بحسنه وعنوان العصيان مما يحكم العقل بقبحه ، مع أنه لا إلزام فيهما شرعا إما للغوية ذلك أو لاستلزامه التسلسل أو غير ذلك.

وأما المسألة الثانية : أعني قاعدة كلما حكم به الشرع حكم به العقل ، فالظاهر من الأصحاب تماميتها وصحتها وكونها مقبولة عند الجل لو لا الكل ، فإن معناها كل فعل حكم الشرع بوجوبه لاشتماله على المصلحة الملزمة ، أو حكم بحرمته لاشتماله على المفسدة الملزمة لو أدرك العقل ذلك الملاك فلا جرم يحكم بحسن الأول وقبح الثاني وهذا ظاهر.

٢٠٨

قاعدة الميسور

إذا رتب طلب شرعي على موضوع عام بعموم استغراقي كقوله أكرم العلماء أو على موضوع مركب ذي أجزاء كقوله أكرم هؤلاء العشرة ، أو صل صلاة الصبح ، فعرض للمكلف عجز عن إتيان ما تعلق به الحكم تاما وكان إتيان بعض المصاديق أو بعض الأجزاء ممكنا ، فهل يبقى البعض الميسور على عهدة المكلف ، ويكون محكوما بحكم كان عليه عند إمكان الجميع ، أم يسقط الميسور أيضا بسقوط المعسور ، فيه وجهان :

المشهور عند الأصحاب الأول فإنهم حكموا ببقاء البعض الممكن على عهدة المكلف وعدم سقوطه بطرو العجز عن البعض الآخر ، وسموا هذه الكبرى الكلية بقاعدة الميسور تارة وقاعدة ما لا يدرك أخرى وإن شئت فسمها بقاعدة الاستطاعة ثالثة.

يعنون بذلك بقاء المقدار الميسور على ما كان عليه من الطلب الشرعي وعدم سقوطه عن عهدة المكلف.

فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها الميسور إتيانه والممكن إدراكه ، من مصاديق الكلي أو أجزاء الكل المرتب عليه الحكم الشرعي ، ومحمولها البقاء على عهدة المكلف وعدم سقوطه.

٢٠٩

فإذا تعلق الوجوب بإكرام جميع العلماء فلم يقدر المكلف على إكرام بعضهم لم يسقط إكرام البعض الباقي وإذا تعلق الطلب بالصلاة ذات الأجزاء والشرائط ، وعرض العجز عن إتيان بعض الأجزاء أو الشرائط لم تسقط الأجزاء الميسورة بفقد البعض المعسور.

تنبيهات :

الأول : استدلوا على القاعدة بالنبوي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» والعلويين «عليه‌السلام» المرويات في غوالي اللئالي ، فعن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» وعن علي «عليه‌السلام» : «الميسور لا يسقط بالمعسور» وعنه «عليه‌السلام» : «ما لا يدرك كله لا يترك كله» وضعف هذه الأخبار مجبور بعمل الأصحاب ، ودلالتها واضحة الانطباق على ما ذكرنا ، فمعنى الخبر الأول إذا أمرتكم بشيء ذي أفراد أو أجزاء فأتوا بالممكن من أفراده أو أجزائه ولا تتركوا ما أمكن لأجل ما لا يمكن.

ومعنى الثاني أنه لا يسقط الميسور من الأفراد والأجزاء بالعجز عن معسورهما ، ومعنى الثالث أن ما لا يمكن إدراك جميع مصاديقه أو جميع أجزائه أو شرائطه لا ينبغي تركه بالكلية بترك الباقي الممكن.

الثاني : الظاهر شمول القاعدة للمستحبات كشمولها للواجبات ، فإن المراد بعدم السقوط بقاء الميسور على العهدة كما كان قبل العجز ، إن واجبا فواجبا وإن ندبا فندبا ، كما أن الظاهر شمولها لصورة كون المعسور من الأجزاء وكونه من الشرائط ، فحينئذ لو طرأ للمكلف عجز عن إتيان السورة في صلاته أو عن غسل ثوبه لها فريضة كانت الصلاة أو تطوعا ، كانت القاعدة في إثبات الباقي على عهدة المكلف محكمة.

الثالث : لا إشكال في اشتراط شمول القاعدة للمركبات بما إذا كان بين الباقي الميسور والمركب المعسور رابطة وتناسب ، لا تخالف وتباين فيشترط أن يعد الباقي لدى العرف ميسورا لذلك المعسور وفردا ناقصا منه مسامحيا بحيث يكتفي العرف بذلك عنه

٢١٠

لدى العجز والاضطرار.

فلو قال جئني بحيوان ناطق فعجز عن تحصيل الناطق وأراد المجيء بالناهق عملا بالقاعدة لم يكن مجزيا قطعا إذ الحمار لا يعد ميسورا اضطراريا للإنسان ، كما أن السجدة الواحدة أو قراءة الفاتحة فقط لا يعد ميسورا للصلاة ، فلا تجري القاعدة لإثبات بقائهما.

٢١١

قاعدة نفي الحرج (أو نفي العسر)

اعلم أنه ينقسم ما يتصور صدوره من العباد من الأفعال والتروك إلى أقسام ثلاثة :

الأول : ما يقدرون عليه ويتمكنون من إتيانه بسهولة وسعة من دون ضيق وحرج ، كتكلمهم ، بالصدق والكذب وأكلهم وشربهم.

الثاني : ما لا يقدرون عليه ولا يطيقونه ، كطيرانهم إلى السماء وعدم تنفسهم مع حياتهم.

الثالث : ما يقدرون عليه مع ضيق وشدة وعسر وحرج ، كصومهم في مرضهم وإنفاقهم جميع ما يملكون وقطعهم لحوم أبدانهم عند تنجسها.

ثم إنه لا إشكال عقلا في جواز كون القسم الأول متعلقا للتكاليف الإلهية بعثا وزجرا وترخيصا ، بل الأحكام التكليفية كلها أو جلها إنما تعلقت بهذا النوع من أفعالهم ، فالمطلوبات والمنهيات والمرخصات بحسب الغالب أفعال أو تروك مقدورة للمكلفين بلا عسر في إتيانها ولا حرج.

وأما القسم الثاني فلا إشكال أيضا في عدم تعلق تكليف إلهي بهذا النوع فعلا وتركا ، ويدل عليه من العقل حكمه القطعي بقبح أن يكلف العاقل غيره بما لا يقدر عليه ، فضلا عن الحكيم تعالى.

٢١٢

ومن النقل قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) والوسع هو الطاقة وصحيحة هشام ... «الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون».

وخبر الاحتجاج ... «وذلك حكمي في جميع الأمم أن لا أكلف خلقا فوق طاقتهم».

وأما القسم الثالث فالذي يستفاد من الكتاب والسنة واستقر عليه كلمات الأصحاب رضي الله عنهم كون تعلق التكليف الإلزامي بالفعل الذي فيه عسر وحرج منفيا في هذه الشريعة ، وسموا هذا الحكم الكلي بقاعدة نفي الحرج أو نفي العسر ، فلهذه القاعدة موضوع ومحمول ، موضوعها كل فعل أو ترك فيه حرج وشدة على المكلف ، ومحمولها نفي حكمه الإلزامي والإخبار عن عدم تعلق ذلك به في الشريعة ، أو رفع نفس الموضوع الحرجي ادعاء وتنزيلا بلحاظ نفي حكمه.

فالغسل في شدة البرد والقيام للصلاة والصيام في شهر رمضان بالنسبة إلى المريض والهرم ونحو ذلك ، أفعال حرجية رفع حكمها في هذه الشريعة بأدلة نفي العسر والحرج.

تنبيهات :

الأول : استدل القوم على هذه القاعدة بأدلة ، فمن الآيات قوله تعالى نقلا لمسألة النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ليلة المعراج : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) والأصر الأمر الشديد العسر.

وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

وقوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ).

وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

ومن الأخبار قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في حديث الرفع : «رفع عن أمتي الخطاء والنسيان. وما لا يطيقون» إلى آخره.

ورواية عبد الأعلى فيمن وضع على إصبعه مرارة قال : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ) إلى آخره» امسح على المرارة.

والحديث المشهور : «بعثت بالشريعة السمحة السهلة» وغير ذلك.

٢١٣

الثاني : أدلة نفي الحرج رافعة للأحكام الشرعية في موارد ودافعة لها في أخرى.

فالحكم المجعول الذي لا حرج في أصل جعله وتشريعه إذا عرضت له الحرجية في بعض الموارد تكون حكومة قاعدة الحرج عليه بالرفع ، لأجل شمول إطلاق دليل الحكم لذلك المورد.

والحكم الذي يكون جعله من أصله حرجيا تكون حكومتها عليه بالدفع فلا جعل ولا إنشاء أصلا لمكان الحرج.

ثم إنهم جعلوا من أمثلة الرفع العفو عن دم الجروح والقروح للمصلي والعفو عن نجاسة ثوب المربية للصبي ورفع شرطية الطهارة عن صلاة المبطون والمسلوس في بعض الفروض ، والترخيص في الإفطار للمريض والحامل والمرضعة والشيخ والشيخة وذي العطاش ، وسقوط القيام عن صلاة المريض والهرم ، وإباحة المحرمات عند الاضطرار.

ومن أمثلة الدفع.

تشريع القصر في السفر ، وتشريع الطلاق ، وعدم وجوب السواك ، وعدم وجوب صلاة الليل وصلاة الجماعة وغير ذلك.

الثالث : لا إشكال في خروج بعض الموارد من تحت هذه القاعدة وعدم شمولها لها كوجوب الجهاد للدعوة إلى الإسلام ، ووجوب الدفع عن الأهل والمال ولو بالقتال ونحوه على القول به.

فحينئذ نقول هل يكون خروجها من تحت القاعدة بالتخصيص كتخصيص قاعدة نفي الضرر ببعض الأحكام الضررية ، أو بالتخصص بدعوى عدم وجود العسر والحرج فيها حقيقة ، فإن أدلة نفي الحرج غير قابلة للتخصيص فهي نظير قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) وقوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فليس ما تخيل كونه من باب الحرج إلا كما تخيل كونه ظلما للعباد من الأحكام ... فأدلة تلك الموارد كاشفة عن الخروج الموضوعي وإن كنا لم نعرف وجهه ، وجهان أظهرهما الأول.

٢١٤

قاعدة اليد

هي الحكم بملكية شيء لمن كان مسلطا عليه ومتصرفا فيه لدى الشك في الملكية.

فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها الاستيلاء الخارجي والتسلط العرفي على ما يشك في كونه ملكا واقعا ، ومحمولها الحكم بالملكية وترتيب آثارها شرعا ، فإذا وجدنا زيدا مستوليا على عباءة يلبسها ويتصرف فيها حكمنا بأن تلك العباءة ملكه وجاز شراؤها منه والتصرف فيها بإذنه.

تنبيهان :

الأول : أن الدليل على القاعدة هو بناء العقلاء على ذلك مع عدم ردع الشارع عنه ، وقوله «عليه‌السلام» في خبر حفص : «حين قال السائل أرأيت إن رأيت في يد رجل شيئا أيجوز أن أشهد أنه له ، قال نعم إلى أن قال ، ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» وقوله في موثقة يعقوب : «في متاع البيت المشترك بين الزوج والزوجة من استولى على شيء منه فهو له».

الثاني : هل القاعدة أمارة أو أصل فيه خلاف ومعنى أماريتها أن السلطنة

٢١٥

والاستيلاء على الشيء من لوازم الملكية وآثارها بحسب الغالب ، لأن الغالب أن المستولي على الشيء والمتصرف فيه هو المالك ولو قد يتفق كونه غاصبا ونحوه فالاستيلاء كاشف ظني عن الملكية كشف اللازم عن ملزومه والأثر عن مؤثره والشارع أتم كشفه الناقص وجعله طريقا إلى الملكية ، فهي أمارة موضوعية مصوبة لدى العقلاء ممضاة من جانب الشارع.

ومعنى كونها أصلا من أن الشارع لم يلاحظ جهة كشفها بل حكم بترتيب آثار الملكية تعبدا عند الشك فيها فتكون من الأصول المحرزة كالاستصحاب.

٢١٦

قاعدة اليقين

هو الحكم بوجود الشيء وترتيب آثار وجوده إذا حصل الشك في الوجود بعد العلم به بأن شك في كون علمه مطابقا للواقع أو مخالفا له فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها الشك الساري في وجود ما تيقن به ومحمولها الحكم بالوجود بمعنى ترتيب آثاره.

فإذا علمنا بعدالة زيد يوم الخميس فصلينا مؤتمين به صلاة ثم شككنا في يوم الجمعة في عدالته في ذلك اليوم وفسقه ، حكمنا بعدالته في ذلك اليوم وصحة تلك الصلاة.

ويتحقق موضوعها بأمور ثلاثة.

تقدم زمان اليقين على زمان الشك ، وعدم اجتماع الوصفين في وقت واحد ووحدة المتعلق حتى بلحاظ الزمان ، كالعدالة المقيدة بيوم الخميس.

ثم إن في حجية هذه القاعدة مطلقا أو حجيتها في الجملة أو عدم حجيتها مطلقا وجوه بل أقوال :

الأول : الحجية مطلقا وبلحاظ جميع الآثار بمعنى أنه يجب الحكم بثبوت ما شك في ثبوته ، بحيث يرتب عليه آثار زمان اليقين وزمان الشك وبعده إلى الأبد ، ففي المثال يحكم بصحة تلك الصلاة وبجواز الايتمام بزيد في حال الشك وبعده رعاية لحال

٢١٧

اليقين السابق ولو كان زائلا فعلا لقوله «عليه‌السلام» : «من كان على يقين فشك فليبن على يقينه أو فليمض على يقينه».

الثاني : حجيتها في الجملة بمعنى لزوم ترتيب آثار زمان اليقين فقط ولو كان زمان الأثر متأخرا ، فيحكم بصحة تلك الصلاة وعدم وجوب قضائها بعد طرو الشك لكنه لا يجوز الاقتداء بزيد فعلا.

الثالث : عدم حجيتها مطلقا ، فلا يحكم بكونه موجودا ولا يرتب عليه الأثر مطلقا ولا أثر لذلك اليقين الزائل أصلا ، فيرجع في الآثار السابقة واللاحقة إلى قواعد وأصول أخر ، فيحكم بصحة تلك الصلاة لقاعدة الفراغ مثلا وبعدم جواز الايتمام بعد الشك لعدم إحراز عدالة الإمام ، وهذا هو المشهور بين الأعلام فلا حجية لقاعدة اليقين ، والخبر المذكور محمول على قاعدة الاستصحاب فراجع بابه.

٢١٨

القطع

ويرادفه في اصطلاح الأصوليين العلم واليقين.

ومفهوم هذه الأسماء واضح ولم يثبت لها في هذا الاصطلاح معنى يغاير معناها اللغوي ، كما أنه لا إشكال في حجية المفهوم المراد بها أعني الوصف الحاصل في النفس المقابل للظن والشك حجيّة ذاتيّة يحكم بها العقل غير قابل للجعل التشريعي إثباتا ونفيا ، فالحجية بالنسبة إليه كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة يكون جعلها لها تحصيلا للحاصل ونفيها عنها تفكيكا بين الشيء وذاتياته ولذا قيل (القطع حجة بنفسه بلا) ، (جعل وإلا دار أو تسلسلا) وقيل أيضا (وهو بنفسه طريق الواقع) ، (وليس قابلا لجعل الشارع).

ثم إنهم قد قسّموا القطع بتقسيمات :

الأول : تقسيمه إلى القطع الطريقي والقطع الموضوعي.

فالأول : هو الذي يكون طريقا صرفا إلى حكم أو موضوع ذي حكم بحيث لا دخل له في الحكم شرعا ولم يؤخذ في متعلقه بنظر الشارع ، فإذا ورد الخمر حرام والبول نجس ، فقطعك هنا قطع طريقي سواء تعلق بالحكم الكلي فعلمت بأن الخمر حرام شرعا أو بالموضوع الخارجي فعلمت أن هذا الإناء خمر ، إذ الفرض أن الحكم رتب على

٢١٩

العنوان الواقعي ، ولم يلاحظ الشارع في مقام جعله إلا الحكم الكلي على الموضوع الكلي والقطع طريق إليه عند العقل.

والثاني : هو الذي يكون مأخوذا في الخطاب ويكون له دخل في الحكم أو في موضوعه وهو على أقسام كثيرة بعضها ممكن وبعضها مستحيل.

وتوضيحه : أن القطع المأخوذ في الموضوع إما أن يكون قطعا متعلقا بالحكم أو بموضوع ذي حكم أو بموضوع بلا حكم ، وعلى التقديرين الأولين إما أن يقع موضوعا لعين الحكم الذي تعلق به أو بموضوعه أو يقع موضوعا لمثله أو موضوعا لضده أو موضوعا لخلافه ، فصارت الأقسام تسعة ، ستة منها مستحيلة وثلاثة منها ممكنة.

أما الستة المستحيلة فهي أن يؤخذ القطع بالحكم أو بموضوع ذي حكم موضوعا لنفس ذلك الحكم أو موضوعا لحكم مثله أو لحكم ضده ، وأما الثلاثة الممكنة فهي أن يؤخذ القطع بالحكم أو بموضوع ذي حكم في موضوع حكم مخالف له ، أو يؤخذ القطع بموضوع بلا حكم في موضوع أيّ حكم كان.

أما أمثلة الأقسام فالأول وهي ما كان القطع بالحكم مأخوذا في موضوع عين ذلك الحكم كما إذا ورد إذا علمت بوجوب الجمعة فهي تجب عليك بعين ذلك الوجوب وهذا باطل لاستلزامه الدور فإن الوجوب يتوقف على العلم به والعلم به يتوقف على الوجوب.

والثاني : وهو ما كان القطع بالحكم موضوعا لمثل ذلك كما لو قال إذا علمت بوجوب صلاة الجمعة فهي تجب عليك بوجوب آخر ، وهذا باطل لاجتماع المثلين أحدهما الوجوب الذي تعلق به القطع والآخر الوجوب الذي تعلق هو بالقطع.

الثالث : وهو ما كان القطع بالحكم موضوعا لحكم ضد ذلك كما لو قال إذا علمت بوجوب الجمعة فهي عليك محرمة ، وهذا باطل لاجتماع الضدين الوجوب والحرمة في موضوع واحد.

الرابع : وهو ما كان القطع بالحكم مأخوذا في موضوع حكم مخالف لمتعلقه كما لو قال إذا علمت بوجوب الجمعة يجب عليك التصدق بدرهم ، وهذا من قبيل القطع الموضوعي الممكن.

٢٢٠