اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

والتقييد بالأدلة التفصيلية لإخراج علم المقلد بأحكامه ووظائفه فإن علومه مستفادة من التعبد بقول مقلده ، وليست مأخوذة عن الأدلة التفصيلية.

والمراد من تلك الأدلة كتاب الله العزيز من نصوصه وظواهره والسنة الواردة عن المعصوم «عليه‌السلام» بشتى أصنافها والإجماع والعقل وقد مر شرح كل واحد تحت عنوانه.

تنبيهان :

الأول : الفقه والاجتهاد اصطلاحان مترادفان وقد يفرق بينهما باستعمال كل واحد في معنى يناسب معناه اللغوى ، فيقال إن الاجتهاد تحصيل الحجة وإقامتها على الأحكام والفقه هو العلم بتلك الأحكام في الغالب ، فمعناهما متلازمان ، ويطلق على المستنبط لعلة جهده واستفراغ وسعه في إقامة الحجة المجتهد ، ومن جهة حصول العلم له فقيها.

فعلم أن الأصولي والمجتهد والفقيه عناوين مترتبة حسب الترتيب التكويني ، فإن الباحث عن الأحكام يثبت أولا حجية خبر العدل مثلا فيكون أصوليا ، ثم يتفحص ويحصل خبرا دالا على وجوب الجمعة فيكون مجتهدا ثم يحصل له العلم بذاك الحكم الشرعي فيكون فقيها.

الثاني : ما عرفنا به الفقه هو تعريف الأكثرين ويخرج عنه جميع المباحث الواقعة في الفقه في تشخيص الموضوعات ، لا سيما الموضوعات المستنبطة ، كالبحث عن ماهية العبادات وأجزائها وشرائطها وموانعها وقواطعها ، وكذا البحث عن سائر الموضوعات العرفية في موارد الحاجة إلى تشخيص بعض مصاديقها كالمعدن والوطن والصعيد ونحوها ، مع كون البحث عنها في العبادات أكثر من البحث عن أحكامها غالبا ، والالتزام بالاستطراد فيها بعيد فينبغي القول بدخول تلك البحوث في هذا العلم ، ويضاف إلى التعريف قيد ـ أو موضوعاتها المستنبطة أو ما أشبهها ـ مثلا.

١٨١

قاعدة التجاوز

هي الحكم بوجود عمل شك في وجوده بعد التجاوز عن محله والدخول في غيره أو بعد ما خرج وقته ، فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها الشك في الوجود وأنه هل أوجده أم لا ومحمولها الحكم بالوجود وترتيب آثاره ، فإذا شك المصلي في أنه أتى بالقراءة أم لا وهو في الركوع أو شك في الركوع وهو في السجود أو شك في السجود وهو قائم منتصب ، يحكم بأنه أوجدها ويمضي في صلاته والشك حينئذ في الوجود بعد تجاوز محل المشكوك ، وكذا لو شك بعد طلوع الشمس في أنه هل أتى بصلاة الصبح أم لا حكم بالإتيان وفراغ الذمة ، وهذا من قبيل الشك في الوجود بعد خروج الوقت.

ثم إن الدليل عليها هو بناء العقلاء في أعمالهم وإمضاء الشارع له بقوله : «كل شيء شك فيه مما جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» وقوله : «يا زرارة إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» وقوله : «متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنك لم تصلها صليتها وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت وقد دخل حائل فلا إعادة عليك».

تنبيهان :

١٨٢

الأول : حيث إن مورد هذه القاعدة الشك في الوجود ومورد قاعدة الفراغ الشك في الصحة كما سيجيء تكون النسبة بين القاعدتين العموم من وجه موردا ، فإنه قد يوجد مورد تجري فيه هذه دون تلك القاعدة ، كما إذا شك في إتيان الركوع بعد الدخول في السجود وقد يوجد مورد تجري فيه تلك القاعدة دون هذه ، كما إذا شك في صحة صلاته من جهة أنه زاد جزء أم لا أو جهر في موضع الإخفات عمدا أم لا ، وقد يوجد مورد يمكن التمسك بكلتا القاعدتين كما إذا شك في صحة صلاته من جهة أنه أتى بالركوع أم لا فيحكم بصحة الصلاة بإجراء قاعدة التجاوز في الركوع أو إجراء قاعدة الفراغ في نفس العمل لو لا القول بالسببية والمسببية.

الثاني : لا إشكال في عدم جريان هذه القاعدة في أجزاء الطهارات الثلاث فإذا شك المتوضي في غسل الوجه وقد شرع في غسل اليدين ، أو شك الجنب في غسل الرأس وقد دخل في غسل الطرف الأيمن مثلا لا يجوز له عدم الاعتناء ، والبناء على إتيانه بالجزء السابق بل اللازم إعادة الجزء على ما يحصل به الترتيب ، إلا أن الكلام في أنه هل القاعدة جارية في أجزاء كل عمل ذي أجزاء كجريانها في الصلاة خرج عنها أجزاء الطهارات الثلاث تخصيصا أو أنها مخصوصة بأجزاء الصلاة فقط ولا دليل عليها بنحو العموم ، فأجزاء الطهارات كأجزاء غيرها خارجة تخصصا وجهان لا يخلو ثانيهما من رجحان.

١٨٣

قاعدة التحسين والتقبيح

العقليين

وقع الاختلاف بين العلماء في أنه هل يحكم العقل بحسن الأفعال وقبحها أو أنه لا يحكم بشيء من الحسن والقبح ، بل هو منعزل عن منصب الحكومة والقضاوة وليس ذلك من حقه ولا هو من وظيفته.

والمراد من حكم العقل إدراكه فإن المعروف أنه ليس للعقل بعث وزجر بل إنما وظيفته إدراك كون الشيء حسنا وكونه قبيحا.

والمراد من الحسن كون الفعل بحيث يستحق فاعله المدح ومن القبح كونه بحيث يستحق فاعله الذم.

وحاصل النزاع حينئذ أنه هل تتصف الأشياء لدى العقل بحسن وقبح يدركهما ويحكم بهما حكما جازما فيمدح فاعل الحسن ويذم فاعل القبيح ، أم لا تتصف بهما عنده ، والنزاع في هذه المسألة وقع بين أصحابنا الإمامية (ره) والمعتزلة وبين الأشاعرة ، فذهب الفريق الأوّل إلى الوجه الأول والفريق الثاني إلى الوجه الثاني.

قال صاحب الكفاية في مقام إثبات مختار أصحابنا الإمامية ما ملخصه ، والحق الّذي عليه قاطبة أهل الحق هو الأول ، فإنه كما يختلف الأحجار والأشجار وسائر الجمادات والنباتات في الخير والشر والنفع والضر تفاوتا فاحشا أكثر مما بين السماء

١٨٤

والأرض ، فكذا أفعال الناس بالنسبة إلى حكم العقل فأين الضرب المورث للحزن والغم من الإحسان الموجب للفرح والسرور ، وكما أن المسموعات بعضها يلائم القوة السامعة وبعضها ينافرها وكذا المبصرات والمذوقات وغيرها ، فكذلك المدركات بالنسبة إلى القوة العاقلة التي هي رئيس تلك القوى فإن لبعض الأفعال بحسب خصوصيات وجوده نفعا وضرا وخيرا وشرا موجبة لاختلافها في الملاءمة للقوة العاقلة والمنافرة ، ومع هذا لا يبقى مجال لإنكار الحسن والقبح عقلا إذ لا نعني بهما إلا كون الشيء في نفسه ملائما للعقل فيعجبه أو منافرا فيضر به فيوجبان ذلك صحة مدح الفاعل وصحة قدحه انتهى.

وأما الأشاعرة فوجه إنكارهم الحسن والقبح أما في أفعاله تعالى فلبنائهم على أن كل ما فعله تعالى فهو صدر منه في محله ، لأنه مالك الخلق كله ، فلو أثاب العاصي وعاقب المطيع لم يأت بقبيح لأنه تصرف في مملكته ومحل سلطنته (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) ، وأما في أفعال العباد فلبنائهم على عدم صدور الأفعال منهم بالاختيار بل بالجبر والاضطرار ولا شيء من أفعال المجبور متصف بحسن ولا قبح ، وكلا البناءين باطلان لأن قدرته تعالى لا يصير الحسن العقلي قبيحا ولا القبيح العقلي حسنا وأفعال العباد اختيارية على الغالب كما يشهد به الوجدان.

تنبيه :

تنقسم الأفعال الاختيارية للمكلفين بناء على قول الإمامية والمعتزلة إلى أقسام ثلاثة ، ما يدرك العقل حسنه ، وما يدرك قبحه ، وما لا يدرك له حسنا ولا قبحا ولا يحكم فيه بشيء ، هذا بالنسبة إلى عقولنا القاصرة غير المحيطة بجهات الخير والشر والمصلحة والمفسدة ، وأما العقول الكاملة المحيطة بجميع جهات الأفعال وملاكاتها كالموجودة في النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه «عليهم‌السلام» فتقسم عندها إلى ما هو حسن واقعا وما هو قبيح كذلك وما ليس له حسن ولا قبح ، ولعل الصحيفة المكتوبة فيها جميع الأحكام الموروثة من إمام إلى إمام كناية عن عقلهم «عليهم‌السلام» المنعكس فيه جميع الكائنات على ما هي عليه وكذا الجفر وغيره.

١٨٥

قاعدة تداخل الأسباب والمسببات

المراد من تداخل الأسباب صيرورتها كالسبب الواحد في عدم تأثيرها إلا في مسبب واحد ، بأن يكون المؤثر هو ما يوجد أولا إن اختلفت في الزمان ، ومجموعها إن تقارنت فيه ، ومن تداخل المسببات كفاية إتيان مصداق واحد جامع لعناوين متعددة في امتثال أوامرها.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه إذا ثبت سببية شيء لشيء في الشرع ، فإن كان كل من السبب والمسبب واحدا فلا إشكال كما لو ورد إذا مات زيد وجب تغسيله ، وكذا إذا تعددت الأسباب والمسببات وتباينت ، كما إذا ورد إن أفطرت فصم شهرين وإن ظاهرت فأعتق رقبة.

وأما إن كان ظاهر الدليل تعدد الأسباب ووحدة المسبب فهذا يتصور على صور :

الأولى : أن يكون المسبب ماهية واحدة غير قابلة للتكرر كما إذا قال إن قتل زيد مؤمنا فاقتله وإن زنى فاقتله.

ومثله الأسباب والعلل التكوينية المتواردة على مسبب واحد ، فلا إشكال حينئذ في تداخل الأسباب ، وكون المؤثر منها هو الموجود أولا إن حصلت تدريجا ، ومجموعها ان حصلت دفعة ، لامتناع توارد علل متعددة على معلول واحد وصدور الواحد عن المتعدد ،

١٨٦

فهذه الصورة من قبيل تداخل الأسباب تداخلا قهريا عقليا.

الثانية : أن يكون المسبب ماهية واحدة قابلة للتكرار كالوضوء وإعطاء الدرهم كما إذا قال إذا بلت فتوضأ وإذا نمت فتوضأ ، أو قال إن جاءك زيد فأعطه درهما وإن سلم عليك فأعطه درهما.

فهل يحكم في هذه الصورة بتعدد المسبب ، حسب تعدد السبب ، فيجب على المكلف وضوء إذا بال ووضوء آخر إذا نام ، ويجب عليه إعطاء درهمين لزيد إذا تحقق منه المجيء والتسليم.

أو يحكم بتداخل الأسباب كالصورة الأولى ، فيكون المؤثر في وجوب الوضوء أسبق العلل إذا اختلفت في الوجود وجميعها بالاشتراك إذا تقارنت.

أو يحكم بتداخل المسببات بأن يدعى أن للوضوء مثلا حقائق مختلفة فالمسبب عن البول حقيقة ، والمسبب عن النوم حقيقة أخرى كغسل الجنابة والحيض ، إلا أنهما قابلان للانطباق على وجود واحد وفرد خارجي فارد فيتداخل المسببات.

وجوه بل أقوال وعلى الأخير يكون حكم المثال حكم الصورة الآتية.

الثالثة : أن يكون المسبب ماهيات مختلفة حسب تعدد الأسباب ، إلا أنها قابلة للانطباق على الفرد الواحد كالإكرام والإضافة ، كما إذا ورد إن أفطرت فأكرم عالما وإن ظاهرت فأضف فقيرا ولا إشكال في عدم تداخل الأسباب ، وإنما الكلام في تداخل المسببات فإنه قد يقال بكفاية الإتيان بالمصداق الواحد الجامع للعنوانين بقصد امتثال أمر كليهما ، كما أنه قد يقال بعدم الكفاية ما لم يكن دليل من الخارج على الجواز ، وهذا هو محل النزاع في تداخل المسببات.

تنبيهات :

الأول : اختلاف الأقوال في الصورة الثانية مبني غالبا على كيفية استفادتهم السببية من الجملة الشرطية ، فإن ظهورها في حدوث الجزاء المستقل عند حدوث الشرط يثبت القول الأول ، ولازم ذلك حمل متعلق الوجوب على الفرد حتى يقبل

١٨٧

التكرار والتعدد فيحدث وجوب مستقل على فرد من الوضوء عند حدوث البول ، ووجوب آخر على فرد آخر عند حدوث النوم وهكذا.

وظهورها في كون متعلق الوجوب هي الطبيعة الكلية لا الفرد يثبت القول الثاني ، فإن الطبيعة بما هي لا تتكرر وإنما التكرر في وجوداتها فلا يعقل عروض حكمين عليها فإن اجتماع المثلين ، كالضدين ممتنع ، فاللازم القول بتداخل الأسباب.

كما أنه يمكن القول ببقاء ظهور الشرطية في حدوث الجزاء ، وظهور المتعلق في كونه طبيعة كلية ، بالقول بتعدد الطبائع وقابليتها للانطباق على الفرد فيجيء القول الثالث.

الثاني : إذا لم يكن دليل لفظي في مورد العلم بالسببية ، فمقتضى الأصل العملي عند الشك في تداخل الأسباب ، هو التداخل وعدم وجوب أزيد من مسبب واحد ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في وحدة التكليف وتعدده ، فالزائد عن المعلوم ينفى بالأصل ، كما أنك قد عرفت أن مقتضى ظاهر الجملة الشرطية عدم تداخلها.

ومقتضى الأصل في الشك في تداخل المسببات عدم التداخل لقاعدة الاشتغال ، لأن كفاية الفعل الواحد في مقام الامتثال غير معلومة فيجب الاحتياط ، فعلم أن مقتضى الدليل في الأسباب عدم التداخل ، ومقتضى الأصل التداخل ، وأن مقتضى الأصل في المسببات عدم التداخل.

الثالث : لم نذكر في ضمن الصور المذكورة وحدة السبب وتعدد المسبب لأجل أنه لا مانع من ذلك عرفا وشرعا وإن استشكل فيه عقلا كما إذا ورد إذا قلت في أثناء الصلاة أعتقت عبدي فصلاتك باطلة وعبدك محرر وإن أفطرت بالحرام فصومك باطل ووجبت عليك الكفارة وأنت ضامن لبدل ما أتلفته وإن قتلت مؤمنا خطأ وجبت عليك الكفارة وضمنت الدية للولي وعلى هذه فقس ما سواها.

١٨٨

قاعدة التسامح

إذا ورد خبر ضعيف غير جامع لشرائط الحجية فدل على ترتب الثواب على فعل من الأفعال ، فلا إشكال في ترتب الثواب على ذلك الفعل إذا أتى به بقصد تحصيل ذلك الثواب أو برجاء احتمال المطلوبية.

وأما الحكم باستحباب ذلك الفعل ورجحانه شرعا ففيه اختلاف بين الأصحاب فقال عدة بالاستحباب وآخرون بعدمه.

ثم إنهم يسمون هذا الحكم الكلي بقاعدة التسامح في أدلة السنن يعنون بذلك ثبوت التسامح شرعا في الحكم بالثواب أو الاستحباب وحصولهما بورود خبر في هذا الباب ، ولو كان غير حجة في سائر الأبواب.

فللقاعدة موضوع ومحمول ، موضوعها الفعل الذي بلغك ثواب على إتيانه ومحمولها الحكم بكونه ذا مثوبة مطلقا أو بالمقدار الذي بلغ أو الحكم باستحبابه ورجحانه شرعا.

فإذا دل خبر غير حجة على أن من اغتسل في يوم النيروز فله كذا ، قلنا إن غسل النيروز مما بلغنا الثواب عليه وكل ما كان كذلك فهو ذو ثواب أو فهو مستحب فغسل النيروز كذلك.

١٨٩

تنبيهات :

الأول : استدلوا على هذه القاعدة بروايات كثيرة ، منها قول الصادق «عليه‌السلام» في صحيحة هشام بن سالم : «من بلغه عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له» وإن كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يقله فإن المراد من الشيء هو العمل ذو الثواب بقرينة رجوع الضمير إليه في قوله فعمله وقوله «عليه‌السلام» : «كان أجر ذلك له».

وفي خبر : «فعمله طلبا لقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وفي ثالث فعمله التماس ذلك الثواب».

الثاني : وجه الترديد في محمول القاعدة بأنه الحكم بالمثوبة فقط أو الحكم بالاستحباب هو وقوع الاختلاف في أن المستفاد من روايات الباب هل هو الإخبار عن حصول الانقياد بالفعل المأتي به بداعي الثواب ، وأنه لا محالة يترتب الثواب عليه فهي إرشادية حاثّة إلى ما يحكم به العقل ويستقل به فوزانها وزان قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

أو أن ذكر الثواب على الفعل كناية عن رجحانه واستحبابه فهي دالة على الحكم المولوي الاستحبابي ، فوزانها وزان أخبار تعرضت لذكر الثواب على عمل في مورد لم يكن لحكم العقل فيه مسرح كقوله من سرح لحيته فله كذا والمعنى الأول مختار العلامة الأنصاري (قدس‌سره) والثاني مختار المحقق الخراسانى (ره).

ثم إنه على المعنى الأول لو كان المراد الوعد على الثواب المطلق لا خصوص الثواب الواصل ، كان الكلام مساوقا لما يستقل به العقل من ترتب الثواب على الانقياد بنحو الإجمال ، وإن كان المراد الوعد على خصوص الثواب البالغ ، فالأخبار مسوقة لبيان تفضل الله بثواب خاص على أمر استقل العقل بحسنه فهي نظير قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها).

الثالث : تظهر الثمرة بين القولين في موارد منها جواز إفتاء الفقيه بالاستحباب على القول الثاني دون الأول ، إذ عليه لا تدل الأخبار على أزيد مما يحكم العقل به من

١٩٠

حسن الانقياد وترتب الثواب عليه.

ومنها : فيما لو ورد خبر ضعيف على استحباب الوضوء في مورد خاص فعمله المكلف بذلك الداعي فعلى القول الأول لا يرفع الحدث وعلى الثاني يرفع وغير ذلك وللقاعدة فروع أخر أغمضنا عن ذكرها روما للاختصار.

١٩١

قاعدة التعيين العقلية

أو أصالة التعيين

إذا تردد أمر المكلف في مورد بين الشيئين أو الأشياء ، بمعنى احتماله تعين أحد الأمرين أو الأمور بالخصوص ، واحتماله تخييره بينهما أو بينها ، فلا محالة يكون أحد الطرفين أو الأطراف حينئذ محتمل التعيين والتخيير ، والطرف الآخر محتمل التخيير فيحكم العقل بلزوم الأول وعدم لزوم الثاني.

والأصوليون أسموا هذا الحكم الكلي العقلي بقاعدة التعيين أو أصالة التعيين ، يعنون بذلك حكم العقل بأخذ محتمل الخصوصية وطرح محتمل التخيير ، فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها محتمل التعيين والتخيير ومحمولها لزوم الأخذ به عقلا.

ثم إن الدوران بذلك النحو قد يكون في المسألة الفرعية ، كما إذا حصل للمفطر في شهر رمضان علم إجمالي بوجوب صيام شهرين متتابعين تعيينا أو وجوبه ووجوب إطعام ستين مسكينا تخييرا وقد يكون في المسألة الأصولية ، كما إذا شك الفقيه عند تعارض قول العدل والموثق في حجية الأول تعيينا أو حجية كليهما تخييرا فهذا من الدوران في المسألة الأصولية.

١٩٢

قاعدة الجمع مهما أمكن

أولى من الطرح

مورد القاعدة هو الدليلان المتقابلان والمراد من الجمع هنا الجمع الدلالي أعني أخذ إحدى الدلالتين والتصرف في الأخرى بحيث يرتفع التنافي بينهما ، أو التصرف في كلتا الدلالتين كما ستعرف ، ومن الإمكان الإمكان العرفي بحيث يساعد عليه نظرهم ويكون عليه عملهم ، لا الإمكان العقلي ولو عده العرف غير ممكن ، ومن الأولوية اللزوم كقولك لأن أكون صادقا أولى من أن أكون كاذبا.

فمعنى القاعدة أن الجمع بين دلالة الدليلين فيما أمكن عرفا وساعد عليه نظرهم لازم فليس المورد داخلا في باب التعارض ، وهذه قاعدة مطردة معمول بها بين العقلاء والمتشرعة يسمون هذا النحو من العمل بالجمع الدلالي أيضا وعد الأصوليون من مصاديقها موارد :

الأول : ما إذا كان أحد الدليلين نصا والآخر ظاهرا كالخاص القطعي الدلالة مع العام فإنه يجمع بينهما بأخذ الخاص وتخصيص العام به كما إذا ورد أكرم العلماء وورد لا يجب إكرام فساقهم ، وكالمقيد القطعي مع المطلق كما إذا ورد أعتق رقبة وورد أيضا لا يجب إعتاق الكافرة فيحمل المطلق على المقيد ، ومثل الأمر أو النهي المتعلقين بشيء مع دليل الترخيص كما إذا ورد صم يوم الخميس وورد أيضا لا بأس بترك الصوم يوم

١٩٣

الخميس فيحمل الأمر على الاستحباب ، أو ورد لا تشرب العصير العنبي وورد لا بأس بشربه فيحمل النهي على الكراهة.

الثاني : ما إذا كان أحدهما ظاهرا والآخر أظهر كالعام مع الخاص الظني

الدلالة بحيث يكون أظهر من العام كما إذا ورد أكرم العلماء وورد ينبغي إكرام فساقهم فإن ظهور ينبغي في الاستحباب أقوى من ظهور هيئة أكرم في الوجوب فيقدم عليه وإن كان حمل كلمة ينبغي على الوجوب ممكنا لكنه مرجوح ، فالنتيجة استحباب إكرام الفساق ووجوب إكرام العدول ، وكذا المطلق الظاهر والمقيد الأظهر منه ، ومن هذا القبيل ما إذا ورد اغتسل للجمعة وورد ينبغي غسل الجمعة.

الثالث : ما إذا كان الدليلان ظاهرين متساويين وكان المورد بحيث يساعد العرف على جعل كل منهما قرينة على التصرف في الآخر فيجمع بينهما بالتصرف في كليهما كما إذا ورد ثمن العذرة سحت وورد لا بأس ببيع العذرة ، وفرضنا أن العرف يوفقون بينهما بحمل الأول على عذرة غير مأكول اللحم والثاني على عذرة المأكول.

الرابع : ما إذا كان أحدهما حاكما والآخر محكوما ، أو كان أحدهما واردا والآخر مورودا ، نصا كان الحاكم والوارد أو ظاهرا فراجع عنوان الحكومة والورود.

تنبيهات :

الأول : أن الجمع بين الخبرين كما أشرنا إليه على قسمين دلالي وسندي فالدلالي هو ما ذكرنا من مورد قاعدة الجمع وقلنا بأنه أخذ السندين وتأويل الظاهر إلى ما يوافق النص أو الأظهر.

وأما السندي فهو راجع إلى السند ومعناه أخذ سند ودلالة أحد الخبرين وطرح الآخر رأسا سندا ودلالة ، ومورد هذا الجمع ما إذا لم يمكن الجمع العرفي في الدلالة بل يبقى أهل العرف متحيرين في حكمهما ، وحينئذ فإن كان في أحدهما رجحان أخذ ذلك تعيينا وطرح الآخر ، وإن لم يكن رجحان في البين أخذ أحدهما تخييرا وطرح الآخر رأسا فراجع بحث التعارض وعنوان المرجح ، وهذا المورد هو الذي تخيل ابن أبي

١٩٤

جمهور جريان قاعدة الجمع فيه ، فإذا ورد يجب إكرام العالم وورد أيضا لا يجب إكرام العالم فعلى مبنى المشهور يؤخذ أحدهما ويعمل به ويطرح الآخر وعلى القول المنسوب إلى ابن أبي جمهور يؤخذ كلاهما ويحمل أحدهما على العالم العادل والآخر على العالم الفاسق مثلا ، وهذا النحو من الجمع غير منضبط لا شاهد له ويسمى جمعا تبرعيا أيضا.

الثاني : كان الكلام إلى هنا في أدلة الأحكام وبيان حال الخبرين المتعارضين ، وأما أدلة الموضوعات وتعارض البينات فهي على قسمين :

الأول : أن يكون كلام كل من البينتين قابلا للتبعيض في التصديق بأن يصدق في بعض ما أخبر به ويرتب عليه آثار الصدق ، ولا يصدق في البعض الآخر.

كما إذا قامت بينة على كون جميع الدار لزيد وبينة أخرى على كون جميعها لعمرو ، وطريق الجمع بينهما حينئذ أحد أمور :

الأول : ترجيح إحداهما بالقرعة.

الثاني : التساقط والرجوع إلى القرعة.

الثالث : التساقط والرجوع إلى قاعدة العدل والإنصاف فيعطى نصف الدار لزيد ونصفها لعمرو.

الرابع : التبعيض في التصديق فتصدق بينة زيد في نصفها وبينة عمرو في نصفها الآخر فيشتركان وهذا ما قواه الشهيد (ره) ومال إليه الشيخ (ره) في رسائله ولا بأس هنا بلزوم المخالفة القطعية للبينتين لمساعدة بناء العقلاء عليها كالسيرة والرواية.

الثاني : أن لا يكون قابلا للتبعيض كما إذا قامت بينة على بنوة طفل لزيد والأخرى على بنوته لعمرو أو قامت إحداهما على زوجية امرأة لرجل والأخرى على زوجيتها لرجل آخر والحكم حينئذ الأخذ بأحد الأمور المذكورة دون الأخير فإن الزوجية والنسب لا يقبلان التبعيض.

الثالث : المتعارضان من أدلة الأحكام يتصوران على أقسام ثلاثة :

الأول : المتعارضان غير القابلين للتبعيض في التصديق كما إذا أخبر عدل بوجوب الجمعة وعدل آخر بحرمتها.

١٩٥

الثاني : المتعارضان القابلان للتبعيض مع كونهما ظاهرين في الدلالة ، كما إذا روى عدل عن المعصوم أنه قال أكرم العلماء وروى آخر أنه قال لا تكرمهم.

الثالث : المتعارضان القابلان للتبعيض مع كونهما نصين كما إذا روى أحدهما أنه قال يجب إكرام جميع العلماء بلا استثناء ، وروى آخر أنه قال يحرم إكرام الجميع بلا استثناء.

ثم إن مبنى المشهور كما ذكرنا هو أخذ سند وطرح آخر ترجيحا أو تخييرا في جميع الأمثلة الثلاثة.

ولكن قد وقع الخلاف من بعض في المثال الثاني والثالث ، أما الثاني فقد عرفت أن مذهب ابن أبي جمهور فيه هو الجمع الدلالي ، بأن يؤخذ السندان ويؤول الظاهران.

وأما الثالث فحيث إنهما نصان لا يمكن التأويل في دلالتهما فقد ذهب بعض إلى أخذ السندين والجمع بين الدلالتين بالتبعيض في التصديق كما ذكرنا في البينتين فيصدق كل واحد من العدلين في بعض ما أخبرا به ، وتكون النتيجة حينئذ وجوب إكرام البعض كعدولهم مثلا وحرمة إكرام آخرين كفساقهم ، إلا أن هذا النحو من الجمع مع أنه لا تساعد عليه الأدلة ، يستلزم المخالفة القطعية في أحكام الله تعالى بلا قيام دليل عليه ولا يقاس هذا بتعارض البينتين لما ذكرنا من السيرة العقلائية فيه.

١٩٦

قاعدة الطهارة

هي الحكم ظاهرا بطهارة موضوع خارجي أو عنوان كلي شك في طهارته ونجاسته في الواقع.

فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها المشكوك طهارته في الواقع ومحمولها هو الحكم بالطهارة ظاهرا وترتيب الآثار الشرعية الثابتة للطاهر الواقعى عليه.

تنبيهان :

الأول : الترديد في تعريف القاعدة بين الموضوع الخارجي والعنوان الكلي لبيان أنه لا فرق في جريان القاعدة بين كون الشبهة موضوعية أو حكمية.

والأول : كما إذا شك في طهارة عين خارجية لأجل اشتباه الأمور الخارجية ، كالشك في أن الثوب المعين هل تنجس بملاقات النجس أم لا.

والثاني : كما إذا شك في طهارة عنوان كلي ، وكان منشأ الشك فيها عدم ورود النص أو إجماله أو تعارض بعضه مع البعض الآخر ، وذلك نظير الشك في طهارة العصير العنب المغلي ونجاسته ، أو في طهارة خرء الطائر غير المأكول لحمه.

١٩٧

الثاني : هذه القاعدة أصل من الأصول المثبتة للحكم الظاهري وليست بأمارة حاكية عن الواقع فإن ظاهر قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر» ، كون الغاية قيدا للموضوع ، ومعنى الرواية أن كل شيء لم تعلم قذراته فهو طاهر ، فحكم الطهارة مرتب على الموضوع المشكوك في طهارته ونجاسته في الواقع ، ومعلوم أن كل حكم رتب على الموضوع المشكوك حكمه فهو حكم ظاهري فمفاد القاعدة حكم ظاهري وهي أصل من الأصول العملية.

١٩٨

قاعدة الفراغ

هى حكم المكلف بصحة عمله بعد الفراغ عنه والشك في صحته ، فللقاعدة موضوع ومحمول ، موضوعها العمل المفروغ عنه المشكوك في صحته وفساده ، ومحمولها الحكم بالصحة وترتيب آثارها عليه.

فإذا صلى الشخص صلاة الظهر مثلا ثم شك في صحتها وبطلانها من جهة احتماله ترك جزء أو شرط أو إيجاد مانع أو قاطع ، حكم بالصحة ورتب آثارها ، وكذا لو توضأ أو اغتسل أو غسل ثوبا بقصد تطهيره أو أوقع بيعا أو إجارة أو نكاحا فشك في صحتها بنى على الصحة في الجميع.

وتفترق هذه القاعدة عن أصالة الصحة في فعل الغير بالاختلاف موضوعا ، فإن الموضوع في هذه القاعدة عمل نفس الشاك وفي تلك القاعدة عمل الغير.

وعن قاعدة التجاوز بالاختلاف موضوعا ومحمولا وشرطا فإن الموضوع في تلك القاعدة المشكوك وجوده والمحمول الحكم بالوجود ، بشرط الدخول في عمل آخر غير المشكوك ، والمحمول فيما نحن فيه الحكم بالصحة بدون ذلك الشرط.

تنبيه :

١٩٩

الدليل على هذه القاعدة أمور :

أولها : قوله «عليه‌السلام» في موثقة محمد بن مسلم : «كلما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو».

ثانيها : قوله «عليه‌السلام» : «كلما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه كما هو ولا إعادة عليك».

ثالثها : موثقة ابن أبي يعفور : «إذا شككت في شيء من الوضوء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» بناء على رجوع الضمير في غيره إلى الوضوء.

رابعها : بناء العقلاء عليها في أعمالهم العادية فإنهم لا يحكمون بفساد كل عمل صدر عنهم في الماضي مع عدم خلو الإنسان غالبا عن الشك في الصحة والفساد.

٢٠٠