اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

١
٢

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم الله الذي (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) والصفات العليا ، والحمد لله الذي (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد المصطفى وعلى آله الأتقياء الأوصياء واللعن على أعدائهم في الآخرة والأولى.

وبعد : اعلم أنه قد كثر استعمال عدة من الألفاظ لدى الأصوليين في معاني مخصوصة تغاير معانيها الحقيقية أو تباينها ، بحيث صارت عندهم منقولة عن المعاني الأولية وحصل لها وضع تخصصي أو تخصيصي في المعاني الحديثة.

فأنتج ذلك تعسر إدراك المقصود منها للباحث في هذا الفن ، أو عدم نيله إلى حقيقة الغرض من البحث.

فرأيت مستعينا بالله تعالى أن أضع كتابا شاملا لتوضيح ما اصطلحوا عليه وتفسيره مراعيا فيه حسن التعبير ، مجتنبا عن الإطناب والتعسير ، موضحا كل مطلب بمثال ، مشيرا فيه إلى بعض الأقوال ، وإيراد ما يناسب البحث من الاستدلال ، محافظا في ذلك على مقتضى الحال فأوردت ما تيسر لي ذكره من العناوين المصطلحة على ترتيب حروف أوائله ليكون سهل التناول للباحث الفاحص.

ثم إني رجوت أن تكون في هذا التأليف خدمة لطلبة العلم ورواد الحقيقة وتسهيلا

٣

لأمرهم في دراسة علم الأصول ، وحفظا لأوقاتهم الثمينة عن التضييع فيما لا يعنيهم ، فقصدت القربة وأقدمت على التأليف مع ضيق الباع وقلة الاطلاع والمرجو من الرب الكريم أن يتقبل ذلك بقبول حسن ويثيبني عليه ثوابا جميلا ، ويأجرني ومن يراجعه ويستفيد منه أجرا جزيلا فإنه أهل لذلك وهو ولي التوفيق.

وينبغي قبل الورود في المقصود من تقديم أمر هام وهو أنه قد وردت في شرف العلم وفضله والثناء عليه ومدحه وحمد طالبيه وإطراء حامليه ، أخبار كثيرة وأحاديث غفيرة تبلغ حد التواتر بل تزيد عليه بكثير ، إن تريدوها لا تحسبوها وإن تعدوها لا تحصوها. فنذكر هنا نبذا يسيرا ، ونزرا قليلا تشرفا بنقلها وتيمنا بذكرها.

وليعلم قبل ذلك أن المراد من العلم الذي كثر الحثّ في تلك الأخبار على تحصيله والترغيب في تعلمه وتعليمه حتى إنه عدّ من أعلا الفرائض وأغلاها ، وأشرف الذخائر وأسماها ، إنما هو علم الدين وفقه الشريعة من أصولها الاعتقادية وقوانينها الأخلاقية وفروعها العملية ، فهي المتصفة بالشرف والفضيلة والممدوحة بمدائح جميلة كقوله «عليه‌السلام» «بالعلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى ، بالعلم يطاع الله ويعبد وبالعلم يعرف الله ويوحّد ، وبالعلم توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال من الحرام ، وإنه السبب بينكم وبين الله ، وإنه لا خير في دين لا تفقه فيه ، وإن ذخيرة العلم اجتناب الذنوب ، وإن تعلم العلم حسنة ومدارسته تسبيح ، لأنه معالم الحلال والحرام ، وإن بالعلم تحسن خدمة ربك» إلى غير ذلك مما ستسمعه.

وأما العلوم المتداولة الدارجة ، والفنون المتعارفة الرائجة في هذه الأعصار فإن كان الغرض منها تحصيل المعاش الحلال ، وتوسعة الرزق ، وعمارة الأرض والبلاد ، والخدمة للعباد ، فهي لدى الشرع ومشرعه كسائر صنوف تحصيل المعاش والمكاسب والتجارات حلال محلل وممدوح محمود ، تشمله الأدلة الدالة على محبوبية طلب الحلال وتوسعة المعاش وإعانة الضعفاء وحفظ نظام المجتمع والمعاونة على رفاههم ، كل ذلك بشرطها وشروطها.

وإن كان الغرض مجرد الدنيا وجعلها مقدمة لتحصيل الثروة وحيازة المقام والترأس على ضعفة العباد وتوسعة السلطة على الملك والبلاد ، وإشباع القوى البهيمية

٤

والشهوية ، والإجابة للملتمس الميول النفسانية وتقوية الملكات السبعيّة ليمنع منازعه في هواه ويدفع مزاحمه في مناه فهي الدنيا المبغوضة الملعونة والمشتغلون بها هم أهل الدنيا ، وقد صارت هي أكبر همهم ومبلغ علمهم ونعوذ بالله من ذلك.

وأما ما أردنا إيراده من الأخبار فها إليك نبذا منها تتعلق بفضل نفس العلم وفضيلة التعلم والتعليم ، ونبذا مما يتعلق بشرف طالبيه وحامليه وكرامتهم عند الله. فمن الأول : ما ورد من أنه : «لا كنز أنفع من العلم».

وأن : «من سلك طريقا يطلب به علما سلك الله به طريقا إلى الجنة».

وأن تعلم العلم حسنة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة ، لأنه معالم الحلال والحرام وسالك بطالبه سبيل الجنة ، وهو أنيس في الوحشة وصاحب في الوحدة وسلاح على الأعداء وزين الأخلاء ، يرفع الله به أقواما يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم ، ترمق أعمالهم وتقتبس آثارهم وترغب الملائكة في خلتهم ، يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم ، لأن العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى وقوة الأبدان من الضعف ، وينزل الله حامله منازل الأبرار ويمنحه مجالسة الأخيار في الدنيا والآخرة ، بالعلم يطاع الله ويعبد وبالعلم يعرف الله ويوحد وبالعلم توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام ، والعلم إمام العقل والعقل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء.

وأن فضل العلم أحب إلى الله من فضل العبادة.

وأن كمال المؤمن في ثلاث خصال أولها تفقهه في دينه.

وأنه يلزم لكل ذي حجى استماع العلم وحفظه ونشره عند أهله والعمل به.

وأن العلم ضالة المؤمن.

وأنه وراثة كريمة.

وأن طلب العلم فريضة على كل مسلم في كل حال ، فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله.

وأنه السبب بينكم وبين الله تعالى.

وأن طلب العلم فريضة من فرائض الله.

٥

وأنه يجب تعلمه من حملته وتعليم الإخوان كما علمه العلماء.

وأنه لا خير في دين لا تفقه فيه.

وأن كمال الدين طلب العلم والعمل به.

وأن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ، إن المال مقسوم بينكم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وسيفي لكم به ، والعلم مخزون عليكم عند أهله قد أمرتم بطلبه منهم فاطلبوه ، واعلموا أن كثرة المال مفسدة للدين مقساة للقلوب وأن كثرة العلم والعمل به مصلحة للدين سبب إلى الجنة ، والنفقات تنقص المال والعلم يزكو على إنفاقه ، وإنفاقه بثه على حفظته ورواته.

وأنه لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا.

وأنه أف لكل مسلم لا يجعل في كل جمعة يوما يتفقه فيه أمر دينه ويسأل عن دينه.

وأنه لا يستحي الجاهل إذا لم يعلم أن يتعلم.

وأنه يجب تعلمه قبل أن يقبض وقبل أن يجمع.

وأنه يجب طلبه ولو بالصين.

وأنه لا شرف كالعلم.

وأن هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمهما فما يزيد في علمك وأدبك يزيد في ثمنك وقدرك ، فإن بالعلم تهتدي إلى ربك وبالأدب تحسن خدمة ربك ، وبأدب الخدمة يستوجب العبد ولايته وقربه.

وأنه ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك.

وأن كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع.

وأن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة.

وأن العلم أشرف الأحساب.

وأنه لا كنز أنفع من العلم ولا قرين سوء شر من الجهل.

وأنه صلة بين الإخوان ودال على المروة وتحفة في المجالس وصاحب في السفر

٦

وأنس في الغربة.

وأن الكلمة من حكمة يسمعها الرجل فيقول أو يعمل بها خير من عبادة سنة.

وأن بابا من العلم يتعلمه الرجل خير له من أن يكون أبو قبيس ذهبا فأنفقه في سبيل الله.

وأن مثل العلم الذي بعث الله به النبي «صلّى الله وعليه وآله وسلم» كمثل غيث أصاب أرضا منها طائفة طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منه ، وسقوا وزرعوا فذلك مثل من فقه في دين الله وتفقه فعلم ما بعث الله به نبيه وعلم.

وأن النوم مع العلم خير من صلاة مع الجهل.

وأن قليلا من العلم خير من كثير من العبادة.

وأنه كفى بالعلم شرفا أن يدعيه من لا يحسن ويفرح إذا نسب إليه.

وأن العلم أفضل من المال لسبعة :

الأول : أنه ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة.

الثاني : أن العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص.

الثالث : يحتاج المال إلى حافظ والعلم يحفظ صاحبه.

الرابع : العلم يدخل في الكفن ويبقى المال.

الخامس : المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن خاصة.

السادس : جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال.

السابع : العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه.

وأنه إن لم يسعد لم يشق ، وإن لم يرفع لم يضع وإن لم يغن لم يفقر وإن لم ينفع لم يضر ، والعلم يشفع لصاحبه وحق على الله أن لا يخزيه.

وأن بابا من العلم تتعلمه أحب إلى أبي ذر من ألف ركعة تطوعا.

وأن العلم عليه قفل ومفتاحه السؤال.

وأن المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيامة

٧

سترا فيما بينه وبين النار.

وأنه من جلس مجلسا يحيا فيه أمر الأئمة «عليهم‌السلام» لم يمت قلبه يوم يموت القلوب.

وأن حلق الذكر رياض الجنة.

وأنه يجب تحادث العلم ، فإن بالحديث تجلى القلوب الرائنة.

وأنه يجب التكلم في العلم ليتبين قدر الرجل.

وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لما رأى مجلس الدعاء ومجلس مذاكرة الفقه قال : كلا المجلسين إلى خير ، أما هؤلاء فيدعون الله وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل ، هؤلاء أفضل ، بالتعلم أرسلت ، ثم قعد معهم.

وأنه رحم الله عبدا أحيا العلم وتذاكر به عند أهل الدين والورع.

وأن تذكر العلم دراسة والدراسة صلاة حسنة.

وأنه يجب على الإنسان أن يرتع في رياض الجنة أعني حلق الذكر ، فإن لله سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بها.

وأنه لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج.

ومن الثاني : أعني ما دل على فضل حملة العلم وكرامتهم عند الله فقد ورد أنه لا خير في العيش إلا لرجلين ، عالم مطاع أو مستمع واع.

وأنه منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا ، فأما طالب العلم فيزداد رضا الرحمن ، وأما طالب الدنيا فيتمادى في الطغيان.

وأنه من خرج من بيته يطلب علما شيعه سبعون ألف ملك يستغفرون له.

وأنه إذا رأيتم المتفقهين فاستوصوا بهم خيرا.

وأن العالم بين الجهال كالحي بين الأموات.

وأن الله يحب بغاة العلم.

وأن أكثر الناس قيمة أكثرهم علما وأقل الناس قيمة أقلهم علما.

وأن قلبا ليس فيه علم كالبيت الخراب الذي لا عامر له.

٨

وأنه أوحى الله تعالى إلى النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : أنه من سلك مسلكا يطلب فيه العلم سهلت له طريقا إلى الجنة.

وأنه ما من عبد يغدو في طلب العلم ويروح إلا خاض الرحمة خوضا ، وهتف به الملائكة مرحبا بزائر الله وسلك من الجنة مثل ذلك المسلك.

وأن صحبة العالم واتباعه دين يدان به الله ، وطاعته مكسبة للحسنات ممحاة للسيئات وذخيرة للمؤمنين ورفقة في حياتهم وجميل الأحدوثة عنهم بعد موتهم.

وأن فقيها واحدا أشد على إبليس من ألف عابد.

وأن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.

وأن من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا.

وأن طالب العلم لا يموت أو يمتع جده بقدر كده.

وأن قوام الدنيا بأربعة : أولهم عالم يستعمل علمه وثانيهم جاهل لا يستنكف أن يتعلم.

وأنه لا حرج على من لا يعلم أن يسأل من يعلم.

وأن طالب العلم أحبه الله وأحبه الملائكة وأحبه النبيون ولا يحب العلم إلا السعيد فطوبى لطالب العلم يوم القيامة ، وهذا كله تحت هذه الآية : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ).

وأن من خرج يطلب بابا من علم ليرد به باطلا إلى حق أو ضلالة إلى هدى كان عمله ذلك كعبادة متعبد أربعين عاما.

وأن الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل الله ، وكم من مؤمن يخرج في طلب العلم فلا يرجع إلا مغفورا.

وأنه من تعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة تطوعا.

وأنه إذا خرج في طلب العلم ناداه الله عزوجل من فوق العرش مرحبا بك.

وأن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به.

وأن الناس أبناء ما يحسنون.

٩

وأن العالم كبير وإن كان حدثا والجاهل صغير وإن كان شيخا وأن الشريف من شرف علمه.

وأن الملوك حكام على الناس والعلماء ، حكام على الملوك. وأنه من طلب علما فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر ومن طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا من الأجر.

وأن من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة.

وأن من غدا إلى مسجد ليتعلم خيرا ، أو ليعلمه كان له أجر معتمر تام العمرة ومن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرا أو ليعلمه فله أجر حاج تام الحجة.

وإن أمقت الناس إلى الله الجاهل المستخف بحق أهل العلم التارك للاقتداء بهم.

وأن أحب الناس إلى الله التقي الطالب للثواب الجزيل الملازم للعلماء. وأنه ويل لمن سمع بالعلم ولم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار.

وأن الله يقول يوم القيامة يا معشر العلماء ما ظنكم بربكم فيقولون ظننا أن ترحمنا وتغفر لنا فيقول الله تعالى فإني قد فعلت إني استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم فادخلوا في صالح عبادي إلى جنتي ورحمتي.

وأنه إذا جاء الموت لطالب العلم وهو على هذه الحالة مات شهيدا.

وأن الأئمة «عليهم‌السلام» هم العلماء والشيعة هم المتعلمون وسائر الناس غثاء.

وأنه يجب أن يكون الإنسان إما عالما وإما متعلما وإما محبا للعلماء ولا يكون قسما رابعا فيهلك ببغضهم.

وأن العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة.

وأن النظر إلى وجه العالم عبادة.

وأن مروّة الإنسان مجالسة العلماء والنظر في الفقه.

وأن الفقهاء قادة والجلوس إليهم عبادة.

وأن الفقهاء سادة والجلوس إليهم زيادة.

١٠

وأنه يجب الجلوس مع العلماء فإنك إن تكن عالما ينفعك علمك ويزيدونك علما ، وإن كنت جاهلا علموك ، ولعل الله أن يظلهم برحمته فتعمك معهم.

وأن الله عزوجل يقول لملائكته عند انصراف أهل مجلس الذكر والعلم إلى منازلهم : اكتبوا ثواب ما شاهدتموه من أعمالهم فيكتبون لكل واحد ثواب عمله ، ولا يكتبون لمن حضر معهم ممن ليس بعالم ، ولا تكلم معهم بكلمة فيقول الجليل : اكتبوه معهم أنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم فيكتبون له ثوابا مثل ثواب أحدهم.

وأن محادثة العالم على المزبلة خير من محادثة الجاهل على الزرابي.

وأن النظر إلى وجهه حبّا له عبادة.

وأن من جالس العلماء وقر.

١١

وها نحن نشرع في مطالب الكتاب على ترتيب حروف أوائل المصطلحات ليسهل الوصول إليها مستمدا من المحسن المجمل ومستعينا بالمنعم المفضل.

الابتلاء وعدم الابتلاء

المشهور أن كل تكليف إلهي من إيجاب أو تحريم مشروط في مقام فعليته بعدة شرائط عقلية غير ما لاحظه الشارع شرطا له بالخصوص.

والمسلم منها أربعة : البلوغ والعقل والقدرة والالتفات ، وتسمى بالشرائط العامة ، فالصبي والمجنون والعاجز عن الامتثال والغافل لا حكم لهم فعليا ، وإن قلنا بكونه ثابتا في حقهم اقتضاء وإنشاء. بمعنى أن الملاك في أفعالهم موجود والإنشاء في حقهم مجعول ولكن لا إرادة جدية بالنسبة إليهم.

هذا وقد أضيف إليها في التكليف التحريمي شرط آخر يسمى بالابتلاء ، فقيل إن النهي لا يكون فعليا ما لم يصر متعلقه محلا لابتلاء المكلف.

وبيانه : أن الغرض من النهي المنع عن إرادة المكلف للحرام لئلا يتحقق منه في الخارج وحينئذ لو كان الحرام مترقب الحصول منه بحيث كان المكلف مريدا له أو يصح ويمكن تولد الإرادة في نفسه فلا إشكال في صحة النهي عنه فعلا ، ولو كان بعيد الحصول منه جدا كما لو كان الخمر المطلوب تركها في البلاد النائية ولا يصح من الشخص تولد الإرادة فعلا على شربها ، فلا يصح النهي عنها نهيا فعليا بل يصح معلقا على الظفر بها والوصول إليها لأن الغرض من النهي وهو عدم الإرادة وعدم تحقق الفعل

١٢

حاصلان حينئذ قهرا ، فلا مقتضي للنهي الفعلي عنه ، وهذا معنى ما أفاده الشيخ رحمه‌الله في رسائله من قوله : «والمعيار في الابتلاء وعدمه صحة التكليف بذلك عند العرف وعدم صحته» ، ومراد صاحب الكفاية رحمه‌الله من قوله : «إن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر هو ما إذا صحّ انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد» فالأصوليون قد سموا ترقب حصول الفعل من المكلف الابتلاء وعدم ترقبه عدم الابتلاء.

تنبيهان :

الأول : إذا شككنا في كون متعلق التكليف داخلا في محل الابتلاء أو خارجا عنه ، كما إذا كان الإناء النجس في ملك زيد وتحت سلطنته لا يبيعه ولا يهبه ، فشككنا في كونه عند العرف معدودا من محل الابتلاء بالنسبة إلينا ليكون حكمه منجزا أم ليس بمحل الابتلاء فلا يكون بمنجز ففيه قولان :

أحدهما : الحكم بفعلية التكليف فيه بتقريب أن المورد من قبيل الشبهة المفهومية للمخصص ، أو أن المخصص فيه لبي والحكم فيها الرجوع إلى العموم أو الإطلاق ، فقوله اجتنب عن الخمر مثلا مطلق والحاكم بعدم فعلية ذلك التكليف في الخمر الخارجة عن محل الابتلاء هو العقل وهو دليل لبي يقتصر في تخصيصه على المتيقن ، أو أنه وإن فرضنا كون المخصص لفظيا فخرج به عنوان غير المبتلى به عن إطلاق وجوب الاجتناب إلا أن مفهوم الابتلاء مجمل عند العرف يشك في تحققه في المورد فاللازم أيضا التمسك بالمطلق.

ثانيهما : الحكم بعدم الفعلية وإجراء أصالة البراءة في المورد إما لأن مفهوم الابتلاء معلوم والشك إنما هو في تحقق مصداقه فالشبهة مصداقية حكمها الرجوع إلى الأصول ، وإما لأن جواز التمسك بالإطلاق إنما هو في موارد الشك في تقييد متعلق التكليف ، كما إذا شككنا في أن الرقبة المأمور بها مقيدة بالإيمان أم لا ، لا فيما شك في قيود نفس التكليف وفعليته كما في المقام فإن كون المتعلق محلا للابتلاء شرط عقلي لفعلية التكليف وتنجزه فالشك في الابتلاء شك في فعلية التكليف والأصل فيه البراءة.

١٣

الثاني :

قد يقع الشيء المعلوم خروجه عن محل الابتلاء أو المشكوك الخروج طرفا للعلم الإجمالي ، كما إذا فرضنا في صورة العلم الإجمالي بنجاسة أحد الثوبين كون أحدهما حاضرا عند المكلف والآخر في البلاد النائية أو في ملك زيد وتحت يده بحيث لا يبيعه ولا يهبه ، فإن كان الابتلاء شرطا في فعلية التكليف لم يجب الاجتناب عن الثوب الحاضر ، إذ يحتمل أن يكون النجس هو الخارج عن الابتلاء فالتكليف الواقعي ليس بفعلي ، أو هو الداخل في محل الابتلاء فهو فعلي فلا علم للمكلف حينئذ بتكليف فعلي ، والشرط في وجوب الاحتياط كون التكليف فعليا على كل تقدير ولو لم يكن شرطا وجب الاجتناب عن الحاضر أيضا وهذه من ثمرات كون الابتلاء شرطا وعدمه.

١٤

الاجتماع والامتناع

لا إشكال عند العقل في عدم جواز صدور أمر ونهي من الحكيم يتعلقان بفعل واحد له عنوان واحد في زمان واحد.

فلا يجوز له أن يأمر عبده بإكرام زيد وينهاه عن إكرامه ، أو يأمره بشرب العصير وينهاه عن شربه في زمان واحد.

ولكن قد وقع الاختلاف بين الأعلام في إمكان تعلق الحكمين كذلك بواحد ذي عنوانين ، فيأمر به بعنوان وينهى عنه بعنوان آخر كالأمر بالصلاة في الدار المغصوبة بعنوان الصلاة والنهي عنها بعنوان الغصب.

فذهب فريق من الأعلام إلى الجواز وإمكان كون الواحد ذي الوجهين مأمورا به ومنهيا عنه.

فإن متعلقيهما حينئذ وإن كانا متحدين وجودا إلا أنهما متعددان عنوانا ، وتعدد العنوان مستلزم لتعدد المعنون عقلا ، فالموجود المتراءى في نظر أهل العرف واحدا يكون بنظر العقل متعددا فهو وجود واحد عرفا ووجودان عقلا ، فعل واحد ظاهرا وفعلان واقعا ، فلا مانع من تعلق الأمر به بعنوان والنهي عنه بعنوان آخر ، ويترتب عليه آثارهما من حصول الإطاعة واستحقاق المثوبة بالنسبة إلى الأمر ، والمعصية واستحقاق العقوبة

١٥

بالنسبة إلى النهي فسمي هذا المبنى بالاجتماع والقائلون بذلك بالاجتماعيين.

وذهب آخرون إلى الامتناع عقلا وأن اتحاد متعلق الأمر والنهي خارجا يستلزم اجتماع الضدين ، أعني تعلق إرادة الآمر وكراهته بالنسبة إلى فعل واحد وهو مستحيل ، ولا ينفع في ذلك تعدد العنوان ، فإن كثرة الاسم لا يجعل المسمى متكثرا ويسمى هذا المبنى بالامتناع والقائلون به بالامتناعيين.

تنبيهان :

الأول : قد علم مما ذكرنا أن وجه الإشكال في المسألة هو لزوم المحذور العقلي في ناحية الحكيم الصادر عنه الحكم ، فالقائل بالامتناع يدعي استحالة توجيه الحكمين على النحو المذكور لاستلزامه اجتماع الإرادة والكراهة في نفس المولى مع تعلقهما بفعل واحد في زمان واحد ، فالمحذور هو كون نفس التكليف محالا ، لا أنه يلزم التكليف بالمحال فإنه على فرض لزومه في بعض الموارد محذور آخر.

الثاني :

العنوانان المتعلقان للأمر والنهي المنطبقان على وجود واحد يتصوران على أقسام ثلاثة.

أولها : أن يكون بينهما التساوي في الصدق كما إذا قال جئني بالضاحك ، وقال لا تجئ بالكاتب.

ثانيها : أن يكون بينهما العموم من وجه كما إذا قال صل ولا تغصب.

ثالثها : أن يكون بينهما العموم المطلق كما إذا قال جئني بحيوان وقال لا تجئ ببقر.

والظاهر أن في موارد التصادق في الجميع يجري نزاع الاجتماع والامتناع ، فيقول المجوز أنه لا محذور عقلي من ناحية المولى في تعلق التكليفين بمورد الاجتماع وإن كان المانع من ناحية العبد موجودا في القسم الأول ، فإنه لا قدرة له لو أراد الامتثال التام بإتيان المأمور به وترك المنهي عنه للتلازم بينهما في الوجود ، فعدم جواز القسم الأول لدى الاجتماعي إنما هو للزوم التكليف بالمحال لا التكليف المحال بنفسه ، بخلاف

١٦

القسمين الأخيرين فإنه يمكن للمكلف امتثال كلا التكليفين ، فإن صلى في غير الغصب وترك الغصب أطاع الأمر وامتثل النهي وإن صلى فيه كان ذلك إطاعة وعصيانا.

فعلم من ذلك أنه لا تعارض عندهم بين دليلي صل ولا تغصب حتى يخصص أحدهما بالآخر أو يتساقطا فيرجع إلى الأصول العملية ، وكذا لا تعارض بين قوله جئني بحيوان ولا تجئ ببقر حتى يخصص الأول بالثاني لعدم اجتماعهما حقيقة في مورد واحد.

وأما الامتناعي فالقسم الأول عنده باطل من وجهين والقسم الثاني داخل في المتعارضين والثالث في الجمع الدلالي.

١٧

الاجتهاد والتقليد

أما الاجتهاد : فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد.

والمراد من تحصيل الحجة أعم من إقامتها على إثبات الأحكام أو على إسقاطها.

وتقييد الأحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الأحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدإ تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح.

وتقييد التحصيل بكونه عن ملكة لإخراج فعل من قد يتفق له استنباط حكم فرعي مع عدم وجود الملكة له كما إذا تصدى من له حظ من علم اللغة لاستنباط حلية البيع وحرمة الربا من قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) مع عدم قدرته على غير علم اللغة من مقدمات الاستنباط ، وأيضا لإخراج من له ملكة الاستنباط ولكنه لم يستنبط شيئا من الأحكام فيشكل إطلاق اسم الفقيه والمجتهد عليه لظهور الأدلة في فعلية الاستنباط والاستخراج.

ثم إنه يندرج في التعريف تحصيل العلم بالأحكام الفرعية ، وكذا إقامة الدليل

١٨

والأمارة الشرعية عليها ، وكذا تحصيل الظن الانسدادي حكومة أو كشفا. ويندرج أيضا فيه إجراء الأصول العملية الشرعية والعقلية ، فإنها أمور ممهدة لرعاية حال الأحكام الواقعية ، معمول بها في سبيل إثباتها أو إسقاطها فهي أشبه شيء بحجج منجزة أو معذرة.

ثم إن المجتهد إما أن يكون محصلا للحجة على معظم الأحكام عن ملكة استنباط جميع ما يحتاج إليه ويسأل عنه. فيسمى مجتهدا مطلقا ، وإما أن يحصل الحجة على البعض وله ملكة استنباط البعض دون بعض لتفاوت المدارك في السهولة والصعوبة فهو يسمى مجتهدا متجزيا ، لتجزي الملكات في حقه ، فالمتجزي من له ملكة أو ملكات قليلة والمطلق من له ملكات كثيرة ، لا أن المتجزي من له ملكة ضعيفة والمطلق من له ملكة شديدة ، فالتفاوت بالكمية لا بالكيفية.

ثم إن للعلماء رحمهم‌الله في أصل إمكان التجزي وفي جواز عمل المتجزي بالحكم الذي اجتهد فيه وفي جواز رجوع غيره إليه في ذلك أقوال مختلفة.

وأما التقليد : فقد يعرف بأنه أخذ قول الغير للعمل به في الفرعيات والالتزام به قلبا في الاعتقاديات تعبدا وبلا مطالبة دليل ، فإذا أفتى الفقيه بوجوب صلاة الجمعة أو حرمة شرب العصير فالتزم به المقلد وبنى قلبا على العمل به من دون أن يطالبه بدليل الحكم تحقق التقليد وصح أن يقال إنه قلد الفقيه في هذه المسألة وإن لم يعمل به بعد ، وكذا إذا أفتى المجتهد بأن المعراج مثلا جسماني فتعلمه المقلد واعتقد به في قلبه تحقق التقليد فيها.

وقد يعرف بأنه العمل استنادا إلى قول الغير وعليه لا يتحقق التقليد بمجرد تعلم الحكم ما لم يعمل به.

ولا يخفى عليك أن المناسب للمورد من معانيه اللغوية معنيان :

الأول : كونه بمعنى جعل الشيء ذا قلادة ويتعدى حينئذ إلى مفعولين : أولهما : الشيء الذي تجعل القلادة له وثانيهما الشيء المجعول قلادة ، يقال قلد الهدي نعله أي جعله قلادة له وقلد العبد حبلا أي جعله قلادة على عنقه ، فيكون معنى قلدت الفقيه صلاتي وصومي وحجي جعلتها على عنقه وألقيتها على عهدته ، وهذا المعنى يقتضي كون

١٩

التقليد هو العمل فإنه ما دام لم يعمل لم يصدق أنه قلده وألقى العمل على رقبته.

الثاني : التبعية ويتعدى إلى المفعول الثاني بفي يقال قلده في مشيه أي تبعه فيه فيكون معنى قلد الفقيه في وجوب الصلاة وحرمة الخمر اتبعه فيهما ، وعلى هذا المعنى إن أريد في باب التقليد من التبعية التبعية بحسب القلب والاعتقاد كان التقليد هو الالتزام وإن أريد بها التبعية بحسب العمل كان هو العمل عن استناد.

ثم إن كثرة استعمالهم التقليد متعديا بفي شاهدة على إرادتهم المعنى الثاني وإن كان أحدهما كناية عن الآخر.

تنبيه :

استدلوا على نفوذ الاجتهاد وحجية فتوى المجتهد ، وعلى صحة تقليد الجاهل له بأمور :

منها : آية النفر ، قال الله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فأوجب الله تعالى لطائفة التفقه في الدين وهو يشمل الاجتهاد وتحصيل الحجة على الأحكام كما يشمل نقل الرواية.

وطلب من آخرين الحذر العملي من إخبار المنذرين وهو يشمل التقليد كما يشمل أخذ الرواية.

ومنها : قوله «عليه‌السلام» «يا أبان اجلس في المسجد وأفت للناس فإني أحب أن يرى في أصحابي مثلك».

وليس الأمر بإفتائه إلا لكونها حجة وقاطعا للعذر عن السامعين وكون العمل منهم على طبقها مطلوبا.

ومنها : قوله في رواية أفيونس بن عبد الرحمن ثقة : «آخذ عنه معالم ديني؟ قال (عليه‌السلام) نعم». فأخذ معالم الدين يشمل التقليد وإبلاغه وبيانه يشمل الإفتاء.

ومنها : جريان السيرة العملية العقلائية على العمل بقول أهل الخبرة والاطلاع في كل علم وفن بلا مطالبة دليل منهم.

٢٠