اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

الظن

هو لغة واصطلاحا عبارة عن الطرف الراجح من طرفي الترديد في الذهن ، وقد يطلق اصطلاحا على الأسباب الذي تورث الظن بحسب الغالب كما ستعرف ولمطلق الظن عند الأصوليين تقسيمات :

الأول : تقسيمه إلى الظن الشخصي والظن النوعي.

فالأول : هو الظن اللغوي وهي صفة نفسانية تنقدح في النفس نظير العلم والشك.

والثاني : هي الأسباب التي تكون غالبا سببا لانقداح الظن الشخصي في الذهن ، كخبر العدل والثقة والإجماع المنقول وكون الشيء متيقن الوجود في السابق ونحوها فيطلق عليها الظنون النوعية ، وبين الظنين تباين ماهية وعموم من وجه تحققا فقد يفترقان في التحقق وقد يتحققان وفي صورة التحقق قد يتوافقان وقد يختلفان فإذا أخبرك العادل بوجوب الجمعة وكان ظنك الشخصي أيضا بالوجوب فقد اجتمعا وتوافقا وإن كان ظنك الشخصي بحرمتها فقد اختلفا فإن ثبت عندك حجية أحدهما دون الآخر عملت بالحجة منهما وإن ثبت حجيتهما معا كان المورد من قبيل تعارض الدليلين.

الثاني : تقسيمه إلى الظن الخاص والظن المطلق.

١٦١

فالأول : كل ظن شخصي أو نوعي دل على حجيته دليل خاص من عقل أو نقل كالظن بركعات الصلاة أو خبر العدل والثقة.

والثاني : هو الظن الذي ثبت حجيته بدليل الانسداد ومعونة مقدمات الحكمة ويطلق عليه الظن الانسدادي أيضا وقد مضى بيان المقدمات تحت عنوان الانسداد.

الثالث : تقسيمه إلى الظن المانع والظن الممنوع.

وهذان اسمان لبعض مصاديق الظن المطلق الذي كان أحد الشقين في التقسيم السابق ، فهنا ظن مطلق مانع وظن مطلق ممنوع ، مثلا إذا حصل للمكلف القائل بالانسداد ظن من قول الصبي أو الفاسق بوجوب صلاة الجمعة وحصل له ظن آخر بعدم حجية الظن الحاصل من قول الصبي والفاسق ، يطلق على الظن الأول الممنوع وعلى الثاني المانع وفي حجية أحدهما أو كليهما أقوال :

أولها : حجية المانع دون الممنوع لأنهما كالشك السببي والمسببي في الاستصحاب.

ثانيها : حجية الممنوع دون المانع لأن الأول ظن بالحكم الفرعي وهو الوجوب والثاني ظن بالحكم الأصولي وهي الحجية والمتقين من دليل الانسداد حجية الأول فقط.

ثالثها : لزوم اختيار أقواهما لو كان وإلا فالتساقط لعدم الترجيح.

الرابع : تقسيمه إلى الظن الطريقي والظن الموضوعي.

والأول : ما كان طريقا محضا إلى واقع محفوظ من دون كونه مأخوذا في موضوع حكم كما في القطع الطريقي من غير فرق بينهما إلا في كون طريقية القطع ذاتية غير قابلة للجعل شرعا وكون طريقية الظن عرضية مجعولة من الشرع أو العقل والأول كحجية الأمارة شرعا بنحو الطريقية والثاني كالظن الانسدادي على الحكومة.

والثاني : هو الظن الذي له دخل في الحكم شرعا بمعنى كونه مأخوذا في موضوعه والأقسام المتصورة في القطع الموضوعي تجري في المقام أيضا مع اختصاصه بزيادة شيء.

بيانه أنه سيأتي في باب القطع امتناع أخذ القطع بالحكم أو بالموضوع ذي الحكم في موضوع حكم

١٦٢

مماثل للمقطوع به أو مضاد له وأما أخذ الظن بذلك في موضوع حكم مماثل أو مضاد فهو جائز في الظن غير المعتبر وغير جائز في المعتبر ، فيجوز أن يقول المولى إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة من إخبار صبي أو فاسق فهي عليك واجبة أو هي عليك محرمة ، والسر في ذلك أن الواقع على فرض وجوده غير منجز على الظان لعدم حجية ظنه فيكون الحكم المرتب على الظن حكما ظاهريا فعليا ولا تنافي بينه وبين الحكم الواقعي كما في موارد الشك ، ولا يجوز أن يقول بعد أن جعل قول العدل حجة وطريقا إذا أخبرك العدل بوجوب صلاة الجمعة فهي عليك واجبة أو هي عليك محرمة لأن الواقع على فرض وجوده فعلي منجز والفرض أن الحكم المرتب على الظن أيضا كذلك فيلزم اجتماع المثلين أو الضدين ولو ظنا وهو باطل.

١٦٣

عدم خلو الواقعة عن الحكم

قد اشتهر بين الأصحاب عدم خلو واقعة من الوقائع عن الحكم الشرعي والقدر المسلم من هذه المسألة ما إذا كان المراد من الواقعة فعل المكلف ومن الحكم الشرعي الحكم التكليفي بمرتبته الإنشائية.

وحاصل الكلام حينئذ أنه ليس للمكلف فعل من الأفعال إلّا وله من ناحية الشارع حكم من الأحكام الخمسة مجعول بالغ مرتبة الإنشاء سواء أكان واصلا إلى مرتبة الفعلية والتنجز أم لم يكن وهذا المعنى هو الذي يمكن دعوى الاتفاق عليه وادعي تواتر الأخبار فيه بأن لله في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل.

وما سوى ذلك مورد شبهة وإشكال أما الأحكام الوضعية فتارة يكون الفعل خاليا عنها بالمرة وأخرى يعرضه منها واحد وثالثة يعرضه اثنان أو أكثر.

ففي غالب المباحات مثل الأكل والشرب والقيام والقعود لا يعرضه حكم وضعي أصلا ، وفي مثل العقود والإيقاعات يترتب عليه التسببية بالنسبة إلى الأمور المقصودة منها من الملكية والزوجية والطلاق والعتاق ونحوها ، وفي أفعال الطهارات الثلاث مثلا يترتب عليها السببية للحالة النفسانية الحاصلة منها والرافعية للحدث السابق والشرطية للصلاة مثلا بناء على كونها بنفسها شرطا.

١٦٤

وأما الأحكام التكليفية بمرتبتها الفعلية فهي أيضا لا تترتب دائما على الفعل بل توجد موارد خلت الأفعال من مرتبة فعلية تلك الأحكام.

منها : موارد حصول القطع للمكلف على خلاف الحكم الواقعي كما إذا قطع الشخص بوجوب الجمعة مع كونها حراما في الواقع فإن ما قطع به ليس حكما شرعيا مجعولا أصلا والحكم الواقعي ليس بمنجز حتما وليس بفعلي على المشهور فليس هنا حكم شرعي في مرتبة الفعلية واقعيا كان أو ظاهريا وإن كان التحريم موجودا إنشاء ، وكذا إذا قطع بحلية العصير مع حرمته في الواقع أو باستحباب شيء مع كونه واجبا هذا إذا كان القطع بالخلاف قصوريا وأما إذا كان عن تقصير فالواقع فعلي منجز.

ومنها : موارد الطرق الشرعية المؤدية إلى خلاف الواقع كما إذا أخبر العادل بإباحة شيء وكان في الواقع واجبا أو حراما بناء على القول بالطريقية فيها ، فما أخبر به العادل ليس بمجعول ولو ظاهرا وما كان موجودا واقعا ليس بفعلي فلا حكم فعلي في المورد.

ومنها : مورد الظن الانسدادي المخالف أيضا كالأمارات الشرعية بناء على الحكومة والكشف الطريقي.

ومنها : موارد مزاحمة المهم للأهم كالصلاة المزاحمة لإزالة النجاسة من المسجد في أول الوقت ، فإن الأمر الفعلي لما توجه إلى الأهم بقي المهم خاليا عن الأمر الفعلي بالكلية وإلّا لزم طلب الضدين نعم الحكم بمرتبته الإنشائية ثابت وهذا مبني على بطلان الترتب وأما بناء على صحته فإن أراد امتثال أمر الأهم فكذلك أيضا وإن أراد المخالفة فأمر المهم أيضا فعلي كأمر الأهم.

ومنها : ما إذا استلزم امتثال واجب مخالفة حرام مع كون الواجب أهم كما لو استلزم إكرام عالم إهانة عالم آخر أو الوضوء في محل انصباب مائه في ملك الغير ، فالإهانة والتصرف في ملك الغير لا حكم لهما أصلا لأن الحرمة الواقعية قد ارتفعت بالمزاحمة ولم يترتب عليهما من طرف ما يستلزمهما حكم أيضا.

١٦٥

عدم صحة السلب وصحته

وصحة الحمل وعدمها

اعلم أنه قد يرتكز في ذهن الإنسان من أيام الصغر أو في برهة من الزمان معنى من المعاني بنحو الإجمال للفظ مخصوص معين (فليلاحظ أحدنا ما في ذهنه من كلمة الإنسان والفرس والغنم وغيرها) وحينئذ إذا سمع من أحد تعريف الحيوان الناطق وتصور في ذهنه ذلك الكلي فإن رأى أنه لم يصح سلب الإنسان بمعناه المرتكز في ذهنه عن الكلي الذي تصوره أو أنه يصح حمل الإنسان بذلك المعنى على ما تصوره يعلم أن لفظ الإنسان حقيقة في الحيوان الناطق وأن ما ارتكز في ذهنه إجمالا متحد مع ما تصوره تفصيلا ، فيتحقق حينئذ عنوان عدم صحة السلب وصحة الحمل ويكونان من علائم الحقيقة ، فيحكم بأن الإنسان والحيوان الناطق مترادفان.

وكذا إن رأى مصداقا من الإنسان في الخارج كزيد مثلا وعلم أنه لا يصح سلب المعنى المرتكز في ذهنه عنه بل صح حمله عليه يعلم بأن زيدا مصداق حقيقي للمعنى المرتكز لا مجازي ومن هنا قيل إن عدم صحة سلب مفهوم كلي عن مفهوم كلي وصحة حمله عليه علامتا كونهما مترادفين وعدم صحة سلب المفهوم الكلي عن الفرد أو صحة حمله عليه علامتا كون الفرد مصداقا حقيقيا لذلك الكلي.

هذا عدم صحة السلب وأما صحته فإذا سمع الشخص من أحد تعريف الحمار

١٦٦

فتصور في ذهنه معناه الكلي أو رأى فردا منه في الخارج فرأى أنه يصح سلب الإنسان بمعناه المرتكز عن متصوره أو عن ذلك الفرد ولا يصح حمله عليهما كان هذان عنده علامتا كون الحمار مباينا مع الإنسان وعدم كون الفرد مصداقا حقيقيا له وكان الاستعمال مجازيا وهكذا سائر الأمثلة.

١٦٧

العرض الذاتي والعرض الغريب

قد يستعمل العرض فيما يوافق معناه اللغوي وهو الوصف العارض للشيء المقابل لذاتياته وهذا هو المستعمل في باب الكليات ويقسمونه إلى عرض خاص كالكتابة للإنسان وعرض عام كالحركة بالإرادة والمشي له أيضا.

وقد يستعمل بمعنى مطلق الأمر الخارج عن الشيء ولو تصورا المحمول عليه ذاتيا كان أو عرضيا ، وهو بهذا المعنى يستعمل في تعريف موضوع العلم فيقال إن الموضوع هو الذي يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، ويقسم العرض بهذا المعنى إلى عرض ذاتي وعرض غريب.

فالأول : ما كان عارضا ومحمولا على الشيء حقيقة بحيث كان وصفا بحال نفس الموصوف وكان اتصاف الشيء به اتصافا حقيقيا سواء كان بلا واسطة أو بواسطة داخلية أو خارجية فهنا أمثلة ثلاثة :

أولها : المحمول العارض بلا واسطة كالفصل بالنسبة إلى الجنس والجنس بالنسبة إلى الفصل ، في قولك الناطق حيوان والحيوان ناطق ، فالبحث عن كون الناطق حيوانا أو عن كون الحيوان ناطقا بحث عن العوارض الذاتية أي عن محمول نفس الشيء.

ثانيها : المحمول العارض بواسطة داخلية كالتكلم المحمول على الإنسان بواسطة

١٦٨

كونه ناطقا والحركة الإرادية له بواسطة كونه حيوانا ، فهما عرضان والإنسان معروض والنطق والحيوانية واسطتان داخلتان في حقيقة المعروض.

ثالثها : المحمول العارض بواسطة خارجية كالضحك المحمول على الإنسان بواسطة التعجب الخارج عن حقيقة ذاته والحرارة العارضة للماء بواسطة النار.

والثاني : أي العرض الغريب ما كان عروضه على الشيء وحمله عليه مجازيا وكان الوصف بحال متعلق الموصوف لا نفسه ، وحيث كان المعروض الحقيقي مرتبطا مع هذا الشيء بنحو من الارتباط نسب وصفه إليه مجازا ، مثاله توصيف الجسم بالسرعة والشدة فتقول هذا الفرس سريع وهذا الأبيض شديد فهذا يطلق عليه الغريب لأن الاتصاف ليس حقيقيا بل المتصف بالسرعة واقعا هي الحركة وبالشدة هو البياض ولأجل كونهما وصفين للفرس والشيء الخارجيين نسب عارضهما إليهما بالعناية.

ثم إن عمدة الغرض من هذا البحث بيان أن مسائل علم الأصول من قبيل العوارض الذاتية لموضوعه فإن الحجية مثلا بالقياس إلى ظاهر الكتاب وخبر العدل وغيرهما عرض ذاتي تتصف تلك الأمور بها حقيقة لا بالعرض والمجاز كما أن الأحكام الفرعية المبحوث عنها في علم الفقه تكون من العوارض الذاتية لموضوعه أعني أفعال المكلفين أو الموضوعات الخارجية.

١٦٩

العقل

العقل قوة مودعة في النفس معدة لقبول العلم والإدراك ، ولذا قيل إنه نور روحاني تدرك النفس به العلوم الضرورية والنظرية ، وأول وجوده عند اجتنان الولد ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ ، وله جنود من الخصال الفاضلة والسجايا المرضية تبدو من عند التمييز وتكمل حين بلوغ الأربعين في الغالب.

وقد يطلق العقل على نفس التعقل والإدراك ، ويسمى على الإطلاق الأول عقلا مطبوعا ، وهو المراد من قوله تعالى كما في الرواية : «ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك» وعلى الإطلاق الثاني عقلا مكسوبا مسموعا ، وهو المراد من قوله «عليه‌السلام» : «ما اكتسب الإنسان شيئا أفضل من عقل يهديه إلى هدى» ، قال على «عليه‌السلام» على ما نسب إليه :

فإن العقل عقلان

فمطبوع ومسموع

ولا ينفع مسموع

إذا لم يك مطبوع

كما لا تنفع الشمس

وضوء العين ممنوع

ثم إن البحث عن العقل في هذا العلم بملاحظة حجية مدركاته وكون أحكامه من أدلة استنباط الحكم الشرعي تارة ، ومرجعا عمليا عند فقدان الأمارات أخرى.

١٧٠

أما الأولى : فهي أحكامه استقلالية التي تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية ، فيكون دليلا عقليا وأمارة منجزة أو معذرة ، ولذا قيل إن الدليل العقلي حكم عقلي يتوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي والمراد بصحيح النظر جعله كبرى في قياس الإنتاج كما تقدم ، وذلك كحكمه بحجية الظن الانسدادي والظن الاستصحابي بناء على حجيتهما وحكمه بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته وبالملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضده وبالملازمة بين حسن شيء أو قبحه ووجوبه أو حرمته شرعا بناء على حكمه بالملازمة في هذه الموارد وغيرها من أحكامه.

فتقول حرمة العصير مما تعلق بها الظن الانسدادي أو الاستصحابي وهو دليل مثبت للتكليف منجز له فالحرمة ثابتة منجزة ، وتقول الوضوء مقدمة للصلاة وكل مقدمة الواجب واجبة فالوضوء واجب ، وتقول الصلاة المزاحمة لإزالة النجاسة عن المسجد ضد للواجب وكل ضد الواجب حرام فتلك الصلاة محرمة ، وتقول رد الوديعة مما حكم العقل بحسنه وكلما حكم العقل بحسنه حكم الشرع بوجوبه فالرد واجب شرعا وهكذا.

وأما الثانية : فهي أحكامه الاستقلالية التي تعد أحكاما ظاهرية وأصولا عملية يرجع إليها عند فقد الأمارات العقلية والقواعد النقلية ، وذلك كحكمه بقبح العقاب على الحكم بلا ورود البيان عليه ، وحكمه بتخيير المكلف عند دوران الأمر بين المحذورين ، ولزوم الاحتياط عليه في موارد العلم الإجمالي ونحوها.

تنبيهان :

الأول : تنقسم مدركات العقل وأحكامه إلى أقسام كثيرة تختلف لديه بالوضوح والخفاء.

فمنها : المشهورات وهي التي توافقت عليها آراء العقلاء لوجود مصالح فيها وانحفاظ نظام المجتمع وبقاء النوع بها كحسن العدل وقبح الظلم.

ومنها : الأوليات ككون الكل أعظم من الجزء والضدين لا يجتمعان.

١٧١

ومنها : الحسيات المحسوسة بالحواس الظاهرة أو الباطنة ككون هذا الجسم أبيض وكحكمنا بأن لنا علما وشوقا وشجاعة.

ومنها : الفطريات وهي القضايا التي قياساتها معها ككون الأربعة زوجا لأنها تنقسم إلى المتساويين وكل منقسم إلى المتساويين زوج.

ومنها : التجربيات وهي الحاصلة بتكرر المشاهدة كحكمنا بأن السم مهلك.

ومنها : المتواترات كحكمنا بأن مكة موجودة لإخبار جماعة يمتنع تبانيهم على الكذب.

ومنها : الحدسيات الموجبة لليقين كحكمنا بأن نور القمر مستفاد من الشمس لتشكله بدرا وهلالا.

الثاني : لا إشكال في حجية ما استقل به العقل من الأحكام مما يعد أمارة موصلة إلى الأحكام الشرعية ، أو أصلا عمليا يرجع إليه في مرحلة العمل.

والدليل عليه أولا أن ذلك مما يجده العقل في نفسه طبعيا وجدانيا وهو كاف في الحجية إذ حجية كل شيء ترجع إلى حكمه وقضائه فكيف يثبت حجية حكمه بشيء آخر.

وثانيا ما ورد من الأدلة النقلية على ذلك ، ففي الكافي عن الكاظم «عليه‌السلام» قال : «يا هشام إن لله على النّاس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة «عليهم‌السلام» وأما الباطنة فالعقول».

وفي البحار عن كتاب الاحتجاج قال ابن السكيت للرضا «عليه‌السلام» فما الحجة على الخلق اليوم قال «عليه‌السلام» : «العقل تعرف به الصادق على الله فتصدقه والكاذب على الله فتكذبه» قال ابن السكيت : هذا هو والله الجواب.

وما ورد مستفيضا من : «أن الله لما خلق العقل قال بك أثيب وبك أعاقب وبك آخذ وبك أعطي». والإثابة والعقاب لا يكونان إلا بالحجة ونحوها غيرها ، والمخالف في أصل إدراك العقل للحسن والقبح الأشاعرة وفي كون حكمه دليلا على الحكم الشرعي الطائفة الأخبارية ولهم في ذلك أقوال أخر وسيأتي بعض الكلام فيه في قاعدة التحسين وقاعدة الملازمة.

١٧٢

العموم والعام

العموم في الاصطلاح عبارة عن شمول المفهوم لكل ما يصلح أن ينطبق عليه وبعبارة أخرى فعلية الشمول فيما فيه قابليته ، والعام عبارة عن اللفظ الدال على المفهوم وشموله.

فمعنى لفظ العام يتركب من أمرين المفهوم القابل للانطباق على كثيرين ، وفعلية ذلك الانطباق.

ثم إن ألفاظ العام الدالة على ذلك المعنى إن كانت جامدة غير مركبة نظير ما ومن الشرطيتين ومتى وحيث وكيف وأمثال ذلك فإنها بمعنى كل شيء أو كل شخص أو كل زمان ومكان فواضح.

وإلا فالجزء الذي يدل من اللفظ على نفس المفهوم هو مادة اللفظ والذي يدل على الشمول والسريان يسمى أداة العموم.

ففي ألفاظ كل رجل والعلماء ولا رجل تكون كلمة رجل وعالم هي المواد الدالة على المفهوم وكلمة كل وهيئة الجمع ووقوع النكرة في سياق النفي هي أدوات العموم.

ثم إنّ للعام عند أهل الفن تقسيمات :

منها : تقسيمه إلى العام البدلي والعام الاستغراقي والعام المجموعي.

١٧٣

بيانه أن اللفظ الدال على الاستيعاب إن دل على شمول المفهوم للأفراد بنحو البدل كان الشمول بدليا وأطلق عليه العام البدلي ، كقولك أكرم أيّ رجل شئت وسافر أيّ يوم أردت فكلمة أيّ وما يؤدي معناها من أدوات العموم البدلي.

وإن دل على شموله دفعة وبنحو الاستيعاب كان الشمول استيعابيا وحينئذ إن قصد في الكلام ترتب الحكم الكلامي على كل فرد من أفراد المفهوم مستقلا سمي ذلك «عاما استغراقيا» كما لو ورد أكرم كل عالم مع كون الفرض إنشاء وجوب مستقل لكل فرد وإن قصد ترتب حكم واحد على الجميع سمي العام مجموعيا.

فظهر مما ذكرنا أن انقسام العام إلى البدلي والاستيعابي انقسام وضعي نشأ من وضع اللفظ للمعاني المختلفة ولذلك صارت ألفاظهما أيضا مختلفة ، وانقسام الاستيعابي إلى الاستغراقي والمجموعي انقسام بلحاظ الحكم المرتب عليه ويشهد لذلك اتحاد ألفاظهما وجواز استعمال كل واحد منها في موضع الآخر.

تنبيه :

الفرق بين الأقسام في هذا التقسيم واضح إذ في الحكم المرتب على العام البدلي يتحقق الامتثال بالإتيان ولو في ضمن فرد واحد ويحصل الغرض ويسقط الأمر بخلاف الاستيعابي ، وأما الفرق بين الاستغراقي والمجموعي فهو أن في الأول يكون الحكم متعددا بتعدد الأفراد ولكل واحد منها إطاعة مستقلة وعصيان مستقل ، فأي فرد من العلماء أكرمه المكلف في المثال السابق استحق ثوابه وأي فرد لم يكرمه استحق عقابه ولا ارتباط بينهما ، وفي الثاني يكون الحكم واحدا بحيث لو أكرم الجميع حصل امتثال واحد ولو ترك إكرام واحد حصل عصيان الأمر بالكلية.

ومنها : تقسيمه إلى العام الأفرادي والعام الأزماني.

فالأول : عبارة عن شمول المفهوم وسريانه بحسب الأفراد.

والثاني : عبارة عن شموله وسريانه بحسب الأزمان بمعنى لحاظ استمرار المفهوم وبقائه في عمود الزمان.

١٧٤

بيان المطلب أن تعلق حكم شرعي بفعل من الأفعال من حيث أخذ الزمان قيدا للحكم أو للموضوع يتصور على أقسام أربعة :

الأول : أن لا يلاحظ الزمان أصلا لا في طرف الحكم ولا في طرف الموضوع بل تلاحظ طبيعة الحكم فترتب على طبيعة الموضوع بلا لحاظ تقيدهما بزمان ، كما إذا قال المولى أوجبت عليك الجلوس في المسجد أو صيام يوم ، أو قال أعتق رقبة وأكرم عالما ، وحكم هذا القسم هو حصول الغرض وسقوط الأمر بإتيان مسمى الجلوس والصيام وطبيعة العتق والإكرام.

الثاني : أن يلاحظ مقدار من الزمان محدود كشهر أو سنة أو مستمر دائم ، ظرفا لثبوت الحكم على الموضوع بأن يجعل ويرتب طبيعي الحكم على طبيعي الموضوع ويراد بذكر الزمان دوام الحكم عليه واستمراره في تلك المدة في مقابل كونه آنيا من حيث الزمان أو منوطا بمجرد تحقق الطبيعة ولو في ضمن فرد واحد كما لو قال المولى يجب الصدق في الكلام أبدا وإكرام زيد دائما فلا يسقط الأمر بتحقق الصدق ولو دفعة وإكرام زيد ولو مرة.

ونظير التصريح بالدوام استفادة ذلك من الإطلاق فيطلق حينئذ على دوام الوجوب على عنوان الصدق وعنوان الإكرام العموم الأزماني للحكم ، ويقال إن لهذا الحكم عموما أزمانيا ويطلق على عموم عنوان الإكرام لمصاديقه كإكرام زيد وإكرام عمرو العموم الأفرادي للموضوع وهذا القسم هو الذي ذكر الشيخ قدس‌سره بأن الزمان فيه لوحظ ظرفا للحكم لا قيدا للموضوع.

الثالث : أن يلاحظ الزمان قيدا للموضوع بنحو المجموع بأن يلاحظ الزمان جميعه ولو كان طويلا ويجعل قيدا واحدا لموضوع التكليف أعني فعل المكلف ويكون المطلوب الفعل المستمر في عمود الزمان بحيث لو ترك الفعل في جزء من الزمان لما امتثل التكليف أصلا ، كما إذا أوجب على المعتكف الكون في المسجد أياما أو الكون في عرفات ومنى يوما أو أياما ومنه الإمساك الواقع بين الطلوع والغروب والعموم هنا ينسب إلى الموضوع ويقال إن له عموما أزمانيا مجموعيا.

الرابع : لحاظ الزمان قيدا للموضوع بنحو الاستغراق بأن يلاحظ كل جزء من

١٧٥

أجزائه قيدا مستقلا ويكون الفعل في كل آن أو ساعة مثلا مطلوبا مستقلا بحيث يكون ترك الفعل في جزء من الزمان تفويتا لغرض وعصيانا لطلب وإتيانه في جزء آخر تحصيلا لغرض آخر وامتثالا لطلب كذلك.

مثاله ما لو قال أكرم العلماء أو أكرم زيدا في كل يوم إذا فرضنا أن الإكرام المقيد بكل يوم مطلوب مستقل ويسمى هذا عموما زمانيا استغراقيا في ناحية الموضوع ، وهذا القسم هو مراد الشيخ ره من قوله إن الزمان قد يلاحظ قيدا للموضوع وعبر عنه بأن الزمان مفرد للموضوع لتكثر أفراد الموضوع لا محالة بعدد الأيام وكون الإكرام في كل يوم موضوعا مستقلا له حكم مستقل ، فكما كان في القسم الثاني طبيعة الإكرام المتعلق بزيد موضوعا مستقلا بحكم مستقل والمتعلق بعمرو موضوعا آخر فكذلك الإكرام المتعلق بزيد في يوم الخميس مثلا موضوع مستقل له حكم مستقل والإكرام المتعلق به في يوم الجمعة موضوع آخر له حكم آخر.

تنبيه :

إذا عرفت أن العموم الزماني عبارة عن استمرار الشيء في عمود الزمان وطوله وأنه قد يلاحظ في نفس الحكم وقد يلاحظ في الموضوع المترتب عليه الحكم كالجلوس والإكرام والوفاء ، وعرفت أيضا عدم ملاحظته في المتعلق كالعالم والخمر والماء إذ لا معنى له في المتعلق غالبا بأن يقال إن العالم المقيد بيوم الخميس حكمه كذا وبيوم الجمعة كذا.

فاعلم أنه إذا ورد تخصيص على عام وكان المخصص مجملا غير واف لبيان حال المورد في ما بعد الزمان الأول ، كما إذا قام الإجماع على عدم وجوب إكرام زيد يوم الجمعة بعد ورود قوله أكرم العلماء على الدوام ، ففي لزوم استصحاب حكم المخصص فيما بعد الزمان الأول أو لزوم التمسك بالعام خلاف بين الأعلام.

وفصل شيخنا الأعظم (ره) في رسائله ومكاسبه بأنه إن كان الزمان الملحوظ في ناحية العام بنحو القسم الثاني وملحوظا ظرفا للحكم ، فاللازم بعده استصحاب حكم

١٧٦

المخصص ، إذ المفروض أن في كل فرد من أفراد العلماء كزيد وعمرو وخالد ، رتب طبيعة الحكم على طبيعة الموضوع ومعنى قيام الإجماع على عدم وجوب إكرامه رفع الحكم عن ذلك الموضوع وحيث ارتفع بالنسبة إلى فرد مثلا طبيعي الحكم عن طبيعي الموضوع في وقت فترتبه عليه ثانيا يحتاج إلى دليل ، وإن كان ملحوظا قيدا للموضوع بنحو القسم الأخير فاللازم التمسك بعد الزمان الأول بعموم العام إذ الفرض كما ذكرنا أن الموضوع في كل يوم أمر مستقل له حكم مستقل فتخصيصه لا يستلزم تخصيص موضوع آخر.

١٧٧

الغلبة

هى في الاصطلاح عبارة عن مشاركة أغلب أفراد الكلي في صفة من الصفات بحيث يظن بكون ذلك من آثار الطبيعة الصادقة عليها وأنها العلة في اتصاف المصاديق بها.

وثمرتها أنه إذا شك في وجود هذا الحكم أو الصفة في فرد من أفراد هذا الكلي يحكم على الفرد المشكوك بما وجد في أغلب أفراده من الحكم والصفة.

فظهر أن انتاج الغلبة موقوف على أمور ثلاثة :

أولها : وجود أفراد غالبة تشترك في صفة من الأوصاف كالبياض والسواد مثلا.

ثانيها : وجود جامع بينها يظن بكونه السبب في اتصاف تلك الأفراد بها بحيث لو وجد فرد على الخلاف لكان على وجه الندرة والشذوذ.

ثالثها : وجود فرد مشكوك اللحوق بالغالب ليلحق به بواسطة الغلبة.

مثالها في غير الشرعيات أنا إذا رأينا أكثر أفراد الإنسان الزنجي أسود على وجه ظننا إن الزنجية هي العلة في ثبوت السواد فإذا شككنا في زنجي أنه أسود أو أبيض نحكم بكونه أسود وأنه واجد لتلك الصفة إلحاقا له بالأعم الأغلب.

١٧٨

ومثالها في الشرعيات أنا إذا وجدنا أغلب أفراد الصّلاة يؤدى إلى القبلة بحيث ظننا إن العلة في ذلك هي الصلاتية فلو شككنا في صلاة كالنافلة المأتي بها قائما مثلا أنها تؤدي إلى القبلة أم لا حكمنا بعدم الجواز إلى غيرها ثم إن الغلبة ليست بحجة ما لم تفد الاطمينان بالحكم الشرعي.

١٧٩

الفقه

الفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية أو تحصيل الوظائف العملية عن الأدلة التفصيلية.

فخرج بقيد الفرعية العلم بأحكام أصول الدين ، كوجوب الاعتقاد بالمبدإ تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ونحوها ، فإنها تسمى أحكاما شرعية أصولية. وخرج أيضا العلم بأحكام أصول الفقه كحجية ظواهر الكتاب وخبر العدل ونحوهما فإنه لا يسمى بعلم الفقه بل هو علم الأصول والمراد من الأحكام الشرعية أعم من الواقعية والظاهرية ، فتدخل الأحكام الواقعية المستفادة من نصوص الكتاب الكريم والأخبار المتواترة والإجماعات القطعية ونحوها ، والأحكام الظاهرية التكليفية أو الوضعية المستفادة من أخبار الآحاد وسائر الأمارات على السببية ومن الأصول العملية الشرعية.

ودخل بعطف الوظائف ما يحصله الفقيه من الأمارات الشرعية بناء على الطريقية ومن الأمارات والأصول العقلية كلزوم اتباع الظن الانسدادي عقلا على الحكومة ، والحكم بعدم فعلية التكليف أو الأمن من العقاب في البراءة العقلية ، ولزوم العمل بالاحتياط في مسألة الاشتغال.

١٨٠