اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

السنة ـ والحديث ـ والحديث القدسي

أما السنة : فهي في الاصطلاح عبارة عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره.

وأما الحديث : فقد يطلق على كلام غير المعصوم الحاكي عن السنة الصادرة عن المعصوم كما أنه قد يطلق على الأعم من الحاكي والمحكي ويرادفه الخبر.

وأما الحديث القدسي : فهو كلام الله تعالى غير المنزل على سبيل التحدي والتعجيز سواء نقله المعصوم عن الله بواسطة الملك أم نقله من الكتب السماوية الماضية.

تنبيهات :

الأول : قد أشرنا إلى أن السنة قول أو فعل أو تقرير ، والأول واضح من حيث الموضوع ومن حيث الحجية كما سيجيء.

وأما الفعل : فهو حجة في الجملة ومثبت للحكم في بعض الموارد.

أما في الأفعال الضرورية ولوازم الحياة كالأكل والشرب ونحوهما ، فلا حاجة في إثبات جوازها إلى فعل المعصوم لثبوته بالعقل والضرورة من الشرع.

وأما في غيرها ، فترك المعصوم فعلا من الأفعال يدل على عدم وجوبه كما أن فعله

١٤١

شيئا منها يدل على عدم حرمته ، إذا لم يكن هناك خوف وتقية.

وأما إثبات رجحان عمل بالفعل أو إثبات كراهته بالترك سواء أكان مواظبا عليهما أم لا ، فلا إشكال فيه إذا علم بالصدور بقصد القربة ، فعند ذلك يثبت أصل الرجحان دون الوجوب ، وإن لم يعلم وجه العمل واحتمل كونه عبادة أو مباحا يفعله باقتضاء طبعه كما إذا كان يجلس بعد السجدتين وقبل القيام ، فالظاهر عدم ثبوت الرجحان بذلك.

وأما التقرير : فهو أن يطلع المعصوم على معتقد شخص أو جماعة أو على صدور فعل كذلك ، أو على جريان سيرتهم على عمل فلم ينكره عليهم ولم يردعهم عنه مع عدم خوف وتقية ، فحينئذ يكون ذلك تقريرا لما صدر عنهم وحجة على صحة تلك العقيدة ، وإباحة تلك الأعمال والعادات.

الثاني : قسموا الخبر إلى أقسام كثيرة نذكر هنا نبذا من ذلك.

فمنها : خبر الواحد.

ومنها : المستفيض

وهو ما كان مخبره أكثر من واحد ولم يصل إلى حد التواتر.

ومنها : المتواتر

وهو الذي بلغ رواته في كل طبقة حدا يمتنع عادة تباينهم على الكذب ، وينقسم إلى أقسام ثلاثة : الأول : المتواتر اللفظي

وهو اتفاق الرواة على نقل لفظ معين كما ادعي ذلك في قوله «عليه‌السلام» : «إنما الأعمال بالنيات».

وقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «إنّي تارك فيكم الثقلين» ، وقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «من كنت مولاه فعلي مولاه».

الثاني : المتواتر المعنوي

وهو إخبارهم بألفاظ مختلفة تشترك الجميع في إثبات معنى واحد كان ذاك المعنى مدلولا مطابقيا لها أو التزاميا أو بالاختلاف كما إذا روى أحدهم أن الهر طاهر والآخر أن السنور نظيف وهكذا وكما إذا ورد أن الماء القليل ينجس بالملاقاة وورد أن الأنقص من الكر ينفعل وورد أن الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء ومثل الأخبار الحاكية عن غزوات مختلفة تشترك في الدلالة على شجاعة علي «عليه‌السلام».

١٤٢

الثالث : المتواتر الإجمالي وهو إخبار الناقلين بألفاظ مختلفة متفاوتة في سعة الدلالة وضيقها مع حصول العلم الإجمالي بصدور بعض تلك الألفاظ كما إذا روى البعض أن خبر المؤمن حجة وروى الآخر أن خبر الثقة حجة وروى الثالث أن خبر العدل حجة والحكم حينئذ لزوم الأخذ بالخبر الأخص مضمونا.

ومنها : الصحيح وهو ما كان أفراد سلسلة سنده كلهم إماميين ممدوحين بالتعديل ، وقد يطلق الصحيح منسوبا إلى راو معين فيقال صحيح ابن أبي عمير مثلا فيراد منه كون السند صحيحا إلى ذلك الرجل ، وقد يقال روى الشيخ مثلا في الصحيح عن ابن بكير فيراد كون الوسائط المحذوفة بين الشيخ وابن بكير رجالا ثقات حذفوا للاختصار هذا عند المتأخرين وأما عند القدماء فالصحيح كل حديث قابل للاعتماد عليه فيعم الحسن والموثق كما سيجيء.

ومنها : الحسن وهو ما كان جميع رواة السند إماميين غير معدلين كلا أو بعضا.

ومنها : الموثق وهو ما كانت السلسلة غير إماميين كلا أو بعضا مع توثيق الجميع ويسمى هذا قويا أيضا.

الثالث : لا إشكال في حجية التواتر من تلك الأقسام وأما البواقي ففيها اختلاف بين الأعلام وإن كان الأمر في بعضها أسهل من بعض.

فاستدل القائلون بالحجية في الصحيح والموثق بأمور :

الأول : قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ) إلخ.

حيث أوجب الله الإنذار للمتفقه ، وطلب من الفرقة الحذر العملي من بعد الإنذار ولا يحصل العلم بطبع الحال من إنذار واحد أو اثنين فلو لا الحجية لما صح حذرهم عملا بترتيب أحكام الواقع على المنذر به.

الثاني : الروايات المتكثرة الواردة في الأبواب المختلفة فمنها ما ورد في الخبرين المتعارضين فأوجب مولانا الصادق «عليه‌السلام» في مقبولة ابن حنظلة : «الأخذ بما يقوله الأعدل والأصدق وما هو المشهور» ونحوها ، وقال ابن أبي جهم للرضا «عليه‌السلام» : «يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيهما الحق ، قال «عليه‌السلام» إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» ، فلو لا الحجية لما تعارضا ولما كان الترجيح بينهما

١٤٣

مطلوبا.

ومنها : ما ورد عنهم ، في إرجاع بعض أصحابهم إلى الآخرين ، كقول الصادق «عليه‌السلام» : «إذا أردت حديثا فعليك بهذا المجالس ـ (مشيرا إلى زرارة) ـ» وقوله «عليه‌السلام» في حقّ أبان : «إنه قد سمع مني حديثا كثيرا فما روى لك عني فاروه عني إلى غير ذلك».

الثالث : استقرار سيرة العقلاء جميعا على العمل في أمور معاشهم بقول الثقة ، مع كون هذه السيرة بمرئى من الشارع فلو لم تكن ماضية عنده لوجب ردعهم عن سلوكها وتعيين طريقة أخرى في أخذ الأحكام ونقلها.

١٤٤

الشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي

يطلق العنوان الأول في الغالب على المشتبه الذي لم يقارن علما إجماليا بتكليف. وتلاحظ هذه الشبهة تارة في الشبهات الوجوبية وأخرى في التحريمية وثالثة في الأقل والأكثر ، وعلى أي تقدير قد تكون الشبهة حكمية وقد تكون موضوعية فالأقسام ستة :

الأول : لحاظها في الوجوبية الحكمية كما إذا شككنا في أن الدعاء عند رؤية الهلال واجب أم لا.

الثاني : لحاظها في الوجوبية الموضوعية كما إذا شككنا في أن هذا عالم أم لا بعد العلم بوجوب إكرام كل عالم.

الثالث : لحاظها في التحريمية الحكمية كالشك في حرمة شرب العصير شرعا وعدمها.

الرابع : لحاظها في التحريمية الموضوعية كالشك في أن هذا المائع خمر أم لا.

الخامس : لحاظها في الحكمية في الأقل والأكثر كما إذا شك في أن السورة واجبة في الصلاة أم لا أو شك في أن غير آية السجدة من سور العزائم حرام على الجنب أم لا.

السادس : لحاظها في الموضوعية في الأقل والأكثر كما إذا شك في أن الستر الواجب حال الصلاة حاصل أم لا.

١٤٥

تنبيهات :

الأول : أن الأقوال في الشبهة البدوية مختلفة فالمشهور على إجراء أصالة البراءة فيها مطلقا وذهب عدة إلى البراءة في الوجوبية منها والاحتياط في التحريمية وعدة أخرى إلى البراءة فيها مطلقا نقلا والاحتياط في الموضوعية عقلا وعدة ثالثة إلى الاحتياط في الأقل والأكثر والبراءة في غيرهما إلى غير ذلك وأجملنا الكلام في نقل الأقوال مع عدم استقصائها طلبا للاختصار.

الثاني : كما أن الشبهة البدوية مورد للبراءة على المشهور فكذلك لو كانت مقارنة للعلم الإجمالي غير المؤثر ولها أمثلة كثيرة :

منها : ما لو علمنا إجمالا بخمرية أحد المائعين وكان أحدهما خارجا عن محل الابتلاء فالشبهة في مورد الابتلاء بدوية موضوعا أو حكما.

ومنها : ما لو كانت الشبهة غير محصورة وكانت أطراف العلم كثيرة جدا فكل واحد من أطرافه يكون بحكم الشبهة البدوية على المشهور.

ومنها : ما لو كان الشك في أحد أطراف العلم الإجمالي مسببا عن الشك في الطرف الآخر كملاقي أحد الأطراف لحكمه حكم الشك البدوي لعدم تعارض أصله مع الأصل السببي.

الثالث : مقابل الشبهة البدوية الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي وهو الشك الواقع في أطراف العلم الإجمالي المؤثر بحيث كان ارتكابه مظنة للضرر الأخروي سواء أكانت الشبهة وجوبية أم تحريمية حكمية أم موضوعية فإذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة فالشبهة في كل صلاة وجوبية مقرونة بالعلم الإجمالي وكذا إذا علم بوجوب إكرام زيد وشك أنه هذا الشخص أو ذاك وإذا علم بحرمة فعل شرعا وشك في أنه شرب الخمر أو شرب العصير فالشبهة في كل فعل تحريمية مقرونة بالعلم الإجمالي وكذا إذا علم بحرمة الخمر وشك في أنه هذا المائع أو ذاك والحكم في هذه الشبهة الاحتياط على المشهور وينسب إلى بعض جواز المخالفة الاحتمالية دون القطعية وإلى آخرين جوازهما معا فراجع بحث العلم الإجمالي.

١٤٦

الشبهة الحكمية والموضوعية

يطلق هذان الاسمان غالبا على الشكوك التي تقع مجرى للأصول العملية ، وموردا للأحكام الظاهرية ، كالشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب وأصالة البراءة والتخيير والاحتياط وقاعدة الطهارة وغيرها.

فالأولى : هي الشك المتعلق بالحكم الشرعي الكلي مع كون منشئه عدم النص في المسألة أو إجماله أو تعارضه مع نص آخر ، وتوصيفها بالحكمية لأن متعلقها هو الحكم الشرعي وحل الاشتباه ورفعه لا يكون إلّا من ناحية جاعل الحكم والدليل الواصل من قبله.

فإذا شك المكلف في وجوب السواك ، أو في بقاء وجوب الجمعة ، أو في كون الواجب يوم الجمعة صلاتها أو صلاة الظهر ، أو في كون صلاة الجمعة واجبة أو محرمة أو في طهارة العصير المغلي ، كان ذلك من جهة عدم الدليل المعتبر في المورد أو إجمال الدليل الوارد أو تعارض الدليل الظاهر مع مثله ، كان الأول من قبيل الشبهة الحكمية للبراءة والثاني للاستصحاب والثالث للاحتياط والرابع للتخيير والخامس لقاعدة الطهارة.

والثانية : هي الشك المتعلق بالموضوع الخارجي أو الحكم الجزئي مع كون منشئه

١٤٧

اشتباه الأمور الخارجية ، والتوصيف بالموضوعية لكون متعلقها هو الموضوع الخارجي ، ورفع الشبهة موقوف على الفحص عن الأمور الخارجية من غير ارتباط له بالشرع.

فإذا شك في كون هذا المائع خمرا أو خلا ، أو أن خمر هذا الإناء هل انقلبت إلى الخل أو لا ، أو أن نهي والده هل تعلق بشرب التتن أو شرب الشاي ، أو أنه هل أمره بشرب الشاي أو نهاه عنه ، أو أن هذا الغذاء المأخوذ من السوق هل هو طاهر أو نجس ، كان الأول شبهة موضوعية للبراءة والثاني للاستصحاب والثالث للاحتياط والرابع للتخيير والخامس للطهارة.

١٤٨

الشبهة المحصورة وغير المحصورة

يطلق هذان العنوانان غالبا على المشتبهات الواقعة في أطراف العلم الإجمالي فإذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءات فهنا علم إجمالي وشكوك تفصيلية بعدد محتملات المعلوم بالإجمال ، فإن كل واحد من الأطراف مشتبه ومشكوك فإذا كانت الأطراف والمحتملات قليلة معدودة يطلق عليها الشبهة المحصورة لانحصار الشبهة أو المشتبهات وإذا كانت كثيرة لا تقبل الحصر يطلق عليها الشبهة غير المحصورة.

ثم إنهم ذكروا لبيان ما يكون ميزانا لتشخيص كون الشبهة محصورة أو غير محصورة أمورا :

منها : أن المحصورة ما كان محصورا في العرف والعادة بمعنى أنه لا يعسر عده في زمان قليل ، وغير المحصورة ما لا يقبل الحصر والعد عرفا ويعسر عده في زمان قليل ، فلو اشتبه النجس بين عشرة إناءات أو مائة بل أو ألف فأطراف الشبهة محصورة ولو اشتبه بين عشرة آلاف مثلا فأطرافها غير محصورة.

ومنها : ما يقال إنه إذا بلغ كثرة الأطراف إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها ويكون احتمال مصادفة كل واحد من أطراف الشبهة للحرام المعلوم بالإجمال موهوما في الغاية فالشبهة غير محصورة وإلا فهي محصورة ، ألا ترى أنه لو

١٤٩

نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كبيرة يعلم بوجود زيد فيها لم يكن العبد ملوما وإن صادف زيدا وهذا هو مختار الشيخ في رسائله. وهنا أقوال أخر طوينا عنها كشحا روما للاختصار.

تنبيه :

اشتباه متعلق التكليف بين الأطراف يتصور على أقسام ثلاثة :

أولها : أن يكون المتعلق قليلا مرددا بين أطراف قليلة كالواجب المشتبه بين الظهر والجمعة أو النجس المشتبه بين إناءين أو أكثر وهذا هو المسمى بالشبهة المحصورة ويطلق عليه أيضا المشتبه القليل في القليل.

ثانيها : المتعلق القليل بين أطراف كثيرة وهذا هو المسمى بالشبهة غير المحصورة وقد علمت أمثلتها.

ثالثها : المتعلق الكثير بين أطراف كثيرة كما لو علم بحرمة خمسمائة شاة بين ألفين أو ألفا بين عشرة آلاف ويطلق عليه المشتبه الكثير في الكثير وهل هو بحكم المحصور أو غير المحصورة وجهان أوجههما الأول فإن نسبة الحرام إلى المجموع كنسبة الواحد إلى الأربعة أو إلى العشرة وهو مشتبه محصور.

١٥٠

الشك

يستعمل هذا اللفظ في الاصطلاح تارة في الحالة النفسانية المقابلة لوصفي القطع والظن وهو تردد الذهن في طرفي النقيض من غير رجحان وهذا المعنى هو الذي كثر استعمال الشك فيه في عرفنا الآن.

وأخرى في المعنى المقابل لليقين الشامل للشك بالمعنى الأول والظن وهو معناه لغة.

وثالثة في عدم قيام الحجة والبرهان على الشيء والمعنى الأول أخص من الأخيرين والثاني أخص من الثالث.

فإنه إذا شك الإنسان في حرمة العصير مثلا شكا متساويا ولم يجد عليها دليلا معتبرا تحقق الشك بجميع معانيه ولو ظن الحرمة ظنا غير معتبر ولا دليل عليها معتبر تحقق الشك بالمعنيين الأخيرين دون الأول ولو ظن ظنا غير معتبر وعليها دليل معتبر تحقق الشك بالمعنى الثاني دون الثالث ، ثم إن المأخوذ في موضوع الأحكام الظاهرية والأصول العملية هل هو خصوص المعنى الأول ، أو أحد المعنيين الأخيرين. وجوه بل أقوال تقدم الكلام فيها في عنوان الحكومة.

ثم إنه يقسم الشك بتقسيمات :

١٥١

الأول : تقسيمه إلى الشك الطاري والشك الساري فالطاري هو الشّك في البقاء المأخوذ في مجرى الاستصحاب والشك الساري هو الشك المأخوذ في مجرى قاعدة اليقين فراجع القاعدتين تعرف حقيقتهما ، وإطلاق الساري على الثاني لسرايته إلى نفس متعلق اليقين والطاري على الأول مع أن كل شك طار وعارض ليصح التقابل اللفظي مع الثاني.

الثاني : تقسيمه إلى شك بدوي وشك مقرون بالعلم الإجمالي فراجع عنوان الشبهة.

الثالث : تقسيمه إلى الشك السببي والشك المسببي.

وتوضيحه أنك قد عرفت أن الشك موضوع في غالب الأصول العملية مأخوذ في مجاريها ، وأن تلك الأصول أحكام شرعية ظاهرية مترتبة على الشك فحينئذ نقول :

إما أن يوجد هنا شك واحد موضوع لحكم واحد ، أو يوجد شكان كل واحد منهما موضوع لحكم ومجرى لأصل ، وعلى الثاني فإما أن يكون كل واحد منهما مسببا عن سبب مستقل ، أو يكونا مسببين عن سبب واحد أو يكون أحدهما مسببا عن الآخر فالأقسام أربعة.

لا كلام في القسمين الأولين كما إذا عرض لنا شك في بقاء وجوب الجمعة أو عرض شكان أحدهما في بقاء حياة زيد والآخر في كرية ماء فيترتب على كل شك حكمه.

وأما الثالث : فكما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة من النجس في أحد الإناءين فتولد منه شك في طهارة هذا وشك في طهارة ذاك فالشكان مسببان عن أمر ثالث هو العلم الإجمالي فيقع التعارض بين أصليهما إذ إجراء الاستصحاب أو قاعدة الطهارة في كليهما ينافي العلم الإجمالي فالحكم حينئذ هو التساقط والرجوع إلى الاحتياط مثلا.

وأما الرابع : فهو يتصور على قسمين :

الأول : أن يكون أصلاهما متوافقين قابلين للعمل بهما.

والثاني : أن يكونا متخالفين متعارضين.

مثال الأول : ما إذا كان كر مشكوك الطهارة المسبوق بالطهارة فلاقاه شيء طاهر

١٥٢

فتولد من الشك في الماء الشك في ملاقيه فالأول سببي والثاني مسببي ، وحكمه أنه يجري استصحاب الطهارة في الماء فيغني عن استصحابها في الملاقي أو يجري فيه استصحاب آخر.

ومثال الثاني : ما إذا كان هنا كر مسبوق بالطهارة فغسل فيه ثوب نجس فتولد من الشك في الماء الشك في طهارة الثوب ، والأول سببي والثاني مسببي وأصلهما حينئذ متعارضان بدوا فمقتضى استصحاب طهارة الكر طهارة المغسول فيه ، ومقتضى استصحاب نجاسة الثوب الحكم بنجاسته.

وهل اللازم حينئذ تقديم أصل السبب أو المسبب أو يتساقطان. وجوه أقواها الأول لأمور :

منها : لزوم المحذور العقلي لو قدمنا المسببي بخلاف تقديم أصل السبب.

بيانه : أن من آثار طهارة الماء شرعا طهارة المغسول به لقوله ع الماء يطهر ولا يطهر ، فإذا حكم الشارع بطهارة الماء بالاستصحاب فقد حكم بطهارة المغسول فيه ، فيكون رفع اليد عن نجاسة الثوب بأمر الشارع ودليل شرعي ، إذ الشارع حينئذ قد ألغي الشك المتعلق ببقاء نجاسة الثوب وحكم بعدمه تعبدا بعد الغسل بذلك الماء فرفع اليد عن استصحاب النجاسة لعدم الشك في بقائها تعبدا فلا موضوع له حتى يجري حكمه ، نظير ما إذا قامت البينة على طهارة الثوب في المثال.

فتحصّل أن اللازم من تقديم السببي عدم بقاء الموضوع للمسببي وكونه محكوما بل قد تعرضنا في بعض مواضع الكتاب لتقريب وروده عليه.

وهذا بخلاف ما إذا قدمنا أصل المسبب وطرحنا الأصل الجاري في السبب فإنه يلزم طرح الحكم الشرعي بلا دليل فإنه ليس من آثار بقاء نجاسة المغسول في الكر مثلا نجاسة الكر شرعا بل هي من الآثار واللوازم العقلية للاستصحاب المسببي فإنه إذا حكم بنجاسة المغسول بالكر في المثال ينكشف لدى العقل أنه لا وجه له إلا كون الماء نجسا غير قابل للتطهير به فإذا كان الأصل في المسبب غير ناظر إلى حال السبب يكون رفع اليد عن أصله مع تحقق موضوعه تخصيصا بلا وجه وهذا معنى ما قيل إن الأمر يدور حينئذ بين التخصص والتخصيص بلا وجه فتقديم السبب مستلزم

١٥٣

للتخصص في ناحية المسبب وعكسه مستلزم للتخصيص بلا وجه في ناحية السبب كما عرفت.

ومنها : أنه يظهر من صحيحة زرارة صحة استصحاب الوضوء وإجزاء الصلاة المأتي بها بذلك الوضوء مع أنه معارض بأصالة عدم براءة الذمة بتلك الصلاة وهذا بعينه من تقديم السبب على المسبب إذ الشك في بقاء الاشتغال مسبب عن الشك في بقاء الوضوء.

ومنها : الارتكاز العرفي وعمل العقلاء على التقديم فإنهم إذا علموا بأن الشارع حكم بطهارة ماء أو كريته ولو كان حكما ظاهريا رتبوا عليه الحكم برفعه للخبث والحدث وإذا حكم بحلية مال أدّوا منه ديونهم ولا يلتفتون إلى ما يقابلها من استصحاب بقاء النجاسة أو الحدث أو اشتغال ذمتهم بالديون وهكذا.

تنبيه :

قد لا يكون الأصل الجاري في ناحية السبب ناظرا إلى حال المسبب وحاكما عليه لكون اللزوم عقليا ، وقد يسقط عن الحجية لمانع أو مزاحم ، وعلى التقديرين فتصل النوبة إلى الأصل الجاري في المسبب.

مثال الأول ما إذا غاب عنا زيد وله من العمر عشر سنين فشككنا بعد عشرين سنة في بقاء حياته ، فاستصحاب الحياة لا يثبت بلوغ سنه إلى ثلاثين أو نبات لحيته أو سائر اللوازم العقلية والعادية فإنه مثبت فتصل النوبة إلى إجراء استصحاب عدم تحقق تلك اللوازم وعدم آثارها وهذه أصول مسببية.

ومثال الثاني ملاقي أحد الأطراف في الشبهة المحصورة فيما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الشيئين ، فإن الأصل في طرف السبب أعني الملاقى بالفتح قد سقط بالمعارضة فوصلت النوبة إلى أصل المسبب.

١٥٤

الشهرة

هي في الاصطلاح عبارة عن اشتهار أمر ديني بين المسلمين ولو بين عدة منهم.

وتنقسم إلى أقسام ثلاثة :

الأول : الشهرة الروائية وهي اشتهار نقل الرواية بين أرباب الحديث ورواته القريبين من عهد الحضور لا المتأخرين عنه سواء عمل بها ناقلها أم لم يعمل لوجود قصور فيها أو وجود رواية أرجح منها وهذا القسم هو الذي جعلوه في باب التراجيح من المرجحات وحملوا عليه قوله «عليه‌السلام» : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» فإذا ورد خبران متعارضان وكان أحدهما أشهر رواية من الآخر أوجبوا أخذه وطرح الآخر لمرجحية الشهرة.

الثاني : الشهرة العملية وهي اشتهار العمل برواية بين الأصحاب المذكورين وكثرة المستند إليها في مقام الفتوى ولو لم يتحملوا نقلها بشرائط التحمل والنقل وهي التي توجب جبر سند الرواية إذا كان ضعيفا فإذا لم يكن في المسألة إلا رواية واحدة ضعيفة السند ولكن الأصحاب عملوا بها انجبر ضعفها وجاز الاستدلال بها.

كما أن المشهور لو أعرضوا عن رواية كان ذلك موهنا لها ولو كان السند صحيحا سليما ومن هنا قيل : كلما ازداد الخبر صحة ازداد عند الإعراض عنه ضعفا ، والنسبة

١٥٥

بين الشهرتين عموم من وجه فقد تكون الرواية مشهورة من حيث الرواية غير مشهورة من حيث العمل وقد ينعكس الأمر وقد يتصادقان وهذان القسمان من الشهرة من صفات الرواية وحالاتها.

الثالث : الشهرة الفتوائية وهي عبارة عن اشتهار الفتوى بحكم في مسألة من المسائل مع عدم استناد المفتين بها إلى رواية إما لعدم وجودها أو لإعراضهم عنها وهذه هي التي يبحث عن حجيتها في باب حجية الأمارات وهذه الشهرة من الصفات العارضة للحكم الشرعي دون الخبر والرواية.

١٥٦

الصحيح والأعم

وقع النزاع بين الأصوليين في أن أسامي العبادات كالصلاة والزكاة والحج والصوم بل وبعض أسامي المعاملات كالبيع والإجارة والنكاح ونحوها هل هي موضوعة ولو بوضع تخصصي للمعاني الجامعة للأجزاء والشرائط الشرعية الفاقدة للموانع والقواطع كذلك ، بحيث يكون الاستعمال في الناقصة الفاقدة لما يعتبر فيها غلطا باطلا أو مجازا لعناية وعلاقة ويكون ما هو الموضوع له هو المأمور به عند الشارع وما هو المأمور به عنده هو الموضوع له ، أو هي موضوعة للأعم من التامة الجامعة لما يعتبر فيها والناقصة الفاقدة له ، فإطلاقها على الناقصة أيضا استعمال حقيقي وإن كان الطلب لم يتعلق إلا بالكاملة الواجدة لما يعتبر فيها فاختيار الوجه الأول قول بالصحيح والقائل به يسمى صحيحيا واختيار الوجه الثاني قول بالأعم والقائل به يسمى أعميا.

ثم إنهم قد أطنبوا الكلام في تعيين الألفاظ الواقعة في محل النزاع وفي تصوير المعنى الصحيح والمعنى الأعم في موارد البحث وفي الاستدلال على ما اختاروه من الوجهين فراجع مظانه.

وأما الثمرة بين القولين فقالوا إنها تظهر فيما إذا وقعت هذه الألفاظ بنحو الإطلاق موضوعا لحكم من الأحكام كما إذا قال المولى صل الظهر وشككنا في أن السورة جزء

١٥٧

لها أم لا ، فعلى القول الأول يرجع الشك في الجزئية إلى الشك في أصل صدق الصلاة على الصلاة بلا سورة ومعه لا يجوز التمسك بالإطلاق كما إذا شك في قوله أعتق رقبة إن هذا الموجود عبد أم حر فاللازم حينئذ الاحتياط وعلى القول الثاني لا إشكال في أن العمل بلا سورة أيضا صلاة فيشك في تقييدها بقيد زائد على حقيقتها وعدمه والإطلاق حينئذ محكم.

١٥٨

الضد والنقيض

قسم أهل المعقول العرضين المقيسين إلى موضوع واحد إلى أقسام ستة المثلين والخلافين والضدين والمتضايفين والملكة وعدمها والنقيضين وسموا الأربعة الأخير بالمتقابلين.

فالمثلان : هما العرضان من نوع واحد كالبياضين والسوادين.

والخلافان : هما العرضان من نوعين مع إمكان اجتماعهما في محل واحد كالبياض والحلاوة.

والضدان : هما العرضان الوجوديان من نوعين مع عدم إمكان الاجتماع وعدم توقف تصور أحدهما على تصور الآخر كسواد وبياض.

والمتضايفان : هما الوجوديان من نوعين مع عدم الاجتماع وتوقف تصور أحدهما على تصور الآخر كالأبوة والبنوة في شخص خاص بالنسبة إلى شخص خاص آخر.

والعدم والملكة : هما العرضان أحدهما وجودي والآخر عدمي مع كون المحل المتصف فعلا بالعدمي من شأنه أن يتصف بالوجودي كعدم اللحية ووجودها في من بلغ خمسين سنة مثلا.

والنقيضان : أو الإيجاب والسلب هما الوجودي والعدمي مع عدم لحاظ الشأنية كوجود زيد وعدمه.

١٥٩

إذا عرفت ذلك علمت معنى الضد عند أهل المعقول وأما عند الأصوليين فقد يطلق على ذلك وقد يطلق على المعنى الأعم من ذلك أعني المنافي للشيء والمعاند له سواء كان وجوديا أو عدميا ، إلا أنهم سموا الوجودي بالضد الخاص والعدمي بالضد العام بمعنى الترك ، فيقولون في مسألة «إن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أم لا» إنه إذا أمر المولى بإزالة النجاسة عن المسجد فهل يقتضي ذلك ، النهي عن الصلاة أم لا أو يقتضي النهي عن ترك الإزالة أم لا ، فالإزالة والصلاة عندهم ضدان كما أن الإزالة وعدمها أيضا عندهم ضدان.

١٦٠