اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

الشيخ علي المشكيني

اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٦
الصفحات: ٣٠١

ثانيها : قد ادعي الإجماع وتواتر الأخبار على بطلان التصويب بالمعنى الأول والثاني وتسالموا على أن لله في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل ، ومن قامت عنده الأمارة على وفاقه أو خلافه ، وأما التصويب بالمعنى الثالث فلا دليل على بطلانه بل يمكن أن يكون مراد القائلين بالسببية من أصحابنا الإمامية هو هذا المعنى. فراجع عنوان السببية والطريقية.

ثالثها : الفرق بين التصويب بالمعنى الأول والثاني من وجوه :

أحدها : أنه قبل قيام الأمارة لدى الجاهل لا حكم له في الواقعة أصلا على الأول وله حكم واقعي كالعالمين على الثاني.

ثانيها : أن قيام الأمارة الموافقة يؤثر في توليد المصلحة والمفسدة والحكم على الأول ولا تأثير له فيهما على الثاني.

ثالثها : أنه بعد قيام الأمارة المخالفة لا مقتضي لغير حكم الأمارة على الأول دون الثاني فإن فيه قد يكون ملاك الحكم الواقعي موجودا وإن كان غير مؤثر شيئا ومغلوبا لملاك حكم الأمارة.

رابعها : أن قيام الأمارة على الوجهين الأولين سبب لجعل الحكم الواقعي وعلى الوجه الثالث سبب لجعل الحكم الظاهري.

١٠١

التخيير وأقسامه

يستعمل هذا العنوان في علم الأصول في موارد ثلاثة :

الأول : مورد دوران الأمر بين وجوب فعل وحرمته ، كما إذا علم المكلف إجمالا بوجوب صلاة الجمعة أو حرمتها ، ومورد دورانه بين وجوب فعل وحرمة آخر وبين عكسه ، فيتخير المكلف في المثال الأول بين فعل الجمعة وتركها ، وفي المثال الثاني بين فعل أحدهما وترك الآخر وليس له الجمع بين فعلهما معا ولا تركهما كذلك ، وهذا القسم هو مجرى أصالة التخيير. والتخيير هنا حكم عقلي ظاهري جار في المسألة الفرعية ولذا عدوا أصالة التخيير من الأصول العقلية راجع عنوان أصالة التخيير.

الثاني : مورد تزاحم الحكمين في مقام الامتثال مع عجز المكلف عن امتثالهما معا كالضدين الواجبين أو المستحبين ، كما إذا عجز عن إنقاذ كلا الغريقين مع كونهما واجبي الإنقاذ ، والبحث في هذا القسم مربوط بباب التزاحم والتخيير هنا حكم عقلي واقعي مجراه المسألة الفرعية.

الثالث : مورد تنافي الخبرين المتعارضين أو مطلق الأمارتين المتعارضتين مع عدم مرجح لأحدهما في البين وعدم كون حكمهما التساقط والرجوع إلى الأصول العملية والبحث في ذلك موكول إلى باب التعارض وباب المرجحات والتخيير هنا حكم

١٠٢

ظاهري شرعي متعلق بالفقيه دون العامي ثابت بأدلة العلاج جار في المسألة الأصولية أعني الحجية.

تنبيه :

هل التخيير الثابت للفقيه في القسم الأخير ابتدائي أو استمراري؟ فيه وجهان بل قولان :

بيانه : أنه إذا دل دليل على وجوب الجمعة ودليل آخر على وجوب الظهر مثلا وقلنا بتخيير الفقيه فهل له أن يختار مرة الخبر الدال على وجوب الجمعة وأخرى الدال على الظهر وهكذا فله التخيير دائما وفي جميع الوقائع ، أو ليس له التخيير إلا في الواقعة الأولى فإذا اختار أحدهما ابتداء ليس له أن يعدل إلى الآخر بعد ذلك.

وجهان : ذهب عدة إلى الأول تمسكا بإطلاق أدلة التخيير ، كقوله «عليه‌السلام» : «إذا فتخير» وقوله «عليه‌السلام» : «وبأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» ، أو باستصحاب التخيير الثابت في أول الأمر.

وذهب آخرون إلى الثاني لمنع كون الإطلاق في مقام البيان من حيث البقاء على التخيير ومنع جريان الاستصحاب للشك في بقاء موضوعه ، إذ موضوع التخيير إن كان هو المتحير ومن لم يختر لنفسه حجة فمرتفع قطعا ، وإن كان هو الشاك في الحكم الواقعي والواصل إليه الخبران المتعارضان فباق قطعا فلا يجري الاستصحاب ، فيدخل المورد في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير فيكون حجية ما اختاره أولا مقطوعة وحجية الآخر مشكوكة محكومة بالعدم.

وأما القسم الأول ففي كون التخيير فيه أيضا بدويا أو استمراريا خلاف إلّا أن الأقوى هو التخيير الاستمراري لحكم العقل به في الزمان الثاني والوقائع البعدية التدريجية كما حكم به أولا والتفصيل في محله.

١٠٣

الترتب

هو في الاصطلاح اجتماع حكمين فعليين في موضوع واحد أو موضوعين في وقت واحد بحيث لا يقدر المكلف على امتثالهما معا مع كون أحد الحكمين مطلقا والآخر مشروطا بعصيان الأمر المطلق أو ببناء العبد على عصيانه.

ويتصور الترتب في غالب أمثلة تزاحم الحكمين كما سيجيء ونذكر بعضها توضيحا لمعنى الترتب وتبيينا للقيود المأخوذة في تعريفه فنقول :

الأول : تصويره بين حكمي الضدين الواجبين أحدهما أهم والآخر مهم كما في مثال الغريقين أحدهما ابن للمولى والآخر أخ له مع عدم قدرة عبده على إنقاذهما معا ، فيقول المولى بنحو الإطلاق يجب عليك إنقاذ الولد ثم يقول لو عصيت أمرى أو بنيت على عصيانه وجب عليك إنقاذ الأخ ، فقبل بناء العبد على عصيان الأهم ليس هنا إلّا حكم واحد فعلي متعلق بإنقاذ الولد ، فإذا بنى العبد على عصيانه وحصل شرط الأمر الثاني اجتمع هنا حكمان فعليان في موضوعين متضادين أحدهما إنقاذ الولد والآخر إنقاذ الأخ مع عدم قدرة العبد على كلا الإنقاذين وامتثال كلا الأمرين.

فالقائل ببطلان الترتب يقول إن توجيه الأمرين إلى المكلف على هذا النحو يساوق توجيههما إليه مع كون الأمرين مطلقين ، في لزوم طلب الضدين والتكليف بما

١٠٤

لا يطاق القبيح على الحكيم.

والقائل بصحته يجوّز ذلك بدعوى حكم العقل والوجدان بعدم قبح توجيه الحكمين على هذا المنوال مع أن للمكلف مندوحة عن المخالفة والعصيان ، إذ له امتثال الأمر الأهم وعدم البناء على عصيانه لئلا يتوجه إليه أمر آخر وعقاب على مخالفته.

ومن هذا القبيل الأمر المطلق بإزالة النجاسة عن المسجد والأمر المشروط بالصلاة المضادة لها ، فيأمر الشارع بكلا الفعلين مع جعله الأمر الثاني مشروطا بعصيان الأمر الأول ، والترتب هنا بين حكمين وجوبيين في موضوعين متضادين.

والثمرة بين القول بالترتب وعدمه تظهر في صورة امتثال أمر المهم وترك الأهم وصورة ترك امتثالهما معا كما إذا فرضنا أنه في المثال السابق أنقذ الأخ وترك إنقاذ الولد أو ترك الفعلين معا فعلى القول ببطلان الترتب كان الثابت عقابا واحدا على التقديرين إذ ليس هنا إلّا وجوب واحد خالفه المكلف ، وعلى الصحة يستحق في الفرض الأول ثواب إنقاذ الأخ وعقاب ترك الولد وفي المثال الثاني يستحق عقابين لمخالفة التكليفين.

الثاني : تصويره في التزاحم بين حكمي المقدمة فيما إذا صار الحرام مقدمة لواجب أهم ، كما إذا كان الدخول في دار الغير مقدمة لإنقاذ غريق فأوجب المولى الدخول مقدمة للإنقاذ ثم قال إن بنيت على عصيان أمر الإنقاذ حرمت عليك الدخول والتصرف ، فإذا بنى العبد على العصيان تحقق أمران فعليان وجوب التصرف في ملك الغير مقدميا وحرمة التصرف نفسيا لحصول شرطها وهو البناء على العصيان في موضوع واحد أعني الدخول في ملك الغير أو التصرف في مائه.

والترتب هنا بين حكمين أحدهما إيجاب والآخر تحريم في موضوع واحد.

والثمرة تظهر فيما إذا لم يرد العبد امتثال أمر الأهم ومع ذلك دخل الدار فعلى البطلان يستحق عقابا واحدا على ترك ذي المقدمة وعلى الصحة يستحق عقابين لترك الإنقاذ والتصرف المحرم بعد إرادة العصيان.

الثالث : تصويره في التزاحم لأجل اختلاف حكمي المتزاحمين كما إذا لزم من إكرام عالم إهانة عالم آخر وكان حكم حرمة الإهانة أقوى من وجوب الإكرام ، فيقول

١٠٥

المولى يحرم إكرام زيد لاستلزامه إهانة عمرو فإن بنيت على عصياني وأردت إهانة عمرو فيجب عليك إكرام زيد ، والترتب هنا بين حكمين تحريمي وإيجابي في موضوع واحد هو إكرام زيد وحينئذ لو ترك إكرام زيد لم يتحقق معصية أصلا ولو أراد إهانة عمرو فأكرم زيدا فبناء على بطلان الترتب حيث يكون إهانة عمرو محرمة نفسا وإكرام زيد مقدمة لا يستحق إلّا عقابا واحدا وبناء على الصحة يستحق عقابا لإهانة عمرو وثوابا لإكرام زيد.

الرابع : تصويره في باب اجتماع الأمر والنهي كوجوب غسل الثوب وحرمة التصرف في ماء الغير بأن يقول المولى حرمت عليك الغصب والغسل ولو بنيت على العصيان والتصرف فأوجبت عليك الغسل والترتب هنا بين الوجوب والحرمة في موضوع واحد ، والثمرة تظهر فيما لو بنى على العصيان فتصرف بغسل الثوب فعلى البطلان لا يترتب إلّا عقاب واحد وعلى الصحة يترتب عقاب على التصرف وثواب على الغسل.

تنبيهان :

الأول : إذا جعل عصيان الأمر المتعلق بإنقاذ الولد مثلا شرطا في فعلية الأمر المتعلق بإنقاذ الأخ ، فتارة يفرض أن نفس العصيان شرط وأخرى يفرض أن الشرط هو بناء العبد على تركه.

لا يقال إذا كان نفس العصيان شرطا فلا يحصل الشرط إلّا بعد انقضاء زمان إنقاذ الولد وموته ، إذ لا يحصل العصيان إلّا بمضي الوقت وفي هذا الحال يفوت وقت إنقاذ الأخ أيضا فيلزم أن يكون فعلية أمر المهم بعد انعدام موضوعه.

لأنا نقول إن المراد من شرطية العصيان كونه شرطا متأخرا كشرطية الغسل الليلي لصوم المرأة المستحاضة لا شرطا متقدما أو مقارنا.

الثاني : بناء على صحة الترتب لا يختص ذلك بحكمين بل يلاحظ في الأحكام الكثيرة في وقت واحد ، فيقول المولى أنقذ ولدي وإلّا فأخي وإلّا فعمي وإلّا ففرسي

١٠٦

وإلّا فصل ركعتين وإلّا فاغسل ثوبك مثلا فإذا اشتغل المكلف بالأهم الأول لم يتحقق شرائط الأوامر الباقية ولا يكون محذور في فوتها ، وإن ترك الجميع استحق العقاب على جميعها ، وإن فعل البعض فإن كان الفعل المتوسط استحق العقاب على السابق دون اللاحق وهكذا.

١٠٧

التزاحم ومرجحاته

هو تمانع الحكمين المجعولين في مقام الامتثال مع وجود ملاكهما وعدم المانع عن فعليتهما غالبا إلّا عجز المأمور عن امتثالهما.

وعليه فالتزاحم وصف للحكم والمتزاحمان هما الحكمان ، وعلى هذا فلو تمانعا في مقام الجعل بأن لم يمكن للمولى إلّا جعل أحدهما فلا يطلق عليهما المتزاحمان والتزاحم على أقسام خمسة يتضح معناه وأمثلته في ضمن تلك الأقسام.

القسم الأول : التزاحم لأجل اتحاد متعلق الحكمين اتفاقا كباب اجتماع الأمر والنهي فإذا ورد الأمر بغسل الثوب والنهي عن الغصب وكان هاهنا ماء مغصوب ، فالوجوب يقتضي وجود الغسل والحرمة تدعو إلى عدمه فهما يتمانعان من حيث إن كلا منهما يقتضي صرف قدرة المكلف إلى متعلقه ويمنعه من الإتيان بالآخر مع وجود ملاك كلا الحكمين أعني مصلحة الغسل ومفسدة الغصب.

القسم الثاني : التزاحم بين الضدين الواجبين أو المستحبين كالمؤمنين الغريقين مع عدم قدرة المكلف على إنقاذ كليهما.

القسم الثالث : التزاحم بين المقدمة وذي المقدمة فيما إذا صار الحرام مقدمة لواجب أو صار الواجب مستلزما لحرام ، فإذا توقف إنقاذ غريق على التصرف في ملك الغير

١٠٨

فهنا حكمان وجوب الإنقاذ وحرمة الغصب فالحرام وقع مقدمة للواجب ووجود التمانع والملاكين معلومان ، وكذا لو استلزم الوضوء في محل تخريب ملك الغير والواجب هنا مستلزم للحرام.

القسم الرابع : التزاحم لأجل اختلاف حكم المتلازمين ، كما إذا لزم من إكرام عالم إهانة عالم آخر فيقع التزاحم بين الوجوب والحرمة ويدور الأمر بين مراعاة جانب الوجوب وإن حصل منها مخالفة للحرام ومراعاة جانب الحرمة وإن استلزمت طرح الواجب.

القسم الخامس : التزاحم لأجل اتحاد حكم الشيء وحكم عدمه كما إذا كان الصوم يوم العاشور مستحبا لوجود مصلحة في فعله وعدمه أيضا مطلوبا لمصلحة في تركه فيكون المورد من قبيل التزاحم بين المتناقضين.

ثم إنه إذا تحقق في مورد قسم من الأقسام فلا إشكال في حكم العقل بالتخيير إذا لم يكن ترجيح لأحد الطرفين وبالترجيح إذا كان مرجح في البين.

مرجحات باب التزاحم

والكلام في بيان مرجحات أحد الحكمين وهي على أقسام :

الأول : كون أحدهما مقطوع الأهمية أو محتملها كما إذا كان أحد الغريقين مؤمنا صالحا والآخر فاسقا طالحا قطعا أو احتمالا فيقدم الأول على الثاني.

الثاني : أن يؤخذ القدرة الشرعية في موضوع أحد المتزاحمين دون الآخر ، مثلا إذا قال المولى أدّ دينك وقال أيضا حج إذا لم يكن عليك دين ودار أمر المكلف المديون بين أداء الدين الواجب والسفر للحج فلا إشكال حينئذ في تقديم الدين على الحج كذا قيل.

الثالث : أن يكون لأحدهما بدل اختياري دون الآخر كتزاحم الواجب الموسع مع المضيق ، كالصلاة في أول الوقت مع إزالة الخبث عن المسجد ، فإن لفرد الصلاة المزاحم مع الإزالة بدلا اختياريا هو إتيانها بعد إزالة النجاسة فيقدم الإزالة عليها.

الرابع : أن يكون لأحدهما بدل اضطراري ، كما إذا كان الشخص محدثا وكان

١٠٩

بدنه أو ثوبه نجسا وله من الماء مقدار لا يكفي للطهارة الحدثية والخبثية كلتيهما فيقدم الثانية فإن للأولى بدلا اضطراريا هو التيمم.

الخامس : أن يكون وجوب أحدهما عينيا والآخر كفائيا بالذات ، كتزاحم الصلاة اليومية في آخر وقتها مع تجهيز الميت بحيث لو صلى اليومية فات التجهيز فيقدم العيني.

السادس : أن يكون ظرف امتثال أحدهما وزمان إتيانه مقدما على الآخر كما إذا دار أمر المريض بين القيام في الركعة الأولى والقيام في الثانية فيقدم الأول لأن تقدم زمانه مرجح.

ثم إنه ظهر لك أن مسألة الترتب ومسألة الاجتماع فرعان من فروع التزاحم.

١١٠

التعادل والترجيح

إذا تعارض دليلان فإما أن يكونا متساويين في الأوصاف التي توجب الرجحان من عدالة الراوي وشهرة الرواية وموافقة الكتاب ومخالفة العامة ونحوها ، وإما أن يكونا متفاضلين فيها فيكون مثلا راوي أحدهما أعدل من راوي الآخر أو أكثر منه أو يكون أحدهما موافقا لظاهر الكتاب أو مخالفا لفتوى العامة دون الآخر.

فعلى الأول : يطلق على وصف تساويهما اسم التعادل وعلى الدليلين المتصفين به المتعادلان ، ووجه التسمية أن كل دليل عدل للآخر أي مثل له في المزايا والصفات.

وعلى الثاني : يطلق على صفة تفاضلهما اسم الترجيح بمعنى الترجح وقد يطلق التراجيح أيضا باعتبار مصاديق الترجيح ، وعلى الدليل ذي المزية اسم الراجح وعلى مقابله اسم المرجوح.

ثم إن الأمور الموجبة لترجيح أحد الدليلين على الآخر كثيرة مذكورة تحت عنوان المرجح ـ فراجع ـ.

١١١

التعارض

هو في الاصطلاح عبارة عن تنافي دليلين أو أكثر بحيث يتحير العرف في العمل بهما وكيفية الجمع بينهما.

وهل المراد تنافيهما بحسب المدلول فيكون التنافي حقيقة وصفا للمعنيين ويكون اتصاف نفس الدليلين به بالعرض والمجاز ، كاتصاف اللفظ بالكلية والجزئية ولذا عرفه بعض بأنه تنافي مدلولى دليلين؟

أو المراد تنافيهما بحسب الدلالة والظهور فيكون التنافي في الحقيقة وصفا للدلالة والظهور ويكون اتصاف المعنى به مجازيا ، ولذا عرفه في الكفاية بأنه تنافي الدليلين في مقام الدلالة والإثبات ، قولان أظهرهما الثاني.

تنبيهات :

الأول : يظهر من الكفاية أن الثمرة بين الوجهين تظهر في شمول التعريف لموارد الجمع العرفي كالعام مع الخاص والمطلق مع المقيد وعدم شموله ، فإذا ورد أكرم العلماء وورد أيضا لا تكرم فساقهم ، فإن لوحظ المعنيان بالخصوص كوجوب إكرام

١١٢

جميع العلماء وعدم وجوب إكرام بعضهم فهما متنافيان لمنافاة الموجبة الكلية مع السالبة الجزئية ، وإن لوحظ الدلالتان والظهوران فلا تنافي بينهما إذ أهل العرف لا يرونهما متعارضين ويتصرفون في العام بما يوافق الخاص.

الثاني : أن التنافي إما أن يكون على وجه التناقض أو على وجه التضاد وعلى التقديرين

إما أن يكون حقيقيا أو عرضيا فهنا أمثلة أربعة :

الأول : التناقض الحقيقي كما إذا ورد يجب إكرام العالم وورد أيضا لا يجب إكرام العالم ، فإن عدم الوجوب نقيض للوجوب.

الثاني : التناقض عرضا كما إذا ورد يجب إكرام زيد وورد لا يجب إكرام عمرو مع العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين فهما متناقضان بسبب العلم الإجمالي.

الثالث : التضاد الحقيقي كما إذا ورد يجب إكرام زيد وورد أيضا يحرم إكرام زيد فالوجوب والحرمة متضادان لكونهما وجوديين.

الرابع : التضاد العرضي كما إذا ورد يجب إكرام زيد وورد أيضا يحرم إكرام عمرو ، مع العلم الإجمالي بكذب أحدهما.

الثالث : أنه قد ظهر مما ذكرنا أنه لا تعارض بين الوارد والمورود

والحاكم والمحكوم والعام والخاص والمطلق والمقيد ونحوها فإن العرف لا يتحيرون فيها في مقام العمل.

١١٣

الحجة

هي في اللغة البرهان وعرفها أهل الميزان بأنها تصديقات معلومة موصلة إلى تصديق مجهول وهذا التعريف ينطبق على مجموع الصغرى والكبرى في قولك العالم متغير وكل متغير حادث.

وعرفها أهل المعقول بأنّها الوسط المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى وهذا ينطبق على خصوص التغير في المثال المتقدم.

وعرفها الأصوليون بأنها ما يوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري وهذا أيضا ينطبق على التغير في المثال وصحيح النظر فيه لحاظه محمولا على العالم وموضوعا للحادث.

ثم إنه لا يبعد أن يكون مراد الجميع معنا واحدا هو العلم بالصغرى والكبرى إذ لا إشكال في أن الحجة عندهم سبب العلم وسبب العلم بالنتيجة علمان علم بالصغرى وعلم بالكبرى وتعريف أهل الميزان ظاهر الانطباق عليه واشتراط كون الوسط محمولا في الصغرى وموضوعا في الكبرى في تعريف أهل المعقول وكذا اشتراط صحيح النظر في تعريف أهل الأصول معناه تأليف قياس تام فهما أيضا يرجعان إلى ذلك المعنى الواحد.

١١٤

وعرفها الشيخ (ره) في رسائله بأنها ما يقع وسطا لإثبات أحكام متعلقه وهذا يغاير تلك التعاريف في موارد يأتي الإشارة إليها في تنبيه المسألة.

تنبيهان :

الأول : في صحة إطلاق الحجة على القطع فنقول الأظهر عدم الصحة في الطريقي المحض والصحة في الموضوعي ، فإطلاقها على الطريقي بالنسبة إلى الحكم الذي تعلق به غير صحيح على جميع التعاريف إذ الحجة كما عرفت علمان بنسبتين يستلزمان علما ثالثا بنسبة ثالثة ، والقطع بحرمة الخمر أو وجوب الجمعة علم واحد بنسبة واحدة فكيف يكون حجة ، وبتعبير آخر الحجة ما يوصلك إلى هذا العلم لا نفسه فلو كان هنا علمان آخران كانا سببا لحصول هذا العلم لصح إطلاق الحجة عليهما ، نعم يطلق عليه الحجة بالنسبة إلى حكم العقل بوجوب الاتباع والجري العملي على وفق القطع ، مثلا إذا قطعت بخمرية مائع صح أن تقول هذا ما قطعت بخمريته وكل ما قطعت بخمريته فهو لازم الترك عقلا ولا يصح أن تقول هذا ما قطعت بخمريته وكل ما قطعت بخمريته فهو حرام شرعا وإلّا لزم كون القطع موضوعا كما أنه موضوع بالنسبة إلى الحكم العقلي.

هذا بالنسبة إلى الطريقي وأما الموضوعي فلا مانع من إطلاقها عليه بناء على تلك التعاريف ، وأما على تعريف الشيخ فلا يطلق عليه أيضا لكون الحجة عنده ما يكون وسطا لإثبات الأحكام المترتبة على المتعلق مع قطع النظر عن تعلق القطع به والحكم في الموضوعي ليس كذلك بل ثابت مع أخذ القطع فيه.

ففي القطع بموضوع بلا حكم إذا وقع في موضوع حكم كما إذا رتب الحرمة شرعا على ما علم كونه عصيرا تقول هذا ما قطعت بكونه عصيرا وكل ما كان كذلك فهو حرام فالقياس صحيح على تلك التعاريف وقطعك حجة بالنسبة إلى إثبات ذلك الحكم ، وأما على قول الشيخ فلا يصح إطلاقها عليه اصطلاحا لعدم ترتب حكم على المتعلق نفسه ، وفي صورة القطع بالحكم أو بموضوع ذي حكم كما إذا وقع القطع

١١٥

بوجوب الجمعة أو بخمرية شيء موضوعا لوجوب التصدق مثلا تقول : قطعت بوجوب الجمعة أو بخمرية هذا المائع وكلما قطعت بهما وجب التصدق ، فهنا حكمان حكم تعلق القطع به أو بموضوعه وحكم تعلق بالقطع والقطع بالنسبة إلى الأول طريقي لا يطلق عليه الحجة على جميع الأقوال وبالنسبة إلى الثاني موضوعي حجة عند غير الشيخ وليس بحجة عنده.

الثاني : في صحة إطلاق الحجة على الأمارات.

وبيانه : إنه إن قلنا فيها بالسببية وإنها سبب لحدوث حكم ظاهري على وفقها ففي مورد قيام الأمارة على وجوب الجمعة مثلا يتصور هنا حكمان واقعي تحكي عنه الأمارة وظاهري يتولد منها ، فيطلق عليها الحجة بالنسبة إلى الظاهري فيقال صلاة الجمعة مما قامت الأمارة على وجوبها في الواقع وكلما كان كذلك فهو واجب ظاهرا ، ولعل نظر الشيخ قدس‌سره من كونها وسطا لإثبات أحكام متعلقاتها هو هذه الأحكام الظاهرية ، وأما بالنسبة إلى الحكم الواقعي فهي كالقطع لا يطلق عليها اسم الحجة إذ لا يصح أن يقال وكل ما قامت الأمارة على وجوبه فهو واجب واقعا.

وإن قلنا فيها بالطريقية وإن أثرها تنجيز الواقع إذا أصاب والعذر إذا أخطأ من دون جعل حكم تكليفي في موردها فهي نظير القطع بعينه ولا تسمى حجة إذ لا يصح أن يقال وكل ما قامت الأمارة على وجوبه فهو واجب واقعا ولا أن يقال فهو واجب ظاهرا والكبرى على كلا التقديرين باطلة ، نعم بعد جعل الشارع طريقيتها حيث يعلم بتنجز الواقع على فرض وجوده يحكم العقل بمتابعتها مطلقا حذرا من مخالفة الواقع وتكون الأمارة موضوعا لهذا الحكم العقلي ويصح إطلاق الحجة عليها بالنسبة إليه فيقال هذا ما قامت الأمارة على حرمته وكلما كان كذلك فهو لازم الترك عند العقل فهذا لازم الترك عقلا فالأمارة وسط لإثبات الحكم العقلي.

١١٦

الحقيقة والمجاز

أما الحقيقة : فهو اللفظ المستعمل فيما وضع له ، وتنقسم إلى الشرعية واللغوية والعرفية.

أما الأولى : فهو اللفظ الذي كان وضعه بيد الشارع وثابتا من قبله.

فإذا ثبت أن الشارع وضع لفظا لمعنى كلفظ الصلاة للهيئة المعهودة والصوم للإمساك المعلوم والزكاة للصدقة المعروفة إما بتنصيصه بأني وضعت هذه الألفاظ لهذه المعاني أو باستعماله لها في تلك المعاني مجازا ثم صيرورتها حقيقة بكثرة الاستعمال ، يقال إن هذه الألفاظ حقيقة شرعية في هذه المعاني والحقيقة الشرعية فيها ثابتة وإذا لم يثبت وضعه لها بأحد النحوين يقال إنه لم يثبت الحقيقة الشرعية في هذه الألفاظ بالنسبة إلى هذه المعاني.

وتظهر ثمرة النزاع فيما إذا وقعت الألفاظ المذكورة في كلام الشارع موضوعا لحكم فقال مثلا يجب الصلاة عند رؤية الهلال من كل شهر فعلى القول بثبوت الحقيقة الشرعية فيها كان الواجب هو الصلاة بمعنى الأركان المخصوصة وإلّا كان الواجب هو معناها اللغوي أعني مطلق الدعاء.

وأما الثانية : أعني الحقيقة اللغوية فهو ما كان وضعه بيد واضع اللغة كالحجر

١١٧

والشجر.

وأما الثالثة : أي الحقيقة العرفية فهو ما كان وضعه بيد أهل العرف كالسيارة والطيارة.

وأما المجاز : فهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، ويقسم تارة إلى المجاز في الكلمة وإلى المجاز في الإسناد وإلى المجاز في الحذف.

أما الأول : فإن كانت العلاقة بين المعنى الحقيقي والمستعمل فيه هي المشابهة فاستعارة.

وإلّا فمجاز مرسل وأقسامه كثيرة تنشأ من كثرة العلائق الملحوظة في الاستعمال المجازي.

فمنها : تسمية الشيء باسم جزئه كإطلاق العين على الربيئة.

ومنها : عكسه كقوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) على ما قيل.

ومنها : تسمية الشيء باسم سببه كإطلاق العقد على البيع.

ومنها : تسمية السبب باسم مسببه كقولهم أمطرت السماء نباتا أي غيثا.

ومنها : تسمية الشيء باسم ما كان كإطلاق الحاج على الراجع عن سفر الحج.

ومنها : تسمية الشيء باسم ما يكون كقوله تعالى : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً).

ومنها : تسمية الشيء باسم محله كقوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) والمراد أهل المجلس.

ومنها : تسمية الشيء باسم حاله كقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أي الجنة كما قيل.

ومنها : تسمية الشيء باسم آلته كقوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي ذكرا حسنا.

وأما المجاز في الإسناد فكقولهم جرى الميزاب وقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «رفع عن أمتي الخطاء والنسيان» إذ الإسناد الحقيقي هو إسناد الجري إلى الماء وإسناد الرفع إلى حكم الفعل الصادر خطاء أو نسيانا لا إلى نفس الخطاء. وأما المجاز في الحذف فكقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي أهل القرية بناء على كون القرية بمعنى الضيعة أو المصر لا بمعنى الناس والمجتمع.

١١٨

تنبيه :

استعمال اللفظ في المعنى المجازي في مجاز اللفظ والإسناد والحذف ، لا يحتاج إلى ترخيص الواضع وتعيينه المعاني المجازية أو العلائق المجوزة للاستعمال ، بل هو مستند إلى توافق النفوس واستحسان الطباع ، وذهب بعض أهل الأدب إلى وجود وضع للمجازات أيضا كالحقائق وأشرنا إليه في آخر عنوان الوضع فراجع.

ويقسم المجاز بتقسيم آخر إلى مجاز متعارف ومجاز راجح ومجاز مشهور.

فالأول : واضح ومنه أغلب المجازات المتداولة.

والثاني : هو المجاز الذي كان استعمال اللفظ فيه أكثر من سائر المعاني المجازية ، سواء أكان أقل من المعنى الحقيقي أم كان مساويا له. كما في استعمال الأسد في الرجل الشجاع أكثر من الأبخر ، واستعمال الأمر في الندب أكثر من الإباحة على قول المشهور.

والثالث : هو الذي كان الاستعمال فيه أكثر من المعنى الحقيقي ، كما ادعاه صاحب المعالم في صيغة الأمر المستعملة في الاستحباب ، وهذا القسم هو الذي اختلفوا فيه في أن اللفظ مع خلوه عن القرينة هل يحمل عليه أو على المعنى الحقيقي أو يتوقف فذهب إلى كل وجه فريق.

١١٩

الحكم

وقسموه بتقسيمات :

الأول : تقسيمه إلى الحكم التكليفي والحكم الوضعي.

فالأول : هو الإنشاء الصادر بداعي البعث أو الزجر أو الترخيص وتسميته بالتكليفي لأن فيه بحسب غالب مصاديقه كلفة ومشقة على المأمور ويقسم إلى أقسام خمسة تسمى بالأحكام الخمسة التكليفية ، وهي الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة ، ومنشأ التقسيم هو أن فعل المكلف إما أن يكون ذا مصلحة خالصة بلا شوب مفسدة أو ذا مفسدة خالصة بلا وجود مصلحة أو يكون خاليا عنهما ليس فيه أحد الأمرين ، وعلى الأولين إما أن تكون المصلحة أو المفسدة شديدة ملزمة أو ضعيفة غير ملزمة فهذه أقسام خمسة يتولد منها الأحكام الخمسة المذكورة.

ثم إنه بقي قسم آخر من فعل المكلف وهو ما يوجد فيه المصلحة والمفسدة كلتاهما ، وحينئذ إما أن يغلب فيه جانب المصلحة أو جانب المفسدة أو يتساويان وعلى الأولين إما أن يكون المقدار الغالب كثيرا ملزما أو قليلا غير ملزم فهذه أقسام خمسة أخر يتولد منها أيضا أحكام خمسة.

فأقسام الأفعال عشرة وأحكامها خمسة وهذا كله مبني على كون الأحكام

١٢٠