نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٨

الاحبّة محمدا وحزبه. فقال عمرو : صدقت ، أنت صاحبه والله ما ظفرت يداك وقد أسخطت ربك.

وعن السدي ، عن يعقوب بن أسباط ، قال احتج رجلان بصفّين في سلب عمار وفي قتله ، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص يتحاكمان اليه ، فقال : ويحكما أخرجا عني فانّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : أولعت قريش بعمّار ، عمار يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، قاتله وسالبه في النار ».

وقال السهيلي : « وفي « جامع معمر بن راشد » أن عمارا كان ينقل في بنيان المسجد لبنتين ، لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس ينقلون لبنة واحدة ، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم : للناس أجر ولك أجران ، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن ، وتقتلك الفئة الباغية! فلما قتل يوم صفين دخل عمرو على معاوية فزعا فقال : قتل عمار! فقال معاوية فما ذا؟ فقال عمرو : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : تقتلك الفئة الباغية! فقال : دحضت في بولك ، أنحن قلناه؟! انما قتله من أخرجه ».

وقال ابن الأثير الجزري في خبر رسل أمير المؤمنين الى معاوية : « وقال يزيد بن قيس : انا لم نأت الا لنبلغك ما أرسلنا به إليك ونؤدي عنك ما سمعنا منك ، ولن ندع ان ننصح وأن نذكر ما يكون به الحجة عليك ويرجع الى الالفة والجماعة ، ان صاحبنا من عرف المسلمون فضله ولا يخفى عليك ، فاتق الله يا معاوية ولا تخالفه! فانا والله ما رأينا في الناس رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها منه. فحمد الله معاوية ثم قال :

أما بعد ، فإنكم دعوتم الى الطاعة والجماعة ، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي ، وأما الطاعة لصاحبكم فانا لا نراها ، لان صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثارنا ، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله ، فنحن لا نرد عليه ذلك فليدفع إلينا قتلة عثمان لنقتلهم ونحن نجيبكم الى الطاعة والجماعة! فقال شبث بن ربعي : أيسرك يا معاوية أن تقتل عمارا؟!

٤١

فقال : وما يمنعني من ذلك لو تمكنت من ابن سمية لقتلته بمولى عثمان! فقال شبث : والذي لا اله غيره لا تصل الى ذلك حتى تندر الهام عن الكواهل وتضيق الأرض والفضاء عليك! فقال معاوية : لو كان ذلك لكانت عليك أضيق! وتفرق القوم عن معاوية ».

وقال في ذكر مقتل عمار عليه الرحمة : « وخرج عمار بن ياسر على الناس فقال : اللهم انك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته! اللهم انك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى تخرج من ظهري لفعلته! واني لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم عملا هو أرضى لك منه لفعلته ، والله اني لأرى قوما ليضربنكم ضربا يرتاب منه المبطلون ، وأيم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر ، لعلمت أنا على الحق ، وأنهم على الباطل.

ثم قال : من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع الى مال ولا ولد؟ فأتاه عصابة فقال : اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان ، والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها ، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم ، فخدعوا أتباعهم وقالوا : امامنا قتل مظلوما ، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا فبلغوا ما ترون ، فلولا هذا ما تبعهم من الناس رجلان. اللهم ان تنصرنا فطالما نصرت وان تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم.

ثم مضى ومعه تلك العصابة ، فكان لا يمر بواد من أودية صفين الا تبعه من كان هناك من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ، ثم جاء الى هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص ، وهو المرقال وكان صاحب راية علي وكان أعور ، فقال :

يا هاشم! أعورا وجبنا

لا خير في أعور لا يغشى البأس

اركب يا هاشم!

فركب ومضى معه وهو يقول :

٤٢

أعور يبغي أهله محلاّ

قد عالج الحياة حتى ملا

لا بدّ أن يفلّ أو يفلاّ

يتلّهم بذي الكعوب تلا

وعمار يقول : تقدم يا هاشم الجنة تحت ضلال السيوف والموت تحت أطراف الأسل ، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين ، اليوم ألقى الاحبة محمدا وحزبه ، وتقدم حتى دنا من عمرو بن العاص ، فقال له : يا عمرو ، بعث دينك بمصر؟! تبا لك! فقال له : لا ولكن أطلب بدم عثمان! فقال : أنا أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله وأنك ان لم تقتل اليوم تمت غدا ، فانظر إذا أعطى الناس على قدر نياتهم ما نيتك؟ لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذه الرابعة ما هي بأبر وأتقى! ثم قاتل عمار ولم يرجع وقتل ».

قال : « وقال عبد الرحمن السلمي : لما قتل عمار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا ، وكنا إذا تركنا القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم ، فإذا معاوية وعمرو وأبو الأعور وعبد الله بن عمرو يتسايرون ، فأدخلت فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون. فقال عبد الله لأبيه : يا أبة! قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال! قال : وما قال؟ قال : ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه ، فأتاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : ويحك يا ابن سمية! الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية؟؟ فقال عمرو لمعوية : أما تسمع ما يقول؟ قال : وما يقول؟ فأخبره فقال معاوية : أنحن قتلناه؟! انما قتله من جاء به! فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون : انما قتل عمارا من جاء به ، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم؟! ».

وقال محيي الدين ابن عربي الاندلسي في تفسيره ، ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الى آخره ، الاقتتال لا يكون الا للميل الى الدنيا والركون الى الهوى

٤٣

والانجذاب الى الجهة السفلية والتوجه الى المطالب الجزئية ، والإصلاح انما يكون من لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة التي هي ظل الوحدة ، فلذلك امر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما على تقدير بغيهما ، والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما حتى ترجع لكون الباغية مضادة للحق دافعة له ، كما خرج عمار رضي‌الله‌عنه مع كبره وشيخوخته في قتال أصحاب معاوية ليعلم بذلك أنهم الفئة الباغية ».

وقال سبط ابن الجوزي : « وحكى ابن سعد في ( الطبقات ) عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أنه قال لأبيه : قتلتم عمارا وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول له : تقتلك الفئة الباغية!؟ فسمعه معاوية فقال : لأنك شيخ أخرق ما تزال تأتينا بهنة تدحض بها في بولك! أنحن قتلناه؟! انما قتله الذي أخرجه وفي رواية : فبلغ ذلك عليا فقال : ونحن قتلنا حمزة لأنا أخرجناه الى احد. وذكر ابن سعد أيضا أن ذا الكلاع لما بلغه هذا قال لعمرو : نحن الفئة الباغية وهم بالرجوع الى عسكر علي وكان تحت يده ستون ألفا فقتل ذو الكلاع فقال معاوية : لو بقي ذو الكلاع لأفسد علينا جندنا بميله الى ابن أبي طالب! ».

وقال أيضا : « وقال الواقدي : لما طعن أبو الغادية عمارا بالرمح وسقط أكب عليه آخر فاجتز رأسه ثم أقبلا الى معاوية يختصمان فيه ، كل منهما يقول : أنا قتلته ، فقال لهما عمرو : والله ان تختصمان الا في النار! فقال معاوية : ما صنعت؟ قوم بذلوا نفوسهم دوننا تقول لهم هذا؟! فقال عمرو : هو والله كذلك وأنت تعلمه واني والله وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة! ».

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني : « فائدة ـ روى حديث تقتل عمارا الفئة الباغية » جماعة من الصحابة منهم قتادة ( أبو قتادة. ظ ) بن النعمان كما تقدم وام سلمة عند مسلم ، وأبو هريرة عند الترمذي ، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي ، وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع

٤٤

وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار نفسه ، وكلها عند الطبراني وغيره طرقها صحيحة أو حسنة. وفيه عن جماعة آخرين يطول عدهم. وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي ولعمار ورد على النواصب الزاعمين أن عليا لم يكن مصيبا في حروبه ».

وقال بدر الدين العيني في شرح حديث « إذا تواجه المسلمان فكلاهما من أهل النار » : « وقال الكرماني : علي رضي‌الله‌عنه ومعاوية كلاهما كانا مجتهدين غاية ما في الباب أن معاوية كان مخطئا في اجتهاده له أجر واحد وكان لعلي رضي‌الله‌عنه أجران. قلت : المراد ( فالمراد. ظ ) بما في الحديث المتواجهان بلا دليل من الاجتهاد ونحوه ، انتهى.

قلت : كيف يقال كان معاوية مخطئا في اجتهاده ، فما كان الدليل في اجتهاده!! وقد بلغه الحديث الذي قال صلّى الله تعالى عليه وسلّم : ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية! وابن سمية هو عمار ابن ياسر ، وقد قتله فئة معاوية ، أفلا يرضى معاوية سواء بسواء حتى يكون له أجر واحد ».

وقال محمد بن خلفة الوشتاني الابي في شرح حديث قتل عمار : « والحديث حجة بينة للقول بأن الحق مع علي وحزبه وانما عذر الآخرون بالاجتهاد ، وأصل البغي الحسد ، ثم استعمل في الظلم ، وعلى هذا حمل الحديث عبد الله ابن عمرو العاص يوم قتل عمار ، وغيره تأوله فتأوله معاوية وكان أولا يقول : انما قتله من أخرجه لينفي عن نفسه صفة البغي ثم رجع فتأوله على الطلب وقال : نحن الفئة الباغية ، اي الطالبة لدم عثمان ، من البغاء بضم الباء والمد وهو الطلب.

قلت : البغي عرفا الخروج عن طاعة الامام مغالبة له ، ولا يخفى عليك بعد التأويلين او خطؤهما ، فأما الاول فواضح وكذا الثاني لان ترك علي القصاص من قتلة عثمان للذين قاموا بطلبه ورأوه مستندا في اجتهادهم ليس لأنه تركه جملة واحدة وانما تركه لما تقدم ، وفيه ان عدم القصاص منكر قاموا بتغييره والقيام بتغيير المنكر انما هو ما لم يؤد الى مفسدة أشد. وايضا المجتهد انما

٤٥

يحسن به الظن إذا لم يبين مستند اجتهاده ، اما إذا بينه فكان خطأ فكيف؟. ولله در الشيخ حيث كان يقول الصحبة حصنت على من حارب عليا! ».

وقال ابو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف السنوسي في شرح حديث قتل عمار : « والحديث حجة بينة للقول بأن الحق مع علي وحزبه وانما عذر الآخرون بالاجتهاد ، واصل البغي الحسد ثم استعمل في الظلم ، وغير تأويله معاوية رضي‌الله‌عنه فكان يقول : انما قتله من أخرجه لينفي عن نفسه صفة البغي ثم رجع فتأوله على الطالب وقال : نحن الفئة الباغية ، اي الطالبة لدم عثمان ، من البغاء بضم الباء والمد وهو الطلب ( ب (١) ) : البغي عرفا الخروج عن طاعة الامام مغالبة له ، ولا يخفى بعد التأويلين او خطؤهما ، ولله در الشيخ حيث كان يقول : الصحبة حصنت على من حارب عليا رضي‌الله‌عنه ».

وقال عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري في ترجمة سيدنا عمار : « قتل رضي‌الله‌عنه بصفين سنة سبع وثلثين عن ثلث وخمسين سنة وكان من اصحاب علي وقتله اصحاب معاوية ، وبقتله استدل اهل السنة على تصحيح جانب علي لان النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قد قال له : ويح ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية ، وقال : ويح عمار يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، وقال قبل ان يقتل : ائتوني بشربة لبن فاني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن. وكان آدم طوالا لا يغيّر شيبة ، رضي‌الله‌عنه ورحمه ».

وقال نور الدين السمهودي : « وأسند (٢) أيضا أن علي بن أبي طالب كان يرتجز وهو يعمل فيه ويقول :

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيها قائما وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا

__________________

(١) أى : قال الابى.

(٢) أى : ابن زبالة.

٤٦

وأسند هو أيضا ويحيى من طريقه والمجد ولم يخرجه عن أم سلمة رضي الله عنها ، قالت : بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده فقرب اللبن وما يحتاجون اليه ، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضع ردائه ، فلما رأى ذلك المهاجرون الأولون والأنصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون :

لئن قعدنا والنبي يعمل. البيت

وكان عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه رجلا نظيفا متنظفا وكان يحمل اللبنة فيجافى بها عن ثوبه ، فإذا وضعها نفض كمه ونظر الى ثوبه فان أصابه شيء من التراب نفضه ، فنظر اليه علي بن أبي طالب فأنشأ يقول :

لا يستوي من يعمر المساجدا

الأبيات المتقدمة ، فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها فمر بعثمان فقال : يا ابن سمية! ما أعرفني بمن تعرّض ومعه جريدة فقال : لتكفن أو لاعترضن بها وجهك! فسمعه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في ظل بيتي تعنى ام سلمة. وفي كتاب يحيى : في ظل بيته ، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

ثم قال : ان عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي فإذا بلغ ذلك من المرء فقد بلغ ووضع يده بين عينيه ، فكف الناس عن ذلك ثم قالوا لعمار : ان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد غضب فيك ونخاف أن ينزل فينا القرآن! فقال : أنا أرضيه كما غضب ، فقال : يا رسول الله! ما لي ولا لأصحابك؟ قال : مالك وما لهم؟ قال : يريدون قتلي يحملون لبنة لبنة ويحملون علي اللبنتين والثلاث فأخذ بيده فطاف به في المسجد وجعل يمسح وفرته بيده من التراب ويقول : يا ابن سمية لا يقتلك أصحابي ولكن تقتلك الفئة الباغية.

وقد ذكر ابن إسحاق القصة بنحوه كما في ( تهذيب ) ابن هشام ، قال : وسألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز فقالوا : بلغنا أن علي ابن أبي طالب ارتجز به ، فلا ندري أهو قائله أم غيره ، وانما قال ذلك علي رضي‌الله‌عنه مطائبة ومباسطة كما هو عادة الجماعة ، إذا اجتمعوا على عمل

٤٧

وليس ذلك طعنا. وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل أبي جعفر الخطمي ، قال : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول : أفلح من يعالج المساجدا فيقولها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول ابن رواحة : يتلوا القرآن قائما وقاعدا ، فيقولها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي « الصحيح » في ذكر بناء المسجد : وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين ، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعل ينفض التراب عنه ويقول : ويح عمار! تقتله الفئة الباغية يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، وقال : يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن. وأسند ابن زبالة ويحيى ، عن مجاهد ، قال : رآهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يحملون الحجارة على عمار وهو يبني المسجد فقال : ما لهم ولعمار ، ويدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار وذلك فعل الأشقياء الأشرار! وأسند الثاني أيضا عن أم سلمة ، قالت : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يبنون المسجد فجعل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يحمل كل رجل منهم لبنة لبنة وعمار بن ياسر لبنتين ، لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام اليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمسح ظهره وقال : يا ابن سمية! لك أجران وللناس أجر ، وآخر زادك من الدنيا شربة من لبن وتقتلك الفئة الباغية.

وفي ( الروض ) للسهيلي أن معمر بن راشد روى ذلك في جامعه بزيادة في آخره وهي : فلما قتل يوم صفين دخل عمرو على معاوية رضي الله عنهما فزعا فقال : قتل عمار! فقال معاوية : فما ذا؟ فقال عمرو : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : تقتله الفئة الباغية. فقال معاوية : دحضت في بولك ، أنحن قتلناه؟ انما قتله من أخرجه.

وروى البيهقي في ( الدلائل ) عن عبد الرحمن ( أبي عبد الرحمن. ظ ) السلمي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لأبيه عمرو : قد قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه ما قال قال : أي رجل؟ قال : عمار بن ياسر ، أما تذكر يوم بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد ، فكنا

٤٨

نحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين ، فمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : تحمل لبنتين وأنت ترحض! أما انك ستقتلك الفئة الباغية وأنت من أهل الجنة. فدخل عمرو على معاوية فقال : قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال فقال : اسكت ، فو الله ما تزال تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟! انما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا.

قلت : وهو يقتضي أن هذا القول لعمار كان في البناء الثاني للمسجد ، لان اسلام عمرو كان في الخامسة كما سبق.

وقال السمهودي في ( خلاصة الوفاء ) : « ولأحمد عن أبي هريرة : كانوا يحملون اللّبن الى بناء المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم ، ثم قال : فاستقبلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عارض لبنة على بطنه فظننت انها ثقلت عليه فقلت : ناولنيها يا رسول الله! فقال : خذ غيرها يا أبا هريرة فانه لا عيش الا عيش الآخرة. وهذا في البناء الثاني لان اسلام أبي هريرة متأخر.

وكذا ما في الصحيح في ذكر بناء المسجد : كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين ، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعل ينفض التراب ويقول : ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، لان البيهقي روى في ( الدلائل ) عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه سمع عبد الله بن العاص يقول لأبيه عمرو : قد قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه ما قال! قال : أى رجل؟ قال قال : عمار بن ياسر ، اما تذكره يوم بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد ، فكنا نحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين ، فمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وذكر نحو رواية الصحيح.

ثم قال : فدخل عمرو على معاوية فقال : قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال! فقال : اسكت فو الله ما تزال تدحض في بولك ، أنحن قتلناه؟ انما قتله على وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا. واسلام عمرو رضي‌الله‌عنه كان في السنة الخامسة فلم يحضر الا البناء الثاني ».

٤٩

وقال الملا على المتقي : « عن خالد بن الوليد عن ابنة هشام بن الوليد ابن المغيرة وكانت تمرض عمارا قالت : جاء معاوية الى عمار يعوده فلما خرج من عنده قال : أللهم لا تجعل منيته بأيدينا ، فانى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : تقتل عمارا الفئة الباغية ( ع. كر ) ».

وقال في ( شرح الفقه الأكبر ) في ذكر خلافة امير المؤمنين عليه‌السلام : « ومما يدل على صحة خلافته دون خلافة غيره الحديث المشهور « الخلافة بعدي ثلثون سنة ثم يصير ملكا عضوضا » وقد استشهد علي (رض) على رأس ثلاثين سنة عن وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومما يدل على صحة اجتهاده وخطأ معاوية في مراده ما صح عنه صلّى الله عليه وسلّم في حق عمار بن ياسر : تقتلك الفئة الباغية. وأما ما نقل أن معاوية أو أحدا من أشياعه قال : ما قتله الا علي (رض) حيث حمله على المقاتلة فروي عن عليّ كرّمه الله وجهه انه قال في المقابلة : فيلزم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قتل عمه حمزة! فتبين أن معاوية ومن بعده لم يكونوا خلفاء بل ملوكا وأمراء ».

وقال في ( شرح الشفاء ) في فصل الاخبار بالغيوب : « وان عمارا وهو ابن ياسر تقتله الفئة الباغية. رواه الشيخان ، ولفظ مسلم : قال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم لعمار : تقتلك الفئة الباغية. وزاد : وقاتله في النار.

فقتله ، أي عمارا ، أصحاب معاوية ، أى بصفين ، ودفنه علي رضي الله تعالى عنه في ثيابه وقد نيف على سبعين سنة ، فكانوا هم البغاة على علي بدلالة هذا الحديث ونحوه ، وقد ورد : إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق ، وقد كان مع علي رضي الله تعالى عنهما ، وأما تأويل معاوية أو ابن العاص بأن الباغي علي وهو قتله حيث حمله على ما أدى الى قتله ، فجوابه ما نقل عن علي كرم الله وجهه أنه يلزم منه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاتل حمزة عمه.

والحاصل أنه لا يعدل عن حقيقة العبارة الى مجاز الاشارة الا بدليل ظاهر من عقل أو نقل يصرفه عن ظاهره ، نعم ، غاية العذر عنهم أنهم اجتهدوا وأخطئوا فالمراد بالباغية الخارجة المتجاوزة لا الطالبة كما ظنه بعض

٥٠

الطائفة ».

وقال في ( المرقاة ـ شرح المشكوة ) : « ( وعن أبي قتادة ) صحابي مشهور ( أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمار ) أى ابن ياسر ( حين يحفر الخندق ) حكاية حال ماضية ( فجعل يمسح رأسه ) أي رأسه عمار عن الغبار ترحما عليه من الأغيار ( ويقول بؤس ) بضم موحدة وسكون همز ، ويبدل ، وبفتح السين مضافا الى ( ابن سمية ) وهي بضم السين وفتح الميم وتشديد التحتية ام عمار وهي قد أسلمت بمكة وعذبت لترجع عن دينها فلم ترجع وطعنها أبو جهل فماتت ، ذكره ابن الملك.

وقال غيره : كانت امه ابنة أبي حذيفة المخزومي زوجها ياسرا وكان حليفه فولدت له عمارا فأعتقه أبو حذيفة أي : يا شدة عمار احضرى فهذا أوانك ، واتسع في حذف حرف النداء من أسماء الأجناس وانما يحذف من أسماء الاعلام ، وروى بوس بالرفع على ما في بعض النسخ ، أى : عليك بؤس أو يصيبك بوس ، وعلى هذا ابن سمية منادى مضاف ، أى : يا ابن سمية! وقال شارح « المغني » : يا شدة ما يلقاه ابن سمية من الفئة الباغية ، نادى بؤسه وأراد نداءه وخاطبه بقوله : ( تقتلك الفئة الباغية ) أى الجماعة الخارجة على امام الوقت وخليفة الزمان.

قال الطيبي : ترحم عليه بسبب الشدة التي يقع فيها عمار من قبل الفئة الباغية يريد به معاوية وقومه فانه قتل يوم صفين. وقال ابن الملك : اعلم أن عمارا قتله معاوية وفئته فكانوا طاغين باغين بهذا الحديث ، لان عمار كان في عسكر علي وهو المستحق للامامة فامتنعوا عن بيعته.

وحكي أن معاوية كان يتأول معنى الحديث ويقول : نحن فئة باغية طالبة لدم عثمان ، وهذا كما ترى تحريف ، إذ معنى طلب الدم غير مناسب هنا لأنه صلّى الله عليه وسلّم ذكر الحديث في اظهار فضيلة عمار وذم قاتله لأنه جاء في طريق : ويح! قلت : ويح ، كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثى له ، بخلاف ويل ، فإنها كلمة عقوبة تقال للذي

٥١

يستحقها ولا يترحم عليه هذا.

وفي ( الجامع الصغير ) برواية الامام أحمد والبخاري عن أبي سعيد مرفوعا : ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم الى الجنة يدعونه الى النار. وهذا كالنص الصريح في المعنى الصحيح المتبادر من البغي المطلق في الكتاب كما في قوله تعالى : ( وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) ، وقوله سبحانه : ( فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ) فإطلاق اللفظ الشرعي على إرادة المعنى اللغوي عدول من العدل وميل الى الظلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه.

والحاصل ان البغي بحسب المعنى الشرعي والإطلاق العرفي خص عموم معنى الطلب اللغوي الى طلب الشر الخاص بالخروج المنهي ، فلا يصح أن يراد به طلب دم خليفة الزمان وهو عثمان رضي‌الله‌عنه. وقد حكي عن معاوية تأويل أقبح من هذا حيث قال : انما قتله علي وفئته حيث حمله على القتال وصار سببا لقتله في المال ، فقيل له في الجواب : فإذن قاتل حمزة هو النبي صلّى الله عليه وسلّم ، حيث كان باعثا له على ذلك والله سبحانه وتعالى حيث أمر المؤمنين بقتال المشركين!

والحاصل أن هذا الحديث فيه معجزات ثلث : إحداها انه سيقتل ، وثانيها أنه مظلوم ، وثالثها أن قاتله باغ من البغاة ، والكل صدق وحق. ثم رأيت الشيخ أكمل الدين قال : الظاهر أن هذا أي التأويل السابق عن معاوية وما حكي عنه أيضا من أنه « قتله من أخرجه للقتل وحرضه عليه » كل منهما افتراء عليه! أما الاول فتحريف للحديث ، وأما الثاني فلانه ما أخرجه أحد بل هو خرج بنفسه وما له مجاهدا في سبيل الله قاصدا لاقامة الفرض ، وانما كان كل منهما افتراء على معاوية لأنه رضي‌الله‌عنه أعقل من أن يقع في شيء ظاهر الفساد على الخاص والعام.

قلت : فإذا كان الواجب عليه أن يرجع عن بغيه باطاعته الخليفة ويترك المخالفة وطلب الخلافة المنيفة ، فتبين بهذا أنه كان في الباطن باغيا

٥٢

وفي الظاهر متسترا بدم عثمان مراعيا مرائيا ، فجاء هذا الحديث عليه ناعيا ، وعن عمله ناهيا ، لكن كان ذلك في الكتاب مسطورا ، فصار عنده كل من القرآن والحديث مهجورا! فرحم الله من أنصف ولم يتعصب ولم يتعسف وتولى الاقتصاد في الاعتقاد لئلا يقع في جانبي سبيل الرشاد من الرفض والنصب بأن : يحب الال والصحب. ( رواه مسلم ) ».

وقال نور الدين الحلبي : « ولما قتل عمار دخل عمرو بن العاص على معاوية فزعا وقال : قتل عمار! فقال معاوية : قتل عمار فما ذا؟ قال عمرو : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : تقتل عمارا الفئة الباغية. فقال له معاوية : دحضت ، أى زلقت في بولك! أنحن قتلناه؟ انما قتله من أخرجه.

وفي رواية قال له : أسكت فو الله ما تزال تدحض ، أي تزلق في بولك ، انما قتله على وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا. وذكر أن عليا رضي الله تعالى عنه لما احتج على معاوية رضي الله تعالى عنه بهذا الحديث ولم يسع معاوية إنكاره قال : انما قتله من أخرجه من داره ، يعني بذلك عليا. فقال علي رضي الله تعالى عنه : فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم اذن قتل حمزة حين أخرجه ».

قال : « وكان ذو الكلاع رضي الله تعالى عنه مع معاوية وقال له يوما ولعمرو ابن العاص : كيف نقاتل عليا وعمار بن ياسر؟! فقالا له : ان عمارا يعود إلينا ويقتل معنا. فقتل ذو الكلاع قبل قتل عمار ، ولما قتل عمار قال معاوية : لو كان ذو الكلاع حيا لمال بنصف الناس الى على ، أي لان ذا الكلاع ذووه أربعة آلاف أهل بيت ، وقيل : عشرة آلاف ».

وقال شهاب الدين الخفاجي في ( نسيم الرياض ) : « ومما اخبر به صلّى الله عليه وسلّم من المغيبات ان عمار بن ياسر الصحابي المشهور تقتله الفئة الباغية. من البغي وهو الخروج بغير حق على الامام.

ولفظ مسلم : قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمار : تقتلك الفئة الباغية. وروي : وقاتله في النار. فقتله اصحاب معاوية وكان هو مع علي بصفين وهو صريح في ان الخليفة بحق هو عليّ رضي‌الله‌عنه وان معاوية مخطئ في اجتهاده

٥٣

كما في حديث « إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق » وابن سمية هو عمار رضي الله تعالى عنه كان مع على ، وهذا هو الذي ندين الله به ، وهو ان عليّا كرم الله وجهه على الحق ومجتهد مصيب في عدم تسليم قتلة عثمان ، ومعاوية رضي الله تعالى عنه مجتهد مخطي ، فدع القيل والقال فما ذا بعد الحق الا الضلال؟!

وقد تأول معاوية حديث عمار لما لم يجد مجالا لإنكاره فقال : انما قتله من أخرجه ، ولذا قال عليّ كرم الله وجهه لما بلغه قوله : فرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم قتل حمزة رضى الله تعالى عنه لما أخرجه لاحد ، كما نقله ابن دحية رحمه الله تعالى ، وقتل عمار بصفين وهو ابن سبعين سنة قتله ابن العمادية ( أبو الغادية. ظ ) واجتز رأسه ابن جزء ودفنه علىّ رضي الله تعالى عنه ».

وقال حسين بن محمد الديار بكرى : « وفي ( عقائد الشيخ أبي السحق الفيروزآبادي ) و ( خلاصة الوفاء ) أن عمرو بن العاص كان وزير معاوية فلما قتل عمار بن ياسر أمسك عن القتال وتابعه على ذلك خلق كثير فقال له معاوية لم لا تقاتل؟ قال قتلنا هذا الرجل وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : تقتله الفئة الباغية ،فدل على أنا نحن بغا. قال له معاوية : أسكت فو الله ما تزال تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟ انما قتله على وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا.

وفي رواية قال : قتله من أرسله إلينا يقاتلنا ودفعنا عن أنفسنا فقتل فبلغ ذلك عليا فقال : ان كنت أنا قتلته فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قتل حمزة حين أرسله الى قتال الكفار ».

وقال محمد بن عبد الباقي الزرقاني في ( شرح المواهب اللدنية ) في بحث حديث « ويح عمار تقتله الفئة الباغية ». « وهذا الحديث متواتر ، قال القرطبي : ولما لم يقدر معاوية على إنكاره قال : انما قتله من أخرجه فأجابه علي بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قتل حمزة حين أخرجه. قال ابن دحية : وهذا من الإلزام المفحم الذي لا جواب عنه ، وحجة لا اعتراض عليها. قال القرطبي : فرجع معاوية وتأوله على الطلب وقال : نحن الفئة الباغية أي

٥٤

الطالبة لدم عثمان ، من البغاء بضم الباء والمد هو الطلب. قال الابي : البغي عرفا الخروج عن طاعة الامام مغالبة له.

ولا يخفى بعد التأويلين أو خطؤهما والاول واضح وكذا الثاني لان ترك علي القصاص من قتلة عثمان الذين قاموا بطلبه ورأوه مستند اجتهادهم ليس لأنه تركه جملة واحدة ، وانما تركه لما تقدم أي حتى يدخلوا في الطاعة ثم يدعوا علي من قتل. قال : وأيضا عدم القصاص منكر قاموا لتغييره ، والقيام لتغيير المنكر انما هو ما لم يؤد الى مفسدة أشد.

وأيضا المجتهد انما يحسن به الظن إذا لم يبين مستند اجتهاده وأما إذا بينه وكان خطأ فلا ، ولله در الشيخ ، يعنى ابن عرفة حيث كان يقول : الصحبة حصنت من حارب عليا ، انتهى ».

وقال محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير اليماني الصنعاني في ( الروضة الندية ) بعد ذكر بعض أحاديث وأخبار قتال أمير المؤمنين مع الناكثين والقاسطين والمارقين : « تنبيه ـ قلت : اشتملت هذه القصص على معجزات نبوية وكرامات علوية وأخلاق عند الله مرضية ، فنذكر شيئا من ذلك. أما المعجزات فمنها : اخباره صلّى الله عليه وسلّم بأن وصيه عليه‌السلام يقاتل الثلاث الطوائف وأمره له بذلك ، فانه اخبار بالغيب الذي هو إحدى المعجزات ووصف كل طائفة بوصفها التي قوتلت عليه من النكث والقسط والمروق ، وقدمنا في قتاله الناكثين نكتا من معجزات وكرامات ، ومن المعجزات في قتاله القاسطين ما تواتر عند أئمة النقل من أن عمارا يقتله الفئة الباغية وأنه يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار.

وهذا الحديث متواتر متفق عليه بين الطوائف حتى أن رأس الفئة الباغية ورئيسها معاوية بن أبى سفيان مقر به ، فانه تأوله بالتأويل الباطل ولم ينكره ، بل قال : قتله من جاء به ، فالزم بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو القاتل لحمزة. وهذا الحديث من أعلام النبوة فانه قاله صلّى الله عليه وسلّم اول قدومه المدينة عند بناء مسجده صلّى الله عليه وسلّم كما هو معروف في كتب السير

٥٥

والحديث ولم يحضرنا منه شيء فننقل لفظه ، ومعناه أنه قال عمار رضي‌الله‌عنه وقد حملوه أحجارا صلّى الله عليه وسلّم المسجد : قتلوني يا رسول الله يحملونني فوق ما أطيق ، أو قال : كما يحمله رجلان. فنفض صلّى الله عليه وسلّم الغبار عنه وقال : ليسوا بقاتليك ، انما يقتلك الفئة الباغية. تكلم صلّى الله عليه وسلّم بهذا قبل وقعة بدر وقبل فتح مكة وقبل اسلام رأس الفئة الباغية وقبل أن يفتح من البلاد شبر واحد.

وتكرر منه صلّى الله عليه وسلّم ذكر أن عمارا (رض) يقتله الفئة الباغية في عدة مواقف ، وقد كان عمار (رض) من أعيان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال العامري (رض) : وكان مخصوصا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالبشارة والترحيب والبشاشة والتطييب ، أخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه أحد الأربعة الذين تشتاق إليهم الجنة وقال له : مرحبا بالطيب المطيب ، وقال صلّى الله عليه وسلّم : عمار جلدة ما بين عيني وأنفي ، وقال : اهتدوا بهدى عمار ، وقال : من عادى عمارا عاداه الله من أبغض عمارا أبغضه الله. ذكر هذه الأحاديث في فضائله الفقيه العلامة الشافعي المحدث يحيى بن أبى بكر العامري (رض) في كتاب ( الرياض المستطابة ) في ترجمة عمار رضي‌الله‌عنه.

قال العامري : وكان من اصحاب علي عليه‌السلام وقتله اصحاب معاوية وبقتله استدل اهل السنة على تصحيح امامة علي عليه‌السلام وان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد كان قال : ويح ابن سمية يقتله الفئة الباغية ، وقال : ويح عمار يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، انتهى كلامه.

قلت : وأخرج ابن عساكر وابن سعد أن عليا عليه‌السلام قال حين قتل عمار : ان امرؤ من المسلمين لم يعظم عليه قتل عمار بن ياسر وتدخل عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد. رحم الله عمارا يوم اسلم ، ورحم الله عمارا يوم قتل ، ورحم الله عمار يوم يبعث حيا ، لقد رأيت عمارا وما يذكر من اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعة الا كان رابعا ولا خمسة الا كان خامسا ولا كان احد من اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشك ان عمارا

٥٦

قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا شك ، فهنيئا لعمار بالجنة ، ولقد قيل : ان عمارا مع الحق والحق معه يدور عمار مع الحق حيث دار ، وقاتل عمار في النار ، انتهى.

قلت : وبقتله استدل على ان معاوية في حربه وقتاله باغ ظالم غير مجتهد كما يقوله بعض السنية انه مجتهد مخطئ وانه غير آثم ، كما قال العامري ايضا واما المخالفون له فكانوا متأولين وكان لهم شبهة أداهم اجتهادهم إليها ، انتهى ذكره في ترجمة الزبير.

فنقول : انه لا يشك من يعرف حال معاوية انه ليس من الاجتهاد في ورد ولا صدر ، وانما الرجل يتحيل على الملك فنفق شبهة الطلبة بدم عثمان ليضل اهل الشام بها وأي اجتهاد مع النص انه باغ ، وأي اجتهاد مع اخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي عليه‌السلام بأنه يقاتل القاسطين ، وسمعت صحة الحديث عند امام المتأخرين مع اهل السنة الحافظ ابن حجر ، فانه قال : وثبت عند النسائي ونقله وفسره ولم يقدح فيه ، وقد ثبت من طرق عدة ، وأي اجتهاد مع نص عمار ونص القرآن ان الفئة الباغية تقاتل حتى تفيء الى امر الله ، وحديث عمار نص ان فئة معاوية الفئة الباغية. واحسن من قال مشيرا الى الرد على من زعم اجتهاد معاوية :

قال النواصب قد أخطا معاوية

في الاجتهاد وأخطا فيه صاحبه

والعفو في ذاك من حق لفاعله

وفي أعالي جنان الخلد راكبه

قلنا كذبتم فلم قال النبي لنا

في النار قاتل عمار وسالبه

وما دعوى الاجتهاد لمعاوية في قتاله الا كدعوى ابن حزم أن ابن ملجم أشقى الآخرين مجتهد في قتله لعلي عليه‌السلام كما حكاه عنه الحافظ ابن حجر في ( تلخيصه ) وإذا كان من ارتكب هواه ولفق باطلا يروج به ما يراه اجتهادا لم يبق في الدنيا مبطل ، إذ لا يأتي أحد منكرا الا وقد أهب له عذرا ، وهؤلاء

٥٧

عبدة الأوثان قالوا : ما يعبدونهم الا ليقربوهم الى الله زلفى! وكم من محتج حجته داحضة عند ربه وعليه غضب ».

وقال المولوي عبد العلي بن الملا نظام الدين السهالوي في ( فواتح الرحموت ـ شرح مسلم الثبوت ) : « بقي أمر بغي معاوية ، والذي عليه جمهور أهل السنة أن هذا أيضا خطأ في الاجتهاد ولا يلزم منه بطلان العدالة ، لكن يخدشه عدم اظهار الحجة في مقابلة أمير المؤمنين علي وكان هو ألين للحق واستمراره على الصنع الذي صنع ، مع أن قتل عمار كان من أبين الحجج على حقية رأي أمير المؤمنين علي ، ولم ينقل في الدفع الا أمر بعيد هو أن الجائي برجل شيخ في المعركة قاتل إياه! وهو كما ترى ».

وقال : « وقال بعضهم : في كون مخالفة معاوية بالاجتهاد نظر ، لأنه لو كانت بالاجتهاد لناظر بالحجة وأمير المؤمنين علي كان ألين للحق ، وقصد مناظرته بالحجة وإقامة الحجة عليه ولم يصغ اليه ، وعند شهادة عمار قال : انما قتله علي حيث جاء به شيخا كبيرا ، وليس هذا من الحجة في شيء ، ولذا قال أمير المؤمنين في الجواب : فإذا قتل حمزة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم ، بل الكلام في كونه مجتهدا ، كيف وقد عده صاحب ( الهداية ) من السلاطين الجائرة مقابل العادلين ، ولو كان بالاجتهاد لما كان جورا ، ولم ينقل عنه فتوى على طريقة الأصول الشرعية ».

وقال سليمان بن ابراهيم البلخي في ( ينابيع المودة ) في الباب الثالث والأربعين : « وفي ( جمع الفوائد ) عن عبد الله بن الحارث أن عمرو بن العاص قال لمعوية : أما سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم : يقول حين كان يبني المسجد لعمار : انك لحريص على الجهاد وانك لمن أهل الجنة ولتقتلنك الفئة الباغية. قال : بلى! قال عمرو : فلم قتلتموه؟ قال : والله ما تزال تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟ انما قتله الذي جاء به ، وهو علي ـ لأحمد.

عبد الله بن عمرو بن العاص رأى رجلين يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما : أنا قتلته. فقال عبد الله : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٨

وسلّم يقول : تقتله الفئة الباغية. فقال معاوية : فما بالك أنت معنا؟ قال : شكاني أبي الى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لي : أطع أباك ما دام حيا ولا تعصيه ( تعصه. ظ ) فأنا معكم ولست أقاتل ـ لأحمد ».

١٥ ـ خروج عمرو بن العاص لقتل عمار

وهذا الحديث دليل مبين على ضلالة عمرو بن العاص ، فانه الذي أعان معاوية ونصره وأيده وشاركه في سيئات أعماله.

اخرج احمد وابن سعد واللفظ للثاني : « قيل لعمرو بن العاص : قد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبك ويستعملك ، قال : قد كان والله يفعل فلا أدري أحب أم تألف يتألفنى ، ولكني أشهد على رجلين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يحبهما : عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر.

قالوا : فذاك والله قتيلكم يوم صفين.

قال : صدقتم والله ، لقد قتلناه » (١).

وفي ( الطبري ) : « وخرج اليوم الثالث عمار بن ياسر ، وخرج اليه عمرو بن العاص ، فاقتتل الناس كأشد القتال ... وشد عمار في الرجال فأزال عمرو بن العاص عن موقفه » (٢).

وفي ( الكامل ) : « وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمار بن ياسر : تقتلك الفئة الباغية ، وآخر شربة تشربها ضياح من لبن. فكان ذو الكلاع يقول لعمرو : ما هذا ويحك يا عمرو! فيقول عمرو : انه سيرجع إلينا ، فقتل ذو الكلاع قبل عمار مع معاوية وأصيب عمار بعده مع علي ، فقال عمرو لمعاوية : ما ادري بقتل أيهما أنا أشد فرحا؟ بقتل عمار أو بقتل ذي الا كلاع ، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار

__________________

(١) الطبقات ٢ / ٢٦٣.

(٢) الطبري ٤ / ٧ ـ ٨.

٥٩

لمال بعامة اهل الشام الى علي.

فأتى جماعة الى معاوية كلهم يقول : أنا قتلت عمارا ، فيقول عمرو : وما سمعته يقول؟ فيخلطون ، فأتاه ابن جزء فقال : أنا قتلته وسمعته يقول : اليوم ألقى الاحبة ، محمدا وحزبه ، فقال عمرو : أنت صاحبه ، ثم قال : رويدا والله ما ظفرت يداك ، ولقد أسخطت ربك » (١).

وروى المتقى : « قاتل ابن سمية في النار. كر عن عمرو بن العاص ».

وانظر ١٦ / ١٤١ ، ١٤٥ .. من ( كنز العمال ).

وانظر أيضا :

المستدرك ٣ / ٣٨٦ ، ٣٨٧

مروج الذهب ٣ / ٣١

اسد الغابة ٤ / ٤٧

تذكرة الخواص ٩١ ، ٩٢

تاريخ ابن خلدون ٢ / ١٧٣. وغيرها

١٦ ـ ابو غادية قاتل عمار

وابو الغادية ... قاتل عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه.

قال ابن سعد بترجمة عمار : « شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسل سيفا ، وشهد صفين وقال : انا لا أسل أبدا حتى يقتل عمار ، فانظر من يقتله ، فانى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : تقتله الفئة الباغية.

قال : فلما قتل عمار بن ياسر قال خزيمة : قد بانت لي الضلالة واقترب فقاتل حتى قتل.

وكان الذي قتل عمار بن ياسر ابو غادية المزني ، طعنه برمح فسقط ، وكان يومئذ يقاتل في محفة ، فقتل يومئذ وهو ابن أربع وتسعين سنة ، فلما وقع

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣ / ١٥٧.

٦٠