نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٨

فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة ، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر : أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا الى ركن المنبر فجلست حوله تمسّ ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلمّا رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف قط قبله ، فأنكر عليّ وقال : ما عسيت ان يقول ما لم يقل قبله! فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال :

أما بعد ، فاني قائل لكم مقالة قد قدّر لي أن أقولها ، لا ادري لعلها بين يدي اجلي ، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لاحد أن يكذب عليّ. ان الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحق وأنزل عليه الكتاب ، فكان ممّا أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، فلذا رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده ، فأخشى ان طال بالناس زمان أن يقول قائل « والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله! » فيضلوا بترك فضيلة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. ثم انّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا من آبائكم فانه كفر أن ترغبوا عن آبائكم أو أن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم الإثم ، ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : لا تطروني كما اطري عيسى بن مريم وقولوا : عبد الله ورسوله.

ثم انه بلغني ان قائلا منكم يقول : والله لو مات عمر بايعت فلانا! فلا يغترنّ امرؤ ان يقول انما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وانها كانت

٢٨١

كذلك ولكن الله وقى شرها! وليس منكم من تقطع الأعناق اليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة ان يقتلا.

وانه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنا علي والزبير ومن معها ، واجتمع المهاجرون الى أبي بكر ، فقلت لابي بكر : يا أبا بكر! انطلق بنا الى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا رجلان صالحان فذكر ما تمامى عليه القوم ، فقال : أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : لا عليكم أن لا تقربوهم ، اقضوا أمركم فقلت : والله لنأتينهم! فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم ، فقلت : من هذا؟ قالوا : هذا سعد بن عبادة ، فقلت : ما له؟ قالوا يوعك. فلما جلسنا قليلا تشهّد خطيبهم فأثنى على الله. بما هو أهله ثم قال :

أمّا بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون ان يختزلونا من أصلنا وان يحصنونا من الأمر ، فلما سكت أردت ان أتكلم وكنت زوّرت مقالة اعجبتني أريد أن اقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت اداري منه بعض الحدّ ، فلما أردت ان اتكلّم قال ابو بكر : على رسلك! فكرهت أن أغضبه فتكلم ابو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر ، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري الاّ قال بديهة مثلها أو أفضل حتى سكت! فقال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له اهل ولن يعرف هذا الأمر الاّ لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجرّاح ـ وهو جالس بيننا ـ فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله ان أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من اثم أحب الي من ان أتامرّ على قوم فيهم ابو بكر! اللهم الا أن تسوّل لي نفسي عند الموت شيئا

٢٨٢

لا أجده الآن.

فقال قائل من الأنصار! انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب ، منا امير ومنكم امير يا معشر قريش! فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة فقلت : قتل الله سعد بن عبادة! قال عمر : وانّا والله ما وجدنا فيما حضر من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا ان فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فاما بايعناهم على ما لا نرضى (١) واما نخالفهم ، فيكون فساد ، فمن بايع رجل على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّه ان يقتلا » (٢).

وقال ابن هشام « قال ابن اسحق : وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار ان عبد الله بن أبي بكر حدثني عن ابن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس ، قال أخبرني عبد الرحمن بن عوف قال : وكنت منزله بمنى أنتظره وهو عند عمر في آخر حجة حجها عمر ، قال : فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر فوجدني في منزله في منى انتظره وكنت أقرئه القرآن ، قال ابن عباس : فقال لي عبد الرحمن بن عوف : لو رأيت رجلا أتى امير المؤمنين فقال : يا امير المؤمنين! هل لك في فلان يقول : والله لو قد مات عمر ابن الخطاب لقد بايعت فلانا والله ما كانت بيعة أبي بكر الا فلتة فتمت.

قال : فغضب عمر فقال : اني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمرهم ، قال عبد الرحمن فقلت : يا أمير المؤمنين! لا تفعل ، فان الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وانهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس واني أخشى ان تقوم فتقول.

__________________

[ ١ ، ٢ ] صحيح البخاري ٨ / ٢١٠.

٢٨٣

مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة وتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت بالمدينة متمكنا فيعى أهل الفقه مقالتك ويضعوها على مواضعها.

قال : فقال عمر : أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك اول مقام أقومه بالمدينة قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زالت الشمس فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا الى ركن المنبر فجلست حذوه تمس ركبتي ركبته فلم أنشب ان خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد : ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف! قال : فأنكر عليّ سعيد بن زيد ذلك وقال : ما عسى ان يقول مما لم يقل قبله! فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال :

أما بعد! فاني قائل لكم مقالة قد قدر لي ان أقولها ولا أدري لعلها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليأخذ بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي ان لا يعيها فلا يحل لاحد ان يكذب علي. ان الله بعث محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وعلمناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده فأخشى ان طال بالناس زمان ان يقول قائل : والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وان الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ثم انا قد كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله ، لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم أو كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم الا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله. ثم انه قد بلغني أن فلانا قال : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا فلا يغرن امرؤ أن يقول ان بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت! وانها قد كانت كذلك الا أن الله قد وقى شرّها ،

٢٨٤

وليس فيكم من تنقطع الأعناق اليه مثل أبي بكر ، فمن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فانه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا.

انه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم ان الأنصار خالفونا فاجتمعوا بأشرافهم ( بأسرهم. ظ ) في سقيفة بني ساعدة ، وتخلف عنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما. واجتمع المهاجرون الى أبي بكر فقلت لابي بكر : انطلق بنا الى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا لنا ما تمالا عليه القوم وقالا : أين تريدون؟ يا معشر المهاجرين! قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين! اقضوا أمركم! قال : قلت : والله لنأتينهم.

فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت : من هذا؟ فقالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما له؟ فقالوا : وجع ، فلما جلسنا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو له أهل ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت الله من قومكم ، قال : وإذا هم يريدون أن يجتازونا ( يختزلونا. ظ ) من أصلنا ويغتصبونا الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت اداري منه بعض الحد ، فقال أبو بكر على رسلك يا عمر! فكرهت أن أغضبه ، فتكلم وهو كان أعلم ( أحلم. ظ ) مني وأوفر. فو الله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري الا قالها في بديهة أو مثلها أو أفضل حتى سكت قال :

أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن تعرف العرب هذا الأمر الا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ولم أكره شيئا مما قال غيرها ، كان : والله ان أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك الى اثم أحب إلي أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.

٢٨٥

قال : فقال قائل من الأنصار ، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش! قال : فكثر اللفظ وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته ثم بايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة! قال : فقلت : قتل الله سعد بن عبادة! » (١).

وقال أحمد بن اسحق بن جعفر المعروف باليعقوبي : « واستأذن قوم من قريش عمر في الخروج للجهاد ، فقال : قد تقدم لكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : اني آخذ بحلاقيم قريش على أفواه هذه الحرة ، لا تخرجوا فتسللوا بالناس يمينا وشمالا ، قال عبد الرحمن بن عوف : فقلت : نعم يا أمير المؤمنين! ولم تمنعنا من الجهاد؟ فقال : لئن أسكت عنك فلا أجيبك خير لك من أن أجيبك ، ثم اندفع يحدث عن أبي بكر حتى قال : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن عاد بمثلها فاقتلوه » (٢).

وقال محمد بن جرير الطبري : « حدثني علي بن مسلم ، قال : ثنا : عباد ابن عباد ، قال : ثنا : عباد بن راشد قال : حدثنا عن الزهري عن عبيد الله بن [ عبد الله بن ] عتبة عن ابن عباس ، قال : كنت أقرئ عبد الرحمن ابن عوف القرآن ، قال : فحج عمر وحججنا معه ، قال : فاني لفي منزل بمنى إذ جاءني عبد الرحمن بن عوف ، فقال : شهدت أمير المؤمنين اليوم وقام اليه رجل فقال : اني سمعت فلانا يقول : لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانا ، قال : فقال أمير المؤمنين : اني لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمرهم ، قال فقلت : يا أمير المؤمنين ان الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وانهم الذين يغلبون على مجلسك واني لخائف ان قلت اليوم مقالة ألا يعوها ولا يحفظوها ولا يضعوها على مواضعها ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٦٥٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٤٧ ـ ١٤٨.

٢٨٦

وأن يطيروا بها كل مطير. ولكن أمهل حتى تقدم المدينة تقدم دار الهجرة والسنة وتخلص بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار فتقول ما قلت متمكنا فيعوا مقالتك ويضعوها على مواضعها فقال :

والله لا قومن بها في أول مقام أقومه بالمدينة قال : فلما قدمنا المدينة وجاء يوم الجمعة هجرت للحديث الذي حدثنيه عبد الرحمن فوجدت سعيد ابن زيد قد سبقني بالتهجير ، فجلست الى جنبه عند المنبر ركبتي الى ركبته ، فلما زالت الشمس لم يلبث عمر أن خرج فقلت لسعيد وهو مقبل : ليقولن أمير المؤمنين اليوم على هذا المنبر مقالة لم يقل قبله ، فغضب وقال : أي مقالة يقول لم يقل قبله!؟ فلما جلس عمر على المنبر أذن المؤذ [ نو ] ن فلما قضى المؤذن أذانه قام عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد ، فاني أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها من وعاها وعقلها وحفظها ، فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته ومن لم يعها فاني لا أحل لاحد أن يكذب عليّ ، ان الله عز وجل بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب وكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله ورجمنا بعده ، واني قد خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل : والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وقد كنا نقول ( نقرأ. ظ ) : لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.

ثم انه بلغني أن قائلا منكم يقول : لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانا فلا يغرن أمراء أن يقول ان بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع اليه الأعناق مثل أبي بكر. وانه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار بأسرها واجتمع المهاجرون الى أبي بكر ، فقلت لابي بكر : انطلق بنا الى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرا فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم فقلنا : والله لنأتينهم.

٢٨٧

قال : فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة. قال : وإذا بين أظهرهم رجل مزمل ، قال : قلت : من هذا؟ قالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما شأنه؟ قالوا : وجع ، فقام رجل منهم فحمد الله وقال : أما بعد ، فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا وقد دفت إلينا من قومكم دافة ، قال : فلما رأيتم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر ، وقد كنت زورت في نفسي مقالة اقدمها بين يدي أبي بكر وقد كنت اداري منه بعض الحد وكان هو أوقر مني وأحلم ، فلما أردت أن أتكلم قال على رسلك فكرهت أن أعصيه فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت الا قد جاء به أو بأحسن منه وقال : أما بعد ، يا معشر الأنصار! فإنكم لا تذكرون منكم فضلا الا وأنتم له أهل وان العرب لا تعرف هذا الأمر الا لهذا الحي من قريش وهم أوسط دارا ونسبا ، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح واني والله ما كرهت من كلامه شيئا غير هذه الكلمة ان كنت لا قدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني الى اثم أحب الي من أو أؤمر على قوم فيهم أبو بكر ، فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؟ منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش! قال : فارتفعت الأصوات واكثر اللغظ.

فلما أشفقت الاختلاف قلت لابي بكر : أبسط يدك أبايعك! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار ، ثم نزونا على سعد حتى قال قائلهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت. قتل الله سعدا! وانا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا ان فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فاما أن نتابعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون فساد » (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٤٤٥ ـ ٤٤٧.

٢٨٨

وقال أيضا : « ثنا عبيد الله بن سعيد ، قال : ثنا عمي ، قال : نا : سيف ابن عمر عن سهل وأبي عثمان عن الضحاك بن خليفة ، قال : لما قام الحباب ابن المنذر انتضى سيفه وقال : أنا : جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، أنا أبو شبل في عرينة الأسد يعزى الى الأسد! فحامله عمر فضرب يده فندر السيف فأخذه ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد ، وتتابع القوم على البيعة وبايع ( تمانع. ظ ) سعد ، وكانت فلتة كفلتات الجاهلية قام أبو بكر دونها ، وقال قائل حين وطئ سعد : قتلتم سعدا! فقال عمر : قتله الله انه منافق واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه ».

وقال أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي : « أخبرنا محمد بن الحسن ابن قتيبة النحمي بعسقلان ، ثنا : محمد بن المتوكل ، ثنا : عبد الرزاق أنا : معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ، قال :

كنت عند عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب ، فلما كان في آخر حجة حجها عمر أتاني عبد الرحمن بن عوف في منزلي عشاء ، فقال : لو شهدت امير المؤمنين! اليوم وجاءه رجل وقال : يا امير المؤمنين! اني سمعت فلانا يقول : لو قد مات امير المؤمنين لبايعت فلانا! فقال عمر : اني لقائم العشية في الناس ومحذرهم ـ هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا المسلمين أمرهم ـ فقلت : يا امير المؤمنين! ان الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاهم وانهم الذين يغلبون على مجلسك ، واني أخشى ان تقول فيهم اليوم مقالة لا يعونها ولا يضعونها مواضعها وان يطيروا بها كل مطير ، ولكن أمهل يا أمير المؤمنين! حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة ودار الهجرة فتخلص بالمهاجرين والأنصار وتقول ما قلت متمكنا فيعوا مقالتك ويضعونها مواضعها.

قال عمر : أما والله لأقومن به في اول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس : فلما قدمنا المدينة وجاء يوم الجمعة هجرت لما حدّثني عبد الرحمن بن عوف ، فوجدت سعيد بن زيد بن نقيل قد سبقني بالتهجر جالسا الى جنب المنبر فجلست الى جنبه تمس ركبتي ركبته ، فلما زالت الشمس خرج

٢٨٩

علينا عمر فقلت وهو مقبل : أما والله ليقولن اليوم امير المؤمنين على هذا المنبر مقالة لم يقل قبله! قال فغضب سعيد بن زيد فقال : وأي مقالة يقول لم يقل قبله؟ فلما ارتقى عمر المنبر أخذ المؤذن في أذانه فلما فرغ من أذانه.

قام عمر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أمّا بعد ، فاني أريد ان أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها ، فمن وعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته ومن خشي ان لا يعيها فاني لا أحل لاحد أن يكذب على : ان الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم وانزل عليه الكتاب ، فكان مما انزل عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده ، واني خائف أن يطول بالناس زمان فيقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله! فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، ألا وان الرجم على من أحصن إذا زنا وقامت عليه البينة أو كان الحمل أو الاعتراف. ثم انّا قد كنّا نقرأ « ولا ترغبوا عن آبائكم » ثم ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله ».

ثم انه بلغني أن فلانا منكم يقول : لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانا ، فلا يغرن امرأ أن يقول : ان بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك الا أن الله وقى شرها ودفع عن الإسلام والمسلمين ضرها ، وليس فيكم من تقطع اليه الأعناق مثل أبي بكر. وانه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عليا والزبير ومن تبعهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة ، وتخلفت عنا الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، واجتمع المهاجرون الى أبي بكر فقلت : با أبا بكر! انطلق بنا الى إخواننا من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم فلقينا رجلين صالحين من الأنصار شهدا بدرا فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء الأنصار قالا : فارجعوا مضوا الأمر أمركم بينكم : فقلت والله لنأتينهم فأتيناهم فإذا هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة بين أظهرهم رجل مزمل قلت : من هذا؟ قالوا : سعد بن عبادة ، قال : قلت : ما شأنه؟ قالوا : وجع.

٢٩٠

فقام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد! فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط منا وقد دفت إلينا دافة منكم. وإذا هم يريدون أن يختزلون أصلنا ويختصلوا بأمر دوننا وقد كنت زورت في نفسي مقالة أريد ان أقوم بها بين يدي أبي بكر وكنت أداري من أبي بكر بعض الحد ، وكان أوقر مني وأحلم ، فلما أردت الكلام قال : على رسلك. فكرهت ان أغضبه ، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وو الله ما ترك كلمة فد كنت زورتها الا جاء بها أو أحسن منها في بديهته ، ثم قال :

أما بعد! وأما ما ذكرتم فيكم من خير يا معشر الأنصار فأنتم له أهل ولن تعرف العرب هذا الأمر الا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب دارا ونسبا ، ولقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح ، فو الله ما كرهت مما قال شيئا غير هذه الكلمة ، كنت لان أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك الى ثم أحب الي من أن أقدم على قوم فيهم أبو بكر! فلما قضى أبو بكر مقالته فقام رجل من الأنصار فقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، والا أجلنا الحرب فيما بيننا وبينكم جذعة! قال معمر : فقال قتادة : قال عمر : فانه لا يصلح سيفان في غمد ولكن منا الأمراء ومنكم الوزراء! قال معمر عن الزهري في حديثه فارتفعت الأصوات بيننا وكثر اللغظ حتى أشفقت الاختلاف ، فقلت : يا أبا بكر! أبسط يدك أبايعك! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار. قال : ونزونا على سعد بن عبادة حتى قال قائل : قتلتم سعدا قال قلت : قتل الله سعدا ، وانا والله ما رأينا فيما حضرنا امرا كان أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا ان فارقنا القوم أن يحدثوا بعدنا بيعة فاما أن نبايعهم على ما لا نرضى واما أن نخالفهم فيكون فساد. فلا يغرن امرا يقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقد كانت كذلك الا أن الله وقى شرها! وليس فيكم من يقطع اليه الأعناق مثل أبي بكر فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فانه لا يبايع لا هو ولا الذي بايعه بعده. قال

٢٩١

الزهري وأخبرنى عروة أن الرجلين الذين لقياهم من الأنصار عويم بن ساعدة ومعن بن عدي ، والذي قال « انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب » خباب ابن المنذر » (١).

وقال الشهرستاني في كتاب [ الملل والنحل ] « الخلاف الخامس في الامامة وأعظم خلاف بين الامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الامامة في كل زمان! وقد سهل الله تعالى ذلك في الصدر الاول ، فاختلف المهاجرون والأنصار فيها وقالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير واتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري فاستدركه أبو بكر وعمر في الحال بأن حضرا سقيفة بني ساعدة وقال عمر : كنت ازور في نفسي كلاما في الطريق فلما وصلنا الى السقيفة أردت أن أتكلم فقال أبو بكر : مه يا عمر! فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما كنت أقدره في نفسي كأنه يخبر عن غيب! فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي اليه فبايعته وبايعه الناس وسكنت النائرة.

الا ان بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها ، فمن عاد الى مثلها فاقتلوه. فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرة أن يقتلا ، وانما سكنت الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي عليه‌السلام : الأئمة من قريش!

وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة ، ثم لما عاد الى المسجد انثال الناس عليه وبايعوه عن رغبة سوى جماعة من بنى هاشم وأبي سفيان من بني أمية وأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه كان مشغولا بما أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره من غير منازعة ولا مدافعة ».

وقال السيوطي في ( تاريخ الخلفا ) : « روى الشيخان أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه خطب الناس مرجعه من الحج فقال في خطبته : قد بلغني

__________________

(١) الثقات لابن حبان ـ

٢٩٢

أن فلانا منكم يقول : لو مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرأ أن يقول أن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، ألا وانها كذلك الا أن الله وقى شرها ، وليس فيكم اليوم من قطع اليه الأعناق مثل أبي بكر.

وانه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ان عليا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة وتخلف الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة واجتمع المهاجرون الى أبي بكر فقلت له : يا أبا بكر! انطلق بنا الى إخواننا من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم فقال : أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلت : نريد إخواننا من الأنصار فقالا : عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين فقلت : والله لنأتينهم ، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت : من هذا؟ قالوا ابن عبادة ، فقلت : ما له؟ قالوا : وجع ، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا وتحصنوننا من الأمر! فلما سكت أردت أن أتكلم ، وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر ، وقد كنت أداري منه بعض الحد ، وهو كان أحلم منى وأوقر ، فقال أبو بكر : على رسلك! فكرهت أن أغضبه وكان أعلم منى ، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري الا قالها في بداهته وأفضل حتى سكت.

فقال : أما بعد! فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ولم تعرف العرب هذا الأمر الا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، فلم أكره مما قال غيرها ، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من اثم أحب الي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر! فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش!

٢٩٣

وكثر اللغظ وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف فقلت ابسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار ، أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أوفق من مبايعة أبي بكر ، خشينا ان فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فاما أن نتابعهم على ما لا نرضى واما أن نخالفهم فيكون فيه فساد ».

وقال ابن حجر المكي في ( الصواعق ) : « روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به : أنّ عمر رضي‌الله‌عنه خطب الناس مرجعه من الحج فقال في خطبته : قد بلغني أن فلانا منكم يقول : لو مات عمر بايعت فلانا! فلا يغترن ( يغرن. ظ ) امرا أن يقول ان بيعة أبي بكر كانت فلتة ، ألا وانها كذلك الا أن الله وقى شرها ، وليس فيكم اليوم من تقطع اليه الأعناق مثل أبي بكر.

وانه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ عليّا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة وتخلفت الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة ، واجتمع المهاجرون الى أبي بكر فقلت له : يا أبا بكر انطلق بنا الى إخواننا من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم ـ أي نقصدهم ـ حتى لقينا رجلان صالحان فذكر لنا الذي صنع القوم ، قالا أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا : تريد إخواننا من الأنصار فقالا : لا عليكم أن تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين! فقلت : والله لنأتينهم ، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت : من هذا؟ قالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما له؟ قالوا : وجع.

فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة منكم أي دبّ قوم منكم بالاستعلاء والترفّع علينا تريدون أن تخزلونا من أصلنا وتحصنونا من الأمر أي تنحونا عنه وتستبدون به دوننا. فلما سكت أردت أن أتكلم وقد كنت زوّرت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي

٢٩٤

أبي بكر ، وقد كنت اداري منه بعض الحد وهو كان أحلم منّي وأوقر. فقال أبو بكر : على رسلك! فكرهت أن أغضبه وكان أعلم مني والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري الا قالها في بديهة وأفضل حتى سكت ، فقال : أما بعد ، فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ولم تعرف العرب هذا الأمر الا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين أيهما شئتم وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح فلم اكره ما قال غيرها ولان والله ان اقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من اثم أحب الي من ان اتأمر على قوم فيهم ابو بكر.

فقال قائل من الأنصار ـ أي هو الحباب بمهملة مضمومة فموحدة ـ ابن المنذر : انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب اي انا يشتفى برأيي وتدبيري وأمنع بجلدتي ولحمتي كل نائبة تنوبهم ، دل على ذلك ما في كلامه من الاستعارة بالكناية المخيل لها بذكر ما يلائم المشبه به ، إذ موضوع الجذيل المحكّك ـ وهو بجيم فمعجمة ـ تصغير جذل عود ينصب في العطن لتحتك به الإبل الجرباء ، والتصغير للتعظيم ، والعذق بفتح العين النخلة بجملها ، فاستعارة لما ذكرناه ، والمرجب بالجيم ، وغلط من قال بالحاء ، من قولهم ، نخلة وجبة ، وترجيبها ضم أعذاقها الى سعفاتها وشدها بالخوض لئلا ينفضّها الريح او يصل إليها آكل. منا امير ومنكم امير ، يا معشر قريش.

وكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف فقلت : ابسط يدك يا ابا بكر! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثمّ بايعه الأنصار. اما والله ما وجدنا فيما حضرنا امرا هو أوفق من مبايعة أبي بكر خشينا ان فارقنا القوم ولم تكن بيعة ان يحدثوا بعدنا بيعة فاما ان نبايعهم على ما لا نرضى واما ان نخالفهم فيكون فيه فساد ».

وقال : « ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخر علي والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور ، منها انهم رأوا ان الأمر تم بمن تيسّر حضوره حينئذ من اهل الحل والعقد ، ومنها انهم لما جاءوا وبايعوا اعتذروا كما مر عن الأولين من طرق

٢٩٥

بأنهم أخروا عن المشورة مع ان لهم فيها حقا لا للقدح في خلافة الصديق ، هذا مع الاحتياج في هذا الأمر لخطره الى الشورى التامة ، ولهذا مر عن عمر بسند صحيح ان تلك البيعة كانت فلتة ولكن وقى الله شرها! ».

السابع : لقد كان امير المؤمنين عليه‌السلام يرى بطلان خلافة أبي بكر لأنها كانت من غير مشورة من المسلمين ، ويشهد بما ذكرنا ما رواه الشريف الرضي رحمه‌الله في ( نهج البلاغة ) حيث قال :

« وقال عليه‌السلام : وا عجبا أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة.

وروي له شعر في هذا المعنى :

فان كنت بالشورى ملكت أمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وان كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك اولى بالنبي أقرب ».

قال ابن أبي الحديد : « حديثه عليه‌السلام في النثر والنظم المذكورين مع أبي بكر وعمر ، اما النثر فإلى عمر توجيهه لان ابا بكر لما قال لعمر : امدد يدك ، قال له عمر أنت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المواطن كلها ، شدتها ورخائها فامدد أنت يدك. فقال علي عليه‌السلام : إذا احتججت لاستحقاقه الأمر بصحبته إياه في المواطن [ كلها ] فهلا سلمت الأمر الى من قد شركه في ذلك وزاد عليه بالقرابة؟!

وأما النظم فموجه الى أبي بكر ، لان ابا بكر حاج الأنصار في السقيفة فقال نحن عشيرة [ عترة ] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيضته التي تفقأت عنه ، فلمّا بويع احتج على الناس ببيعته [ بالبيعة ] وانها صدرت عن اهل الحل والعقد ، فقال علي عليه‌السلام : امّا احتجاجك على الأنصار بأنك من بيضة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن قومه فغيرك اقرب نسبا منك اليه ، وامّا احتجاجك بالاختيار ورضا الجماعة بك فقد كان قوم من جملة الصحابة

٢٩٦

غائبين لم يحضروا العقد فكيف يثبت » (١).

الثامن : لقد استخلف ابو بكر عمر غير مشورة من المسلمين ، بل لقد أمره عليهم بالرغم منهم ، وتلك كتبهم تنطق بذلك ، فقد روى القاضي أبو يوسف بإسناده قال : « لما حضرت الوفاة أبا بكر رضي‌الله‌عنه أرسل الى عمر يستخلفه ، فقال الناس : أتستخلف علينا فظا غليظا لو قد ملكنا كان أفظ وأغلظ؟ فما ذا تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟ قال : أتخوفونني ربي [ بربي ]؟ أقول : اللهم أمرت خير أهلك » (٢).

وقال ابن سعد : « وسمع بعض اصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به ، فدخلوا على أبي بكر فقال [ له ] قائل منهم : ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك لعمر علينا وقد ترى غلظته ... » (٣).

وروى بإسناده عن عائشة قالت : « لما ثقل أبي دخل عليه فلان وفلان فقالوا يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ذا تقول لربك إذا قدمت عليه غدا وقد استخلفت علينا ابن الخطاب؟ فقال اجلسوني ، أبالله ترهبوني؟ أقول : استخلفت عليهم خيرهم.

... عن عائشة قالت : لما حضرت ابا بكر الوفاة استخلف عمر فدخل عليه علي وطلحة فقالا : من استخلفت؟ قال : عمر ، قالا : فما ذا أنت قائل لربك؟ قال : أبالله تفرقاني؟ لأنا أعلم بالله وبعمر منكما ، أقول : استخلفت عليهم خير أهلك » (٤).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٨ / ٤١٦.

(٢) الخراج : ١١.

(٣) طبقات ابن سعد ٣ / ١٩٩.

(٤) طبقات ابن سعد ٣ / ٢٧٤.

٢٩٧

ورواه المحب الطبري (١) والمتقى (٢) والوصابي (٣).

وروى ابن أبي شيبة في ( المصنف ) : « ان ابا بكر حين حضره الموت أرسل الى عمر يستخلفه ، فقال الناس : تستخلف علينا فظا غليظا؟ ولو قد ولينا كان أفظ وأغلظ ، فما تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر ... ».

ورواه شاه ولي الله ( والد الدهلوي ) (٤).

وقال محمد بن جرير الطبري « وعقد أبو بكر في مرضته التي توفى فيها لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده وذكر أنه لما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف فيما ذكر ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي سبرة عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : لما نزل بأبي بكر ـ رحمه‌الله ـ الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف فقال : أخبرني عن عمر! فقال : يا خليفة رسول الله! هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ولكن فيه غلظة : فقال أبو بكر : ذلك لأنه يراني رقيقا ولو أفضى الأمر اليه لترك كثيرا مما هو عليه ، ويا أبا محمد! قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضى عنه وإذا لنت له أراني الشدة عليه! لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا. قال : نعم! ثم دعا عثمان بن عفان فقال : يا أبا عبد الله! أخبرني عن عمر ، قال : أنت أخبر به ، فقال أبو بكر على ذاك ، يا أبا عبد الله! قال : اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأن ليس فينا مثله! قال أبو بكر رحمه‌الله : رحمك الله يا أبا عبد الله! لا تذكر مما ذكرت لك شيئا قال : أفعل. فقال له أبو بكر : لو تركته ما عدوتك! وما أدري لعله تاركه ، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئا ولوددت أني كنت خلوا من أموركم وأني كنت فيمن مضى من

__________________

(١) الرياض النضرة ١ / ٢٣٧.

(٢) كنز العمال ٥ / ٣٩٨.

(٣) الاكتفاء في فضل الأربعة الخلفاء ـ مخطوط.

(٤) قرة العينين ٢٧.

٢٩٨

سلفكم ، يا أبا عبد الله! لا تذكرن مما قلت لك من أمر عمر ولا مما دعوتك له شيئا!

ثنا : ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا يونس بن عمرو عن أبي السفر ، قال : أشرف أبو بكر على الناس من كنفيه وأسماء ابنة عميس ممسكته موشومة اليدين وهو يقول : أترضون بمن أستخلف عليكم فاني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة واني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا! فقالوا : سمعنا وأطعنا!

حدثني عثمان بن يحيى عن عثمان القرقساني قال : ثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل عن قيس ، قال رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه ، وبيده جريدة وهو يقول : أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، انه يقول : اني لم آلكم نصحا ، قال : ومعه مولى لابي بكر يقال له : شديد ، معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر.

قال أبو جعفر : وقال الواقدي : حدثني ابراهيم بن أبي النضر عن محمد ابن ابراهيم بن الحارث ، قال : دعا أبو بكر عثمان خاليا فقال له : اكتب « بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة الى المسلمين : أما بعد » قال ثم أغمي عليه فذهب عنه فكتب عثمان : أما بعد ، فاني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا [ منه ]. ثم أفاق أبو بكر فقال : اقرأ عليّ فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس ان افتلتت نفسي في غشيتي! قال : نعم! قال : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله وأقرها أبو بكر رضي‌الله‌عنه من هذا الموضع.

ثنا : يونس بن عبد الاعلى ، قال : ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال : ثنا الليث بن سعد ، قال : ثنا علوان عن صالح بن كيسان عم عمر بن عبد الرحمن ابن عوف عن أبيه أنه دخل على أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه في مرضه الذي توفي فيه ، فأصابه مهتما فقال له عبد الرحمن : أصبحت والحمد لله بارئا فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : أتراه؟ قال : نعم! قال : اني وليت أمركم

٢٩٩

خيركم في نفسي ، فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة ، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج وتألموا الاضطجاع على الصوف الاذري كما يألم أحدكم أن ينام على حسك ، والله لان يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا ، وأنتم أول ضال بالناس غدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا! يا هادي الطريق انما هو الفجر أو البحر. فقلت ، له خفض عليك رحمك الله فان هذا يهيضك في أمرك ، انما الناس في أمرك بين رجلين : اما رجل رأى ما رأيت فهو معك ، واما رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحب ، ولا نعلمك أردت الاّ خيرا ولم تزل صالحا مصلحا وانك لا تأسى على شيء من الدنيا.

قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : أجل! اني لا آسي على شيء من الدنيا الاّ على ثلث فعلتهن وددت أني تركتهن ، وثلث تركتهن وددت أني فعلتهن ، وثلث وددت أني سألت عنهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

فأما الثلث اللاتي وددت أني تركتهن فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وان كانوا قد علقوا على الحرب ، ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته سريحا ، أو خليته نجيحا ، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميرا وكنت وزيرا.

وأما اللاتي تركتهن فوددت أني يوم أتيت بالاشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه فانه يخيل الي أنه لا يرى شرا الا أعان عليه! ووددت أني سيرت خالد بن الوليد الى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة ، فان ظفر المسلمون ظفروا وان هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد ، ووددت أني كنت إذ وجهت خالد ابن الوليد الى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب الى العراق فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله ومديديه! ووددت أني كنت سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد! ووددت أني

٣٠٠