نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٨

وسلّم كان يوتر عند الأذان ، قال أحمد : « ثنا أسود ثنا شريك عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي رضي‌الله‌عنه : ان النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يوتر عند الأذان ، ويصلي الركعتين عند الاقامة » (١).

ومن الغرائب : فتيا أبي موسى بعدم نقض النوم الوضوء ، فقد قال السرخسي : « وكان أبو موسى الاشعري رضي‌الله‌عنه يقول : لا ينقض الوضوء بالنوم مضطجعا حتى يعلم بخروج شيء منه ، وكان إذا نام أجلس عنده من يحفظه ، فإذا انتبه سأله فان أخبر بظهور شيء منه أعاد الوضوء » (٢).

وقال الغزالي : « وأنكروا على أبي موسى الاشعري قوله : النوم لا ينقض الوضوء » (٣).

ومن فتاواه الباطلة ما جاء في [ الموطأ ] وهذا نصه : « مالك عن يحيى ابن سعيد : ان رجلا سأل أبا موسى الاشعري فقال : اني مصصت عن امرأتي من ثديها لبنا فذهب في بطني ، فقال أبو موسى [ الاشعري ] : لا أراها الاّ قد حرمت عليك.

فقال عبد الله بن مسعود : أنظر ما يفتي [ ما ذا تفتي ] به الرجل!! فقال أبو موسى : فما [ ذا ] تقول أنت؟

فقال عبد الله بن مسعود : لا رضاعة الا ما كان في الحولين.

فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم » (٤).

وفي [ المبسوط ] : قام ابن مسعود « الى أبي موسى ثم أخذ بأذنه وهو يقول : أرضيع فيكم هذا اللحياني؟ فقال أبو موسى : لا تسألوني ... ».

__________________

(١) المسند ١ / ١١١.

(٢) المبسوط ١ / ٧٨.

(٣) المستصفى ١ / ١٨٦.

(٤) الموطأ ٢ / ٦٠٧.

٢٠١

حرمة الفتيا بغير علم

ولنذكر في هذا المقام بعض الأحاديث الواردة في ذم الفتيا بغير علم وحرمتها :

روى الحافظ جلال الدين السيوطي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض » (١).

قال المناوي والعزيزي بشرحه ـ واللفظ للأول : « حيث نسب الى الله ان هذا حكمه وهو كاذب » (٢).

واخرج ابن الأثير : « ان عمرو بن العاص [ عبد الله بن عمرو بن العاص ] قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس ـ وفي رواية : من العباد ـ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضّلوا وأضلوا. وزاد في رواية قال عروة : ثم لقيت عبد الله بن عمرو على رأس الحول فسألته فرد علي الحديث كما حدث وقال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول. أخرجه البخاري ومسلم » (٣).

وقال : « وأخرجه الترمذي مختصرا ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العلماء ، ولكن يقبض العلماء ، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا » (٤).

وقال مجد الدين عبد السلام الحراني في [ المنتقى ] : « وعن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : من أفتى بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على الذي أفتاه. رواه أحمد وابن ماجة.

__________________

(١) الجامع الصغير.

(٢) التيسير في شرح الجامع الصغير ٢ / ٤٠٢.

(٣) جامع الأصول ٩ / ٢٣.

(٤) جامع الأصول ٩ / ٢٥.

٢٠٢

وفي لفظ : من أفتى بفتيا بغير علم كان اثم ذلك على الذي أفتاه. رواه أحمد وأبو داود ».

١١ ـ عدم الاطلاع على السنن

لقد كان في الصحابة من لم يبلغه كثير من أحكام الدين وسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلذا كانوا كثيرا ما يخالفون حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحكمون بخلافه ، بل ربما خالفوا صريح الكتاب ونصه.

وبالرغم من اشتهار قضاياهم فاننا نكتفي هنا بإيراد كلام الحافظ ابن حزم في هذا المورد حيث قال ما نصه :

« ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتأول فيه تأويلا يخرجه به عن ظاهره ، ووجدناهم رضي الله عنهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن ، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة : ان إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وان إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم ، وهكذا قال البراء ... قال : ما كل ما نحدثكموه سمعناه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [ و ] لكن حدثنا صحابنا ، وكانت تشغلنا رعية الإبل.

وهكذا [ وهذا ] أبو بكر رضي‌الله‌عنه لم يعرف فرض ميراث الجدة وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة ، وقد سأل أبو بكر رضي‌الله‌عنه عائشة في كم كفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟

وهذا عمر رضي‌الله‌عنه يقول في حديث الاستئذان : أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ ألهاني الصفق في الأسواق.

وقد جهل أيضا أمر املاص المرأة وعرفه غيره ، وغضب على عيينة بن حصن ، حتى ذكّره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى : وأعرض عن الجاهلين.

وخفي عليه أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باجلاء اليهود والنصارى من

٢٠٣

جزيرة العرب الى آخر خلافته ، وخفي على أبي بكر رضي‌الله‌عنه قبله أيضا طول مدة خلافته ، فلما بلغ عمر أمر باجلائهم فلم يترك بها منهم أحدا.

وخفي على عمر أيضا أمره عليه‌السلام بترك الاقدام على الوباء ، وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف.

وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صلاتي الفطر والأضحى ، هذا وقد صلاهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعواما كثيرة.

ولم يدر ما يصنع بالمجوس حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم ، ونسي قبوله عليه‌السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور ، ولعله رضي‌الله‌عنه قد أخذ من ذلك المال حظا كما أخذ غيره منه.

ونسي أمره عليه‌السلام بأن يتيمم الجنب فقال : لا يتيمم أبدا ولا يصلي ما لم يجد الماء وذكره بذلك عمار.

وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي عليه‌السلام لم يفعل ذلك فأمسك.

وكان يرد النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أو يود عن البيت حتى أخبر بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذن في ذلك ، فأمسك عن ردهن.

وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى بلغه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمره بالمساواة بينها ، فترك قوله وأخذ المساواة.

وكان يرى الدية للعصبة فقط حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ورث المرأة من الدية فانصرف عمر الى ذلك.

ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالا بمهور النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى ذكرته امرأة بقول الله عز وجل : وآتيتم إحداهن قنطارا ، فرجع عن نهيه.

وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : رفع القلم عن ثلاثة ، فأمر أن لا ترجم.

وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حدّ عليه

٢٠٤

فأمسك عن رجمها.

وأنكر على حسان الإنشاد في المسجد فأخبر هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسكت عمر.

وقد نهى عمر أن يسمى بأسماء الأنبياء وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه وبروح وهو أحد الصحابة الجلة منهم ، وبرى أبا أيوب الانصاري وأبا موسى الاشعري وهما لا يعرفان الا بكناهما من الصحابة ، ويرى محمد بن أبي بكر الصديق وقد ولد بحضرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجّة الوداع ، واستفتته أمه إذ ولدته ما ذا تصنع في إحرامها وهي نفساء. وقد علم يقينا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شك وأقرهم عليها ودعاهم بها ولم يغير شيئا من ذلك ، فلما أخبره طلحة وصهيب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم باباحة ذلك أمسك عن النهي عنه.

وهمّ بترك الرمي في الحج ثم ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعله فقال : لا يجب لنا أن نتركه.

وهذا عثمان رضي‌الله‌عنه ، فقد رووا عنه أنه بعث الى الفريعة أخت أبي سعيد الخدري ـ يسألها عما أفتاها به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمر عدتها وأنه أخذ بذلك.

وأمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر فذكره علي بالقرآن وان الحمل قد يكون ستة أشهر ، فرجع عن الأمر برجمها.

وهذه عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما خفي عليهما المسح على الخفين وعلى ابن عمر معهما ، وعلمه جرير ولم يسلم الا قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم بأشهر وأقرت عائشة أنها لا علم لها به وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي‌الله‌عنه.

وهذه حفصة أم المؤمنين سئلت عن الوطي يجنب فيه الواطي أفيه غسل أم لا؟ فقالت : لا علم لي.

وهذا ابن عمر توقع أن يكون حدث نهي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن

٢٠٥

كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمسك عنها ، وأقرأنهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يقل انه لا يمكن أن يخفي على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة ، وهؤلاء إخواننا يقولون فيما اشتهوا لو كان هذا حقا ما خفي على عمر.

وقد خفي على زيد بن ثابت وابن عمر وجمهور أهل المدينة إباحة النبي صلّى الله عليه وسلّم للحائض أن تنفر حتى أعلمهم بذلك ابن عباس وام سليم فرجعوا عن قولهم.

وخفي علي ابن عمر الاقامة حتى يدفن الميت حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال : لقد فرطنا في قراريط كثيرة.

وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحج على الافراد : انك تخالف أباك ، فقال : أكتاب الله أحق أن يتبع أم عمر؟ روينا ذلك عنه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.

وخفي على عبد الله بن عمر الوضوء من مس الذكر حتى أمرته بذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بسرة بنت صفوان ، فأخذ بذلك.

وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه ، وقد يعرض هذا في آي القرآن ، وقد أمر عمر على المنبر بأن لا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره ، فذكرته امرأة بقول الله تعالى « وآتيتم إحداهن قنطارا » فترك قوله وقال : كل أحد أفقه منك يا عمر ، وقال : امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ.

وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر ، فذكره علي بقول الله تعالى : ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) مع قوله تعالى : ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ* أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) فرجع عن الأمر برجمها.

وهمّ أن يسطو بعيينة بن حصن إذ قال له : يا عمر ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل ، فذكره الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول الله تعالى : ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) وقال له : يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين

٢٠٦

فأمسك عمر.

وقال يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : والله ما مات رسول الله ولا يموت حتى يكون آخرنا ، أو كلاما هذا معناه ، حتى قرئت عليه : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) ، فسقط السيف من يده وخر الى الأرض وقال : كأني والله لم أكن قرأتها قط.

قال الحافظ ابن حزم : فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن وقد ينساه البتّة ، وقد لا ينساه بل يذكره ولكن يتأول فيه تأويلا ، فيظن فيه خصوصا أو نسخا أو معنى ما ، وكل هذا لا يجوز اتباعه الا بنص أو اجماع ، لأنه رأي من رأى ذلك ولا يحل تقليد أحد ولا قبول رأيه ... » (١).

هذا ، ولقد ذكر هذه الجهالات وغيرها ابن القيم في ( أعلام الموقعين ) وقال : « وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء سفرا كبيرا ».

وانظر أيضا كتاب ( الإنصاف في بيان سبب الاختلاف ) لولي الله الدهلوي.

١٢ ـ مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفتوى

لقد كان في الاصحاب من يفتي بغير ما حكم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا أخبره أحد بذلك ضربه بالدرة ... قال جلال الدين السيوطي في ( مفتاح الجنة ) : « وأخرج البيهقي عن هشام بن يحيى المخزومي ان رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت ألها أن تنفر قبل أن تطهر؟ فقال : لا ، فقال له الثقفي : ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفتاني في مثل هذا المرأة بغير ما أفتيت ، فقام اليه عمر فضربه بالدرة ويقول : لم تستفتوني في شيء أفتى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ».

__________________

(١) الاحكام في أصول الاحكام ٢ / ١٢.

٢٠٧

١٣ ـ إباحة بعضهم شرب الشراب المثلث

لقد أباح عمر بن الخطاب شرب الشراب المثلث وان كان شديدا ، ثم لما أشكل على عبادة بن الصامت ذلك قال له عمر : « يا أحمق ... » وهكذا شخص لا يليق لان يكون مرجعا للامة حتى في غير المنصوصات ...

وقد روى هذه الواقعة فقيه الحنفية شمس الأئمة السرخسي واستخرج منها أحكاما عديدة حيث قال : « وعن محمد بن الزبير رضي‌الله‌عنه قال : استشار الناس عمر رضي‌الله‌عنه في شراب مرقق ، فقال رجل من النصارى : انا نصنع شرابا في صومنا ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : ايتني بشيء منه ، قال : فأتاه بشيء منه ، قال : ما أشبه هذا بطلاء الإبل ، كيف تصنعونه؟ قال : نطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، فصب عليه عمر رضي‌الله‌عنه ماء وشرب منه ، ثم ناوله عبادة بن الصامت رضي‌الله‌عنه وهو عن يمينه فقال عبادة : ما أرى النار تحل شيئا ، فقال عمر : يا أحمق أليس يكون خمر ثم يصير خلا فنأكله؟.

وفي هذا دليل إباحة شرب المثلث وان كان مشتدا ، فان عمر رضي‌الله‌عنه استشارهم في المشتد دون الحلو ، وهو مما يكون ممريا للطعام مقويا على الطاعة في ليالي الصيام ، وكان عمر رضي‌الله‌عنه حسن النظر للمسلمين وكان أكثر الناس مشورة في أمور الدين خصوصا فيما يتصل بعامة المسلمين .. » (١).

١٤ ـ بدع بعضهم

لقد كان في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحاب محدثات وبدع ، وقد كثر ذلك من معاوية بن أبي سفيان حتى أنكر عليه فيها سائر الاصحاب ....

قال محمد معين السندي ما نصه : « ثم ان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

__________________

(١) المبسوط ٢٤ / ٧.

٢٠٨

تمالئوا على الإنكار على من رأى رأيا بخلاف الحديث ، وقد كثر ذلك على معاوية بن أبي سفيان في محدثاته.

فمنها : تقبيله لليمانين ، أنكر عليه ذلك ابن عباس رضي الله عنهما لخلاف السنة.

ومنها : ترك التسمية في الصلوات جهرا لما قدم المدينة المطهرة ، أنكرت عليه ذلك المهاجرون والأنصار وقالوا : سرقت التسمية يا معاوية.

ومنها : انه نهى الناس عن متعة الحج ، فقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : تمتع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر وعثمان وأول من نهى عنه معاوية. والجمع بين حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا والتي فيما نهى عمر وعثمان رضي الله عنهما أما رجوعهما بعد القول بالنهي الى حد ذلك أو بالعكس ، وضبط ابن عباس أحد الأمرين فأخبر به ، وأما كون معاوية أول من نهى مع تقدم النهي بذلك عن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما على ما وقع في حديث الضحاك عن عمر حيث قال لسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه : ان عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قد نهى عن ذلك كما رواه الترمذي في الجامع ، فباعتبار أن نهيهما معناه بيان أنه غير مباح ، ونهى معاوية منع الناس جبرا من أن يأتوا به على مذهب علي رضي الله تعالى عنه وغيره من الصحابة ، فهو أول من نهى بهذا المعنى ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ومنها : قوله في زكاة الفطر اني أرى ان مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من تمر ، أنكر عليه ذلك أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وقال : تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها ، وذلك لما روى الأئمة الستة عنه : كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر ومملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب ، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال : اني أرى مدين من

٢٠٩

سمراء الشام. الحديث.

وفيه قال أبو سعيد : أما أنا فاني لا أزال أخرجه أبدا ما عشت ، ولما بلغ ابن الزبير رأي معاوية قال : بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ، صدقة الفطر صاع صاع.

وأولياته المحدثة لا تخفى كثرتها على عاثر علم الحديث » (١).

بل كان معاوية بن أبي سفيان ـ المجتهد! ـ يرتكب كبائر المحرمات الموبقة عالما عامدا بمرأى من الناس غير متحرج ، قال السندي بعد أن ذكر رواية معاوية حديث نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن جلود النمر مع استعمال معاوية إياها ، قال :

« وليس معاوية ممن يقال إذا عمل بخلاف مروية دل على النسخ ، مع أن هذا القول باطلاقه في عمل الراوي باطل ، ولو كان كذلك لما أخذ عليه المقدام في ذلك أخذة رابية ، ولنورد القصة في تمام الحديث فان في ذلك عبرة لكل محب العترة الطاهرة ـ الى كثير مما يستخرج من ذلك الحديث وسكتنا عنه تأسيا بالائمة الطاهرة في السكوت عن كثير مثل ذلك ، وهو حديث خالد قال :

وفد المقدام بن معد يكرب وعمرو بن الأسود ـ رجل من بني أسد ـ على معاوية بن أبي سفيان ، فقال معاوية : أما علمت أن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما توفي؟ فترجع المقدام رضي الله تعالى عنه فقال له : يا فلان أتعدها مصيبة؟ فقال : هذا مني وحسين من علي رضي الله تعالى عنهما قال فقال الأسدي : جمرة أطفأها الله تعالى ، قال فقال المقدام رضي الله تعالى عنه : أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره ، ثم قال : يا معاوية ان صدقت فصدقني وان كذبت فكذبني ، قال : أفعل ، قال : فأنشدك بالله هل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لبس الذهب؟ قال : نعم قال : فأنشدك بالله

__________________

(١) دراسات اللبيب ٩٥ ـ ٩٦.

٢١٠

هل تعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها؟ قال : نعم ، قال : فو الله لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية ، فقال معاوية : قد علمت أني لن أنجو منك يا مقدام. قال خالد : فأمر له معاوية بما لم يأمر لصاحبه وفرض لابنه في المائتين ، ففرقها المقدام على أصحابه ولم يعط الأسدي أحدا شيئا مما أخذ ، فبلغ ذلك معاوية فقال : أما المقدام فرجل كريم بسط يده ، وأما الأسدي فرجل حسن الإمساك لشيئه » (١).

هذا ، والجدير بالذكر هنا أن بعض أهل السنة من قصة وفود المقدام القسم التالي منها بغية تقليل الشناعة ، فرواها في ترجمة الامام الحسن السبط عليه‌السلام الى قول المقدام « وقد وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجره وقال هذا مني وحسين من علي » ففي ( كفاية الطالب ) (٢) للحافظ الكنجي بسنده عن خالد ابن معدان قال : « وفد مقدام بن معد يكرب وعمرو بن الأسود الى قنسرين فقال معاوية لمقدام : أعلمت أن الحسن بن علي توفي؟ فاسترجع مقدام ، فقال له معاوية : أتراها مصيبة؟ قال : ولم لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجره وقال هذا مني وحسين من علي.

قلت : رواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمته » ـ.

وانظر ( كنز العمال ) في باب فضائل الامام الحسن عليه‌السلام.

١٥ ـ مخالفة بعضهم للرسول

لقد كان في الاصحاب من خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصراحة ... فقد جاء في ( الموطأ ) ما نصه : « مالك عن زيد بن أسلم عن

__________________

(١) دراسات اللبيب ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) كفاية الطالب ٤١٤.

٢١١

عطاء ابن يسار : ان معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال [ له ] أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن مثل هذا الا مثلا بمثل ، فقال له معاوية : ما أرى بمثل هذا بأسا ، فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت بها ، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك. فكتب عمر بن الخطاب الى معاوية : ألا يبيع مثل ذلك الا مثلا بمثل ووزنا بوزن » (١).

ومن عجائب الصنائع الشنيعة إسقاط بعض أسلاف القوم ذيل خبر مالك المتقدم ، المشتمل على تجاسر معاوية ، لغرض التستر على اقترافه ومخالفته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما درى أن مراجعة الموطأ وشروحه ، وغيرها من كتب الحديث تكشف الواقع وتظهر حقيقة الحال.

قال النسائي في مسألة بيع الذهب بالذهب :

« حدثنا قتيبة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن مثل هذا الا مثلا بمثل » (٢).

وقال أبو الوليد الباجي في ( شرح الموطأ ) : « وفيما قاله أبو الدرداء تصريح بأن أخبار الآحاد مقدمة على القياس والرأي ، وقوله : « لا اساكنك بأرض أنت فيها » مبالغة في الإنكار على معاوية واظهار لهجره والبعد عنه حين لم يأخذ بما نقل اليه من نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم ويظهر الرجوع عما خالفه ».

وقال ابن الأثير الجزري : « عطاء بن يسار قال : ان معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال أبو الدرداء :

__________________

(١) سنن النسائي ٢ / ٢٢٣.

(٢) الموطأ ٢ / ٦٣٤.

٢١٢

سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن مثل هذا الا مثلا بمثل ، فقال له معاوية : ما أرى بمثل هذا بأسا ، فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يخبرني برأيه! [ عن رأيه ] لا اساكنك بأرض أنت [ كنت ] بها ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك ، فكتب عمر بن الخطاب الى معاوية ألا يبيع [ أن لا تبع ] ذلك الا مثلا بمثل وزنا بوزن ، أخرجه ( الموطأ ) وأخرج النسائي منه الى قوله مثلا بمثل » (١).

وقال فخر الدين الرازي في كتاب ( المحصول ) في مقام عمل الصحابة على وفق الخبر الواحد « عن أبي الدرداء (٢) سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عنه فقال معاوية : لا أرى بأسا ، فقال أبو الدرداء ، من معذري عن معاوية أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يخبرني عن رأيه! لا اساكنك بأرض أبدا ».

وقال أبو الحسن الآمدي في كتاب ( الاحكام في اصول الاحكام ) في مبحث العمل بخبر الواحد : « ومن ذلك ما روى أنه لما باع معاوية شيئا من أواني ذهب وورق بأكثر من وزنه أنه قال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن ذلك فقال له معاوية : لا أرى بذلك؟ بأسا! فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويخبرني عن رأيه! لا اساكنك بأرض أبدا ».

وقال جلال الدين السيوطي في ( مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ) « وأخرج البيهقي عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلّى الله

__________________

(١) جامع الأصول ١ / ٤٦٨.

(٢) حق العبارة في هذه الرواية أن تكون هكذا : لما باع معاوية شيئا من أوانى ذهب أو ورق بأكثر من وزنه قال له أبو الدرداء : سمعت ....

٢١٣

عليه وسلّم نهى عن مثل هذا الا مثلا بمثل. فقال له معاوية : ما أرى بأسا! فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية؟ أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض أنت بها! قال الشافعي : فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على معاوية بخبره ، فلما لم ير معاوية ذلك فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها إعظاما لأنه ترك خبر ثقة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ».

وقال بشرح الحديث : « فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويخبرني عن رأيه ، الى آخره. قال ابن عبد البر : كان ذلك منه أنفة من أن يرد عليه سنة علمها من سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برأيه ، وصدور العلماء تضيق عند مثل هذا وهو عندهم عظيم ردّ السنن بالرأى ، قال : وجائز للمرء أن يهجر من لم يسمع منه ولم يطعه ، وليس هذا من الهجرة المكروهة ، ألا ترى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر الناس ألا يكلّموا كعب بن مالك حين جلب عن تبوك قال : وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع الكلام عنه ، وقد رأى ابن مسعود رجلا يضحك في جنازة فقال : والله لا أكلمك أبدا! انتهى » (١).

وقال عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الديبع الشيباني : « وعن عطاء ابن يسار أن معاوية رضي‌الله‌عنه باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء رضي‌الله‌عنه : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن مثل هذا الا مثلا بمثل ، فقال معاوية : ما أرى بهذا بأسا! فقال له أبو الدرداء رضي‌الله‌عنه : من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يخبرني عن رأيه! لا اساكنك بأرض أنت بها! ثم قدم أبو الدرداء رضي‌الله‌عنه على عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فذكر له ذلك فكتب عمر الى معاوية أن لا تبع ذلك الاّ مثلا بمثل وزنا بوزن. أخرجه مالك والنسائي. السقاية : إناء

__________________

(١) تنوير الحوالك ٢ / ٥٩.

٢١٤

يشرب فيه.

وقال محمد بن محمد بن سليمان بن الفاسي الروداني المغربي المالكي في كتاب ( جمع الفوائد ) : « عطاء بن يسار ان معاوية باع سقاية من ذهب ـ أو ورق ـ أكثر من وزنها ، فقال أبو الدرداء : سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن مثل هذا الاّ مثلا بمثل. فقال له معاوية : ما أرى بمثل هذا بأسا! فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يخبرني عن رأيه ، لا اساكنك بأرض أنت بها ، ثم قدم أبو الدرداء على عمر فذكر له ذلك فكتب عمر الى معاوية أن لا يبيع ذلك الاّ مثلا بمثل وزنا بوزن ، للموطّإ والنسائي ».

وقال الزرقاني في ( شرح الموطّأ ) بشرحه « فقال أبو الدرداء : من يعذرني بكسر الذال المعجمة من معاوية ، أي من يلومه على فعله ولا يلومني عليه؟ أو من يقوم بعذري إذا جازيته بصنعه ولا يلومني على ما أفعله به ، أو : من ينصرني يقال : عذرته : إذا نصرته. أنا أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويخبرني عن رأيه. أنف من ردّ السنّة بالرأى. وصدور العلماء تضيق عن مثل هذا وهو عندهم عظيم ردّ السنن بالرأى. لا اساكنك بأرض أنت بها وجائز للمرء ان يهجر من لم يسمع منه ولم يطعه ، وليس هذا من الهجرة المكروهة ألا ترى أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر الناس أن لا يكلّموا كعب بن مالك حين تخلّف عن غزوة تبوك ، وهذا اصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجره وقطع الكلام عنه ، وقد رأى ابن مسعود رجلا يضحك في جنازة فقال : والله لا أكلمك ابدا! قاله ابو عمر. ثم قدم أبو الدرداء من الشام على عمر بن الخطاب المدينة فذكر ذلك له ، فكتب عمر بن الخطاب الى معاوية أن لا يبيع ذلك الاّ مثلا بمثل وزنا بوزن. بيان للمثل.

قال ابو عمر : لا أعلم ان هذه القصة عرضت لمعاوية مع ابى الدرداء الاّ من هذا الوجه ، وانما هي محفوظة لمعاوية مع عبادة بن الصامت والطرق متواترة بذلك عنهما. والاسناد صحيح وان لم يرد من وجه آخر فهو من الافراد

٢١٥

الصحيحة ، والجمع ممكن لأنه عرض له ذلك مع عبادة وأبو الدرداء.

وقال شاه ولي الله الدهلوي في ( المسوّى من أحاديث الموطّأ ) : « مالك ، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار انّ معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن مثل هذا الاّ مثلا بمثل ، فقال له معاوية : ما ارى بمثل هذا بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية؟! انا أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويخبرني عن رأيه! لا اساكنك بأرض أنت بها! ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب ـ رض ـ فذكر له ذلك فكتب عمر بن الخطاب الى معاوية بن أبي سفيان ألاّ تبع مثل ذلك الاّ مثل بمثل وزنا بوزن. قوله ، من يعذرني أي : من ينصرني ، والعذير : النصير ».

١٦ ـ بيع بعضهم الأصنام

ورووا ان معاوية باع الأصنام في عهد سلطنته ، ففي ( المبسوط ) ما نصه : « وذكر عن مسروق رحمه‌الله قال : بعث معاوية رحمه‌الله بتماثيل صفر تباع بأرض الهند ، فمر بها على مسروق رحمه‌الله قال : والله لولا أني أعلم انه يقتلني لغرقتها ، ولكني أخاف ان يعذبني فيفتنني ، والله لا أدري اي الرجلين معاوية : رجل زين له سوء عمله ، أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا؟

وقيل : هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة ، فأمر معاوية رضي‌الله‌عنه ببيعها بأرض الهند ليتخذ بها الاسلحة والكراع للغزاة ، فيكون دليلا لابي حنيفة رحمه‌الله في جواز بيع الصنم والصليب ممن يعبده كما هو طريقة القياس ، وقد استعظم ذلك مسروق رحمه‌الله كما هو طريق الاستحسان الذي ذهب اليه ابو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة ذلك.

ومسروق من علماء التابعين ، وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى ، وقد رجع ابن عباس الى قوله في مسألة النذر بذبح الولد ، ولكن مع

٢١٦

هذا قول معاوية رضي‌الله‌عنه مقدم على قوله ، وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم الوعيد بالبعض ، كما قال علي رضي‌الله‌عنه : من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد ـ يعني بقول زيد رضي‌الله‌عنه ـ.

وانما قلنا هذا لأنه لا يظن بمسروق رحمه‌الله انه قال في معاوية رضي‌الله‌عنه ما قال عن اعتقاد ، وقد كان هو من كبار الصحابة رضي الله عنهم وكان كاتب الوحي وكان امير المؤمنين ، وقد أخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالملك بعده ، فقال له عليه‌السلام يوما : إذا ملكت أمر أمتي فأحسن إليهم ، الا أن نوبته كانت بعد انتهاء نوبة علي رضي‌الله‌عنه ومضي مدة الخلافة ، فكان مخطئا في مزاحمة علي رضي‌الله‌عنه تاركا لما هو واجب عليه من الانقياد له ، لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا.

ويحكى أن أبا بكر محمد بن الفضل رحمه‌الله كان ينال منه في الابتداء ، فرأى في منامه كأن شعرة تدلت من لسانه الى موضع قدمه فهو يطؤها ويتألم من ذلك ، ويقطر الدم من لسانه ، فسأل المعبر عن ذلك فقال : انك تنال من واحد من كبار الصحابة رضي‌الله‌عنه فإياك ثم إياك.

وقد قيل في تأويل الحديث أيضا : ان تلك التماثيل كانت صغارا لا تبدو للناظر من بعد ، ولا بأس باتخاذ مثل ذلك على ما روي انه وجد خاتم دانيال عليه‌السلام في زمن عمر رضي‌الله‌عنه وكان عليه نقش رجل بين أسدين يلحسانه وكان على خاتم أبي هريرة ذبابتان ، فعرفنا أنه لا بأس باتخاذ ما صغر من ذلك.

ولكن مسروقا رحمه‌الله كان يبالغ في الاحتياط ، فلا يجوز اتخاذ شيء من ذلك ولا بيعه ، ثم كان تغريق ذلك من الأمر بالمعروف عنده ، وقد ترك ذلك مخافة على نفسه ، وفيه تبيين أنه لا بأس باستعمال التقية وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ، ومقصوده من إيراد الحديث أن يبين أن التعذيب بالسوط يتحقق فيه الإكراه كما يتحقق في القتل ، لأنه قال : لو علمت أنه يقتلني لغرقتها ولكن أخاف أن يعذبني

٢١٧

فيفتتني ، فتبين بهذا أن فتنة السوط أشد من فتنة السيف » (١).

أقول : ولا يخفى على النبيه ما في هذا الكلام من فوائد ، ولا سيما قوله : « وفيه تبيين أنه لا بأس باستعمال التقية ... ».

وأما ما ذكره للذب عن معاوية فواضح الهوان.

١٧ ـ مخالفة بعضهم لصريح الكتاب

لقد كان في الاصحاب من يرد الحكم المنصوص في الكتاب ، ومن كان هذا دأبه لا يكون الاقتداء به موجبا للهداية ، ولا يجوز أن ترجع اليه الامة في المنصوصات وغيرها ... قال الغزالي في مبحث حجية خبر الواحد : « ثم اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان ، الشبهة الاولى قولهم : لا مستند في اثبات خبر الواحد الا الإجماع فكيف يدعى ذلك وما من أحد من الصحابة الاّ وقد رد خبر الواحد. ثم قال بعد ان ذكر طرفا من شواهد ذلك : لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه الذي رويناه قاطع في عملهم وما ذكرتموه رد لاسباب عارضة تقتضي الرد ولا تدل على بطلان الأصل ، كما ان ردهم بعض نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض انواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل » (٢).

بل لقد ترك الاصحاب كتاب الله على عهد عمر بن الخطاب حتى ذمهم عليه ، فقد قال الحافظ ابن حزم : « أخبرني أحمد بن عمر العذري ، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى البلوي غندر ، ثنا خلف بن قاسم ثنا ابو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي ، ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النظري الدمشقي ثنا أبو مسهر ثنا سعيد بن عبد العزيز عن اسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن يزيد بن أخت نمر : انه سمع عمر بن الخطاب يقول :

__________________

(١) المبسوط فقه الحنفية ـ كتاب الإكراه : ٢٤ / ٤٦.

(٢) المستصفى ١ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

٢١٨

ان حديثكم شر الحديث : [ و ] ان كلامكم شر الكلام ، فإنكم قد حدّثتم الناس حتى قيل : قال فلان ، وقال فلان ، ويترك كتاب الله ، من كان فيكم [ منكم ] قائما فليقم بكتاب الله والاّ فليجلس. فهذا قول عمر لا فضل قرن على وجه الأرض فكيف لو أدرك ما نحن فيه من ترك القرآن وكلام محمد صلّى الله عليه وسلّم والإقبال على ما قال مالك وأبو حنيفة والشافعي؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وانّا لله وانّا اليه راجعون » (١).

وقد رواه ابن القيم عن أبي زرعة كذلك ، وعلق عليه بمثل كلام ابن حزم المذكور (٢).

١٨ ـ ابن عباس : ما سألوا النبي إلا عن ثلاث عشرة مسألة

عن ابن عباس قال : « ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ما سألوه الاّ عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن ، منهن : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ) و ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ).

قال : ما كانوا يسألون الاّ عما ينفعهم » (٣).

أقول : وهذا يكشف عن عدم عنايتهم بالاحكام الشرعية ، والا لسألوه صلّى الله عليه وسلّم منتهزين فرصة وجوده بين أظهرهم. هذا شأن هؤلاء القوم ، ومعه كيف يقال بأنهم متبعون فيما كان غير منصوص في الكتاب والسنة؟

١٩ ـ خفاء الأمور والاحكام الواضحة عليهم

لقد خفي على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوضح أموره وهم

__________________

(١) الاحكام في أصول الاحكام ٦ / ٩٧.

(٢) اعلام الموقعين ٢ / ١٧٦.

(٣) الإنصاف في بيان سبب الاختلاف : ١٣.

٢١٩

حواليه صلّى الله عليه وسلّم وحاضرون عنده.

قال ولي الله : « ومنها اختلاف الوهم في التعبير ، مثاله أن رسول الله حج ، فرآه الناس ، فذهب بعضهم الى انه كان متمتعا ، وبعضهم الى انه كان قارنا ، وبعضهم الى انه كان مفردا » (١).

وإذا كان هذا حالهم فلا يستحقون قطعا لان يكونوا هداة الامة من بعده.

وقال الحافظ ابن عبد البر : « قرأت على أبي عبد الله محمد بن عبد الله ان محمد بن معاوية القرشي أخبرهم قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان الانماطي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد الحميد قال حدثنا الاوزاعي قال حدثنا عطاء بن أبي رباح قال سمعت ابن عباس يخبر ان رجلا أصابه جرح على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ثم اصابه احتلام ، فأمر بالاغتسال فقر فمات ، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : قتلوه قتلهم الله ، ألم يكن شفاء العي السؤال؟. » (٢).

ومما يقطع به كل عاقل : ان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يأمر بالاقتداء بهكذا أناس مطلقا ....

٢٠ ـ لا يجوز الاستنان بالرجال

قال الحافظ ابن عبد البر : « حدثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد قالا حدثنا قاسم بن إصبع قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا بشر بن حجر قال حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي عن عطاء ـ يعنى ابن السائب ـ عن أبي البختري عن علي قال : إياكم والاستنان بالرجال ، فان الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب ـ لعلم الله فيه ـ فيعمل بعمل أهل

__________________

(١) الإنصاف في بيان سبب الاختلاف : ٢٨.

(٢) جامع بيان العلم ١١٥.

٢٢٠