الرسائل التسع

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

الرسائل التسع

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


الموضوع : الفقه
الناشر: انتشارات زهير
الطبعة: ٠
ISBN: 964-8076-27-8
الصفحات: ٣١٥

التّراجيح». انتهى كلامه رفع مقامه.

ولم يعلم مراده ، من المساواة بعد الفراغ ، عن ثبوت نفي الحرج في الشّريعة فتدبّر.

ثمّ أنّ ما ذكرنا كلّه ، إنّما هو في ملاحظة القاعدة مع العمومات الاجتهاديّة المثبتة بعمومها للتّكليف الحرجي.

وأمّا إذا قابلت الاصول العمليّة ، كالاحتياط في موارد العلم الإجمالي بالتّكليف فيما يفضي إلى الحرج ، كما في الشّبهة الغير المحصورة ونحوها ، فتقديمها عليها أوضح ، من حيث أنّها واردة عليها لا حاكمة ؛ حتّى يتوهّم التّعارض ، فافهم.

تنبيهات :

هذا بعض الكلام في أصل القاعدة وبقي هنا امور ، ينبغي التّعرض لها توضيحاً لها ، وتتميماً للكلام فيها.

الاول : حاكمية القاعدة على تمام أنواع التكاليف

الاوّل : إنّ ما ذكرنا من عدم مقاومة أدلّة التّكاليف لقاعدة نفي الحرج يعمّ جميع التّكاليف الإلزاميّة من الوجوبيّة بأقسامها من النفسيّة ، والغيّرية ، والتعبديّة ، والتوصليّة ، والعينيّة ، والكفائيّة ، والتبعيّة والتّحريميّة كذلك ، وأمّا التّخييريّة المقابلة للتّعيينيّة فهل ينفى بقاعدة نفي الحرج ، فيما كان العسر بالنّسبة إلى بعض أفراد الواجب المخيّر ، كما إذا فرض الصّوم عسراً ، بالنّسبة إلى من كلّف بالكفّارة ، المخيّر بينه ، وبين الإطعام والعتق مثلاً ، أو لا.

صريح بعض أفاضل من قارب عصرنا : الثّاني ؛ نظراً إلى عدم شمولها لنفي غير الإلزاميّة من الاحكام ، كما ستقف عليه ؛ لوحدة الوجه ، ومناط عدم الشّمول.

وهو جيّد ، لا ينبغي الإشكال فيه ، بناءً على عدم الشّمول ، على ما سنشير اليه عن قريب.

٢٤١

نعم هنا كلام بالنّسبة إلى المحرّمات ، لا من حيث شمولها فإنّه ممّا لا اشكال فيه ، بل من حيث أنّ التمسّك بها لتسويغ جميع المحرّمات الإلهيّة ، المتعلّقة بالنّفوس والأعراض والأموال ، من دون ملاحظة فتوى الفقهاء بموجبها ، لعلّه يوجب فقهاً جديداً كما أشرنا اليه سابقاً ، فهذه النّكتة لا بدّ من ملاحظتها.

الثاني : في لزوم الخروج عن القاعدة في الفعل الحرجي نوعاً

الثّاني : إنّ ما ذكرنا من لزوم تخصيص القاعدة والخروج عنها ، بما ثبت في الشّرع من التّكاليف بالعنوانات الحرجيّة ، إنّما هو بالنّسبة إلى الحرج الثّابت في نوع الفعل المزبور ، كالحرج الثّابت في نوع الحجّ والجهاد والصّيام ، في أيّام الصّيف لغالب المكلّفين.

أمّا إذا فرض هناك حرج شديد ، من جهة ضعف بعض المكلّفين لهرم وغيره فيمكن التّمسك بالقاعدة لنفي التّكليف في حقّه. ومن هنا تمسّك بها غير واحد من الفقهاء لنفي التّكاليف المذكورة في جملة من فروع الفرض ، بل ورد النّصّ به في بعضها ، فراجع.

الثالث : عدم شمول مفاد القاعدة لغير الاحكام الالزامية

الثّالث : إنّه لا إشكال ، كما صرّح به غير واحد ، في عدم شمول القاعدة لغير الأحكام الإلزاميّة وليست ، كقاعدة قبح التّكليف بما لا يطاق الشّاملة لجميع الأحكام حتّى الإباحة ، وهذا ممّا لا كلام فيه ظاهراً ، ومن هنا جزموا بصحّة العبادات الشاقة المستحبّة ، كصوم الدهر غير العيدين واحياء الليالي في تمام العمر ، ممّا يشقّ على النّفس ، ما لم يوجب ضرراً على النّفس ولو ظنّاً ، والمسير إلى الحجّ متسكعاً وإيثار الغير بما لا يضطرّ إليه من المال ، على النّفس مع الحاجة ، إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة ، بل قيل إنّ هذه درجة المتّقين ، ومرتبة الزّاهدين لا يسع القيام بها ، إلَّا للأوحدي من النّاس.

٢٤٢

إنّما الكلام في وجه عدم الشّمول ، فهل هو من جهة انتفاء الحرج ، موضوعاً مع التّرخيص في التّرك ، أو من جهة أنّ المنفي بأدلّة نفي الحرج ، مع تحقّق الموضوع ، في المستحبات ، كالواجبات من غير فرق بينهما في تحقّقه.

هو أنّ الظّاهر من أدلّته عدم تسبّب الشّارع وجعله لإلقاء النّاس في الحرج ، بحيث يستند وقوعهم فيه إلى جعله ، فلا يشمل ما رخص الشارع في تركه ؛ لأجل ذلك لا لعدم صدق أصل الموضوع مع الترخيص المذكور.

وجهان :

أوجههما الثّاني ، وإن كان المستفاد من كلام غير واحد من مقاربي عصرنا الأوّل ، قال في الفصول (١) : ثمّ اعلم أنّ نفي الحرج مختصّ بالإيجاب والتّحريم ، دون النّدب والكراهة لأنّ الحرج إنّما هو في الإلزام لا الترغيب في الفعل لنيل الثّواب إذا رخّص في المخالفة وساق الكلام. إلى أن قال : «بل الظاهر ، عدم جريانه في الواجب المخيّر أيضاً ؛ إذا تجرّد بعض آحاده عن الحرج ؛ للبيان الّذي سبق» ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ صدق الموضوع وتحقّقه لا تعلّق له بالحكم أصلاً ، فليس الوجه إلَّا ما عرفت من قصر المراد من دليل نفيه ، على ما كان جعل الشّارع سبباً قريباً لإلقاء المكلّف فيه ، بحيث يسند وقوعه فيه ، إلى جعله.

وهو الوجه في عدم شموله لنفي الوجوب التّخييري أيضاً ، في الفرض الّذي ذكره ، لا ما ذكره. فنفي الحرج نظير نفي الضّرر في الإسلام بمقتضى ما دلّ عليه ، من حيث قصر دلالته على ما كان جعل الشارع موجباً ؛ لإلقاء النّاس في الضّرر ، كوجوب الوفاء بالعقد مع الغبن ، والعيب مع الجهل لا مع العلم ، حيث أنّه مع الخيار وعدم اللّزوم عند الجهل ، أو اللزوم مع العلم ، لا يرتفع معه موضوع الضّرر ، إلَّا أنّه ليس ممّا أوجب جعل الشّارع ، وقوع المكلّف في الضّرر ، وإن زعم كون الوجه في الصحة قاعدة الإقدام ، إلَّا إنّ المتأمّل ، يعلم أنّه لا وجه للقاعدة المذكورة ، إلّا ما ذكرنا في وجه عدم

__________________

(١) الفصول : ٣٣٥.

٢٤٣

شمول قاعدة نفي الضّرر.

ومن هنا قيل بصحة الصّوم وغيره من العبادات ، إذا كان في الواقع مضرّاً ، مع اعتقاد المكلّف السلامة وعدم الضّرر ، وكذا قيل بالقصر في السّفر ، المضرّ بحال المكلّف ، مع اعتقاد عدم الضرر. وليس الوجه في ذلك كلّه إلّا ما عرفت.

نعم لو فرض هناك ضرر يحكم العقل بوجوب دفعه ، كالضّرر على النّفس والطرف والعرض ، كان تجويزه منافياً لحكم العقل ، لا ما كان من قبيل المال الغير الداخل في عنوان الإسراف ، فهو نظير الحرج ، الّذي يحكم العقل بوجوب دفعه.

كالبالغ حدّ الاختلال ، حيث أنّه لا يفرق فيه بين الحكم الوجوبي والاستحبابي ، بل بينهما والإباحة.

ومن هنا قد يستشكل ، في اجتماع المستحبّات ، في زمان لا يسع لها ، حيث أنّه موجب للاختلال ، بل الجمع بين المستحبّات الواقعة في الشريعة بحسب أجزاء الزمان ممّا لا يقدر عليه فكيف يمكن الحكم باستحبابها جمع.

ومن هنا قيل بأنّه من باب التّزاحم فيقدّم أهمّها كما في تزاحم الواجبات ، أو بالتّخيير ولو كان بعضها أهمّ ، من حيث التّبعيض في المستحبات ، إلى غير ذلك. فأفهم حتّى لا يختلط عليك الأمر بين الضّررين والحرجين.

الرابع : مشروعية العبادات الحرجية المنفية بالقاعدة

الرّابع : أنّه لا إشكال ظاهراً عندهم ، في مشروعيّة العبادات الواجبة ، فيما يحكم بعدم وجوبها ؛ لقاعدة نفي الحرج ، كالصوم الحرجي والطّهارة الحرجيّة من الغسل ، أو الوضوء للغايات الواجبة والصلوة قائماً ، فيمن كان القيام في حقه عسراً ، من جهة المرض وغيره ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، بل هو قضيّة صريح غير واحد منهم. فليس الحكم بعدم الوجوب من جهة القاعدة ، كالحكم به من جهة الضّرر المنفي معه ، جواز الفعل فيما كان مجامعاً مع العبادة.

٢٤٤

مناقشة كاشف

الغطاء ولم أقف على من حكم بعدم مشروعيّة العبادات الحرجيّة ، إلّا فقيه عصره ، في كشف الغطاء (١) ، حيث أنّه حكم بمساواتها ، مع العبادات الضّرريّة ، في عدم المشروعيّة حيث قال : في طي مشتركات العبادات البدنيّة ، في عداد ما يعتبر في صحّة العبادة ، ما هذا لفظه.

«ومنها أن لا يبلغ في عبادته حد الطاقة ولزوم الحرج ، فمتى تجاوز حد الوسع ، فسدت عبادته.

وإذا حصل لها مانع من ضرر معتبر في بدنه ، أو تقية ، فعمل معرضاً عنه بطل عمله». انتهى كلامه رفع مقامه.

إنّما الإشكال في وجهها وقد بنى على بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب بانياً ، على بقاء الجنس بعد ذهاب الفصل المتحقّق في ضمنه.

وهو كما ترى في كمال ظهور الفساد ، حيث أنّ دليل نفي الحرج كاشف ، عن عدم جعل الوجوب للفعل الحرجي ، بل التّحقيق في مسألة نسخ الوجوب أيضاً ذلك ، حيث أنّ الرّفع هناك صوريّ لا حقيقيّ ؛ ضرورة كشف النّاسخ عن انهاء زمان امتداد الحكم ، فلا تعلّق لها بمسألة بقاء الجنس بعد ذهاب الفصل المتحقّق في ضمنه.

فالحقّ فساد الابتناء والمبني معاً.

هذا مع أنّ الحقّ عند المحقّقين عدم إمكان بقاء الجنس بعد ذهاب الفصل.

مناقشة صاحب الفصول

هذا وفي كلام بعض مقاربي عصرنا في وجه المسألة ما لا يخلو ، عن المناقشة ، بل المناقشات بظاهره ؛ فلا بدّ من نقل كلامه ، أوّلاً ، ثمّ نشير إلى ما يرد عليه بظاهره ،

__________________

(١) كشف الغطاء ١ : ٣٣٣.

٢٤٥

قال قدس‌سره في الفصول (١) : «ثمّ إذا اشتمل الواجب التّعييني ، على مشقّة شديدة لا يتحمّل مثلها عادة ، فلا إشكال في سقوط وجوبه التّعييني وفي بقاء وجوبه على وجه التّخيير ، لو كان له بدل اضطراري خال ، عن المشقّة ، كالغسل في البرد الشّديد مع أمن الضّرر ، أو بقاء رجحانه على وجه الاستحباب ، مع عدم البدل ، عند عدم قيام دليل عليه.

وجهان : من أنّ زوال الفصل يوجب زوال الجنس فيحتاج إثباته في ضمن فصل آخر إلى دليل ، كما مرّ.

ومن الجمع بين الحكمة القاضية بوجوب الفعل ، والحكمة القاضية بنفي الحرج. وهو الاقوى ويدلّ عليه ، ثبوت الرجحان قبل دخول وقت الواجب ؛ لعدم المانع ، فلا يعقل تحريمه بعده». انتهى كلامه رفع مقامه.

ويتوجّه عليه : أوّلاً : أنّ الحكمة القاضية بالوجوب التّعييني كيف تقتضي بقاء الوجوب التّخييري مع عدم ثبوته من أوّل الامر ، هذا مع أنّ الفرد الآخر الّذي هو بدل ، كان بدلاً اضطراريّاً وواجباً تعيّنيّاً في مرتبته ؛ فكيف صار بدلاً اختياريّاً وواجباً تخييريّاً؟ والحاصل : أنّ الحكمة المقتضية لنوع خاصّ من الطّلب لا تقتضي ، نوعاً آخر مع وجود المانع ، عن اقتضائه.

وثانياً : أنّ بقاء الاستحباب فيما لا بدل له ، مع عدم ثبوته سابقاً أصلاً ، إنّما يستقيم بعد الاغماض ، عن عنوان البقاء بإرادة مطلق الثّبوت في الزّمان اللّاحق ، وإن لم يكن موجوداً في الزّمان السابق ؛ ضرورة عدم اشتمال الخطاب الوجوبي على الخطاب الاستحبابي وإن قيل : بأنّ الشّديد القويّ يتضمّن للضّعيف بنحو من التضمّن ، لا بمعنى وجوده في ضمنه بحدّه ، حتّى يكون هناك موجودان وفردان في الخارج ، ضرورة امتناع ذلك ، كما برهن عليه في محلّه ، فيما علم كون المصلحة المقتضية للطّلب الالزامي إذا جامعت مع المانع ، عن اقتضائها له يقتضي طلباً غير الزاميّ يعبّر عنه بالاستحباب ،

__________________

(١) الفصول : ٣٣٦.

٢٤٦

ومن أين هذا رأي دليل عليه وبالجملة الترتب في الاقتضاء مع وحدة المقتضي يحتاج ثبوته إلى دليل ومجرّد الاحتمال لا يجدي ، بعد توقيفيّة الأحكام الشّرعيّة.

وثالثاً : أنّ الرّجحان ، قبل دخول الوقت بالذّات ، لا يلازم الرجحان للغاية الواجبة ، حتّى يستنتج منه الوجوب التّخييريّ الغيري للغاية الواجبة ، كما هو المفروض.

هذا والّذي ينبغي تحرير المقام به على ما يساعده نظري القاصر. أن يقال : أنّ الواجب الغيريّ ، على ما يستكشف من نفس دليل نفي الحرج ومن الخارج ، بل الوجدان ، لا ينقلب من جهة تعسره عمّا هو عليه ، من الجهة والرّجحان الذّاتي والحسن. غاية ما هناك إلقاء الشارع ، لتلك الجهة ، من حيث اقتضائها للإلزام ، من جهة رعاية العنوان الأهمّ في نظره ، فرجحان الفعل وحسنه موجودان في موارد الحرج من غير أن يعنون بعنوان آخر من الطّلب ، كالوجوب التّخييري والاستحباب ، وهذا المقدار من الرجحان للفعل ذاتاً يكفي ، للحكم بصحّة العبادة ؛ لعدم توقفها على أزيد من ذلك من الطلب بقسيمه.

ومن هنا حكموا بصحّة العبادة في موارد لا يوجد فيها الوجوب والاستحباب ، كالوضوء بعد دخول الوقت ، قبل فعل الواجب ، للغايات المستحبّة ، مع أنّه بعد الوقت لا يكون إلّا واجباً وكذا الوضوء لها عند ضيق الوقت ، للوضوء للصلاة ، بحيث يكون مأموراً بالتّيمم على القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النّهي ، عن ضدّه الخاصّ ، على ما حقّقناه في محلّه ومثل العبادات الواجبة في حقّ المميّزين على القول بشرعيّتها وصحّتها في حقّهم ، كما اختاره المحقّقون على القول بعدم استفادة الأمر النّدبي من أمر الأولياء إيّاهم بالعبادات وكالعبادات مع الإخلال ببعض ما يعتبر فيها ، سهواً ، إذا لم يكن من الأركان ، أو بالإخلال بالقصر جهلاً في حقّ المسافر ، أو بكلّ من الجهر والإخفات جهلاً ، إلى غير ذلك.

فإنّ المصحّح في الجميع ليس إلَّا فعل ما يكون واجباً بالذات بداعي كونه كذلك

٢٤٧

عند المولى ، من غير تعلّق أمر به أصلاً ، على ما فصّل القول في كلّ ، في محلّه ، بل المصحّح عند من يقول : بصحّة العبادة ، مع قصد الخلاف ، ليس إلّا ذلك في وجه.

وبالجملة يكفي في قصد التّقرب المعتبر في صحّة العبادة كون الفعل راجحاً عند المولى وان لم يتعلّق به أمر ، من جهة قصور في المكلَّف ، أو المكلَّف به ، فالواجب في حقّ من يكون [فعل] الطّهارة له حرجيّاً وعسراً ، ليس إلَّا التّيمم ، للغاية الواجبة على سبيل التّعيين ، لا التّخيير ، إلَّا أنّه إذا تطهّر بالطهارة المائية ، من حيث كونها راجحة ، ارتفع حدثه ، فيسقط عنه ، وجوب التّيمّم من حيث ارتفاع موضوعه ، لا للإتيان بفرد آخر من الواجب التّخييري إذ المسقط أعمّ من الواجب ؛ لأنّه كثيراً ما يحصل سقوط الواجب بغير الواجب ، بل بما لا يمكن وجوبه على المكلّف.

هذا إذا تمكّن من التّيمّم وأمّا إذا عجز عنه لفقد ما يتيمّم به ، فلا تجب عليه الصلاة ، لكن لو تحمل العسر وتوضّأ من حيث رجحانه الذّاتي تعلّق به الأمر الوجوبي بالصلاة من حيث كونه واجداً للطّهارة.

هذا إذا كان فعل الطّهارة في حقّه حرجيّاً وأمّا إذا كان تحصيل الماء في حقّه حرجيّاً فيتعيّن في حقه التيمّم أيضاً ، لكن لو تحمّل الحرج في تحصيل الماء وفعله ، لم يجز له التيمّم ، من حيث دخوله في عنوان واجد الماء ، وكذا من يكون الصّوم في حقّه حرجياً مع عدم تضرّره به ، لا يجب عليه الصّوم ، ولا يستحبّ في حقّه إلَّا أنه لو تحمّل العسر وصام ، من حيث حسنه ورحجانه الذّاتي ، كان هذا الصّوم عنه صحيحاً مشكوراً مسقطاً للقضاء ، مع عدم وجوبه وعدم استحبابه في حقّه. وهكذا الأمر في جميع فروض المسألة فلا فرق في حكم العبادة الواجبة الحرجيّة من حيث سقوط وجوبها رأساً وعدم تعلّق طلب آخر بها ورجحانها الذّاتي المصحّح لقصد التقرّب بالعبادة بين ماله بدل ، وما لا بدل له ، فلعلّ مراد الفاضل المتقدّم ذكره ، من الوجوب التّخييري في الفرض الاوّل ، ما هو لازمه من ترتّب السّقوط على الفعل الحرجي ومن الاستحباب في الفرض الثّاني ، هو الرجحان الذّاتى ، لا الاصطلاحي ، ويكشف عنه ، تعليله بوجود

٢٤٨

الحكمة وجهة الطّلب ، ويكون المراد ممّا ذكره أخيراً ، أنّ دخول الوقت لو لم يكن مؤكّداً للرجحان لم يكن موجباً لمفسدة في الفعل غاية ما هناك سقوط الوجوب ؛ بدليل نفي الحرج ، فلا معنى للحكم بارتفاع الجهة ، فلا يزيد التمسك بالاستصحاب حتّى يتوجّه عليه المناقشة ، بارتفاع الموضوع ولا الحرمة الذّاتية حتّى يتوجّه عليه ، بعدم الالتزام بها حيث إنّه على القول ، بعدم الجواز ، يراد بها الحرمة من جهة عدم الامر ، فينطبق ما ذكره على ما ذكرنا فلا يتوجّه عليه شيء من المناقشات المذكورة ، فتدبّر.

الحرج المنفي هو الحرج النوعي

الخامس : إنّ المنفي بعمومات نفي الحرج ، هل الحرج النّوعي الغالبي بمعنى أنّه إذا كان فعل حرجاً وضيّقاً في حقّ الغالب فوجوبه مرتفع ، حتّى في حقّ من لا حرج له أصلاً ، وكذا ما لا يكون حرجاً في حقّ الغالب ، لا يرتفع وجوبه حتّى في حقّ من كان الفعل حرجاً بالنّسبة اليه ، أو الشخصي فلا يرتفع إلّا عمنّ كان حرجاً في حقّه فيلزمه ، بقاء الحكم في الفرض الاوّل وارتفاعه في الفرض الثّاني؟

وجهان ، بل قولان :

ربما ينسب الاوّل إلى المشهور وقد اختاره بعض أفاضل (١) من قارب عصرنا ، في كلامه المتقدّم نقله ، عند الكلام في وقوع التّكاليف الحرجيّة في الشّرع ، في الجملة.

وصريح الفاضل النّراقي (٢) وشيخنا (٣) الاستاذ العلّامة ٠ الثّاني.

ومحلّ الكلام ، ما إذا استند رفع الحكم إلى القاعدة وعمومات نفي الحكم الحرجي ، بمعنى كون الحرج علّة ، لا إلى دليل خاصّ وإن لوحظ الحرج فيه حكمة ؛ ضرورة عدم

__________________

(١) الفصول : ٣٣٦.

(٢) العوائد : ١٨٧ ، البحث الرابع.

(٣) مفاتيح الاصول : ٥٣٧.

٢٤٩

لزوم الاطّراد في الحكمة ، كما إنّ محلّه فيما تحقّق الحرج بالنّسبة إلى بعض دون الغالب ، فيما إذا اشترك الغالب معه بحسب الحالة ، ومن هنا يمكن الحكم ، بعدم تحقّق مصداق لهذا الفرض ؛ نظراً إلى أنّ لزوم الحرج في حقّ بعض الأشخاص إذا استند إلى بعض الصفات المختص بها كالبخل ، وخسّة النّفس ، فقد عرفت عدم إرادته من دليل نفي الحرج.

وبالجملة الحرج قد يكون علّة ، وقد يكون حكمة والّذي يبحث عنه هو ، الاوّل ، لا الثّاني ، لعدم الإشكال ، بل الخلاف في الثّاني أصلا. وهذا الكلام كما ترى جار في الضّرر المنفيّ في الشّرع أيضاً ؛ فانّ سبيله من هذه الجهة ، سبيل نفي الحرج.

والّذي يقتضيه التّحقيق الثّاني ، لظاهر الخطاب من حيث تعلّقه بكلّ مكلّف ، في قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)(٢) الآية ونحوهما. لا بالمجموع من حيث المجموع فتدبّر.

هذا مضافاً إلى إنّ ما دل على نفيه من الآيات والأخبار ، يمنع من إرادة الوجه الأوّل ، حيث أنّ تفويت المصلحة الملزمة في حق من لا يكون الفعل بالنّسبة اليه حرجاً ، لا تدارك له أصلاً فرفع الحكم عنه ليس فيه امتنان أصلاً.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ المصرّح به في بعض الاخبار المتقدّمة ، لفظة أحدكم ، وهو ظاهر أيضاً في إرادة المعنى الثّاني.

وربما يستشكل فيما ذكرنا ، بأنّ موارد بعض الآيات كقوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٣). وغير واحد من الأخبار لا يكون حرجيّاً في حقّ كلّ أحد مع أنّ الحكم ، ثابت فيها في حقّ كلّ مكلّف حتّى من لا حرج بالنّسبة إليه أصلاً ، فيكشف ذلك ، عن كون المدار

__________________

(١) حج : ٧٨.

(٢) البقرة : ١٨٥.

(٣) البقرة : ١٨٥.

٢٥٠

على تحقّق الحرج في حقّ الغالب ، وإلّا لزم عدم انطباق العلّة على المعلول ، أو إخراج المورد ، وهما كما ترى ؛ فلعلّه الوجه عند من اختار الوجه الأوّل.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ ذكر الكلّية بالنّسبة إلى تلك الموارد ، إنّما هو من جهة الإشارة إلى حكمة تشريع الحكم فيها ، بعنوان العموم فيكون الحرج حكمة حقيقةً ، لا علّة فيخرج ، عن مفروض البحث ومحلّ الكلام فتأمّل.

نقل كلام الشهيد الاول في اقسام الحرج المنفي

وقد ذكر الشّهيد قدس‌سره ، في القواعد (١) للتّخفيفات والتّرخيصات ، الواردة في الشّرع ، بملاحظة اليسر وعدم الضّيق ، فروعاً ومواضع لم يعتبر فيها اطّراد الحرج من حيث ثبوت الدّليل عليها في الشّرع على الإطلاق وان لوحظ الحرج كليّة فهي حقيقة من فروع القسم الثّاني لا القسم الاوّل ، الّذي يبحث عنه في المقام.

قال قدس‌سره ما ملخّصه : «المشقة موجبة لليسر ، وهذه القاعدة يعود إليها ، جمع رخص الشّرع ، كأكل الميتة في المخمصة ، ومخالفة الحقّ للتقيّة ... عند الخوف على النّفس ، أو البضع ، أو المال ، أو القريب ، أو بعض المؤمنين ... بل يجوز إظهار كلمة الكفر عند التّقيّة ...

ومن القاعدة الشرعيّة ، التيمّم عند خوف التّلف من استعمال الماء ، أو الشّين ، أو تلف حيوانه ، أو ماله.

ومنها : إبدال القيام ، عند التّعذر في الفريضة ومطلقاً في النّافلة وصلاة الاحتياط غالباً.

ومنها : قصر الصلاة والصّوم ...

ومنها : المسح على الرأس والرّجلين بأقلّ مسمّاه ؛ ومن ثمّ أبيح الفطر جميع اللّيل ، بعد أن كان حراماً ، بعد النّوم ...

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ١٢٤ القاعدة الثانية ، المشقة الموجبة للعسر.

٢٥١

ومن الرّخص ما يختصّ ، كرخص السّفر والمرض والإكراه والتّقية ، ومنها : ما يعمّ كالقعود في النّاقلة ، واباحة الميتة عند المخمصة ، يعمّ عندنا في السّفر والحضر.

ومن رخص السّفر ترك الجمعة والقصر وسقوط القسم بين الزّوجات لو تركهنّ ، بمعنى عدم القضاء بعد عوده ...

ومن الرّخص إباحة كثير من محظورات الإحرام مع الفدية ، وإباحة الفطر للحامل والمرضع والشّيخ والشّيخة وذي العطاش ، والتّداوي بالنجاسات والمحرّمات عند الاضطرار ، وشرب الخمر لإساغة اللّقمة وإباحة الفطر عند الإكراه عليه ، مع عدم القضاء ، ولو اكره على الكلام في الصّلاة ، فوجهان ...

ومنه الاستنابة في الحجّ للمغصوب والمريض المأيوس من برئة وخائف العدوّ ... ، والجمع بين الصّلاتين في السّفر والمرض والمطر والوحل والاعذار ، بغير كراهيّة.

ومنه إباحة نظر المخطوبة المجيبة للنكاح وإباحة أكل مال الغير مع بذل القيمة مع الإمكان ، ولا معها ، مع عدمه ، عند الإشراف على الهلاك.

ومنه العفو ، عما لا تتم الصّلاة فيه منفرداً مع نجاسته ، وعن دم القروح والجروح الّذي لا يرقأ ...

ثمّ التّخفيف ، قد يكون لا إلى بدل ، كقصر الصّلاة ... وترك الجمعة ... وصلاة المريض ، وقد يكون إلى بدل ، كفدية الصّائم وبعض النّاسكين في بعض المناسك ...

والرّخصة قد تجب ، كتناول الميتة عند خوف الهلاك ، ... وقصر الصّلاة ...

والصّيام ، ... وقد تستحب ، كالنّظر المخطوبة ، وقد يباح كالقصر في الأماكن الأربعة ...

وهنا فوائد : الاولى : المشقة ... والمشقّة الموجبة للتّخفيف هي ما تنفكّ عنه العبادة غالباً ، أمّا ما لا تنفكّ عنه فلا ، كمشقّة الوضوء والغسل في السبرات ، وإقامة الصّلاة في الظّهيرات ، والصّوم في شدّة الحرّ وطول النّهار ، وسفر الحجّ ، ومباشرة الجهاد إذ مبنى التّكليف ، على المشقّة ...

٢٥٢

ومنه المشاق التي تكون على جهة العقوبة على الجرم ، وإن أدّت إلى تلف النّفس كالقصاص والحدود ، بالنّسبة إلى المحلّ والفاعل ، وإن كان قريباً يعظم عليه استيفاء ذلك من قريبه ...

والضّابط في المشقّة ما قدره الشّرع وقد أباح في الشّرع حلق المحرم للقمّل ، كما في قصّة كعب بن عجرة (١) ، وقد أقرّ النّبي (٢) عمراً على التّيمم لخوف البرد فلتقاربهما المشاق في باقي محظورات الاحرام ، وباقي مسوّغات التّيمّم ، وليس ذلك مضبوطاً بالعجز الكلّي [بل] بما فيه تضيق على النّفس ؛ ومن ثمّ قصرت الصّلاة وابيح الفطر في السّفر ، ولا كثير مشقّة فيه ولا عجز غالباً ؛ فحينئذٍ يجوز الجلوس في الصّلاة مع مشقّة القيام ، وإن أمكن تحمّله على عسر شديد ، وكذا باقي مراتبه.

الثانية : ويقع التّخفيف في العقود ، كما يقع في العبادات ، ومراتب الغرر فيها ثلاث : إحداها : ما يسهل اجتنابه كبيع الملاقيح ... وهذا لا تخفيف فيه.

وثانيها : ما يعسر اجتنابه وإن أمكن تحمّله بمشقّة ، كبيع البيض في قشره وبيع الجدار ، وفيه الاسّ ، وهذا يعفي عنه تخفيفاً.

وثالثها : ما يتوسّط بينهما ، كبيع الجوز واللّوز في القشر الأعلى والأعيان الغائبة بالوصف ...

ومنه الاكتفاء بظاهر الصّبرة المتماثلة ...

ومن التّخفيف شرعيّة خيار المجلس.

ومنه شرعيّة المزارعة والمساقاة والقراض ، وإن كانت معاملة على معدوم.

ومنه اجارة الأعيان فإنّ المنافع معدومة حال العقد.

ومنه جواز تزويج المرأة من غير نظر ووصف ، دفعاً للمشقّة اللّاحقة.

ومنه شرعيّة الطّلاق والخلع ، دفعاً لمشقة المقام على الشّقاق وسوء الاخلاق ،

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٨٦٠ ٨٦١ / ٨٢ باب ١٠ من كتاب الحج.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي ١ : ٢٢٥ ، المستدرك على الصحيحين ١ : ١٧٧.

٢٥٣

وشرعيّة الرّجعة في العدّة غالباً ليتروى ... ولم يشرع في الزيادة على المرّتين ، دفعاً للمشقّة ، عن الزّوجات.

ومنه شرعيّة الكفّارة في الظّهار والحنث.

ومنه التّخفيف ، عن الرّقيق بسقوط كثير من العبادات.

ومنه شرعيّة الدّية بدلاً عن القصاص مع التّراضي كما قال تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)(١) انتهى كلامه (٢) رفع مقامه. ملخّصاً.

وهو كما ترى ، في الأحكام الثابتة من الشرع بملاحظة التخفيف على العباد ، ولا كلام في اطّرادها ، وكون التخفيف حكمة فيها ؛ فلا تعلّق لها بمحلّ البحث أصلاً كما لا يخفى.

السادس : شمول القاعدة للعناوين الأولية والثانوية

السّادس : إنّه لا إشكال في شمول القاعدة لما لا يكون المكلّف سبباً له أصلاً ، بل هو المتيقّن منها ، وأمّا إذا كان سبباً له ، كالمريض الّذي أجنب متعمّداً ، مع تعسّر الغسل في حقّه ، [و](٣) مع الأمن من التضرر به ، فقد يقال : بعدم شمول القاعدة له ؛ نظراً إلى أنّ المستفاد من دليلها ، عدم إيقاع الشارع للناس في الحرج ، بحيث يستند وقوعهم فيه (بجعل) (٤) الشّارع ، ومن هنا ورد في بعض الاخبار ، وجوب الغسل على المريض المذكور ، وإن أصابه من المرض ما أصابه.

وحكى عن بعض ، في الاعتراض على إبطال الاحتياط ، بلزوم الحرج في كلماتهم ، لإثبات مقدّمات دليل الانسداد ، بأنّ لزوم الاحتياط إنّما هو من جهة اشتباه الأحكام واختفائها ، وهو مستند إلى تقصير المكلّفين المأمورين بحفظ الأحكام وتبليغها ، فلا

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ١٢٤ ١٣٠.

(٣) يقتضيها السياق.

(٤) الافضل : إلى جعل.

٢٥٤

يشمله دليل نفي الحرج.

هذا ولكنّ ، الّذي تقتضيه كلماتهم ظاهراً هو الشمول وعدم الفرق بين القسمين ؛ لأنّ إيجاد الجنابة لا تعلّق له بإيجاب الغسل ، حيث أنّ المكلّف صار سبباً لإيجاد الموضوع وأمّا الحكم فهو مجعول للشارع بالجعل الابتدائي والحاصل أنّه لا وجه للاستفادة المذكورة ، من دليل القاعدة أصلاً. وأمّا ما ورد في خصوص المثال المزبور فظاهره ، بل صريحه ، لزوم الغسل مع التضرر أيضاً ، ولا يظنّ أن يلتزم به أحد ، وعلى تقدير القول به ، من جهة الرّواية ، يخرج عن مفروض البحث ؛ لإنّها أخصّ من عمومات نفي الحرج ، ومنه يظهر بطلان القول : بالالتزام بوجوب الاحتياط عند انسداد باب العلم بالأحكام ؛ نظراً إلى عدم شمول دليل نفي الحرج.

هذا مضافاً إلى انّ الحرج في الفرض ممّا يوجب اختلال النّظام ، فيكون رفعه عقليّاً لا شرعيّاً حتّى يمكن القول ، بعدم شمول دليل نفي الحرج له فأفهم.

السابع : مفاد القاعدة للعبادات بالمعنى الاخص وللمعاملات بالمعنى الاعم

السّابع : إنّه لا فرق في مفاد القاعدة بين العنوانات الأوّليّة ؛ والثّانويّة فلو أمر المالك مملوكه ، بأمر شاقّ عسر ، وكذا الوالد ولده ، بأمر عسر ، والزّوج زوجته ، بأمر عسر ، لم يجب عليهم إطاعتهم لأنّ دليل وجوب إطاعة المخلوق من جانب الخالق ، كسائر الأحكام الإلهيّة ، محكوم بالنّسبة إلى ما دلّ على نفي الحرج ، وليس له خصوصيّة توجب الفرق بينهما أصلاً.

نعم ، لو كان العبد كافراً ، لم يبعد جواز إلزامه بما فيه حرج وضيق ؛ لأنّه ليس أهلاً للامتنان عليه.

نعم ، ربّما تقتضي الرّقة الإنسانيّة عدم إلزامه بذلك ، كالحيوان المملوك ؛ فالاولى ترك الإلزام ، لكنّه لا تعلّق له بدليل نفي الحرج ، كما لا يخفى.

٢٥٥

الثامن : شمول القاعدة للعبادات بالمعنى الاعم والاخص

الثّامن : إنّه لا فرق في مفاد القاعدة بين العبادات بالمعنى الاخصّ ، والمعاملات بالمعنى الاعمّ الشامل لفنّ الأحكام ، فإذا فرض ضيق وحرج في تحصيل مقدار نفقة من وجبت نفقته ، أو في تحصيل ما يحصل به اداء الدّين ، أو في ردّ الوديعة والعارية ، أو في تنفيذ الوصيّة ، أو القسم بين الزّوجات ، إلى غير ذلك ، فلا يجب.

نعم لهم كلام ، في ردّ المغصوب إلى الغاصب ، يقتضي لزومه ولو استلزم حرجاً على الغاصب ، بل ضرراً في الجملة ، إلَّا أنّه من جهة ما تسالموا عليه في باب الغصب من أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الاحوال ، فراجع.

التاسع : في حكم التزام المكلف بالفعل الحرجي بالنذرة نحوه

التّاسع : أنّه لو التزم المكلّف بأمر حرجيّ بنذر وشبهه ، كصوم الدّهر غير العيدين مثلاً ، أو أجر نفسه لعمل شاقّ كالحجّ ماشياً من مكان بعيد ، مع عدم اعتياد المشي ، مثلاً فهل يمنع تعسّره ، من انعقاده ووجوب الوفاء به ، أم لا؟ وجهان : ظاهر ، غير واحد ، بل صريح جماعة ، منهم شيخنا الاستاد العلّامة قدس‌سره الاوّل.

وظاهر إطلاق غير واحد في كتاب الحجّ وغيره ، بل صريح بعضهم : الثّاني.

ويوجّه الأوّل : بأنّ قضيّة عموم ما دلّ على نفي الحرج ، اختصاص ما دلّ على وجوب الوفاء بالنّذر وشبهه ، والعقد بما لا يستلزم منه حرج على العباد ، وحكومته عليه كحكومته على الإلزامات الابتدائيّة ، والأحكام الشّرعيّة الاستقلاليّة ، ولا مخصّص له بالثّاني.

والثّاني بأنّ المستفاد من دليل نفيه هو نفي الجعل الابتدائي من الله تبارك وتعالى وأنّه لم يجعل على العباد ما يوجب وقوعهم في الحرج ، بحيث يستند وقوعهم فيه اليه عزّ اسمه ، لا نفي ما يلزمونه العباد على أنفسهم من الأفعال الحرجيّة ، بنذر وإجارة ونحوهما ، فإنّ مرجع الإلزام بما التزموا به ، من الشّارع ، حقيقة إلى إمضاء ما التزموا به

٢٥٦

على أنفسهم من الأمور الشاقة ، وهو من هذه الجهة ، كدليل نفي الضّرر ، فكما أنّه فيما يكون نفيه شرعيّاً ، لا ينفي ما أقدم عليه المكلّف من المضارّ الماليّة ، كشراء الماء للطّهارة فيما يكون ضرراً بحسب حال المكلّف ، وشراء الشيء بأكثر من قيمته العادلة ، مع العلم بالغبن ؛ لغرض عقلائي يمنع من كون الإقدام سفهيّاً ؛ فإنّ إيجاب الوفاء بالعقد مع الجهل بالغبن ، قبل المعاملة وإن كان حكماً ضرريّاً منفيّاً ، بما دلّ على نفيه في الإسلام ، فيحكم بثبوت الخيار مع عدم بذلك التّفاوت كما عليه جماعة ، أو مطلقاً ، كما عليه الأكثر ، على الاختلاف المذكور في باب الخيارات. إلَّا أنّ إيجابه مع العلم بالغبن ليس حكماً ضرريّاً ، فلا يكون منفيّاً بما دلّ على نفى الضّرر ، بل التّحقيق عدم صدق الغبن مع الإقدام في صورة العلم ، لكون الخطر مأخوذاً في مفهومه على ما فصّلنا القول فيه في محلّه.

نعم لو كان الضّرر ممّا حكم الشّرع والعقل بحرمته كالمضارّ البدنية والعرضيّة ونحو هما فلا يسوّغه إقدام المكلّف ، كذلك ما دلّ على نفي الحرج في الدّين لا ينفي ما ألزمه المكلّف على نفسه ، من الأمور الشّاقة بإجارة ونذر ونحوهما فإنّ وقوعه في الحرج في الفرض ، لا يستند إلى الشّارع حقيقةً ، بل إلى نفس المكلّف ، فإيجاب الوفاء عليه فيما ألزمه على نفسه من المشاقّ ، لا ينفي بدليل نفي الحرج.

لا يقال : لو كان مساق دليل نفي الحرج ، مساق دليل نفي الضّرر للزم الحكم بعدم رفع الحكم الحرجيّ ، فيما لو أقدم المكلّف على الفعل الحرجيّ مع طيب النّفس ، كما لو أقدم على الغسل الحرجىّ مثلاً ، أو الصّوم الحرجيّ ونحوهما ، فيما لم يبلغ حدّ التضرر مع أنّه ممّا لم يقل به أحد وإن قالوا : بمشروعيّة الفعل بعد رفع وجوبه ، لما عرفت شرح القول فيه. فقاعدة الإقدام بالضّرر في المعاملات قاعدة أخرى ، أو جبت قصر مفاد دليل نفي الضّرر ، على صورة عدمه ، ومن هنا لا يحكم بوجوب شراء الماء في المثال الاوّل ، وإن كان المكلّف مقدّماً عليه. نعم بعد الشّراء يجب عليه التطهير ، من حيث كونه واجداً للماء.

٢٥٧

لأنّا نقول : الالتزام بتخصيص قاعدة نفي الضّرر بمخصّص خارجيّ ، فيما لو أقدم المكلّف على الضّرر من جهة علمه بالغبن ، أو العيب ، بحيث لولاه ، قيل بثبوت الخيار مع العلم أيضاً ، كما ترى ، لانحصار ما يتوهم كونه مخصّصاً ، بقاعدة السّلطنة على الأموال وهي كسائر أدلة الأحكام محكومة بقاعدة نفي الضّرر.

هذا مع أنّه لا معنى للقول بحرمة الإقدام على الفعل الحرجيّ ، فالسّلطنة ثابتة بالنّسبة إلى الأبدان أيضاً ما لم يوجب الإضرار عليها ، فليس الدّليل إلّا ما قضي بعمومه بوجوب الوفاء بالعقد بعد ملاحظة انحصار مفاد دليل نفي الضّرر.

هذا بعض الكلام في هذا الامر ، والإنصاف أنّ المسألة غير نقيّة عن الإشكال ، وإن كان الأرجح في النّظر عاجلاً ، هو القول الأوّل.

العاشر إنّه لو وقع التعارض بين قاعدتي نفي الضّرر ، والحرج ، كما إذا فرض كون تصرّف المالك مضرّاً بجاره ، ومنعه حرجاً وضيقاً في حقّه ، فهل يرجّح إحدى القاعدتين على الاخرى ، أو يحكم بعدم الترجيح وإجمال القاعدتين ، والرجوع إلى قاعدة أخرى محكومة بالنّسبة إليهما ، على فرض سلامتهما ، كقاعدة السلطنة في الفرض المزبور؟

وجهان :

أوجههما الثّاني : نظراً إلى مساواتهما في المرتبة وكون كلّ منهما حاكماً على عمومات أدلّة التّكاليف ومقدّم عليها بالذّات ، من غير أن يكون لأحديهما تقدّم على الاخرى بحسب المفاد والمدلول.

هذا آخر ما أردنا إيراده فيما يتعلّق بقاعدة نفي الحرج حسب الوسع ومساعدة التّوفيق ، والحمد لله أوّلاً وآخراً وله الشّكر دائماً ، والصّلاة على نبيّه وآله الطّاهرين أبداً سرمداً ، وقد فرغنا ممّا أوردناه في العاشر من شوّال ، من سنة ثالث عشر بعد الالف وثلاثمائة ، مضت من الهجرة النّبويّة على مهاجرها وآله الف سلام وتحيّة.

٢٥٨

الفصل السادس

رسالة قصد الدعاء

مع قصد القراءة في الصلاة

٢٥٩
٢٦٠