الرسائل التسع

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

الرسائل التسع

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


الموضوع : الفقه
الناشر: انتشارات زهير
الطبعة: ٠
ISBN: 964-8076-27-8
الصفحات: ٣١٥

وكانت الأمّة السالفة إذا أخطئوا أخذوا بالخطإ وعوقبوا عليه ، وقد رفعت ذلك من أمّتك لكرامتك عليّ.

فقال النّبي : اللهمّ إذا أعطيتني ذلك فزدني. فقال الله تعالى سل قال : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) يعنى بالإصر ، الشدائد الّتي كانت على من كان قبلنا ، فاجابه الله إلى ذلك. فقال تبارك اسمه : قد رفعت عن أمّتك الآصار الّتي كانت على الامم السّابقة ، كنت لا اقبل صلاتهم إلّا في بقاع من الارض معلومة اخترتها لهم ، وان بعدت ، وقد جعلت الارض كلّها لأمّتك مسجداً وطهوراً. هذه من الآصار الّتي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمّتك.

وكانت الامم السّالفة إذا اصابهم أذى من نجاسة قرضوه من أجسادهم وقد جعلت الماء لأمّتك طهوراً فهذه من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعتها من أمّتك.

وكانت الامم السالفة تحمل قربانها إلى بيت المقدس ، فمن قبلت ذلك منه أرسلت اليه ناراً فأكلته فرجع مسروراً ، ومن لم أقبل ذلك منه رجع مبتوراً وقد جعلت قربان أمّتك في بطون فقرائها ومساكينها ، فمن قبلت ذلك منه اضعفت له اضعافاً مضاعفة ومن لم أقبل ذلك منه ، رفعت عنه عقوبات الدّنيا وقد رفعت ذلك ، عن أمّتك وهي من الآصار الّتي كانت على الامم السالفة قبلك. وكانت الأمم السالفة صلاتها مفروضة عليها في ظلم اللّيل وانصاف النّهار ، وهي من الشدائد التي كانت عليهم ، فرفعتها عن أمّتك وفرضت عليهم صلاتهم في اطراف اللّيل والنّهار وفي أوقات نشاطهم. وكانت الأمم السالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتاً وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك وجعلتها خمساً في خمسة أوقات وهي احدى وخمسون ركعة وجعلت لهم أجر خمسين صلاة. وكانت الأمم السالفة حسنتهم بحسنة وسيئتهم بسيئة وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك فجعلت الحسنة بعشر والسيئة بواحدة.

وكانت الأمم السالفة ، إذا نوى أحدهم حسنة ، ثمّ لم يعملها لم يكتب له ، وان عملها

٢٢١

كتب له حسنة وانّ أمّتك إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت له عشراً وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك.

وكانت الامم السالفة إذا همّ أحدهم بسيئة ، ثمّ لم يعملها لم يكتب له ، وان عملها كتب له سيئة ، وانّ أمّتك إذا همّ أحدهم بسيئة ، ثمّ لم يعملها كتب له حسنة ، وهذه من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعت ذلك عن أمّتك.

وكانت الأمم السالفة إذا أذنبوا كتبت ذنوبهم على أبوابهم وجعلت توبتهم عن الذّنوب أن حرّمت عليهم بعد التوبة أحبّ الطّعام اليهم وقد رفعت ذلك عن أمّتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم وجعلت عليهم ستوراً كثيفة ، وقبلت توبتهم بلا عقوبة ولا اعاقبهم ، بأن أحرّم عليهم أحبّ الطّعام إليهم.

وكانت الأمم السالفة يتوب عليهم من الذّنب الواحد مائة سنة ، أو ثمانين سنة ، أو خمسين سنة ، ثمّ لا أقبل توبته دون أن اعاقبه في الدنيا بعقوبة ، وهي من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعتها ، عن أمّتك وانّ الرجل من أمّتك ليذنب عشرين سنة ، أو ثلاثين سنة ، أو أربعين سنة ، أو مائة ، ثمّ يتوب ويندم طرفة عين فاغفر له ذلك كلّه.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا اعطيتني ذلك كلّه فزدني قال : سل.

قال : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال تبارك اسمه : قد فعلت ذلك بأمّتك وقد رفعت عنهم بلايا الأمم وذلك حكمي في جميع الأمم ، أن لا أكلّف خلقاً فوق طاقتهم. الحديث إلى غير ذلك من الأخبار ويؤكّدها ما عن النّبي من قوله بعثت بالحنيفيّة السّهلة السّمحة.

هذا وأمّا الإجماع فقد نقله غير واحد ، منهم بعض أفاضل من عاصرناه ، أو مقاربي عصرنا في فصوله (١) بل صريح بعض الأفاضل دعوى إجماع المسلمين عليها ، ودعوى على ما يظهر من بعض السّادة الأعلام ، ومن أفاضل مقاربي عصرنا ، كما ستقف عليه ، من عدم طروّ التّخصيص على القاعدة أصلاً مستقيمة.

__________________

(١) الفصول : ٣٣٤.

٢٢٢

إلَّا انّه بمكان من الضعف كما سننبهك عليه.

وامّا على ما عليه الأكثرون ، فلا بدّ أن يكون المراد منه ، الإجماع على القاعدة في الجملة ، وبالنّسبة إلى بعض جزئيّاتها ، كما صرّح به بعض ، أو الإجماع على القاعدة.

بكشفه ، عن صدور لفظ عامّ ، عن المعصوم نظير ما سمعته من الأخبار فلا ينافي ورود الدّليل على التّخصيص فتدبّر.

الاجماع والعقل

وامّا العقل فلا اشكال في حكمه بها ، فيما يوجب اختلال النّظام الواجب على الحكيم تعالى حفظه. وأمّا حكمه بها في غيره وما دونه ممّا يكون مقدوراً من مراتب الحرج على ما هو محلّ الكلام ، فلا إشكال عندنا وعند الأكثر في نفيه.

ومن هنا ذكروا أنّ نفيه في غير ما يوجب الاختلال سمعيّ. ولكنّ المحكيّ عن بعض السّادة الأعلام وهو سيّد مشايخ شيخنا الاستاذ العلّامة (١) قدس‌سره كما ستقف عليه عن قريب ، الجزم بكون رفعه عقليّاً هذا بعض الكلام فيما ذكر قدس‌سره كالقاعدة ولمّا كان سوق الآيات والاخبار الواردة فيها في مقام الامتنان على الأمّة المرحومة كما هو الظّاهر لكلّ من نظر اليها وتأمّل فيها ؛ فتكون أبية عن التّخصيص فضلاً عن تخصيص الاكثر ، ومع ذلك قد وقع في الشّرع ما ينافي القاعدة بعمومها.

نقل كلام بعض الاعلام حول القاعدة

واختلفت كلماتهم في تحقيق المقام بين التّفريط والإفراط وضاق الأمر عليهم من الجهة المذكورة ، فبالحريّ أوّلاً نقل جملة ممّا وقفت عليه من كلماتهم ، ثمّ تعقيبه ببيان ما يقتضيه فهمي القاصر.

__________________

(١) مفاتيح الاصول : ٥٣٧.

٢٢٣

كلام الحر العاملي في فصوله

قال الشّيخ الحرّ (١) في محكيّ كتابه ، المسمّى بالفصول المهمّة ، بعد نقل جملة من الأخبار النّافية للحرج : ما هذا لفظه : «اقول نفي الحرج مجمل ، لا يمكن الجزم به ، فيما عدا التّكليف بما لا يطاق وإلّا لزم رفع جميع التّكاليف» انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى مبنيّ على تعلّق جميع التّكاليف ، بالامور العسرة ، وانّ موردها لا ينفك عن الحرج. وسنوقفك على ما يتوجّه عليه.

نقل كلام لصاحب فوائد الاصول

وقال بعض الاعلام (٢) من السّادة الفحول في محكيّ فوائده ، بعد إثبات القاعدة في الشّريعة ونفي الرّيب ، والاشكال في ثبوتها ما هذا لفظه : «وأمّا ما ورد في هذه الشّريعة من التّكاليف الشّديدة كالحجّ ، والجهاد ، والزّكوة بالنّسبة إلى بعض الناس ، والدّية على العاقلة ونحوها ، فليس شيء منها من الحرج ؛ فإن العادة قاضية بوقوع مثلها والنّاس يرتكبون مثل ذلك من دون تكلّف ومن دون عوض كالمحارب للحميّة ، أو بعوض يسير كما إذا أعطى على ذلك أجرةً ، فإنّا نرى كثيراً يفعلون ذلك بشيء يسير.

وبالجملة فما جرت العادة بالإتيان بمثله والمسامحة فيه ، وإن كان عظيماً في نفسه ، كبذل النّفس والمال الكثير فليس ذلك من الحرج في شيء.

نعم تعذيب النّفس وتحريم المباحات والمنع ، عن جميع المشتبهات أو نوع منها على الدّوام ، حرج وضيق ومثله منتف في الشّرع». انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

__________________

(١) الفصول المهمة ١ : ٦٢٦ / ٢٤٩.

(٢) فوائد الاصول : ١١٨ ، فائدة : ٣٦٥.

٢٢٤

وقال قدس‌سره في موضع (١) آخر وليس المراد أنّ الأصل نفي الحرج وأنّ الخروج عنه جائز ، كما في ساير العمومات الواردة في الشّريعة.

إمّا على تقدير اختصاص رفع الحرج بهذه الشّريعة فظاهر وإلّا لزم أن تكون مساوية لغيرها في الاشتمال على الحرج والضّرر ، والفرق بالقلّة والكثرة ، تعسّف شديد.

وامّا على العموم فلإجماع المسلمين على أنّ الحرج منفيّ في هذا الدّين ، ولأنّ التّكليف بما يفضي إلى الحرج مخالف لما عليه أصحابنا من وجوب اللّطف على الله تعالى ، فانّ الغالب أنّ صعوبة التّكليف المفضية إلى حدّ الحرج تبعد عن الطّاعة وتقرب إلى المعصية ، بكثرة المخالفة ؛ ولأنّ الله تعالى أرحم بعباده وأرأف من أن يكلّفهم ما لا يتحمّلونه من الامور الشاقّة وقد قال الله سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وله كلام آخر (٣) متعلّق بالمقام لا بدّ من إيراده ، قال قدس‌سره بعد ما ذكر انتفاء التّكليف بما فوق الطّاقة بالنّسبة إلى جميع الأديان ما هذا لفظه : «امّا التّكليف بقدر الطّاقة والمراد به ما فوق السّعة ما لم يصل إلى حدّ الامتناع العقلي أو العادي فلم يقع التّكليف به في شرعنا ؛ لقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٤) وقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٥) وقوله : «دين محمّد حنيف» (٦) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «بعثت بالحنيفيّة السّهلة السّمحة» (٧).

وقد وقعت في الشرائع السابقة ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) فوائد الاصول : ١١٨ فائدة ٣٦.

(٤) الحج : ٧٨.

(٥) البقرة : ١٨٦.

(٦) الوسائل ٤ : ٣٩٣ / ح ١ / ٣٠٢١ باب ٢٣ من أبواب لباس المصلي.

(٧) عوالي اللئالي ١ : ٣٨١ ، أمالي الطوسي ٢ : ١٤١.

٢٢٥

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا)(١) وقوله سبحانه (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)(٢) وما ورد في الاخبار ، في بيان التكليفات الشاقّة الّتي كانت على بني اسرائيل.

وهل كان التكليف بالقياس اليهم حرجاً وإصراً؟ أو هي بالنّسبة إلينا كذلك ، الظّاهر الاوّل ، وحديث المعراج وقول موسى عليه‌السلام لنبيّنا : أمّتك لا تطيق ذلك ، يؤيّد الثاني وما في السِّير ، من بيان بسط الاوّلين في الأعمار والأجسام وشدّتهم وطاقتهم على تحمّل شدائد الأمور ممّا يعاضده.

وعلى هذا ، فالحرج منفيّ في جميع الملل» وساق الكلام إلى أن قال : «ولكن الامتنان بنفي الحرج في هذا الدّين كما هو الظّاهر من الآية ، يمنع ذلك» انتهى كلامه (٣) رفع مقامه.

نقل كلام للمحقق القمي

وقال المحقّق القمّي (٤) قدس‌سره في تحقيق المقام ما ملخّصه : إنّ معنى نفي العسر والحرج والضّرر في كلام الله ورسوله وخلفائه بالنّسبة إلى الأوّلين هو أنّه تعالى لا يرضى للعباد بالعسر والحرج ، ولا يجعل عليهم ما يوجبهما ، وبالنّسبة إلى الضّرر هو أنّه تعالى ، لا يفعل ما يضرّ العباد به ، أو لا يرضى بإضرار بعض عباده بعضاً ؛ فيجوز لمن يتضرّر دفع الضّرر عن نفسه ولا يتحمّله عن الضّار ويحرم على الضّار إيصال الضّرر ويمكن إجراء المعنيين في العسر والحرج أيضاً» إلى ان قال : «ثمّ الإشكال في هذا المقام من وجهين : الاوّل : إنّ نفي المذكورات بعنوان العموم كيف يجامع ما يشاهد من التّكليف بالجهاد ، والحجّ ، والصّيام في الأيّام الحارّة ، والجهاد الأكبر وامثالها.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) الاعراف : ١٥٧.

(٣) فوائد الاصول : ١١٧ ١١٨ فائدة ٣٦.

(٤) عوائد الايام : ٢٢ ، قوانين الاصول ٢ : ٤٧.

٢٢٦

والثّاني : إنّا نرى أنّ الشّارع لم يرض لنا في بعض التّكاليف ، بأدنى مشقّة كما نشاهد في أبواب التّيمم ، ونرى عدم السّقوط في كثير منها بأكثر من ذلك.

وكذلك الكلام في الضّرر المنفي» إلى ان قال :

«والّذي يقتضيه النّظر بعد القطع بأن التّكاليف الشّاقة والضّارة واردة في الشّريعة :

أنّ المراد بنفي العسر والحرج والضّرر : نفي ما هو زائد على ما هو لازم لطبائع التّكاليف الثّابتة بالنّسبة إلى طاقة أوساط النّاس المبرئين عن المرض والعذر الذي هو معيار مطلقات التّكاليف ، بل هي منفيّة من الأصل إلّا فيما ثبت وبقدر ما ثبت.

والحاصل أنّا نقول : انّ المراد أنّ الله تعالى لا يريد بعباده العسر والحرج والضّرر ، إلَّا من جهة التّكاليف الثّابتة بحسب أحوال المتعارف الأوساط وهم الأغلبون فالثّاني منفي سواء لم يثبت أصله أصلاً ، أو ثبت ولكن على وجه لا يستلزم هذه الزّيادة.

ثمّ إنّ ذلك النّفي : إمّا من جهة تنصيص الشّارع كما في كثير من أبواب الفقه ، من العبادات وغيرها كالقصر في السّفر ، والخوف في الصّلاة ، والافطار في الصّوم ونحو ذلك ، وأمّا من جهة التّعميم كجواز العمل بالاجتهاد لغير المقصّر في الجزئيّات كالوقت ، والقبلة ونحوهما ، أو الكلّيات كالأحكام الشرعيّة للعلماء» انتهى ما لخصناه من كلامه.

وقد فهم منه الفاضل النراقيّ قدس‌سره ، كون القاعدة عنده من قبيل الأصل العمليّ ، حيث قال بعد نقله : «والمستفاد ممّا ذكره أنّ قاعدة نفي العسر والحرج من باب أصل البراءة دون الدّليل ، ويكون مقيّداً بغير التّكاليف الثّابتة ، فتكون قاعدة نفي العسر والحرج من قبيل كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ، ونحوه» (١). انتهى كلامه.

ولا يخفى ما في الاستفادة من التّأمّل والنّظر.

__________________

(١) عوائد الايام ٦٣ : عائدة ٤ البحث التاسع قوله : واما الثاني ، الفوائد : ١٩٠.

٢٢٧

نقل كلام لصاحب الفصول

وقال في الفصول (١) ، بعد عنوان القاعدة وبيان مدركها والتّعرض لبعض ما يتعلّق بها من المباحث ما هذا لفظه :

«ثمّ إنّه لمّا كان المستفاد من الآيات والاخبار المتعلّقة بالمقام ، أنّ القاعدة المذكورة مطّردة في جميع جزئيّاتها غير مخصّصة في شيء من مواردها لتتم المنّة على هذه الأمّة من بين الأمم ، برفع الاصر عنهم كما سيأتي التّنبيه عليه.

فربما توجّه الاشكال عليها باعتبار أنّ جملة من الأعمال الشّاقة قد ثبت التكليف بها في هذه الشّريعة ، فلا بدّ من التّنبيه عليها وعلى دفعها. وساق الكلام في دفع الاشكال عنها ، بمنع لزوم العسر فيها لا من جهة مجرّد زيادة الأجر والثّواب الدّاعي على الإقدام ، بل من جهة الدّواعي الأخر الموجبة لسهولة الفعل» إلى ان قال : «ومن هنا يظهر أنّ العسر والحرج منفيّان عن شريعتنا بالكليّة كما قرّرناه أوّلاً ، لا أنّهما منفيّان بالنّسبة إلى أكثر الأحكام» (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقد تكرّر في كلمات شيخنا الاستاد (٣) العلّامة قدس‌سره ذكر كون عمومات القاعدة ، من العمومات الموهونة من جهة كثرة الخارج عنها.

تحقيق المسألة

إذا عرفت الكلمات المذكورة فاستمع لما يتلى عليك في تحقيق ثبوت أصل القاعدة والمراد منها ، وتطرّق التّخصيص اليها وعدمه ، ونسبتها مع العمومات المثبتة للتّكاليف المفضية إلى الحرج في بعض جزئياتها ، في مواضع.

__________________

(١) الفصول : ٣٣٤.

(٢) الفصول الغروية : ٣٣٤.

(٣) مفاتيح الاصول : ٥٣٥.

٢٢٨

الموضع الاول : في أصل ثبوت القاعدة

الاوّل : في أصل ثبوتها في قبال الشّيخ الحرّ قدس‌سره وملخّص القول فيه : أنّه لا ينبغي الارتياب في أصل ثبوتها ، بل لا يجوز لدلالة الآيات الكثيرة والأخبار المتواترة وإجماع الإماميّة ، بل المسلمين عليه في الجملة ، بل العقل في بعض جزئياتها ، كيف وهو من خصائص الأمّة المرحومة على ما نطقت به الآيات ودلّت عليه الآثار من النّبيّ المختار والائمّة الأطهار ، وعدم وضوح المراد ممّا تعلّق به الحكم في الأدلّة من الفاظ الحرج والعسر والضيّق والاصر وأمثالها على وجه لا يبقى شكّ من جهة المفهوم في مورده ، مع وضوح المراد منه في الجملة وتحقّق الصّدق في أكثر الجزئيات ، لا يوجب رفع اليد عن القاعدة رأساً وإلّا لزم رفع اليد عن أكثر القواعد ، بل كلّها ممّا تعلّق الحكم فيها بالموضوعات اللّغويّة والعرفيّة ، لعدم الإحاطة بحقايقها على وجه التّحديد ، على ما سنوقفك عليه هذا مضافاً إلى كون كتبهم الاصوليّة والفقهيّة مشحونة من التّمسك بالقاعدة تبعاً لأئمتهم سلام الله عليهم أجمعين ، كما في مسألة مقدار الفحص عن المخصّص ، والفحص عن المعارض للأدلّة والفحص عن الدّليل في العمل بالاصول العمليّة ، وكما في مسألة حجيّة الظّنّ في قبال الاحتياط عند انسداد باب العلم ، ومسألة عدم نقض الآثار عند تبدّل رأي المجتهد ، أو موته ، أو جنونه ، أو فسقه ، أو نحو ذلك من الأوصاف ومسألة الأجزاء ، ومسألة نقض الفتوى بالفتوى وعدم وجوب تحصيل العلم بمقدار ما فات في قضائه فيما علم كثرته ، وكذا في عدم وجوب التّرتيب بين الحاضرة والفائتة في المسألة المسطورة ، ومسألة عدم وجوب الاحتياط في الشّبهة الغير محصورة ، وفي مسألة الجبائر والدّماء المعفوّة ، ومسألة الاكتفاء بالانحناء والقعود والاضطجاع في الصّلاة وعدم وجوب الصّوم على ذي العطاش والشّيخ والشّيخة ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، من أوّل الفقه إلى آخره ، سيّما في أبواب العبادات ، فكيف يقتصر مع هذا كلّه ، على رفع التّكليف بغير المقدور الّذي استقلّ العقل بقبحه مطلقاً في حقّ جميع المكلّفين من غير اختصاصه بأمّة. هذا بعض الكلام في الموضع الاوّل.

٢٢٩

الموضع الثاني :

الموضع الثّاني : في بيان معاني الالفاظ الواردة في الكتاب والسّنّة ، ومعاقد الاجماعات المنقولة ، ممّا تعلّق به الحكم في القاعدة ، والمراد منها في كلام الشّارع ، والكلام فيه يقع ، تارة ، في نقل ما يتعلّق بالمقام من كلمات اللّغويّين ، وبيان ما يظهر منها ، وما يستفاد من الأخبار ، من بيان موضوع حكم الشّارع وإن لم ينطبق على المعنى العرفي والحقيقة اللّغويّة ، واخرى في بيان ما يقتضيه الأصل والقاعدة ، في الموارد المشكوكة عند عدم تبيّن المراد ، وعدم الضّابط لتشخيص ما يشكّ فيه من الجزئيّات.

الجهة الاولى : في معنى الألفاظ الواردة في القاعدة

امّا الكلام من الجهة الاولى فملخّصه : إنّ الألفاظ الموجودة في الكتاب والسّنة ممّا يتعلّق بالمقام ، لفظ الحرج والضّيق ، والاصر والغلظة وما يقابلها في الجملة ، بناء على كون المراد من الطّاقة والسّعة ما يقابل القدرة والتمكن.

إمّا الحرج فقد فسّر في الصّحاح (١) بالضّيق ، قال : يقال ، مكان حرج : أي ضيّق ، وفسّره بالإثم. وقريب منه في ما القاموس (٢) ، وفي النّهاية (٣) الحرج في الأصل الضيق ويقع على الإثم والحرام وقيل الحرج أضيق الضّيق. وفي المجمع (٤) : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي ما ضيق. وعن الشّيخ عليّ بن ابراهيم (٥) : الحرج الّذي لا مدخل له ، والضّيق ما يكون له مدخل وقد فسّر في الأحاديث بالضّيق.

هذا وأمّا العسر فقد ذكر في النّهاية (٦) : إنّه ضدّ اليسر وهو الضّيق ، والشّدّة ،

__________________

(١) الصحاح ١ : ٣٠٥ (حرج).

(٢) القاموس ١ : ١٨٢.

(٣) النهاية ١ : ٣٤٧.

(٤) مجمع البحرين ١ : ٤٨٣.

(٥) الفروق اللغوية ، أبو هلال العسكري : ١٨١ ، مجمع البحرين عن الشيخ علي بن ابراهيم ١ : ٤٨٣.

(٦) النهاية ٥ : ٢٩٥ ، والقاموس ٢ : ٨٨.

٢٣٠

والصّعوبة. وفي المجمع (١) : عسر أي : صعب وأعسر الرّجل أي : ضاق.

وأمّا الإصر ففي الصّحاح (٢) : أصره حبسه وأصرت الشيء إصراً كسرته» إلى أن قال : «والإصر العهد والذّنب والثّقل» انتهى. وفي القاموس (٣) : ما يقرب منه ، وفي النّهاية (٤) : الاصر الإثم والصّعوبة وأصله من الضّيق والحبس انتهى. وفي مجمع البحرين (٥) : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي ذنباً ، يشقّ علينا ، وقيل : عهداً يعجز عن القيام به. انتهى كلامه رفع مقامه.

هذه جملة من كلمات اللّغويّين ، والمستفاد منها كونها متقاربة وإن كان المستفاد من بعضها كون الحرج أضيق من الباقي إلَّا إنّ الحكم تابع ، لا وسعها ، ضرورة عدم التّنافي والتّعارض في المقام ؛ فانّه إذا فرض للصّعوبة مراتب يطلق على الضّعيف منها ، العسر ، وعلى الشّديد ، الحرج ، لم يكن هناك تعارض بين ما ينفي الأوّل وما ينفي الثّاني.

والظّاهر إنّ العرف العام في المقام لا يخالف اللّغة ، إلّا أنّه مع وضوح المعنى في الجملة حتّى أنّه ذكر بعض اللّغويّين : إنّ العسر واضح المعنى ، قد يقع الإشكال في صدق الألفاظ المذكورة في العرف المتّحد مع اللّغة على بعض مراتب الشدّة ، ولا يستفاد من اخبار الباب ضابط يرفع به الاشكال ، عن جميع موارد الشّكّ ، وإن كان المستفاد منها ما ينفع بالنّسبة إلى أكثر موارد الشكّ إذا قيست بالنّسبة إلى مواردها ، كمورد رواية عبد الأعلى ونحوه ، بل ربما يستعان في رفع الاشكال ، بموارد الآيات أيضاً ؛ حيث إنّه إذا علم مراد الشّارع من اللّفظ ، لا يلتفت إلى عدم مساعدة العرف ، ومساعدتهم ، كما في كثير من الالفاظ ، كالافتراق ونحوه ، وإن لم يكن لها حقيقة شرعيّة ولا متشرّعية ؛ ضرورة كون الحكم تابعاً للمراد من اللّفظ ، ولو كان مبني الاستعمال

__________________

(١) مجمع البحرين : ٨٨.

(٢) الصحاح ٢ : ٥٧٩ و ٨٤٥.

(٣) القاموس ١ : ٣٦٤.

(٤) النهاية ١ : ٥٤.

(٥) مجمع البحرين ١ : ٧٨.

٢٣١

على العلاقة والمجازيّة.

الجهة الثانية : في مقتضى الاصل عند الشك في تحقيق العسر

وأمّا الكلام من الجهة الثّانية : وهو بيان مقتضى الأصل عند الشكّ في تحقّق الحرج والعسر من جهة الشّبهة المفهوميّة.

فنقول : لا إشكال في أنّ مقتضى الأصل في مورد الشكّ البراءة إلَّا أنّها لا تنفع في المقام ، بعد رجوع الشكّ إلى الشكّ في تخصيص عمومات التّكليف ، من جهة إجمال المخصّص المنفصل مفهوماً ، وتردّد المراد منه بين ما يوجب قلّة الخارج وكثرته ؛ فإنّ المتعيّن فيه على ما برهن عليه في محلّه الرجوع إلى العموم ، وأمّا الرجوع إلى الاصل الموضوعي أي أصالة عدم الحرج والعسر في محلّ الشّك كما يوهمه كلام بعض ، فهو ممّا لا معنى له كما هو واضح.

هذا لكن هنا شيء ، ينبغي التّنبيه عليه توضيحاً لما هو المقصود بالبيان في هذا الموضع. وهو : إنّ الإلزام سواء تعلّق بالفعل والترك من حيث استلزامه للمنع والحبس ، ملازم لنوع من الكلفة وإن كان متعلّقه في كمال اليسر والسهولة وهذا ما يقال : من أنّ طبيعة التّكليف ملازمة للغلظة والصّعوبة ، من غير فرق بين موارده ومتعلّقاته. فهذا لا يراد من أدلّة نفي الحرج جزماً ؛ ضرورة منافاته لتشريع الدّين والتّكليف ، ومنه يظهر ضعف ما قيل : من أنّ القول برفع الحرج يوجب رفع التّكليف فلا بدّ من ملاحظة العسر واليسر بالنّسبة إلى متعلّق الأحكام ، والفعل الّذي تعلّق به التّكليف الإلزامى ، فإن كان ممّا يتعاطيه النّاس ، من غير ضيق وعسر مع وجود داعي الامتثال في نفوسهم ، فهو يسر ، وان كان هناك فعل واجب آخر أسهل منه. وإن كان ممّا يشقّ الإقدام عليه ولا يتعاطيه النّاس من جهة غلظته وصعوبته في نفسه ، إلَّا إذا وجد هناك داعٍ قويّ يوجب الإقدام عليه ويغلب على المشقّة المانعة ، عن الإقدام ، فهو عسر

٢٣٢

وضيق ، وإن كان هناك ما هو أضيق منه ، فالحرج لا يوجب ترك الإقدام دائماً وكلّية وإنّما يوجب صعوبته ، وإن وجد ما يوجب الإقدام من الدّواعي الخارجيّة القويّة ، فإن كان هناك فعل تكون في نوعه هذه المشقة والضيق كالجهاد ، وتسليم النّفس وتمكينها من الحدود والقصاص ونحو ذلك ، وورد الإلزام به في الشّرعيات ، لم يكن مناص ، عن رفع اليد في مورده ، عن دليل نفي الحرج ، وإن كان هناك فعل لا يلازم بحسب نوعه المشقّة الشّديدة ، إلّا أنّه قد يوجد فيه الحرج من جهة العوارض الزّمانيّة ، أو المكانيّة ، أو حالات المكلّف كالضّعف والمرض ونحوهما ، لا ما يرجع إلى خسّة النّفس ودنائتها ونجلها فيرفع اليد ، عن عموم تكليفه ؛ بدليل نفي الحرج ، وقد يوجد هناك في نوع فعل ، أو فيه بحسب العوارض المذكورة مقدار من المشقّة ومرتبة من الشّدة ، لا يعلم صدق الحرج عليها بحسب الحقيقة العرفيّة ، من حيث غموضه وكثرة مراتب الشدّة ضعفاً وقوّةً ؛ فلا معنى للتمسّك بالنّسبة اليه بعمومات القاعدة ، بل لا بدّ من الرّجوع إلى دليل التّكليف ، سيّما بالنّسبة إلى الأوّل فإنّه مع العلم بصدق الحرج ، يلتزم بثبوته على ما عرفت ، فكيف حاله مع الشكّ في الصّدق.

وهذا جار بالنّسبة إلى جميع موارد تعلّق الحكم بالموضوعات اللّغوية والعرفيّة فانّ وضوحها في الجملة وصدقها على سبيل القطع واليقين كذلك ، لا يوجب الإحاطة بحقيقتها بما هي عليها.

ومن هنا يقع الشكّ كثيراً ، من جهة المفهوم بالنّسبة إلى أوضح المفاهيم العرفيّة ، كالماء والاناء ونحوهما ، ومن هنا قالوا بحجيّة قول اللّغوي في اللغات مع عدم اجتماع شروط الشّهادة ، بل مطلق الظّن فيها من حيث استلزام عدمها ، من جهة كثرة الحاجة ، سدّ باب الاستنباط والحكم في جميع موارد الاشتباه ، من حيث الرّجوع ، إلى الاصول اللّفظيّة إن وجدت ، أو العمليّة إن لم توجد.

نعم لو شكّ في المقام أو غيره في الصّدق ، لا من جهة المفهوم ، بل من جهة اشتباه الامور الخارجيّة لم يكن معنى للرّجوع إلى الاصول اللّفظية ، بل يتعيّن الرّجوع إلى

٢٣٣

الاصول العمليّة المختلفة ، من حيث الاقتضاء بحسب الموارد.

فقد يتوهّم في المقام فيما كان الشكّ في العسر من جهة اشتباه الامور الخارجيّة ، الرّجوع إلى أصالة عدمه ، كما إنّه قد يعارض بأصالة عدم اليسر وأنت خبير بما فيهما سيّما الثّاني.

الموضع الثالث : في تخصيص القاعدة وعدمه

الموضع الثّالث : في تطرّق التّخصيص إلى القاعدة وعدمه. والكلام قد يقع في إمكانه ، وقد يقع في وقوعه ، وقد يقع في كثرته بعد وقوعه.

الجهة الاولى : في امكان وقوع التخصيص

إمّا الكلام من الجهة الأولى : فهو مبنيّ على كون رفع العسر عقليّاً أو سمعيّاً على ما أشرنا إليه سابقاً ، وقد عرفت ذهاب السيّد السّند المتقدّم ذكره ، إلى كونه عقليّاً مطلقاً ولازمه عدم وقوعه في شريعة من الشّرائع ، كالتّكليف بغير المقدور ، فلا بدّ له من تأويل ما دلّ من الكتاب والسنّة على وقوعه في الشّرائع السّابقة ، والمشهور كونه شرعيّاً في غير ما يوجب الاختلال.

وهو الحقّ. لنا : وجود المقتضي للتّكليف في مورده وعدم المانع.

إمّا الأوّل : فلأنّه المفروض مضافاً إلى ما دلّ على أنّ الأجر بقدر المشقّة وأنّ أفضل الأعمال أحمزها الكاشف عن تأكيد الحسن والمصلحة في الفعل.

وامّا الثّاني : فلأنّ المفروض وجود القدرة بالنّسبة اليه. وأمّا ما ذكره السيّد المتقدّم ذكره سابقاً من منافات التّكليف به للرّحمة الإلهيّة على العباد ، وقاعدة اللّطف ، من حيث إيجابه لترك الطّاعة والتّقرب إلى المعصية. ومن هنا كان مبني تبليغ الشّرع بل الشّرائع كافّة على التّدريج من حيث كونه اقرب إلى العمل ، ولطاعة الله عزوجل والرّسول.

٢٣٤

ففيه : إنّ الرّحمة واللّطف قد يقتضيان إثبات التّكليف به لا رفعه ؛ ضرورة أنّه إذا كان هناك ما هو أهمّ بمراتب في نظر الشّارع العالم بالغيب ، من تسهيل الأمر على العباد ، كحفظ الإسلام ، ونواميس الشّرع ، وترويج الدّين ، الملحوظ في الجهاد ، وحفظ النّظام ، الملحوظ في القصاص ؛ ولذا قال عزّ اسمه وجلّ شانه : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(١) والحدود الشّرعيّة ونحوها من الامور المهمّة الرّاجعة مصالحها إلى العباد فلا يحكم العقل من جهة الرّحم واللّطف ؛ بقبح جعل الحكم ، بل يحكم بوجوبه ، إذا اطلع على الجهة ، هذا مضافاً ، إلى عدم المكان انكار وقوعه في الشّرائع السابقة ، بعد تظافر الآيات وتواتر الأخبار الدّالة بالصّراحة والنصوصيّة عليه ، فكيف يمكن مع ذلك القول بكون رفعه عقليّاً مع أنّ الدليل العقلي لا يقبل التّخصيص ، نعم حس التّسهيل ومصلحته قد تكافئ مصلحة الفعل ، بل يرجّح عليها ؛ فيحكم الشّارع برفع التّكليف لكنّه ليس دائميّاً. ومن هنا يندفع ما ربما يقال : من أنّه إذا كانت مصلحة التّسهيل أقوى فيلزم عدم وقوع التّكليف شرعاً ، بالامر الحرجي وان لم يحكم العقل باستحالته هذا بعض الكلام من الجهة الأولى.

الجهة الثانية : في وقوع التخصيص

وأمّا الجهة الثّانية : وهي وقوع التّكليف بالأمر الحرجي في شرعنا وعدمه ، لعدم الخلاف في وقوعه في الشّرائع السابقة.

فملخّص القول فيه : إنّ صريح غير واحد ، بل ظاهر الاكثرين وقوعه في شرعنا في الجملة ، كما في التّكليف بالجهاد ، والحجّ في حقّ البعيد ، سيّما في الأهوية الغير المعتدلة ، وتمكين النّفس من الحدود والقصاص والتّعزيرات ، والمجاهدة في تهذيب النّفس من الأخلاق الرذيلة المركوزة في كثير من النّفوس بالنّسبة إلى ما يجب رفعه ، وترك الاعتياد بالمحرّمات الشّرعيّة ، الّذي يشق خلافه ، والإجتهاد في الأحكام الشّرعيّة ،

__________________

(١) البقرة : ١٧٩.

٢٣٥

فإنّه ليس بأسهل من الجهاد الأكبر وإن كان وجوبه كفائيّاً ، لعدم الفرق على ما ستقف عليه في فروع المسألة بين أقسام الواجب في الجملة.

ودعوى أنّ مزاولة العلوم ليست باشقّ من أكثر ما يتعاطاه النّاس من الحرف والصّنائع الشّاقّة لأمر معاشهم.

ممّا لا يصدر إلّا ممّن لم يتعب نفسه لتحصيل الملكة التّامّة ، الموقوفة على مشقّة كثيرة ، من طلبة عصرنا وأمثالهم ممّن يزعم سهولة أمر الاجتهاد وإلّا فاهله معترفون بكونه في كمال الحرج والمشقّة ، ونسأل الله عزوجل التّوفيق لتحصيله مع العمل بلوازمه ، وكذا الصبر على المصائب والبلايا العظيمة ، كفوت الولد ، وأحبّ النّاس إلى الشّخص ، وعدم صدور ما يسخط الرّب عن الانسان ، ونذر الامور العسرة ، كالمشي إلى بيت الله [الحرام] ، وصوم الدّهر ، وإحياء الليالي ، على ما عليه جماعة من انعقاده ، والحج متسكعاً لمن زالت استطاعته بالتّقصير بعد استقرار الحجّ عليه إلى غير ذلك.

ودعوى ، عدم الحرج في الأمور المذكورة ، من حيث أنّ ملاحظة كثرة الثّواب وزيادة الأجر الموعود في الأعمال الشاقة يوجب سهولة الفعل.

فاسدة ، حيث إنّ الملاحظة المذكورة وأن صارت داعية على الإقدام على الفعل الشّاق في حقّ بعض النّفوس ، إلَّا أنّه لا يوجب انقلاب الفعل عمّا هو عليه من المشقّة ، ومن هنا استدعى الأولياء الخصيّصون عدم الابتلاء بالبلايا. ويكفيك شاهداً ما أفاده ثاني الشّهيدين قدس‌سرهما ، في رسالة مسكّن الفؤاد. بعد ما ذكر من الأجر على الصّبر على فوت الولد من الاستيجار إلى الله تعالى من عدم الابتلاء : وأمّا ما روي في حقّ أصحاب الطّف وحواريّي سيّدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين عليه وعلى أبيه وأمّه وأخيه وولده وأحبّائه وأصحابه وأهله ألف الصّلاة والسّلام : من مسابقة بعضهم على البعض ، في الشّهادة فإنّما هو بعد التّصميم على القتل ، من جهة رؤية مقامهم في الجنّة بإراءته عليه‌السلام ، غبّ الجهاد الاكبر وموتهم ، قبل الموت والشّهادة وقطع جميع العلائق الدّنيويّة ، الّذي هو أعظم بمراتب من الجهاد.

٢٣٦

بل الدّليل الدّال على زيادة الأجر ناطق على بقاء المشقّة ، وإلّا لزم ما يشبه الدّور فتأمّل.

كدعوى سهولة بذل النّفوس ؛ لداعي تبعيّة الرّئيس من المخلوق وإعانته وتنفيذ حكمه وإجراء أمره ومقتضيات نفسه ، فكيف بذلها لإطاعة أمر الخالق جلّ شأنه ، وتنفيذ حكم أوليائه صلوات الله عليهم ، والمجاهدة مع اعدائهم ؛ فانّه بعد قطع العلائق الدّنيويّة ، بمجاهدة النّفس والتّمكين من القتل والاسر والحرج والذّل ، الّتي دونها خرط القتاد.

وصريح جماعة عدم وقوعه في شرعنا أصلاً ، نظراً إلى ظواهر الآيات والأخبار المتقدّمة الحاكية ، عن اختصاص رفع الحرج بالأمّة المرحومة ، وأنّه من فضل الله تبارك وتعالى على نبيّنا صلوات الله عليه وعلى آله الطّاهرين ، من بين سائر الأنبياء على نبيّنا وآله عليهم‌السلام.

ودعوى الفرق بالقلّة والكثرة ، كدعوى اختصاص المرفوع بخصوص الأمور الشّاقة الثّابتة في الامم السّابقة.

كما ترى إذا الدّعويان ، سيّما الأخيرة ممّا يأباه سياق ، أكثر ما دلّ على نفي الحرج إن لم يأبه كلّه ، وتوجيه موارد وقوعه في شرعنا ، في الموارد الّتي عرفت الإشارة إليها ، بنحو من التّوجيه المخرج لها ، عن عنوان الحرج.

قال بعض أفاضل معاصرينا (١) ، في فصوله بعد ذكره الإشكال على ظواهر أدلّة نفي الحرج ، بلزوم الخروج عنها ، بالجهاد الثّابت في هذه الشّريعة ؛ بالضّرورة وأمثاله ، ما هذا لفظه : «والجواب أنّ المعتبر في المقام ، ما يكون فيه حرج وضيق على أغلب الأنام فلا عبرة بالنّادر منهم نفياً وإثباتاً ، ولا ريب أنّ الاقتحام في الحروب ممّا يستسهله ويتعاطاه أكثر النّاس ؛ لدفع العار ، عن نفسه ، وحماية ماله ومن ينتسب إليه من أهله

__________________

(١) الفصول : ٣٣٤.

٢٣٧

وعشيرته ، أو لتشييد أركان من يصله ببعض العطايا ، وينعم عليه ببعض الهدايا ، باذلال مخالفيه وإهلاك من يعاديه ، ولا ريب أنّ هذه الدّواعي متحقّقة في نفس المؤمن بالنّسبة إلى جهاد الكفّار ، مع ماله فيه من رجاء الفوز بعظيم الأجر وجسيم الذّخر فينبغي أن يكون في حقّه أسهل ، وكذا الحال في وجوب المدافعة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام وتحمّل ما يتوجّه إليهما من الاعداء من الطّعن والنّبل وغير ذلك ، وإن علم بأدائه إلى التّلف ، كما فعله اصحاب الحسين أعلى الله درجتهم وشكر سعيهم.

هذا ويمكن أن يقال : يختلف صدق العسر والحرج باختلاف المصالح المقتضية للتّكليف بالفعل ، فربّ فعل عسر يعدّ سهلاً بالنّسبة إلى ما يترتّب عليه من المصالح الجليلة ، وربما يعدّ ما دونه عسراً بالنّسبة إلى قلّة ما يترتّب عليه من المصالح».

إلى آخر ما أفاده بطوله ، ومن أراد الوقوف عليه فليراجع كتابه.

وأنت خيبر بأنّه بعد القطع ، بوقوع التّكليف بالأمور العسرة في شرعنا ، لا بدّ من رفع اليد ، عن الظّواهر في الجملة ، ولو بحملها على إحدى الدعويين ، كما يشهد للثانية قوله تعالى : (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)(١).

وأمّا ما ارتكبه الفاضل المتقدّم كلامه ، ففيه : إنّ الجهاد وبذل النفس لو كان في كمال السهولة ، لم يكن لبذل مولانا أمير المؤمنين نفسه ليلة المبيت على فراش رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فضل ورد فيه ، وكذلك لبذل أصحاب مولانا الحسين كثير فضل ، وهو كما ترى. هذا بعض الكلام من الجهة الثّانية.

الجهة الثالثة : في كثرة التخصيص

وأمّا الكلام في القاعدة من الجهة الثالثة : فحاصل القول فيه : إنّ المترائى من كلام بعض وصريح شيخنا الأستاذ العلّامة قدس‌سره في بعض كلماته ، كثرة الخارج ، عن القاعدة بالمخصّصات الكثيرة ، الموجبة لوهنها بحيث لا

__________________

(١) الاعراف : ١٥٧.

٢٣٨

يجوز العمل بها مع هذا الوهن ، إلّا بضمّ جابر من عمل جمع بها والإستناد إليها فيما يراد التمسك بها ، وإن صرّح في موضع آخر ، بكون عمومات رفع الحرج من العمومات القويّة الّتي لا يجوز رفع اليد عنها ، بكلّ ما يكون أخصّ منها ، من دون ملاحظة قوّة له.

والإنصاف عدم تحقّق كثرة الخارج منها ، بحيث يوجب الوهن فيها. وصدق هذه الدّعوى وكذبها لا يظهر إلّا بعد استقصاء ما خرج عنها فراجع.

نعم قد يقال بأنّ التّخصيصات وإن لم تبلغ تلك المرتبة ، توجب الوهن فيها ؛ من جهة سوقها مقام الامتنان الآبي عن التخصيص ، فتأمّل.

نعم في كثير من المحرّمات لا يلاحظ لزوم العسر ، فلعلّنا نتكلّم فيها بعد ذلك في تنبيهات المسألة فالأولى ، عدم التّمسّك بها بالنسبة إلى المحرّمات إلَّا بعد ملاحظة تمسك بعض الفقهاء.

الموضع الرابع : نسبة القاعدة مع العمومات المثبتة للتكليف

الموضع الرابع في بيان نسبتها مع العمومات ، المثبتة للتّكاليف الحرجيّة ، بعمومها ، من حيث كونها معارضة لها تعارض العموم من وجه ؛ فيتوقّف تقديم إحداهما في مادّة التّعارض ، على مرجّح ، على ما عليه جماعة منهم السيّد السند قدس‌سره في الرياض والفاضل النّراقي (١) قدس‌سره أو حاكمة عليها ومقدّمة ، من حيث المرتبة والذات عليها ، على ما صرّح به شيخنا قدس‌سره ، واختاره في غير موضع من كلماته ، في الاصول ، والفروع.

والّذي يقتضيه التحقيق الثّاني ، بل هو الظّاهر ، ممّا ورد في القاعدة ، في النّظر الاوّل ، حيث إنّه ينادي بأعلى صوته ، بكونه شارحاً ومفسّراً لعمومات التكاليف الواردة في الشرع ، والدّين كعمومات ، نفي الضّرر في الإسلام ونفي السّهو مع كثرته ، أو في النافلة ، أو في السهو ، أو مع حفظ الامام ، أو الماموم ، إلى غير ذلك ، بل هو الظاهر من كلمات

__________________

(١) النراقي ، العوائد : ١٩٥.

٢٣٩

الاصحاب أيضاً ، حيث أنّهم يقدّمونها ، على عمومات التّكليف من غير التّشبّث بمرجّح.

هذا كلّه ، مضافاً إلى أنّ قوله عليه‌السلام في رواية عبد الاعلى (١) : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يدلّ على كون تقدّمها ذاتيّاً بحيث لا مجال للرّيب فيه أصلاً كما لا يخفى.

هذا كلّه ، مضافاً إلى أنّه على تقدير التّعارض ، لا معنى لا يكال ، التّقديم وتعليقه ، على المرجّح الخارجي ؛ لأنّ سوقها في مقام الامتنان يكفي مرجّحاً من حيث إيجابه لقوّة دلالتها. وإلى أخصيتها حكماً من عمومات التكاليف بعد تخصّصها ، بما دلّ على ثبوت العنوانات الحرجيّة في الشريعة ، كالجهاد ونحوه ، بناءً على أظهريّة العامّ المخصّص ، من العام ، الغير المخصّص بملاحظة شيوع التّخصيص ، فتأمّل.

هذا مع أنّ تعارضها ليس مع عام واحد ، بل مع جميع عمومات التّكاليف ، فلو بني على تقديم العمومات عليها ، لزم طرحها رأساً وهو كما ترى. وتخصيص بعض العمومات بالمعارضة مع أنّه ترجيح بلا مرجّح ، لا محصّل له أصلاً كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر ، تطرّق المناقشة إلى ما تكرّر في كلام الفاضل النّراقي قدس‌سره من إيقاع التّعارض بينها وبين العمومات والرجوع إلى المرجّحات.

قال : في العوائد ، في البحث الخامس : وإذ عرفت ما ذكرنا لك ، في المقام. فاعلم إنّ وظيفتك في الأحكام بالنّسبة إلى أدلّة نفي العسر والحرج ، مثل وظيفتك في ساير العمومات.

فتعيّن ، أوّلاً : معنى العسر والحرج ، وتحكم بانتفائهما في الأحكام عموماً ، إلّا ما ظهر له مخصّص ، وتتفحّص عن مخصصات أدلّة نفي الحرج والعسر ، فان ظهر له معارض أخصّ منها مطلقاً تخصّصها به ، وإن كان أخصّ من وجه ، أو مساوياً لها فتعمل فيها بالقواعد المرجّحة ، ومع انتفاء التّرجيح ترجع إلى ما هو المرجع عند اليأس عن

__________________

(١) العوائد : القاعدة ١٩ في بيان نفي العسر والحرج : ١٩٤.

٢٤٠