الرسائل التسع

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

الرسائل التسع

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


الموضوع : الفقه
الناشر: انتشارات زهير
الطبعة: ٠
ISBN: 964-8076-27-8
الصفحات: ٣١٥

نعم حكم العقل المذكور مبنيّ على وجوب دفع العقاب المحتمل ومنعه ، كما عليه المحقق المذكور ، هدم للقواعد العقليّة الضرورية وموجب لإفحام الانبياء ، بل عدم وجوب المعرفة وإتمام الحجة على تارك النظر كما هو ظاهر ، إذ الاستناد في ذلك إلى الشرع كما ترى.

نعم لو قام هناك دليل شرعيّ على قناعة الشارع واقعاً باحتمال وجود الشيء في صحة العبادة ، كما في مسألة الجهل بالخبث مع عدم سبقه في اللباس ، أو البدن لا المسجد ، فإنه من محلّ الخلاف ، كشف ذلك ، عن كون المانع واقعاً النجاسة المعلومة في الجملة لا الواقعية ، لكنّه خارج ، عن مفروض البحث ، وإلى ما ذكرنا يرجع استدلال العلّامة للمدّعى في المنتهى ، كما ستقف على شرح القول فيه إن شاء تعالى.

وأمّا الثالث : فلمّا كان اعتباره في العبادة معلولاً للتكليف النفسيّ بالفرض ، عكس القسم الثاني ، فيحكم باختصاص اعتباره بمورد وجود التكليف النّفسي ؛ ضرورة اقتضاء التبعية لذلك.

دلالة الطلب النفسى على اعتبار شرط أو جزء في العبادة وعدمه

هذا فإن شئت توضيح القول في ذلك فاستمع لما يتلى عليك ، فنقول : إنه لا إشكال في أن الطلب النفسي المتعلّق بفعل لا يمكن أن يستكشف منه كون متعلّقه مربوطاً بالعبادة ومعتبراً فيها ، من غير فرق بين الاستكشاف بطريق الإنّ ، أو اللّمّ ؛ ضرورة أن الطّلب المتعلّق بالشيء من حيث هو لا يكشف إلّا عن كونه مطلوباً كذلك ، فكونه مطلوباً للغير لا يمكن استفادته منه ، حتى يستكشف منه الارتباط ، وإن أمكن صيرورة ما هو المطلوب بالذّات ، مقدّمة للغير ، ومطلوباً بالطلب المقدّميّ ، كما في الطهارة الحدثية فإنه ، لا ينافي ما ذكرنا أصلاً من عدم إمكان كشف الطلب النفسي ، من جهة الغيريّة ، كما لا يخفى وهذا من غاية وضوحه لا يحتاج إلى البيان.

نعم هنا شيء يمكن بمعونته وملاحظته استفادة اعتبار انتفاء الطلب النفسي ، في

١٤١

امتثال الأمر المتعلّق بالعبادة ، فإنه إذا تعلّق النهي النفسي بعنوان قد يجتمع مصداقاً مع أفعال العبادة كالغصب المجامع لأفعال الصلاة ، أو الطّهارات فلا محالة يمنع ، من امتثال الأمر المتعلّق بالعبادة ، المتوقف على قصد التقرّب بالفعل ، ضرورة امتناع التقرّب بالمبغوض. ومن هنا يجعل اباحة المكان ، أو اللباس شرطاً مثلاً ، فإن شرطيّتها ليست على حدّ سائر الشرائط المعتبرة في أصل العبادة وصحّتها فإنها ، كما عرفت شرط للامتثال لا العبادة ومن هنا لا يمكن استفادة الجزئية من الطّلب النفسي ، وحيث كانت الاستفادة من الجهة المذكورة ، فلا محالة يحكم بصحّة الصلاة مع الجهل ، الذي يعذر فيه المكلّف موضوعاً أو حكماً في الجملة ، بل مع نسيان الغصب موضوعاً ، أو حكماً في الجملة ، حيث أن الإباحة الظاهريّة وانتفاء تنجّز النهي يتأتّى معه امتثال الأمر وقصد التقرّب بفعل العبادة ، وإن كان حراماً في نفس الأمر ، بناءً على كون الوجه ما أشرنا إليه ، في مسألة امتناع اجتماع الأمر والنّهي ؛ لا كونهما ضدّين على ما قرّره جماعة ؛ فإنّه بناءً عليه يحتاج إلى كلفة ، دعوى عدم التضادّ بين النهي الواقعي ، والامر الفعلي وقصر التّضادّ بين الفعليّين منهما ؛ فانها كما ترى لا يستقيم أصلاً على ما حققناه في معنى الحكم الواقعي في محلّه ، وان الحكم الفعلي ليس حكماً آخر في قبال الحكم الواقعي ، وانما هو من شئونه ومراتبه بالنظر إلى حكم العقل.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا في كيفيّة الاستفادة ، اختصاصها بما إذا اجتمع العنوان المنهيّ عنه مع المأمور به مصداقاً ، وإمّا إذا انتفى ذلك ، فلا معنى للحكم بفساد العبادة بالنظر إلى النهي النفسيّ. ومن هنا حكموا وحكمنا بصحّة الصّلاة في لباس الشهرة ، وصحة صلاة كلّ من الرجل والمرأة ، فيما يختصّ بالاخر إلى غير ذلك ، خلافاً لفقيه عصره في كشف الغطاء (١) حيث حكم ببطلان الصّلاة فيما ذُكر ، زعماً منه أن النهي عن الستر بالمحرّم يقتضي بطلان الصّلاة ولو كان النّهي نفسيّاً ، وهو كما ترى ؛ ضرورة أنّ حيثية الشرطية حيثيّته توصّلية لتحصيل ما هو المقصود والغرض منه بفعل الحرام ،

__________________

(١) كشف الغطاء ٣ : ٢٧.

١٤٢

وهذا بخلاف الجزء فانه لا يمكن التوصّل بفعل الحرام إليه أصلاً وهذا مع ظهوره قد برهن عليه في محلّه.

وامّا الحكم ببطلان الصلاة في الحرير المحض للرجال ، والذهب لهم ، فليس من جهة النّهي النفسيّ المتعلّق ، بلبسهما ، بل من جهة النّهي الغيريّ المتعلّق بهما ، الكاشف ، عن اعتبار متعلّقه ، في أصل الماهيّة ، كما فَصَّل القول فيه ، في بابهما ، فلا يقاس بهما ما لم يرد فيه إلَّا النهي النفسي الغير مجامع للأمر مصداقاً.

المقدمة الرابعة :

في اختصاص دليل البراءة بما يحتمل التحريم

الرّابعة : إنه لا إشكال ، في اختصاص دليل البراءة عقلاً ونقلاً ، فيما يحتمل التحريم ، سواء كان في الشبهة الحكمية ، أو الموضوعيّة ، في التكليف ، أو المكلّف به ، بما إذا كان التحريم المحتمل ذاتياً نفسيّاً ، وعدم شموله للتحريم التشريعي فإذا شككنا في مشروعيّة صلاة مثلاً ، من جهة من الجهات كمّاً ، أو كيفاً فلا معنى للرجوع فيه إلى دليل البراءة ، والحكم بجوازها ، بل يحكم فيه بالتحريم.

إمّا على ما هو المشهور من كون التشريع إدخال ما لم يعلم من الدين فيه ، فهو ظاهر ؛ لكون الحرمة معلومة عند الشّك فلا شك في الحرمة حتّى يرجع فيه إلى البراءة.

وامّا على القول بكونه ، الإدخال في الدين كما استظهرناه في محلّه ؛ فلان المرجع عند الشّك هو أصالة عدم الأمر والجعل والتشريع ، فيترتّب عليها حكم التشريع في مرحلة الظاهر ؛ فلا معنى للرجوع إلى أصالة البراءة ضرورة ورود الاستصحاب ، أو حكومته عليها ، كما فصّلنا القول فيه في محلّه.

وهذا مع وضوحه قد نبّهوا عليه في باب البراءة والإشتغال ، في الأصول.

ومن هنا حكموا وحكمنا برجحان الاحتياط أو وجوبه ، في موارد الشكّ في المكلف به ، أو التكليف في العبادات المحتمله ، أو المحقّقة المردّدة مع ما فيها ، من الحرمة

١٤٣

التشريعيّة ، بل في غير العبادات أيضاً.

هذا وأمّا الحكم بحلّية التصرّف فيما يشترى من السوق ، أو في المرأة مع احتمال النسب ، المانع عن صحّة النكاح ، أو الرضاع كذلك ، فليس من جهة الاستناد إلى البراءة ، بل من جهة أصالة الصّحة وأصالة عدم العلاقة المانعة في النّكاح ، وإلّا فيحكم بالحرمة من جهة أصالة الفساد في المعاملات.

هذا ولكن قد يتوهّم من رواية مسعدة بن صدقة ، خلاف ما ذكرنا ؛ حيث أن الظاهر منها في بادئ النّظر ، كون الحلّية في الأمثلة المذكورة فيها مستندة إلى نفس الشك واحتمال الحلّية لا إلى الأصول الموضوعيّة ، لكنّه كما ترى في كمال الضعف والسقوط ، بعد التّأمّل في الرواية ، ولو بملاحظة ما هو المسلم عندهم ، من حكومة الأصول الموضوعيّة المقتضية ، للتحريم ، على البراءة الشرعيّة وورودها على البراءة العقلية ، بل فتح الباب المذكور يوجب فقهاً جديداً ، لم يقل به أحد فلا بدّ من جعل ما ذكر في الرواية من الموارد الشخصيّة ، من باب التقريب والتوضيح لا التمثيل ، ودعوى أن قوله في الرّواية : كلّ شيء لك حلال ، مثل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ونحوه ممّا يستفاد منه ، الوضع ، والامضاء ، وترتيب الآثار ، والصحّة وإن افترقا من حيث القضيّة الواقعيّة والظاهريّة ؛ حيث أنّ مدلول الرواية ، حكم ظاهريّ بما ذكر ، ومدلول الآية الشريفة حكم واقعيّ ، فجعل الرّواية بناء عليه دليلاً عليه ، ويحكم بصحّة الصّلاة مع الشك ؛ فاسدة جدّاً نظراً إلى أنّ المستفاد منها ، كنظائرها من الروايات المتحدة معها بحسب السياق ، بل التعبير ، مجرّد إثبات الحكم التكليفي الظاهريّ ، في مورد احتمال التحريم الواقعيّ الذاتي لا الاعمّ منه ومن التّحريم التشريعي ، على ما عرفت سابقاً ، فإن غاية الحلّيّة في الرّواية العلم بالحرمة الظاهرة فيما ذكرنا ، غاية الظهور ، فلا محالّة يحكم بكون سوقها سوق سائر أخبار الحلّية الظاهريّة ؛ فلا معنى لجعل الرواية أصلاً في باب الشّك في الأجزاء والشرائط مقتضياً لصحّة الصّلاة مع الشك فيهما.

__________________

(١). البقره / ٢٧٥.

١٤٤

هذا مضافاً إلى ما أشرنا إليه ، من لزوم الالتزام بفقه جديد على المعنى المذكور ، أو التخصيص الذي لا يلتزم به أحد ويستهجن [عليه] جداً.

المقدمة الخامسة :

في امارية يد المسلم وسوق المسلمين

الخامسة : أنّه لا ريب ولا إشكال ، في اختصاص ما جَعل يد المسلم وسوق الإسلام دليلاً عند الشكّ من الأخبار ، بالشكّ في التذكية لحماً أو جلداً ؛ فلا تعلّق له بالشّكّ في مفروض البحث ، فإنّه من حيث الشكّ في حلّية ما أخذ منه الجلد ، أو الصّوف ، أو الوبر ، المعمول منهما اللّباس ، وإن علم بجريان التذكية الشرعية عليه ، فلا معنى للتشبث بذيل الأخبار المذكورة في مفروض المقام ، كما صنعه بعض أفاضل من قارب عصرنا فيما عرفت من كلامه.

وما ذكرنا من الاختصاص وإن كان أمراً ظاهراً لمن راجع الأخبار المذكورة ، ومن هنا لم يستشهد بها أحد في المقام مع استشهادهم بها ، في مسألة الشكّ ، في التذكية ، في باب اللّحوم والجلود المشكوكين ، لا في الصّوف والوبر والشعر ، نظراً إلى طهارة ما لا تحلّه الحيوة من الميتة عندهم ، إلّا أنه لا بأس بنقل جملة من الاخبار المذكورة لتزول ببركتها الشبهة المتوهّمة.

فمنها : ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن الحلبي «قال سئلت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفاف الّتي في السّوق ، فقال : اشتر وصلّ فيها حتى تعلم إنه ميّت بعينه» (١).

ومنها : ما في الصحيح أيضاً عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن مولانا الرضا عليه‌السلام ، «عن الخفّاف الّتي تأتي السّوق فنشتري الخفّ ، لا ندري أذكيّ هو أم لا؟ ما تقول في الصّلاة فيه وهو لا يدري أيصّلي فيه؟ قال : نعم إنا نشتري الخفّ ويصنع لي وأصّلي

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٢ : ٢٣٤ / ٩٢٠ / ١٢٨ ، الوسائل ٣ : ٤٩٠ / ٤٢٦٢ ، الكافي ٣ : ٤٠٣ / ٢٨.

١٤٥

فيه ، وليس عليكم المسألة» (١).

ومنها : ما في رواية أخرى له عنه أنه ، قال : من بعد ذلك «أنّ أبا جعفر كان يقول :

إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ؛ إنّ الدّين أوسع من ذلك» (٢).

ومنها : ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن سليمان ابن جعفر الجعفري أنّه سئل العبد الصّالح موسى بن جعفر ، «عن الرّجل يأتى السّوق فيشترى منه جبّه فرو لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصّلي فيها؟ قال : نعم ليس عليكم المسألة ، إنّ أبا جعفر كان يقول : إنّ الخوارج ضيفوا على انفسهم بجهالتهم إنّ الدين اوسع من ذلك» (٣).

ومنها : ما في الحسن عن جعفر بن محمّد بن يونس «أنّ أباه كتب إلى أبي الحسن يسأله ، عن الفرو والخفّ ألبسه وأصلّي فيه ولا أعلم انّه ذكيّ فكتب ، لا بأس به» (٤).

إلى غير ذلك من الاخبار الواردة في هذا الباب المطابقة لما ذكر ، ولا إشكال في اختصاص مدلولها بما ذكرنا ؛ حيث إنّ المصرّح فيها السؤال ، عن قدح احتمال الموت وعدم التذكية في الجلود المأخوذة ، وأين هذا من احتمال ، عدم حل اللحم مع القطع بالتذكية.

وهنا جملة من الرّوايات منافية في ابتداء النظر لما ذكرناه من الروايات ، إلَّا أنّها مختصّه أيضاً بما ذكر ، مثل : ما رواه الشيخ عن أبي بصير ، قال : «سألت أبا عبد الله عن الصلاة في الفراء فقال كان عليّ بن الحسين عليهما‌السلام رجلاً صرداً فلا يدفئه فراء الحجاز لان دباغها بالقرط فكان يبعث إلى العراق فيؤتى بالفرو فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه فكان يسأل عن ذلك ، فيقول : إن أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة ويزعمون أن دباغه ذكوته» (٥).

__________________

(١) قرب الاسناد : ٣٨٥ / ١٣٠٧ ، التهذيب ٢ : ٣٧١ / ١٥٤٦ / ٧٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٥٨ / ٧٩١ ، التهذيب ٢ : ٣٦٨ / ١٥٢٩ / ٦١.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٦٧ / ٧٨٧ ، الوسائل ٤ : ٤٥٦ / ٥٧٠٦ / ١.

(٤) الوسائل ٤ : ٤٥٦ / ٥٧٠٨ / ٣ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ١٦٧ / ٧٨٩.

(٥) الكافي ٣ : ٣٩٧ / ٢ ، التهذيب ٢ : ٢٠٣ / ٧٩٦ / ٤ ، الوسائل ٤ : ٤٦٢ / ٥٧٣٠ / ٢.

١٤٦

وما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : «قلت : لأبي عبد الله إنّي أدخل سوق المسلمين أعني هذا الخلق الذين يدّعون الإسلام فأشتري منهم الفراء ، للتجارة فأقول : لصاحبها أليس هي ذكيّة؟ فيقول : بلى فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكيّة؟

فقال : لا ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول قد شرط الذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة ، قلت :

وما أفسد ذلك؟ قال : استحلال أهل العراق للميتة وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكوته ، ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك ، إلّا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

إلى غير ذلك وهذه كما ترى وإن كانت معارضة للأخبار المتقدمه بظواهرها في بادي النظر ، إلَّا أنها صريحة أيضاً ، في حكم الجلد المردّد من حيث التذكية والموت.

المقدمة السادسة :

في ان المنفي بادلة نفي الحرج هو الحرج الشخصي

السّادسة : أنه لا ينبغي الاشكال ، في أنّ الحكم المنفيّ بأدلة نفي العسر والحرج ، يمنع لزوم الحرج بحسب الموارد الشخصية ، في حقّ أشخاص المكلّفين وحالاتهم الجزئيّة ، فلو فرض لزوم الحرج من الالتزام بحكم بحسب دليله في حقّ مكلّف دون غيره ؛ فلا يقتضي دليل نفيّه نفيَه ، عمّن لا حرج في حقّه أصلاً كما أنه لو لزم من ثبوته في بعض حالات المكلّف دون بعضها ، لم يحكم بنفي الحكم بالنّسبة إلى الحالتين.

وهذا معنى اعتبار الحرج الشّخصي في كلماتهم في قبال الحرج النوعي والغالبي.

ومن هنا استشكلنا في التمسك بدليل نفي الحرج في الشبهة الغير المحصورة ؛ للحكم بعدم وجوب الاحتياط فيها على الاطلاق ، مع عدم لزومه إلّا في الجملة. وفي التمسّك به ، للحكم بعدم وجوب الاحتياط ، عند انسداد باب العلم في غالب الأحكام ، بالنسبة إلى جميع محتملات التكليف ، مع عدم لزومه إلّا في الجملة ، حسب ما حررنا القول فيه في محلّه تبعاً لشيخنا الاستاد العلامة قدس‌سره الشريف.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٨ / ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٠٤ / ٧٩٨ / ٦ ، الوسائل ٣ : ٥٠٣ / ٤٢٩٣ / ٤.

١٤٧

وهذا الذي ذكرنا جارٍ في كلّ مورد جعل لزوم العسر فيه علة لرفع الحكم عنه.

وأمّا إذا لوحظ حكمة في تشريع حكم في الشرع بحسب دليل الحكم ؛ فلا يلزم فيه الاطّراد قطعاً ، كما هو الشأن في سائر الحِكَم الملحوظة في تشريع الاحكام وجعلها.

وهذا الذي اخترناه وان لم يكن مسلّماً عندهم ؛ لمصير جمع في ظاهر كلامهم إلى كفاية الحرج النوعي والغالبي ، في رفع الأحكام الثابتة بمقتضى أدلّتها ، إلَّا أنه مقتضى التأمّل فيما اقتضى نفي الحرج ، سيّما بملاحظة سوقها ، في مقام الامتنان على العباد.

المقدمة السابعة :

قضيتان مردودتان

السّابعة : إنّه قد تكرّر في كلماتهم ، قضيتان لا أصل لهما في ظاهر النظر.

إحداهما : حصر المحرمات. وقد تمسك بها بعض ، في حكم المقام ونحوه. والاخرى :

عكسها ، وهو حصر المحللات. وقد تمسّك بها غير واحد من الأخبارييّن ، في الشبهة التحريميّة الحكميّة.

وأنت خبير بما في القضيتين.

١ حصر المحرمات إمّا حصر المحرمات ؛ فلأنه وإن وردت جملة من الاخبار ، في تعداد الكبائر ، إلَّا أنّه لا تعلّق لها بالحصر ، ثمّ بحصر المحرمات.

هذا مع منافات الحصر لقضيّة ، تثليث الامور ، فيما ورد عن النّبيّ والائمة صلوات الله عليهم.

وإن أريد التشبث في ذلك بذيل بعض الآيات الظاهرة في ابتداء النظر في الحصر كقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...)(١) الآية ونحوه ، ففيه إنّه لا بدّ من

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٥.

١٤٨

أن يحمل ، على الإضافي وإلّا توجّه عليه تخصيص الأكثر المستهجن جدّاً سيّما بالنسبة إلى القضية الحاصرة.

٢ ـ حصر المحللات

وإن أريد من حصر المحرمات حصرها بحسب العنوان الكلّي كما دلّ عليه أنه تحريم الخبائث ، فيتوجّه عليه ، عدم دلالته على الحصر ، ومعارضة بحصر المحللات ، في الطيّبات أيضاً.

هذا كلّه مضافاً إلى أن تسليم الحصر بحسب الحكم لا تعلق له بالشبهة الموضوعيّة ، ولا يفيد بالنسبة اليها أصلاً مع إنّ المقام لا تعلق له بالشبهة التحريميّة أصلاً ، على ما عرفت الكلام فيه ، وستعرفه.

وامّا حصر المحللات ، فلا وجه له أصلاً مضافاً ، إلى ما عرفت ، من منافاته لحديث التثليث ؛ ضرورة منافات وجود الأمر المشتبه المردّد ، من حيث التحليل والتحريم في لسان الشارع ؛ لحصر كلّ منهما في الشرع.

وبالجملة كلما زيد التامّل فيما ذكر زيد وضوح فساده وإن صدر عن بعض الأعلام.

المقدمة الثامنة :

في شرط التمسك بالإجماع العملي

الثامنة : إنّه قد ذكر في محلّه في الأصول : إنّه يعتبر في التمسّك بالسيرة ، المعبّر عنها في لسانهم ، بالإجماع العملي لإثبات حكم شرعي امور.

منها : انتهاء العمل إلى زمان المعصوم من النبيّ أو الوصيّ عليهما‌السلام.

ومنها : عدم المانع من ردع الامام بعد اطلاعه ، على تقدير عدم جواز الفعل في الواقع.

ومنها ارتداع العامل بردعه في وجه.

١٤٩

ومنها : عدم استناد العمل ، إلى التقليد.

ومنها : عدم استناده إلى عدم المبالات في الدين أو قلتها.

ومنها : العلم بعنوان العمل المنطبق على العنوان الذي يراد تسرية الحكم ، من السيرة إليه ، والاستدلال بهاله.

إلى غير ذلك ؛ فلو اختل احد هذه لم يجز التمسك بالسيرة جزماً ؛ فإذا حكم المعظم ببطلان الصلاة في اللباس المشكوك مثلاً ، فلا تجدي سيرة الناس في الأعصار على الصلاة فيه ، مع لزوم التقليد عليهم ، في الأحكام كما انّها لا تجدي ، فيما فرض انتفاء هذا الموضوع في زمان الائمة عليهم‌السلام ، أو كون العامل غافلاً عن حال اللباس. وان فرض عروض الشك له على تقدير التنبّه والالتفات.

هذا وهنا إجماع عملي آخر لا يعتبر فيه الامور المذكورة ، لكنّه لا تعلق له بالسيرة ، وهو الإجماع العملي من خصوص العلماء ؛ فانّه طريق إلى فتاويهم ، فهو كاشف حقيقةً عن الإجماع القولي.

إذا عرفت ما مهّدنا لك من المقدّمات فاستمع لما يتلى عليك من.

تحقيق وجوه الاقوال في المسألة

وجوه الأقوال في المسألة فنقول :

وجه قول المشهور

أمّا المشهور فيكفيهم دليلاً على ما اختاروه ، الأصل الذي اشار إليه في محكّي المنتهى ، وعدم دليل وارد عليه ، كما ستقف عليه ، حسب ما عرفت في بيانه ، في استقلال العقل ، في الحكم بعدم جواز القناعة باحتمال وجود ما فرض اعتباره في المأمور به ، كحكمه ، بعدم جواز القناعة باحتمال إيجاد المامور به ، وما اشتغلت الذّمة به يقيناً ، بل الاوّل راجع إلى الثاني في الحقيقة.

١٥٠

ومن هنا ذكرنا في طيّ المقدمات ، أنّ القول المذكور يجامع القول ، بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة أيضاً ، وليس المقام من الشبهة التحريميّة في شيء ولا من الشبهة الوجوبيّة ، حتّى يرجع فيه إلى البراءة ، وان عبّروا عن حكم المقام بعدم الجواز فإنّ مرادهم منه ، ليس التحريم الشّرعي ، بل عدم تجويز العقل للصلاة في الثوب المشتبه ، وعدم صحّتها ، فإذا حكم العقل بعدم جواز الإقدام ، فيحكم بفساد العمل جزماً ، إذا دخل فيه مع الشك ، وان تبيّن بعد العمل كون اللّباس ممّا يؤكل لحمه لعدم إمكان قصد القربة والحال هذه ، فعدم جواز الإقدام وإن كان مبناه قاعدة الاشتغال المبتنية على عدم تجويز العقل بالقناعة ، بالامتثال الاحتمالي للتكليف تكليف المعلوم ، إلَّا إنّه يكفي دليلاً للحكم ، بالفساد قطعاً بالملاحظة المذكورة ، كما يأتي الكلام فيه إن شاء تعالى.

وجوه القول بالجواز

أمّا القائلون بالجواز وصحّة الصلاة في مفروض البحث ، فقد استدلّوا بوجوه ، وان اقتصر بعضهم على بعضها :

الوجه الاول : التمسك بالاصل

١ ـ اصالة البراءة

الاوّل : الأصل ، أعني أصالة البراءة والحليّة ، من حيث أن غايتهما العلم التفصيلي بالحرمة ، ولم يحصل في المقام.

وهذا الوجه ، تمسك به غير واحد منهم ، على ما عرفت عند نقل كلماتهم ، في أصل المسألة زعماً منهم ، أنّ الشكّ في المسألة من الشكّ ، في التكليف لا الوضع.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّه : إمّا أن يريد إجراؤه في لبس الثوب المردّد مع قطع النظر عن الصلاة ومن حيث هو هو.

١٥١

وإمّا أن يريد إجراؤه فيه في الصلاة.

وإمّا أن يريد إجراؤه في الصلاة فيه.

إمّا الأول ، فيتوجّه عليه : أنّ المفروض جواز لبس غير المأكول إذا كان ذكيّاً ، فلا شك في المعلوم فضلاً عن المشكوك ، حتى يرجع إلى الأصل ، هذا مضافاً إلى انّ الشرطيّة ليست مسبّبة عن حرمة اللبس ، حتى يتمسك لنفيها بإجراء الأصل المذكور ، وإنّما ينفع إجراء الاصل المذكور فيما كانت الشرطيّة مسبّبة عن النّهي الفعلي المتعلّق باللّبس ، كما في الغصب على ما اسمعناك في طي المقدّمات.

وامّا الثاني : فيتوجّه عليه : أنّ حرمة لبس غير المأكول في الصلاة ، إنّما هي من جهة إبطالها لها ، وإلّا فليس له حرمة ذاتيّة في خصوص هذه الحالة ؛ فإذا حكم العقل على وجه الضرورة ، بعدم جواز لبس المشكوك ، من حيث حكمه ، بلزوم إحراز ما فرض شرطاً ، فلا معنى للرجوع إلى البراءة والحلّية فيه.

وامّا الثالث : فيتوجّه عليه : أنّ حرمة الصلاة في غير المأكول ، إنّما هي من جهة كونها فاقدة للشّرط ، فالحرمة تشريعيّة مختصة ، لا معنى للرجوع إلى اصالة البراءة والحلّية بالنسبة اليها ، على ما عرفت شرح القول فيه ، في مطاوي المقدمات.

وبالجملة ليس في المقام نهي مشكوك يرجع فيه إلى الاصل ، وقد أسمعناك أنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في وجود المأمور به ، في الخارج ، بعد الفراغ عن كيفيته وحقيقته فهل ترى من نفسك الرجوع إلى البراءة إذا شككت في إتيان الصلاة في الوقت؟! فحديث أصالة البراءة والحلّية أجنبيّ عن المقام. فانّه من قبيل الشكّ في الوضع حقيقة ، لا التكليف.

فان قلت : إن الشكّ في مفروض البحث مسبّب ، عن الشكّ في حرمة أكل لحم الحيوان المأخوذ منه الجلد ، أو الصّوف ، أو الوبر ، أو الشّعر ، فيحكم من جهة جريان أصالة الحلّية فيه ، بجواز الصلاة وصحّتها ، في اجزاءه. فإن شئت قلت : إنّ الرجوع إلى أصالة الاشتغال بالنسبة إلى الشرط المشكوك ، إنّما هو فيما لم يكن هناك أصل يقتضي

١٥٢

وجود الشّرط وليس المقام إلَّا مثل الشك في وجود الطهارة الحديثة ، مع جريان الاستصحاب فيها ، فالأصل الجاري في الحيوان ، المسلّم عند المجتهدين والاخباريّين من حيث كون الشبهة فيه في الموضوع ، المردّد بين الحلال والحرام وارد على أصالة الاشتغال.

قلت ما ذكر في كمال الوضوح ، من الفساد ، لا من جهة عدم فرض الابتلاء باللحم المأخوذ منه اللباس ، حتى يقال يكفي تحقق الابتلاء ببعض اجزاءه ، في إجراء الاصل ، مع ما فيه ، بل من جهة عدم فرض الشك ، في حكم الحيوان المأخوذ منه أصلاً ، فإنا إذا فرضنا الشك ، في أنّ الجنس الذي يحمل من بلاد الكفر ، ويسمّى بالماهوت ، مثلاً ، هل يعمل من صوف الكلب مثلاً ، أو وبره ، أو من صوف الغنم ووبره ، أو من وبر الأرانب ، أو الغنم مثلاً ، وهكذا فأين الحيوان المردّد بين ما يؤكل لحمه ويحرم ، حتى يصير مجرى لأصالة الحلّية وأصالة عدم أخذه من غير المأكول مضافاً إلى [كونها] معارضة ، وكونها من الاصول المثبتة ، لا تعلّق لها باصالة الحليّة ، فالأصل المذكور إنّما يجدي ، فيما إذا فرض هناك ، حيوان مردّد من حيث الشبهة الموضوعية ، علم بأخذ اللباس من أجزاءه ، كما هو الشأن فيما فرض أخذه من الحيوان المردّد بين الحلال والحرام ، من حيث الشبهة الحكميّة.

ومن هنا حكمنا بخروجه ، عن محلّ الكلام في عنوان المسألة سواءً قلنا بأنّ الأصل فيه الحليّة ، كما عليه المعظم أو الحرمة كما عليه الاخباريّون ، فان الحكم واضح عند كل فريق ، ولو بحسب الاصول الظاهريّة.

وأين هذا من محل البحث الذي لم يفرض الشكّ فيه ، من جهة الشك في اللحم المردّد ، مع العلم بأخذه منه بخصوصه. وتتميم المدّعى بانضمام عدم الفصل ، كما ترى ، ممّا تضحك منه الثكلى.

فان شئت قلت : الشك في مفروض البحث والتردّد فيه ، إنّما هو من جهة التردّد ، في أخذ الثوب من أيّ الحيوانين ، مع العلم بحالهما ، كالغنم والارنب مثلاً ، لا من جهة

١٥٣

التردّد في حال حيوان شخصيّ ، مع العلم بأخذه منه ، حتّى يرجع فيه إلى أصالة الحليّة.

فان قلت : إنّما يستقيم ما ذكر من منع الأصل ، فيما لو فرض سَوق أخبار الحلّية ، لبيان الحكم التكليفي فقط ، لم لا تجعل ، مسوقة لبيان الوضع وصحّة الصلاة مع الشك في الشّرط ، بالبناء على وجوده ، سيّما قوله في رواية مسعدة بن صدقة ، فإنّه ظاهر في بيان الحكم الوضعيّ والحليّة والجواز ، بمعنى ترتيب الآثار ولو بمعونة الأمثلة المذكورة فيها. قلت : قد اشبعنا الكلام ، في مطاوي المقدمات ، على فساد التوهم المذكور ، وأنه مضافاً إلى كونه تمحّلاً بارداً ، منافياً لظهور الرواية ، بل صراحتها ، موجب لفقه جديد ، أو تخصيص مستهجن لا يلتزم به أحد.

٢ ـ اصالة الطهارة

ويتلوا الرجوع إلى الاصل المذكور في الضعف ، بل أضعف منه في وجه ، الرجوع إلى أصالة الطهارة في مفروض البحث وجعلها واردةً على أصالة الاشتغال ، كما عرفته عن المحقق الورع الأردبيلي قدس‌سره عند نقل كلامه ، حيث أنّ مفروض الكلام ، ليس فيما تردّد الحيوان الماخوذ منه اللباس ، أو اجزاؤه ، بين طاهر العين ونجسه ، بل فيما تردّد بين مأكول اللّحم وغيره ، وإن كان طاهر العين ، كما هو ظاهر ، بل نقول لو فرض في بعض الفروض كون غير المأكول الذي هو أحد طرفي الدوران ، نجساً ، كالكلب والخنزير لم يلازم الحكم بطهارة المأخوذ المردّد ، جواز الصلاة فيه ، وإن لزمه الحكم بجواز لبسه ، من حيث البناء على طهارته ، بناءً على عدم جواز استعمال النجس واجزاءه والإنتفاع به مطلقاً ، بل عدم المانع فيه من الصلاة فيه ، من حيث النجاسة فتأمل فيما ذكرنا ، فإنه دقيق نافع في كثير في الأبواب.

١٥٤

الوجه الثاني :

الثّاني : انّ اعتبار الشرط المذكور في اللباس ، إنما هو مع العلم بالموضوع ، لا أن يكون وجوده الواقعي شرطاً ومعتبراً.

وهذا كما ترى ، يحتمل وجهين :

احدهما كون القدر الثابت من الدليل ، هو اعتبار الأمر المذكور مع العلم بالموضوع فتبقى صورة الشكّ خالية عن الدليل ، فيرجع إلى الشكّ في أصل الشرطيّة ، والشبهة الحكميّة ، فيرجع إلى أصالة البراءة ، كما ربما يستظهر من المحقّق القمى قدس‌سره ، فيما تقدّم من كلامه.

ثانيهما : إنّ الأمر مردّد بين الشرطية الواقعيّة والعلميّة فإذا اقتضى الدليل الثّاني ، فلا معنى لثبوت الأوّل ؛ إذ الجمع بين الأمرين ممّا لا محصّل له أصلاً ؛ لعدم إمكان اعتبار الشىء بحسب وجوده الواقعي والعلمي معاً مستقلاً ، بحيث يكون كلّ منهما ملحوظاً في قبال الآخر ، نعم اعتبار وجوده العلمي لا بوصف الموضوعيّة ، بل بوصف الطريقيّة يجامع الاعتبار من حيث الوجود الواقعي ، إلَّا أنّه في الحقيقة راجع إلى تعلق الاعتبار بنفس الواقع من حيث هو ، إمّا احتمال اعتباره مع الشكّ موضوعاً في قبال الاعتبار العلمي مع عدم الاعتبار بحسب الواقع ، فلم يعلم له معنىً محصل أيضاً ، كما هو ظاهر.

كون شرط عدم المأكولية في اللباس علمياً لا واقعياً

ثمّ إن الوجه في اختصاص مدلول الدليل بصورة العلم أحد أمور :

أحدهما : دعوى وضع الالفاظ ، للمعاني المعلومة.

ثانيها : دعوى انصرافها ، ولو في مقام التكليف إليها.

ثالثها : دعوى صراحة ، خصوص الأخبار في ذلك ، على ما عرفته ، من المحقّق القمّى رحمه‌الله.

١٥٥

رابعها : تنزيلها على صورة العلم ؛ من جهة قبح توجيه التكليف إلى الجاهل ؛ حيث أن الدليل المثبت للشرطيّة ، أو المانعيّة في الفرض ، النهي ، فلا يتوجّه إلى الجاهل ، فيقتصر في إثبات مفاده ، على صورة العلم بالموضوع.

خامسها : كون المانع من امتثال أوامر العبادة تنجّز النهي عنها ، مع فقدان الشرط المفروض ، ولا شك ، في عدم تنجّزه مع الشك في الموضوع.

أمّا الأمر الأول : فقد استظهره غير واحد ، من كلام السيد قدس‌سره في المدارك ، ومن هنا اقتصروا ، في ردّه : بكون الالفاظ موضوعة للمعاني النفس الامريّة ، الثابتة في الواقع ، من غير مدخليّة لعلم المخاطب بها ، لكنّ التأمّل في كلامه ، يشهد بعدم ظهوره في ذلك ، بل الظاهر منه ، عند التأمّل ، صرف دليل الاعتبار اليه ؛ من جهة كونه نهياً فيحمل على أحد الوجهين الأخيرين.

وأمّا الثاني : فقد زعمه المحقق القمى قدس‌سره في موثقة عبد الله بن بكير ، بعد تسليم إختلاف مساقها ، لمساق ساير أخبار الباب ، الصريحة بزعمه في الاختصاص ، بصورة العلم ؛ حيث ادعى فيما تقدم من كلامه كون المتبادر من الموثقة صورة العلم بحرمة الحيوان ، وفيه ما لا يخفى ؛ إذ لا شاهد لما زعمه من التبادر أصلاً وأمّا المعارضة المذكورة في كلامه ، بأن حمل اللفظ في غير المأكول الذي هو موضوع للقضيّة في الموثّقة ، على الواقع يوجب حمل لفظ الفساد في المحمول ، على الفساد الواقعي أيضاً ؛ لوحدة السّياق المانعة من حمل الاوّل على الواقع ، والثاني على الظاهر ؛ فلم يعلم له معنىً محصل ؛ إذ لم يتمسك أحد بالموثقة في مورد الشك ، حتّى يتوجّه عليه المعارضة المذكورة ؛ ضرورة فساد التمسك بها ، للحكم في مورد الشك في الموضوع ، كما هو الشان بالنسبة إلى جميع ما يدل على الحكم الشرعي ، للموضوعات النفس الامريّة ، الذي هو بمنزلة الكبرى ، بل بالنسبة إلى جميع القضايا الدالة على الكبرى ، فانّها ساكتة عن وجود صغرياتها ، وإنّما يتمسك بها لأصل ارتباط الصلاة في نفس الأمر بكون الملبوس من المأكول الموجب للشك في تحقق امتثال الأمر ، المعلوم عند الشك في حال

١٥٦

اللباس الذي يحكم العقل فيه بعدم القناعة ، باحتمال وجود شرط المأمور به ، فالاعتبار النفس الامري من محقّقات موضوع حكم العقل ، لا من الادلة على فساد الصلاة مع الشك ، حتى يتوجّه المعارضة المذكورة.

وأمّا الثالث : فلم يعهد من غير المحقق القمي قدس‌سره ولم ينقل من احد ولا بدّ للعلم بحال الدّعوى المذكورة صدقاً وكذباً ، من نقل أخبار المسألة ، غير ما رواه عبد الله بن بكير (١) ؛ فانّه اعترف بعدم صراحته في الاختصاص ، وإن جعل النراقي سبيلها سبيل سائر الأخبار ، فيما تقدم من كلامه.

فمنها : ما رواه الحسن بن عليّ الوشاء ، قال : «كان أبو عبد الله عليه‌السلام يكره الصلاة في وبر كلّ شيء لا يؤكل لحمه» (٢).

ومنها : ما رواه احمد بن اسحاق الابهري ، قال : «كتبت اليه جعلت فداك ، عندنا جوارب وتكك ، تعمل من وبر الأرانب ، فهل يجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة ولا تقيّة؟ فكتب : لا يجوز الصلاة فيها» (٣).

ومنها : ما رواه ابراهيم بن محمّد الهمداني ، قال : «كتبت اليه ، يسقط على ثوبي الوبر والشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة ولا ضرورة؟ فكتب : لا يجوز الصلاة فيه (٤). وهذه الأخبار كما ترى ، لا إشعار لها بالاختصاص فضلاً ، عن الدلالة فضلاً ، عن الصراحة ، فلعلّ مراده من صراحتها ، سوقها في مقام الطلب لا الوضع كالموثقة ؛ فلا بدّ من تنزيلها على صورة العلم فيرجع إلى الوجه الرابع حقيقة ، فهذا الوجه كما ترى أيضاً لا محصل له ، هذا مضافاً إلى أن تنزيل أخبار الباب على صورة العلم ، ينافى ما جزم به في المقام الثاني ، من وجوب الفحص عن حال الموضوع المردّد ، فتأمّل.

وأمّا الرابع : فيتوجّه عليه ، مضافاً إلى أنّ بعض اخبار الباب كالموثّقة صريح في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٢٥ ب ٢ من أبواب لباس المصلي ح ١.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٣٤٢ / ٢ باب ٤٣.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩٩ / ٩ ، التهذيب ٢ : ٢٠٦ / ٨٠٦ ، الاستبصار ١ : ٣٨٣ / ١٤٥١.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٠٦ / ٨٠٥ ، الاستبصار ١ : ٣٨٣ / ١٤٥٢.

١٥٧

بيان الوضع ، وإن زعم المحقق القمى خلاف ذلك في وجه ، وكونه في مقام التكليف وتبعه الفاضل النراقي مع الجزم ، ما اسمعناك في طي المقدمات في المقام عن قريب من أن الغرض ليس الاستدلال بنفس الأخبار في مورد الشك ، بل الغرض الاستناد إلى حكم العقل بعد ظهور الأخبار في اثبات الارتباط الواقعي ، ولا اشكال في دلالة ما اشتمل على النهي على ذلك ، من حيث كونه غيرياً ارشادياً مسبّباً عن المقدميّة والارتباط ؛ فحديث عدم توجّه النهى إلى الشاك اجنبي عن المقام.

وأمّا الخامس : فيتوجه عليه أنّ المانع من الامتثال عند الشكّ المفروض في حكم العقل ، هو احتمال عدم حصول المأمور به بعد العلم بحقيقته كماً وكيفاً ، لا النهي الوارد في الأخبار على ما اسمعناك عن قريب ؛ والوجه المذكور إنما يجدي فيما كان اعتبار الشيء في العبادة مسبباً عن النهي كما في اباحة المكان مثلاً ، بناءً على ما تسالموا عليه من عدم التضاد بين الأمر والنهي الواقعي على ما عرفت الكلام فيه ، لا فيما كان النهي مسبباً ، عن الاعتبار كما في المقام.

هذا وقد جعل في كلام غير واحد منهم كالأردبيلي (١) والمحقق القمي (٢) والفاضل النراقي (٣) كلٌّ من الاصل واخبار الحل دليلاً مستقلاً على المدّعى ، فلعلّ مرادهم من الاصل البراءة العقليّة ، أو ما كان مدلولاً للأخبار العامّة ، أو استصحاب البراءة وإلَّا فلا معنى لجعل كلٍّ منهما دليلاً في قبال الآخر كما هو ظاهر ، والجواب من الأخبار أيضاً ، ما عرفت من خروج الشك في مفروض البحث عن الشك في التحريم ، فلا تعلق لها بالمقام أصلاً ؛ فالمورد مورد الاشتغال لا البراءة ، من غير فرق بين جعل المدرك لها العقل ، أو الشّرع على ما شرحنا لك الكلام في طيّ المقدمات.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ : ٩٩.

(٢) غنائم الايام ٢ : ٣٠٩.

(٣) مستند الشيعة ٤ : ٣١٧.

١٥٨

الوجه الثالث :

التمسك بالاطلاق

الثّالث : إطلاق أوامر الصلاة. تمسّك به المحقّق الأردبيلي (١) ومن يحذو حذوه فيما تقدّم من كلماتهم قدّس الله اسرارهم الشريفة ، وفيه ما عرفت في طي المقدمات ؛ فلا نطيل المقام بطول الكلام.

نعم قد اشرنا إلى بطلان المناقشة في الاستدلال المذكور ، بمعارضة التمسك بإطلاق المقيد ، من حيث مساوات المطلق والمقيد بالنسبة إلى الفرد المردد نظراً إلى وضوح الفرق بينهما جدّاً ، من حيث أنّ القطع بصدق عنوان المطلق والشك في اصل صدق عنوان المقيد ، فيمكن في الاوّل ترتيب قياس مغالطي وصورة برهان للتمسك بالإطلاق بخلافه في الثاني.

الوجه الرابع :

التمسك بالكتاب

الرابع : الآيات الدالة بعمومها وإطلاقها على تحليل العنوانات العامّة مثل ما خلق ، والزينة ، واللباس إلى غير ذلك ، وكذا الأخبار الواردة بمساقها فإنها تقتضي جواز لبس المشكوك في الصلاة ، فيحكم بصحّة الصلاة فيها وهو المدّعي.

وهذا الوجه تمسك به المحقق الأردبيلي فيما تقدم من كلامه.

وهو كما ترى ؛ لأنّ التمسك بها أوهن من التمسك بأخبار الحلّ فإنّها عمومات ، أو اطلاقات اجتهاديّة ناظرة إلى الواقع لا تعرض لها لحكم الشبهة الموضوعيّة ، وهذا بخلاف عمومات الحليّة والاصول ، فانّها عمومات فقاهتية مسوقة لبيان حكم الشك والشبهة ، وانّ توجّه على التمسّك بكلٍّ منهما ، بأنّ الشك في المسألة ليس في التّحليل والتحريم ، وإنما الشك في الصحّة والفساد ، على ما عرفت مراراً ، فمرجع التمسك بها بعد

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ : ٩٥.

١٥٩

الاغماض عمّا ذكرنا ، إلى التمسك بالعموم ، أو الإطلاق في الشبهة الموضوعيّة الخارجيّة ، وقد عرفت ما يتوجّه عليه في كلامه المتقدّم ذكره.

الوجه الخامس :

التمسك بدليل حصر المحرمات والمحللات

الخامس : ما تمسك به المحقّق الأردبيلي (١) ولم اقف على تمسّك غيره به ، من حصر المحرمات ، وكلامه يحتمل وجهين : أحدهما : التمسك بالآية الظاهرة في الحصر ، كقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية وهذا الوجه مبنيّ على عطف قوله وحصر المحرّمات على قوله وتحليل كلّ ما خلق.

ثانيهما : التمسك بالحصر الخارجي بجعل قوله وحصر المحرمات ، عطفاً على الاصل.

ويتوجه على الأول : مضافاً إلى ما عرفت في طيّ المقدّمات ، ما اسمعناك في الجواب عن الوجه الرابع ، من خروج الشك في المسألة على الشك في التحريم أوّلاً وكون الشبهة على تقدير الاغماض ، من الشبهة في الموضوع ثانياً.

وعلى الثاني : مضافاً إلى ما عرفت في طيّ المقدّمات ، من وضوح فساده من جهة أنّ حصر المحرّمات الحكميّة ، لا يجدي في الموضوع المردّد بين الحلال والحرام بحسب الشبهة المصداقية الخارجة.

هذا مضافاً إلى ما عرفت من عدم رجوع الشك في المقام إلى الشك في التّحليل والتحريم حتّى يجدي التمسك بقضيّة الحصر.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ : ٩٥.

١٦٠