كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

في كرب إلا كشف عني.

وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة فإذا أصبح سقط مغشيا عليه وكانت الريح تميله كالسنبلة وكان يوما خارجا فلقيه رجل فسبه فثارت إليه العبيد والموالي فقال لهم علي مهلا كفوا ثم أقبل على ذلك الرجل فقال له ما ستر عنك من أمرنا أكثر ألك حاجة يغنيك عليها فاستحيا الرجل فألقى إليه علي خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول أشهد أنك من أولاد الرسل.

الخميصة كساء أسود مربع له علمان فإن لم يكن معلما فليس بخميصة

وكان عنده ع قوم أضياف فاستعجل خادما له بشواء كان في التنور فأقبل به الخادم مسرعا فسقط السفود منه على رأس بني لعلي بن الحسين تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله فقال علي للغلام وقد تحير الغلام واضطرب أنت حر فإنك لم تعتمده وأخذ في جهاز ابنه ودفنه.

ومنها أنه ع دخل على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل محمد يبكي فقال له علي ع ما شأنك فقال علي دين فقال له كم هو فقال خمسة عشر ألف دينار فقال علي بن الحسين هو علي فالتزمه عنه ..

وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ع أوصاني أبي فقال يا بني لا تصحبن خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق فقلت جعلت فداك يا أبة من هؤلاء الخمسة قال لا تصحبن فاسقا فإنه يبيعك بأكلة فما دونها فقلت يا أبة وما دونها قال يطمع فيها ثم لا ينالها قال قلت يا أبة ومن الثاني قال لا تصحبن البخيل فإنه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه قال فقلت ومن الثالث قال لا تصحبن كذابا فإنه بمنزلة السراب يبعد منك القريب ويقرب منك البعيد قال فقلت ومن الرابع قال لا تصحبن أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك قال قلت يا أبة من الخامس قال

__________________

(١) السفود ـ كتنور ويضم ـ : حديدة يشوى عليها اللحم.

(٢) السراب : ما تراه نصف النهار من اشتداد الحرّ كالماء يلصق بالأرض.

٨١

لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع (١).

وأما أولاده ع

فقيل كان له تسعة أولاد ذكور ولم تكن له أنثى وأسماء أولاده محمد الباقر وزيد الشهيد بالكوفة وعبد الله وعبيد الله والحسن والحسين وعلي وعمر.

وأما عمره فإنه مات في ثامن عشر المحرم من سنة أربع وتسعين وقيل خمس وتسعين وقد تقدم ذكر ولادته في سنة ثمان وثلاثين فيكون عمره سبعا وخمسين سنة وكان منها مع جده سنتين ومع عمه الحسن عشر سنين وأقام مع أبيه بعد عمه الحسن عشر سنين وبقي بعد قتل أبيه تتمة ذلك وقبره بالبقيع بمدينة رسول الله ص في القبر الذي فيه عمه الحسن في القبة التي فيها العباس بن عبد المطلب ع آخر كلام كمال الدين.

قلت إن كمال الدين رحمه‌الله شرع في الاختصار منذ ذكر الإمام زين العابدين ع والأخبار التي أوردها في أوصافه ع نقلها من كتاب حلية الأولياء للحافظ

__________________

(١) وزاد في رواية الكليني (ره) في الكافي (ج ٢ : ٦٤١) ورواية المفيد في الإختصاص ص ٢٣٩ بعد قوله (ع) ثلاثة مواضع :

قال اللّه عزّ وجلّ :«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ»إلى آخر الآية وقال عزّ وجلّ :«الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»وقال في البقرة«الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ»«انتهى».

قلت : الآية الأولى في سورة محمّد ص : ٢٣. والثانية في سورة الرعد : ٢٥. والثالثة في سورة البقرة : ٢٧. ثم إن اللعن في الآية الأولى والثانية ظاهر وأمّا في الثالثة فلاستلزام الخسران اللعن والبعد من رحمة اللّه تعالى ، واللّه سبحانه في أكثر القرآن وصف الكفّار بالخسران. قاله المحدث القمّيّ (ره) في هامش السفينة.

٨٢

أبي نعيم رحمه‌الله ولم ينقل من غيره إلا ذكر أولاده ع وقال إنهم تسعة وذكر ثمانية ولعله سهو من الناسخ.

قال الشيخ المفيد رحمه‌الله تعالى باب ذكر الإمام بعد الحسين بن علي ع وتاريخ مولده ودلائل إمامته ومبلغ سنه ومدة خلافته ووقت وفاته وسببها وموضع قبره وعدد أولاده ومختصر من أخباره والإمام بعد الحسين بن علي بن أبي طالب ع ابنه أبو محمد علي بن الحسين زين العابدين ص وكان يكنى أيضا أبا الحسن وأمه شاه زنان بنت يزدجرد بن شهريار بن كسرى ويقال إن اسمها كان شهر بانويه وكان أمير المؤمنين ع ولى حريث بن جابر الجعفي جانبا من المشرق فبعث إليه ببنتي يزدجرد بن شهريار بن كسرى فنحل ابنه الحسين ع شاه زنان فأولدها زين العابدين ع ونحل الأخرى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه فولدت له القاسم بن محمد بن أبي بكر فهما ابنا خالة وكان مولد علي بن الحسين ع بالمدينة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة فبقي مع جده أمير المؤمنين سنتين ومع عمه الحسن ع اثنتي عشرة سنة ومع أبيه الحسين ع ثلاثا وعشرين سنة وبعد أبيه أربعا وثلاثين سنة وتوفي بالمدينة سنة خمس وتسعين سنة للهجرة وله يومئذ سبع وخمسون سنة وكانت إمامته عشرين سنة ودفن بالبقيع مع عمه الحسن بن علي ع.

وثبتت له الإمامة من وجوه أحدها أنه كان أفضل خلق الله بعد أبيه علما وعملا فالإمامة للأفضل دون المفضول بدلائل العقول.

ومنها أنه كان ع أولى بأبيه الحسين ع وأحقهم بمقامه من بعده بالفضل والنسب والأولى بالإمام الماضي أحق بمقامه من غيره لدلالة آية ذوي الأرحام وقصة زكريا ع.

ومنها وجوب الإمامة عقلا في كل زمان وفساد دعوى كل مدع للإمامة في أيام علي بن الحسين ع أو مدعي له سواه فثبت فيه لاستحالة خلو الزمان من الإمام.

٨٣

ومنها ثبوت الإمامة أيضا في العترة خاصة بالنص وبالخبر عن النبي ص وفساد قول من ادعاها لمحمد بن الحنفية رضي الله عنه بتعريه من النص عليه بها فثبت أنها في علي بن الحسين ع إذ لا مدعي له الإمامة من العترة سوى محمد رضي الله عنه وخروجه عنها بما ذكرناه.

ومنها نص رسول الله ص بالإمامة عليه فيما روي من حديث اللوح الذي رواه جابر عن النبي ص (١) ورواه محمد بن علي الباقر ع عن أبيه عن جده ـ عن فاطمة بنت رسول الله ص ونص جده أمير المؤمنين ع في حياة أبيه الحسين بما ضمن ذلك من الأخبار ووصية أبيه الحسين ع إليه وإيداعه أم سلمة رضي الله عنها ماء قبضه على من بعده وقد كان جعل التماسه من أم سلمة علامة على إمامة الطالب له من الأنام وهذا باب يعرفه من تصفح الأخبار ولم نقصد في هذا الكتاب القول في معناه فنستقصيه على التمام.

قلت رحم الله شيخنا المفيد كان يجب أن يورد النص عليه من النبي ص ومن جده وأبيه ع مقدما على غيره فإن إمامته ع إذا كانت ثابتة بالنص كفتنا المئونة وحطت عنا أعباء المشقة ولم نحتج إلى إثباتها من طرق أخرى (٢) وقال باب ذكر طرف من أخبار علي بن الحسين ع. " حدثنا عبد الله بن موسى عن أبيه عن جده قال كانت أي فاطمة بنت الحسين ع تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين ع فما جلست إليه قط إلا قمت بخير قد استفدته إما خشية الله تعالى تحدث في قلبي لما أرى من خشيته الله أو علم قد استفدته منه.

__________________

(١) حديث اللوح طويل قد رواه رئيس المحدثين محمّد بن عليّ بن بابويه في كتابيه الاكمال (ج ١ : ٤٢٥ ط طهران سنة : ١٣٧٨) وعيون أخبار الرضا (ع) (ج ١ : ٤١ ط قم) بسنده عن جابر بن عبد اللّه بن الأنصاريّ (ره) وفيه أسامي الأئمّة الاثني عشر وطرف من أخبارهم فراجع ان شئت.

(٢) ولعلّ نظر المفيد (ره) في تقديم ساير الكلمات على النصّ اثبات إمامته (ع) أولا بالأدلة العقليّة وثانيا بالنصوص والأدلة النقلية ليكون أثبت في الحجة.

٨٤

وعن ابن شهاب الزهري قال حدثنا علي بن الحسين وكان أفضل هاشمي أدركناه قال أحبونا حب الإسلام فما زال حبكم لنا حتى صار شينا علينا.

وعن سعيد بن كلثوم قال كنت عند الصادق جعفر بن محمد ع فذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع فأطراه ومدحه بما هو أهله ثم قال والله ما أكل علي بن أبي طالب من الدنيا حراما قط حتى مضى لسبيله وما عرض له أمران قط هما لله رضى إلا أخذ بأشدهما عليه في دينه وما نزلت برسول الله ص نازلة قط إلا دعاه ثقة به وما أطاق أحد عمل رسول الله ص من هذه الأمة غيره وإن كان ليعمل عمل رجل كأن وجهه بين الجنة والنار يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله عزوجل والنجاة من النار مما كد بيديه ورشح منه جبينه وأنه كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة وما كان لباسه إلا الكرابيس إذا فضل شيء عن يده من كمه دعا بالجلم (١) فقصه ولا أشبهه من ولده ولا من أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين ع.

ولقد دخل ابنه أبو جعفر ع عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد فرآه قد اصفر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء (٢) ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود (٣) وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة قال أبو جعفر ع فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء فبكيت رحمة له وإذا هو يفكر فالتفت إلي بعد هنيهة من دخولي وقال يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب ع فأعطيته فقرا فيها شيئا يسيرا ثم تركها من يده تضجرا وقال من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب ع

__________________

(١) الجلم ـ بفتحتين ـ : المقراض.

(٢) رمضت عينه : حميت حتّى كادت تحترق.

(٣) انخرم أنفه : انشقت وترته.

٨٥

وعن عبد الله بن محمد القرشي قال كان علي بن الحسين ع إذا توضأ يصفر لونه فيقول له أهله ما هذا الذي يغشاك فيقول أتدرون من أتأهب للقيام بين يديه.

وعن أبي جعفر ع قال كان علي بن الحسين ع يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة.

وروى سفيان الثوري عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب (١) قال ذكر لعلي بن الحسين فضله فقال حسبنا أن نكون من صالحي قومنا.

وعن طاوس قال دخلت الحجر في الليل فإذا علي بن الحسين ع قد دخل فقام يصلي فصلى ما شاء الله ثم سجد فقلت رجل صالح من أهل بيت النبوة وساق الحديث المقدم ذكره وقال عبيدك بفنائك إلى آخرهن.

وعن إبراهيم بن علي عن أبيه قال حججت مع علي بن الحسين ع فالتاثت الناقة عليه في مسيرها فأشار إليها بالقضيب ثم قال أوه أوه لو لا القصاص ورد يده عنها.

وبهذا الإسناد قال حج علي بن الحسين ع ماشيا فسار عشرين يوما وليلة من المدينة إلى مكة.

" وعن زرارة بن أعين قال سمع قائل في جوف الليل وهو يقول أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة فهتف به هاتف من ناحية البقيع يسمع صوته ولا يرى شخصه ذاك علي بن الحسين ع.

" وعن الزهري قال لم أدرك أحدا من أهل هذا البيت يعني بيت النبي ص أفضل من علي بن الحسين ع.

وجلس إلى سعيد بن المسيب فتى من قريش فطلع علي بن الحسين ع فقال القرشي لابن المسيب من هذا يا أبا محمد فقال هذا سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع

__________________

(١) وفي بعض النسخ «عبد اللّه بن عبد الرحمن بن موهوب» وهو مصحف.

(٢) التاث في العمل : أبطأ.

٨٦

وسكبت عليه الماء جارية ليتوضأ للصلاة فنعست فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية إن الله عزوجل يقول (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) قال قد كظمت غيظي قالت (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال لها عفا الله عنك قالت (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.

وروي أنه ع دعا مملوكه مرتين فلم يجبه وأجابه في الثالثة فقال له يا بني أما سمعت صوتي قال بلى قال فما لك لم تجبني قال أمنتك قال الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني.

وعن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين ع قال خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط وساق ما أورده كمال الدين (١) وقد ذكره الحافظ أبو نعيم في الحلية وفيه أعلى الدنيا حزنك فرزق حاضر للبر والفاجر قال فقلت ما على هذا أحزن وأنه لكما تقول فقال على الآخرة فهو وعد صادق يحكم فيه ملك قاهر (٢) قال قلت ولا على هذا أحزن وأنه لكما تقول قال فعلى م حزنك قال فقلت أتخوف من فتنة ابن الزبير قال فضحك ثم قال يا علي بن الحسين هل رأيت أحدا قط توكل على الله فلم يكفه قلت لا قال يا علي بن الحسين هل رأيت أحدا قط خاف الله فلم ينجه قلت لا قال يا علي بن الحسين هل رأيت أحدا قط سأل الله فلم يعطه قلت لا ثم نظرت فإذا ليس قدامي أحد.

" وعن ابن إسحاق قال كان بالمدينة كذا وكذا أهل بيت يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه ولا يدرون من أين يأتيهم فلما مات علي بن الحسين ع فقدوا ذلك.

وعن عمرو بن دينار وساق حديث محمد بن أسامة بن زيد وبكائه عند موته بسبب الدين وهو خمسة عشر ألف دينار فقال ع لا تبك فهي علي وأنت منها بريء وقضاها عنه.

" حدث عبد الملك بن عبد العزيز قال لما ولى عبد الملك بن مروان الخلافة

__________________

(١) أي في حديث الخضر (ع (

(٢) وفي بعض النسخ «ملك قادر».

٨٧

رد إلى علي بن الحسين ع صدقات رسول الله ص وعلي بن أبي طالب ع وكانتا مضمونتين فخرج عمر بن علي إلى عبد الملك يتظلم إليه من نفسه فقال عبد الملك أقول كما قال ابن أبي الحقيق :

إنا إذا مالت دواعي الهوى

وأنصت السامع للقائل

واصطرع الناس بألبابهم

نقضي بحكم عادل فاضل

لا نجعل الباطل حقا ولا

نلط دون الحق بالباطل

نخاف أن تسفه أحلامنا

فتحمل الدهر مع الخامل

حدثنا الحسين بن زيد عن عمه عمر بن علي عن أبيه علي بن الحسين ع أنه كان يقول لم أر مثل التقدم في الدعاء فإن العبد ليس تحضره الإجابة في كل وقت.

وكان مما حفظ عنه ع من الدعاء حين بلغه توجه مسرف بن عقبة (١)

__________________

(١) وهو مسلم بن عقبة المرى ، وسموه لقبيح صنيعه واسرافه في اهراق الدماء مسرفا ، بعثه يزيد بن معاوية في سنة ٦٣ لمقاتلة أهل المدينة فعلى الباعث والمبعوث لعائن اللّه والملائكة والناس أجمعين فنزل حرة وأقم وخرج إليه أهل المدينة يحاربونه فكسرهم وقتل من الموالى ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل ومن الأنصار ألفا وأربعمائة ، وقيل ألفا وسبعمائة ومن قريش ألفا وثلاثمائة ، ودخل جنده المدينة فنهبوا الأموال وسبوا الذرّية واستباحوا الفروج وحملت منهم ثمانمائة حرة وولدن وكان يقال لأولئك الأولاد أولاد الحرة ولم يسلم منهم بيت إلا بيت عليّ بن الحسين (ع) وذلك لوصية يزيد له في أمره وقال له وانظر عليّ بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيرا وادن مجلسه فإنه لم يدخل في شيء مما دخل أهل المدينة فيه ، ثمّ أحضر الأعيان لمبايعة يزيد بن معاوية فلم يرض الا أن يبايعوه على أنّهم عبيد يزيد بن معاوية ، فمن تلكأ وأبطأ في البيعة أمر بضرب عنقه ثمّ انصرف بعد هذه الاعمال القبيحة نحو مكّة لمقاتلة عبد اللّه بن الزبير وهو مريض مدنف فمات بعد أيّام والقصة طويلة مدونة في كتب التواريخ أشرنا إليها ، وكانت بعد قتل الحسين (ع) ورمى الكعبة بالمنجنيق من أشنع شيء جرى في أيّام يزيد بن معاوية عليه اللعنة والعذاب

٨٨

إلى المدينة ـ رب كم من نعمة أنعمت بها علي قل لك عندها شكري وكم من بلية ابتليتني بها قل لك عندها صبري فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني ويا من قل عند بلائه صبري فلم يخذلني يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ويا ذا النعماء التي لا تحصى عددا صل على محمد وآل محمد وادفع عني شره فإني أدرأ بك في نحره وأستعيذ بك من شره.

فقدم مسرف بن عقبة المدينة وكان يقال لا يريد غير علي بن الحسين ع فسلم منه وأكرمه وحباه ووصله.

وجاء الحديث من غير وجه أن مسرف بن عقبة لما قدم إلى المدينة أرسل إلى علي بن الحسين ع فأتاه فلما صار إليه قربه وأكرمه وقال له وصاني أمير المؤمنين ببرك وتمييزك من غيرك فجزاه خيرا ثم قال أسرجوا له بغلتي وقال له انصرف إلى أهلك فإني أرى أن قد أفزعناهم وأتعبناك بمشيك إلينا ولو كان بأيدينا ما نقوى به على صلتك بقدر حقك لوصلناك فقال له علي بن الحسين ع ما أعذرني للأمير وركب فقال مسرف لجلسائه هذا الخير الذي لا شر فيه مع موضعه من رسول الله ص ومكانته منه.

فهذا طرف مما ورد من الحديث في فضائل زين العابدين ع. وجاءت الرواية أن علي بن الحسين كان في مسجد رسول الله ص ذات يوم إذ سمع قوما يشبهون الله بخلقه ففزع لذلك وارتاع له ونهض حتى أتى قبر رسول الله ص فوقف عنده فرفع صوته يناجي ربه فقال في مناجاته له ـ إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة فجهلوك وقدروك بالتقدير على غير ما أنت به شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ليس مثلك شيء إلهي ولم يدركوك وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك في خلقك يا إلهي مندوحة أن يتأولوك بل سووك بخلقك فمن ثم لم يعرفوك واتخذوا بعض آياتك ربا فبذلك وصفوك فتعاليت يا إلهي عما به المشبهون نعتوك.

وقد روى فقهاء العامة عنه من العلوم ما لا يحصى كثرة وحفظ عنه

٨٩

من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء ولو قصدنا إلى شرح ذلك لطال الخطاب وتقضي به الزمان.

وقد روت الشيعة له آيات ومعجزات وبراهين واضحات لم يتسع إيرادها في هذا المكان ووجودها في كتبهم المصنفة تنوب مناب إيرادها في هذا الكتاب والله الموفق للصواب باب ذكر ولد علي بن الحسين ع

ولد علي بن الحسين ع خمسة عشر ولدا ـ محمد المكنى أبا جعفر الباقر ع أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب ع وزيد وعمر أمهما أم ولد وعبد الله والحسن والحسين أمهم أم ولد والحسين الأصغر وعبد الرحمن وسليمان لأم ولد وعلي وكان أصغر ولد علي بن الحسين ع وخديجة أمهما أم ولد ومحمد الأصغر أمه أم ولد وفاطمة وعلية وأم كلثوم أمهن أم ولد انتهى كلام المفيد رحمه‌الله.

وقال الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي أبو الحسن ويقال أبو محمد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن مناف بن قصي سمع جماعة من الصحابة من الرجال والنساء منهم عمه الحسن ع وأبوه ع وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن العباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن الزبير والمسور بن مخزمة وأبو سعيد الساعدي والحارث بن هشام وأسامة بن زيد وبريدة بن الخصيب وسواهم.

ومن النساء فاطمة وعائشة وأم سلمة وأم أيمن والربيع بنت مسعود بن عفرا ودرة بنت أبي لهب وغيرهن.

وروى بسنده عن العيزار بن حريث قال كنت عند ابن عباس فأتاه علي بن الحسين فقال مرحبا بالحبيب بن الحبيب.

وقال ابن سعد كان علي بن الحسين ع مع أبيه وهو ابن ثلاث وعشرين سنة

٩٠

وكان مريضا نائما على فراشه فلما قتل الحسين ع قال شمر بن ذي الجوشن اقتلوا هذا فقال رجل من أصحابه يا سبحان الله أتقتل فتى مريضا حدثا لم يقاتل قال ابن سعد أخبرنا عبد الرحمن بن يونس عن سفيان عن جعفر بن محمد قال مات علي بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة قال ابن عمر فهذا يدلك على أن علي بن الحسين كان مع أبيه وهو ابن ثلاث أو أربع وعشرين سنة وليس قول من قال إنه كان صغيرا بشيء ولكنه كان مريضا ولم يقاتل وكيف يكون صغيرا وقد ولد له أبو جعفر محمد بن علي ع وقد لقي أبو جعفر جابر بن عبد الله وروى عنه ومات جابر بن عبد الله سنة ثمان وتسعين.

وعن أبي فروة قال مات علي بن الحسين بالمدينة ودفن بالبقيع ـ سنة أربع وتسعين وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها منهم.

حدثني حسين بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب ع قال مات أبي علي بن الحسين سنة أربع وتسعين وصلينا عليه بالبقيع وقال غيره مولده سنة ثمان وثلاثين من الهجرة ومات سنة خمس وتسعين وأمه أم ولد اسمها غزالة.

قال محمد بن سعيد ولعلي بن الحسين العقب من ولد الحسين وأخوه علي قتل مع أبيه بكربلاء ولم يولد له فولد علي بن الحسين عبد الله والحسن والحسن بن علي درج والحسين الأكبر درج أيضا ومحمد أبو جعفر الفقيه وعبد الله أمهم أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب وعمر وزيد المقتول بالكوفة قتله يوسف بن عمرو الثقفي في خلافة هشام بن عبد الملك وصلبه وعلي بن علي وخديجة وأمهم أم ولد وكلثوم بنت علي وسليمان لا عقب له ومليكة لأمهات أولاد والقاسم وأم الحسن وهي حسنة وأم الحسين وفاطمة لأمهات أولاد.

وبإسناده يرفعه إلى الكلبي قال ولى علي بن أبي طالب ع حريث بن جابر الحنفي جانبا من المشرق فبعث بنت يزدجرد بن شهريار بن كسرى فقال علي لابنه الحسين ع دونكها فأولدها علي بن الحسين. وفي حديث آخر أنه

٩١

أنفذ ببنتي يزدجرد بن شهريار فأعطى الحسين واحدة وأعطى محمد بن أبي بكر الأخرى فأولداهما وقد تقدم ذكر ذلك.

" وعن أبي حمزة قال كان علي بن الحسين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة.

" وعن عبد الله بن علي بن الحسين قال كان أبي يصلي الليل حتى يزحف إلى فراشه.

وعن أبي عبد الله قال كان علي بن الحسين يعول سبعين بيتا من أهل المدينة وهم لا يعلمون فلما مات فقدوا أثره.

" وعن الزهري قال ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين

وقد سبق ذكره

وروى بسنده حديث حج هشام وقصيدة الفرزدق

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

هذا ابن خير عباد الله كلهم

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا انتهى الكرم

ينمي إلى ذروة العز التي قصرت

عن نيلها عرب الإسلام والعجم (١)

يكاد يمسكه ..

يغضى حياء ... (٢)

من جده دان فضل الأنبياء له

وفضل أمته دانت له الأمم

ينشق نور الدجى إن كنت جاهله

مشقة من رسول الله نبعته (٣) ...

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

الله فضله قدما وشرفه

جرى بذاك له في لوحه القلم

فليس قولك من هذا بضائره ...

كلتا يديه غياث عم نفعهما

تستو كفان ولا يعروهما العدم (٤)

سهل الخليقة لا يخشى بوادره

يزينه اثنان حسن الخلق والشيم (٥)

 __________________

(١) نمى : ارتفع والذروة : أعلى كل شيء.

(٢) كذا في النسخ وقد أورد المصنّف (ره) بعض البيت دون التمام اتكالا على ما تقدم

(٣) النبعة بمعنى الأصل.

(٤) تستو كفان اي تستقطران.

(٥) البوادر جمع البادرة : الحدة أو ما يبدو من الإنسان عند الحدة والغضب من قول أو فعل.

٩٢

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا

حلو الشمائل تحلو عنده نعم (١)

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته

رحب الفناء أريب حين يعترم (٢)

عم البرية بالإحسان فانقشعت

عنه الغيابة والإملاق والعدم (٣)

من معشر حبهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

إن عد أهل التقى ...

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت

والأسد أسد الشرى والبأس محتدم (٤)

لا يقبض العسر بسطا من أكفهم

سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا

يستدفع السوء والبلوى بحبهم

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ...

يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم

خيم كريم وأيد بالندى هضم (٥)

أي الخلائق ليست في رقابهم ...

من يعرف الله يعرف أولية ذا ...

قال فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق القصة إلى آخرها.

وذكر أنه بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم وأن الفرزدق قال ما قلت ذلك إلا غضبا لله عزوجل ولرسوله ص فقال شكر الله لك ذلك.

: وكان علي بن الحسين ع يقول عند النظر إلى الهلال أيها الخلق المنير الدائب السريع المتقلب في منازل التقدير المتصرف في فلك التدبير آمنت بالذي نور بك

__________________

(١) فدحه الامر أو الدين : أثقله.

(٢) النقيبة : الطبيعة والخليقة وميمون النقيبة اي منجح الفعال والا ريب : العاقل. الحاذق الكامل. ويعترم على المجهول من العرام بمعنى الشدة اي عاقل إذا أصابته شدة.

(٣) انقشعت اي انكشفت.

(٤) الأزمة : الشدة والشرى : ناحية به غياض وآجام تكون فيها الأسود ويقال للشجعان : ما هم الا أسود الشرى. والمحتدم من الدم : الشديدة الحمرة ومن النار ذات لهبها.

(٥) قوله خيم اي لهم خيم والندى : المطر ويستعار للعطاء. وهضم ـ بضمتين ككتب ـ جمع هضم وهو في اللغة بمعنى المساعد على هضم الطعام ويقال فتيان هضوم يعنى انهم يهضمون المال اي ينفقونه. ويد هضوم : تجود بما لديها.

٩٣

الظلم وأوضح بك البهم (١) وجعلك آية من آيات ملكه وعلامة مع علامات سلطانه فامتهنك بالزيادة والنقصان (٢) والطلوع والأفول والإنارة والخسوف (٣) سبحانه ما ألطف ما دبر في أمرك وأحسن ما صنع في شأنك (٤) جعلك الله هلال شهر حادث لأمر الحادث جعلك الله هلال بركة لا تمحقها الأيام وطهارة لا تدنسها الآثام هلال أمن من الآفات وسلامة من السيئات اللهم اجعلنا من أرضى من طلع عليه وأزكى من نظر إليه ووفقنا فيه للتوبة وأعصمنا فيه بالمنة إنك أنت المنان بالجزيل آمين رب العالمين قال ثم تدعو بما شئت.

وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال كان علي بن الحسين ع إذا تلا هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) يقول اللهم ادفعني في أعلى درجات هذه الندبة وأعني بعزم الإرادة وهبني حسن المستعقب من نفسي وخذني منها حتى تتجرد خواطر الدنيا عن قلبي من برد خشيتي منك وارزقني قلبا ولسانا يتجاريان في ذم الدنيا وحسن التجافي منها حتى لا أقول إلا صدقت وأرني مصاديق إجابتك بحسن توفيقك حتى أكون في كل حال حيث أردت

فقد قرعت بي باب فضلك فاقة

بحد سنان نال قلبي فتوقها

 __________________

(١) البهم جمع البهم : الأسود يقال ليل بهيم : لا ضوء فيه إلى الصباح.

(٢) امتهنه : استعمله للمهنة اي الحذق بالخدمة والعمل. وفي الصحيفة الكاملة «وامتهنك».

(٣) وفي الصحيفة الكاملة «والكسوف» ويطلق الكسف على القمر أيضا كما يطلق على الشمس لكن الخسف في القمر أحسن ووجه اطلاق الكسوف والخسوف على كل من الشمس والقمر فلاشتراك اللفظين في معنى ذهاب نورهما واظلامهما.

(٤) وفي الصحيفة الكاملة «وألطف ما صنع في شأنك».

(٥) التوبة : ١١٩.

٩٤

وحتى متى أصف محن الدنيا ومقام الصديقين وانتحل عزما من إرادة مقيم بمدرجة الخطايا أشتكي ذل ملكة الدنيا وسوء أحكامها علي فقد رأيت وسمعت لو كنت أسمع في أداة فهم أو أنظر بنور يقظة.

وكلا ألاقي نكبة وفجيعة

وكأس مرادات ذعافا أذوقها (١)

وحتى متى أتعلل بالأماني وأسكن إلى الغرور وأعبد نفسي للدنيا على غضاضة سوء الاعتداد من ملكاتها وأنا أعرض لنكبات الدهر علي أتربص اشتمال البقاء وقوارع الموت تختلف حكمي في نفسي ويعتدل حكم الدنيا.

وهن المنايا أي واد سلكته

عليها طريقي أو علي طريقها

وحتى متى تعدني الدنيا فتخلف وأئتمنها فتخون لا تحدث جدة إلا بخلوق جدة (٢) ولا تجمع شملا إلا بتفريق شمل حتى كأنها غيرى (٣) محجبة ضنا تغار علي الألفة وتحسد أهل النعم.

فقد آذنتني بانقطاع وفرقة

وأومض لي من كل أفق بروقها (٤)

ومن أقطع عذرا من مغذ سير أيسكن إلى معرس غفلة بأدواء نبوة الدنيا (٥) ومرارة العيش وطيب نسيم الغرور قد أمرت تلك الحلاوة على القرون الخالية وحال دون ذلك النسيم هبوات (٥) وحسرات وكانت حركات فسكنت وذهب كل عالم بما فيه فما عيشة إلا تزيد مرارة ولا ضيقة إلا ويزداد ضيقها فكيف يرقأ دمع

__________________

(١) الذعاف ـ كغراب ـ : السم.

(٢) وفي رواية ابن شهرآشوب في المناقب «لا تحدث جديدة الا تخلق مثلها».

(٣) «غيرى» فعلى من الغيرة.

(٤) أومض البرق : لمع خفيفا وظهر.

(٥) اغذ في السير : اسرع. وعرس القوم : نزلوا في السفر والموضع «معرس».

والنبوّة : ما ارتفع من الأرض يقال هو يشكو نبوة الزمان وجفوته.

(٦) الهبوات جمع الهبوة : الغبار.

٩٥

لبيب أو يهدأ طرف (١) متوسم على سوء أحكام الدنيا وما تفجأ به أهلها من تصرف الحالات وسكون الحركات وكيف يسكن إليها من يعرفها وهي تفجع الآباء بالأبناء وتلهى الأبناء عن الآباء تعدمهم أشجان قلوبهم (٢) وتسلبهم قرة عيونهم

وترمي قساوات القلوب بأسهم

وجمر فراق لا يبوخ حريقها (٣)

وما عسيت أن أصف من محن الدنيا وأبلغ من كشف الغطاء عما وكل به دور الفلك من علوم الغيوب ولست أذكر منها إلا قليلا أفتنة أو مغيب ضريح تجافت عنه فاعتبر أيها السامع بهلكات الأمم وزوال النعم وفظاعة ما تسمع وترى من سوء آثارها في الديار الخالية والرسوم الفانية والربوع الصموت (٤)

وكم عالم أفنت فلم تبك شجوه

ولا بد أن تفنى سريعا لحوقها (٥)

فانظر بعين قلبك إلى مصارع أهل البذخ (٦) وتأمل معاقل الملوك ومصانع الجبارين وكيف عركتهم الدنيا بكلاكل الفناء وجاهرتهم بالمنكرات وسحبت عليهم أذيال البوار وطحنتهم طحن الرحى للحب واستودعتهم هوج الرياح (٧) تسحب عليهم أذيالها فوق مصارعهم في فلوات الأرض

فتلك مغانيهم وهذي قبورهم

توارثها أعصارها وحريقها

أيها المجتهد في آثار من مضى من قبلك من الأمم السالفة توقف وتفهم وانظر أي عز ملك أو نعيم أنس أو بشاشة ألف إلا نغصت أهله قرة أعينهم وفرقتهم

__________________

(١) رقأ الدمع : سكن وجف. وهدأ : سكن.

(٢) الأشجان جمع الشجن : الشعبة من كل شيء.

(٣) باخ النار : خمدت.

(٤) الربوع جمع الربع : الرجل. النعش. المنزل.

(٥) الشجو : الشوط من البكاء اي الغاية يقال : بكى فلان شجوه.

(٦) البدخ : الكبر.

(٧) الهوجاء. الريح التي لا تستوى في هبوبها وتقلع البيوت.

٩٦

أيدي المنون وألحقتهم بتجافيف التراب فأضحوا في فجوات قبورهم يتقلبون وفي بطون الهلكات عظاما ورفاتا وصلصالا في الأرض هامدون.

وآليت لا تبقى الليالي بشاشة

ولا جدة إلا سريعا خلوقها

وفي مطالع أهل البرزخ وخمود تلك الرقدة وطول تلك الإقامة طفيت مصابيح النظر واضمحلت غوامض الفكر وذم الغفول أهل العقول وكم بقيت متلذذا في طوامس هوامد تلك الغرفات (١) فنوهت بأسماء الملوك وهتفت بالجبارين ودعوت الأطباء والحكماء وناديت معادن الرسالة والأنبياء أتململ تململ السليم وأبكي بكاء الحزين وأنادي (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ).

سوى أنهم كانوا فبانوا وأنني

على جدد قصد سريعا لحوقها

وتذكرت مراتب الفهم وغضاضة فطن العقول بتذكر قلب جريح فصدعت الدنيا عما التذ بنواظر فكرها من سوء الغفلة ومن عجب كيف يسكن إليها من يعرفها وقد استذهلت عقله بسكونها وتزين المعاذير وخسأت أبصارهم عن عيب التدبير وكلما تراءت الآيات ونشرها من طي الدهر عن القرون الخالية الماضية وحالهم وما بهم وكيف كانوا وما الدنيا وغرور الأيام.

وهل هي إلا لوعة من ورائها

جوى قاتل أو حتف نفس يسوقها (٢)

وقد أغرق في ذم الدنيا الأدلاء على طرق النجاة من كل عالم فبكت العيون شجن القلوب فيها دما ثم درست تلك المعالم فتنكرت الآثار وجعلت في برهة من محن الدنيا وتفرقت ورثة الحكمة وبقيت فردا كقرن الأعضب وحيدا (٣) أقول فلا أجد سميعا وأتوجع فلا أجد مشتكى.

وإن أبكهم أحرض وكيف تجلدي

وفي القلب مني لوعة لا أطيقها (٤)

 __________________

(١) طمس الشيء : درس وانمحى. والهوامد جمع الهامد : البالي المسود المتغير.

(٢) الجوى الحرقة وشدة الحزن. تطاول المرض.

(٣) الأعضب : الظبي الذي انكسر أحد قرنيه. ه. م.

(٤) اجرض اي أهلك. وفي هذه الموعظة مواضع قد أعلمت عليها تحتاج إلى نسخة صحيحة يصحح منها (منه ره (.

٩٧

وحتى متى أتذكر حلاوة مذاق الدنيا وعذوبة مشارب أيامها وأقتفي آثار المريدين وأتنسم أرواح الماضين (١) مع سبقهم إلى الغل والفساد وتخلفي عنهم في فضالة طرق الدنيا منقطعا من الأخلاء فزادني جليل الخطب لفقدهم جوى وخانني الصبر حتى كأني أول ممتحن أتذكر معارف الدنيا وفراق الأحبة.

فلو رجعت تلك الليالي كعهدها

رأت أهلها في صورة لا تروقها

فمن أخص بمعاتبتي ومن أرشد بندبتي ومن أبكى ومن أدع أشجوا بهلكة الأموات أم بسوء خلف الأحياء وكل يبعث حزني ويستأثر بعبراتي ومن يسعدني فأبكى وقد سلبت القلوب لبها ورقا الدمع وحق للداء أن يذوب على طول مجانبة الأطباء وكيف بهم وقد خالفوا الأمرين وسبقهم زمان الهادين ووكلوا إلى أنفسهم يتنكسون في الضلالات في دياجير الظلمات.

حيارى وليل القوم داج نجومه

طوامس لا تجري بطيء خفوقها

قلت هذا الفصل من كلامه ع قد نظمه بعض الشعراء وأجاد في قوله :

قد كنت أبكي على ما فات من زمني

وأهل ودي جميع غير أشتات

واليوم إذ فرقت بيني وبينهم

نوى بكيت على أهل المروءات

وما حياة امرئ أضحت مدامعه

مقسومة بين أحياء وأموات

قال ع وقد انتحلت طوائف من هذه الأمة بعد مفارقتها أئمة الدين والشجرة النبوية إخلاص الديانة وأخذوا أنفسهم في مخائل الرهبانية وتغالوا في العلوم ووصفوا الإسلام (٢) بأحسن صفاتهم وتحلوا بأحسن السنة حتى إذا طال عليهم الأمد و (بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) وامتحنوا بمحن الصادقين رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدى وعلم النجاة يتفسحون تحت أعباء الديانة تفسح حاشية الإبل تحت

__________________

(١) وفي نسخة «الصالحين».

(٢) وفي نسخة «الايمان».

٩٨

أوراق البزل (١)

ولا تحرز السبق الرزايا وإن جرت

ولا يبلغ الغايات إلا سبوقها

وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا واحتجوا بمتشابه القرآن فتأولوه بآرائهم واتهموا مأثور الخبر مما استحسنوا يقتحمون في أغمار الشبهات ودياجير الظلمات بغير قبس نور من الكتاب ولا أثرة علم من مظان العلم بتحذير مثبطين زعموا أنهم على الرشد من غيهم وإلى من يفزع خلف هذه الأمة وقد درست أعلام الملة ودانت الأمة بالفرقة والاختلاف يكفر بعضهم بعضا والله تعالى يقول (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة وتأويل الحكمة إلا أهل الكتاب وأبناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى الذين احتج الله بهم على عباده ولم يدع الخلق سدى من غير حجة هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وبراهم من الآفات وافترض مودتهم في الكتاب

هم العروة الوثقى وهم معدن التقى

وخير حبال العالمين وثيقها

وعن يوسف بن أسباط قال حدثني أبي قال دخلت مسجد الكوفة فإذا شاب يناجي ربه وهو يقول في سجوده ـ سجد وجهي متعفرا في التراب لخالقي وحق له فقمت إليه فإذا هو علي بن الحسين فلما انفجر الفجر نهضت إليه فقلت له يا ابن رسول الله تعذب نفسك وقد فضلك الله بما فضلك فبكى ثم قال حدثني عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله ص كل عين باكية يوم القيامة إلا أربعة أعين عين بكت من خشية الله وعين فقئت في سبيل الله وعين غضت عن محارم الله وعين باتت ساهرة ساجدة يباهي بها الله الملائكة يقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي قد جافى بدنه عن المضاجع يدعوني خوفا من عذابي وطمعا في

__________________

(١) تفسح له في المجلس : توسع. والأوراق جمع الورق : الحي من كل حيوان. المال من الا بل وغيرها. والبزل جمع البازل : البعير الذي انشق نابه بدخوله في السنة التاسعة.

٩٩

رحمتي اشهدوا أني قد غفرت له

قلت هكذا أورده الحافظ في مسجد الكوفة وعلي بن الحسين فيما أظنه لم يصل إلى العراق إلا مع أبيه ع حين قتل ولما وصل هو إلى الكوفة لم يكن باختياره ولا متصرفا في نفسه فيمشي إلى الجامع ويصلي فيه وللتحقيق حكم. (١) وقال كان علي بن الحسين ع يبخل فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت.

وروى دخول علي بن الحسين ع على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه وتقبله بالخمسة عشر ألف دينار عنه إلا أنه قال محمد بن أسامة بن زيد.

" وعن سفيان كان علي بن الحسين ع يحمل معه جرابا فيه خبز فيتصدق به ويقول إن الصدقة تطفئ غضب الرب.

وعنه قال كان علي بن الحسين ع يقول ما يسرني بنصيبي من الذل حمر النعم.

وقيل كان هشام بن إسماعيل (٣) أسب شيء لعلي ولأهل بيته ع فعزل وأقيم على الغرائر فجاء علي بن الحسين ع فقال له يا ابن عم عافاك الله لقد ساءني ما صنع بك فادعنا إلى ما أحببت فقال (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)

__________________

(١) أقول : رواية أبى حمزة الثمالي الصلاة والدعاء المعروف عنه (ع) في مسجد الكوفة مشهورة ، وفي كتب العلماء مسطورة ، وأنه (ع) أخذه معه بعد ذلك لزيارة جده أمير المؤمنين (ع) فلا وجه لما ظنه (ره) واللّه العالم (كذا في هامش المطبوع).

(٢) أي ينسب إلى البخل مع أنه عليه السلام إذا فات وجدوه اه.

(٣) ذكر الطبريّ في تاريخه (ج ٥ ص ٢١٦) ان هشام بن إسماعيل كان واليا على العراق من قبل الوليد ثمّ عزله في سنة سبع وثمانين ، قال وحدّثني : محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عمر عن أبيه قال كان هشام بن إسماعيل يسئ جوارنا ويؤذينا ولقى منه عليّ بن الحسين أذى شديدا فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس ، فقال : ما أخاف الا من عليّ بن الحسين ، فمر به عليّ عليه السلام وقد وقف عند دار مروان وكان عليّ عليه السلام قد تقدم إلى خاصته ان لا يعرض له أحد منهم بكلمة ، فلما مر ناداه هشام بن إسماعيل اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

١٠٠