كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

وعن عروة بن الزبير أن رسول الله ص قبل الحسين ع وضمه إليه وجعل يشمه وعنده رجل من الأنصار فقال الأنصاري إن لي ابنا قد بلغ ما قبلته قط فقال رسول الله ص أرأيت إن كان الله تبارك وتعالى نزع الرحمة من قلبك فما ذنبي.

وعن يعلى العامري أنه خرج مع رسول الله ص إلى طعام دعوا له قال فاشتمل رسول الله ص أمام القوم وحسين ع مع غلمان يلعب فأراد رسول الله ص أن يأخذه فطفق الصبي يفر هاهنا مرة وهاهنا مرة فجعل رسول الله ص يضاحكه حتى أخذه قال فوضع إحدى يديه تحت قفاه والأخرى تحت ذقنه فوضع فاه على فيه وقبله وقال حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط (١).

وعن أبي هريرة قال خرج علينا رسول الله ص ومعه حسن وحسين ع هذا على عاتقه وهذا على عاتقه وهو يلثم (٢) هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا فقال له رجل يا رسول الله إنك لتحبهما فقال من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني.

قال الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي رحمه‌الله ومن مسند الحسين بن علي ع عن علي بن الحسين عن أبيه قال قال رسول الله ص إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه قال كذا ما لك نعم.

وعن علي بن الحسين عن أبيه ع أن رسول الله ص قال من حسن

__________________

(١) قال ابن الأثير وفي الحديث الحسين سبط من الأسباط اي أمة من الأمم في الخير والأسباط في أولاد إسحاق بن إبراهيم الخليل بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل ، واحدهم سبط فهو واقع على الأمة والأمة واقعة عليه ، ومنه الحديث الآخر : الحسن والحسين سبطا رسول اللّه (ص) أي طائفتان وقطعتان منه ، وقيل الأسباط خاصّة الأولاد ، وقيل : أولاد الأولاد وقيل : أولاد البنات.

(٢) لثم الوجه أو الفم : قبله.

٦١

إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

وعن عمارة بن غزية الأنصاري قال سمعت عبد الله بن علي بن حسين يحدث عن أبيه علي بن الحسين عن جده حسين بن علي قال قال رسول الله ص إن البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي ص.

وعن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه عن جده قال قال وجدت في قائم سيف رسول الله ص صحيفة مربوطة فيها أشد الناس عذابا القاتل غير قاتله والضارب غير ضاربه ومن جحد نعمة مواليه فقد برئ مما أنزل الله عزوجل.

أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد وأبو الحسن علي بن أبو شتكين بن عبد الله الفقيه الجوهري قالا أنبأنا أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون الحافظ الكوفي أنبأنا الشريف أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن وعدهن في يده خمسا (١) أنبأنا القاضي محمد بن عبد الله الجعفي وعدهن في يده خمسا أنبأنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن مخزوم ببغداد سنة ثلاثين وثلاثمائة قال حدثني علي بن الحسن السواق وعدهن في يده قال حدثني حرب بن الحسن الطحان وعدهن في يده قال حدثنا يحيى بن مساور وعدهن في يده قال حدثني عمرو بن خالد وعدهن في يده قال حدثني زيد بن علي وعدهن في يده قال حدثني أبي علي بن الحسين وعدهن في يده قال حدثني أبي الحسين بن علي ع وعدهن في يده قال حدثني أبي علي بن أبي طالب وعدهن في يده قال حدثني رسول الله ص وعدهن في يده قال حدثني جبرئيل وعدهن في يده فقال جبرئيل هكذا أنزلت به من رب العزة تبارك وتعالى اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم وسلم على محمد وعلى

__________________

(١) يعني الفصول الخمسة الآتية في ذكر كيفية الصلوات في الحديث.

٦٢

آل محمد كما سلمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أوحى الله عزوجل إلى محمد ص أني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا وأني قاتل بابن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.

وعن راشد بن أبي روح الأنصاري قال كان من دعاء الحسين بن علي ع اللهم ارزقني الرغبة في الآخرة حتى أعرف صدق ذلك في قلبي بالزهادة مني في دنياي اللهم ارزقني بصرا في أمر الآخرة حتى أطلب الحسنات شوقا وافرا من السيئات خوفا يا رب هذا آخر كلام الحافظ عبد العزيز رحمه‌الله هنا.

نذكر هنا أمورا وقعت بعد قتله ع

من كتاب الإرشاد للمفيد رحمه‌الله ـ لما وصل رأس الحسين ع وصل ابن سعد من غد يوم وصوله ومعه بنات الحسين ع وأهله جلس ابن زياد لعنه الله في قصر الإمارة وأذن للناس إذنا عاما وأمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه فجعل ينظر إليه ويتبسم إليه وبيده قضيب يضرب به ثناياه ع وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله ص وهو شيخ كبير فلما رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين فو الله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله ص عليهما ما لا أحصيه كثيرة يقبلهما ثم انتحب باكيا (١) فقال له ابن زياد لعنه الله أبكى الله عينيك أتبكي لفتح الله لو لا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله.

وأدخل عيال الحسين ع على ابن زياد لعنه الله فدخلت زينب أخت الحسين ع في جملتهم متنكرة وعليها أرذل ثيابها فمضت حتى جلست ناحية من القصر وحف بها إماؤها فقال ابن زياد من هذه التي انحازت ومعها نساؤها فلم تجبه زينب فأعاد القول ثانية وثالثة يسأل عنها فقال له بعض إمائها هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله ص فأقبل عليها ابن زياد وقال لها الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم فقال زينب الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد ص وطهرنا

__________________

(١) انتحب : تنفس شديدا.

٦٣

من الرجس تطهيرا إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا والحمد لله فقال ابن زياد كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك قالت كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتختصمون عنده فغضب ابن زياد واستشاط (١) فقال له عمرو بن حريث أيها الأمير إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ولا تذم على خطئها فقال لها ابن زياد قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك فرقت زينب ع وبكت وقالت له لعمري لقد قتلت كهلي وأبرت أهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي (٢) فإن يشفك هذا فقد اشتفيت فقال ابن زياد هذه سجاعة ولعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا فقالت ما للمرأة والسجاعة إن لي عن السجاعة لشغلا ولكن نفث صدري بما قلت.

قلت من سماع هذه الأقوال واستفظاع هذه الأفعال كنت أكره الخوض في ذكر مصرعه ع وبقيت سنين لم أسمعه يقرأ في عاشوراء كما جرت عوائد الناس بقراءته لأني كنت أجد لما جرى عليه وعلى أهل بيته ع ألما قويا وجزعا تاما وتحرقا مفرطا وانزعاجا بالغا ولوعة مبرحة ثم كان قصارى أن أبكي وألعن ظالميه وأسبهم ولم أر ذلك مطفيا غليلي ولا مطامنا من غلواء حزني وجزعي ولا مسكنا حركة نفسي في طلب الانتقام من أعدائه.

ربما أخرج الحزين جوى

الثكل إلى غير لائق بالسداد

مثل ما فاتت الصلاة سليمان

فأنحى على رقاب الجياد (٣)

 __________________

(١) استشاط عليه : التهب غيظا.

(٢) الكهل ـ بالفتح ـ : من كانت سنو عمره بين الثلاثين والخمسين تقريبا. وأبره : أهلكه. اجتثه : قلعه من أصله.

(٣) إشارة إلى قصة مسح سليمان أعناق الخيل بالسيف وهي على ما رواه علي بن إبراهيم انه عليه السلام كان يحب الخيل ويستعرضها فعرضت عليه يوما إلى أن غابت الشمس وفاتته صلاة العصر فاغتم من ذلك غما شديدا فدعا اللّه عزّ وجلّ أن يرد عليه الشمس حتّى يصلى.

٦٤

فلعن الله ابن زياد فلقد أوغل في عداوته وطغيانه وبالغ في تعديه وعدواته وشمر في استئصال أهل هذا البيت الشريف بسيف شمره وسنان سنانه وأبان عن دناءة أصله بقبح فعله وفعل أعوانه وركب مركبا وعرا أطاع فيه داعي سلطانه وشيطانه ورجع إلى أصله الخبيث ونسبه المدخول فجرى على سننه ومضى لشأنه وثقل وطأته على العترة الهاشمية فقضى ذلك بمروقه عن الدين وخفة ميزانه وليته أخزاه الله إذ لم يكف عزب سيفه كف عزب لسانه وليته قنع بتلك الأفعال الشنيعة ولم يلق النساء الكرائم بجبهه وبهتانه ولا عجب من قوله وفعله الدالين على سوء فرعه وأصله فإنه رجع إلى سنخه الخبيث وطبعه الدني فإن من قديمه ذلك القديم وحديثه هذا الحديث النغل الأديم فلا بد أن ينزع إلى نسبه وحسبه ويدل بفعله على سوء مذهبه فالإناء ينضح بما فيه والولد سر أبيه.

ومن هنا ينقطع نسبه لأن أباه ابن أبيه ورضاه بهذا النسب سلبه النخوة والحمية ونفى عنه المروءة والأريحية وأقامه على دعوى الجاهلية فالولد للفراش في الشريعة المحمدية والملة الحنيفية ومن هذه الأوصاف الدنية والنعوت الغير المرضية أبيح دم الحسين ع وسيق أهله وحرمه كما تساق الإماء في العراق والشام.

وقد غصت البيداء بالعيس فوقها

كرائم أبناء النبي المكرم

فما في حريم بعدها من تحرج

ولا هتك ستر بعدها بمحرم

__________________

*العصر فرد اللّه سبحانه عليه الشمس إلى وقت صلاة العصر حتّى صلاها ثمّ دعا بالخيل فأقبل يضرب أعناقها حتّى قتلها كلها. وفي رواية غيره ثمّ أمر برد الخيل وأمر بضرب سوقها وأعناقها وقال : انها شغلتني عن ذكر ربى.

هذا ولا يخفى أن الخبر مخالف لمذهب الإماميّة واعتقادهم من حيث عصمة الأنبياء ولذلك رده الصدوق والمرتضى (ره) وغيرهما من علماء الحديث والتفسير وطعنوا فيه من جهة وفاقه للعامة والكلام فيه طويل فراجع تنزيه الأنبياء ص ٩٣ و ٩٤. ومن لا يحضره الفقيه ٥٣ والبحار ج ٥ : ٣٥٦ ومجمع البيان ج ٨ : ٣٧٤ وغيره

٦٥

يقول ابن هانئ المغربي فيها :

بأسياف ذاك البغي أول سلها

أصيب علي لا بسيف ابن ملجم

وبالحقد حقد الجاهلية أنه

إلى الآن لم يذهب ولم يتصرم

فأبعد الله تلك الأنفس الخبيثة والعقول المختلة والهمم الساقطة والعقائد الواهية والأديان المدخولة والأحلام الطائشة والأصول الفاسدة والقلوب التي لا تهتدي إلى رشاد والعيون التي لا تنظر إلى سداد وقد غطي عليها الغين وفيهم يقال أعمى القلب والعين وصلوات الله على الحسين وأهله السادات الأفاضل ثمال اليتامى عصمة الأرامل المعروفين بالمعروف والفواضل ليوث الجدال والجلاد في الجمع الحافل الآمرين بالقسط والناطقين بالحق المتحلين بالصدق العادلين في الحكم الفارعين بمجدهم الحبال الشم الآخذين بالعفو والحلم المعصومين من الزلل المبرءين من الخطايا والخطل الضاربين الهام والقلل المعروفين بالمعروف الناهين عن المنكر البدور الطوالع الغيوث الهوامع السيول الدوافع الفاخرين فلا مساجل ولا منازع القائمين بأمر الله الراضين بحكم الله الممسوسين في ذات الله الفرحين بلقاء الله.

نجوم طوالع جبال فوارع

غيوث هوامع سيول دوافع

مضوا وكأن المكرمات لديهم

لكثرة ما أوصوا بهن شرائع

فأي يد مدت إلى المجد لم يكن

لها راحة من جودهم وأضايع

بها ليل لو عاينت فيض أكفهم

تيقنت أن الرزق في الأرض واسع

إذا خفقت بالبذل أرواح جودهم

خداها الندى واستنشقتها المطامع

وعرض عليه علي بن الحسين ع فقال له من أنت فقال أنا علي بن الحسين فقال أليس الله قد قتل علي بن الحسين فقال له علي ع قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس فقال له ابن زياد بل الله قتله فقال علي بن الحسين ع (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) فغضب ابن زياد لعنه الله فقال له وبك جرأة على جوابي وبك بقية للرد علي اذهبوا به واضربوا عنقه فتعلقت

٦٦

به زينب عمته وقالت له يا ابن زياد حسبك من دمائنا واعتنقته وقالت والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه فنظر ابن زياد إليه ساعة ثم قال عجبا للرحم والله وإني لأظنها ودت أني قتلتها معه دعوه فإني أراه لما به.

ثم قام من مجلسه حتى خرج من القصر ودخل المسجد فصعد المنبر فقال الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه وقتل الكذاب بن الكذاب وشيعته فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي وكان من شيعة أمير المؤمنين ع فقال يا عدو الله إن الكاذب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه يا ابن مرجانة تقتل أولاد النبيين وتقوم على المنابر مقام الصديقين فقال ابن زياد علي به فأخذته الجلاوزة (١) فنادى بشعار الأزد فاجتمع منهم سبعمائة رجل فانتزعوه من الجلاوزة فلما كان الليل أرسل إليه ابن زياد من أخرجه من بيته فضرب عنقه وصلبه في السبخة رحمه‌الله عليه.

ولما أصبح ابن زياد لعنه الله بعث برأس الحسين ع فدير به في سكك الكوفة كلها وقبائلها فروي عن زيد بن أرقم أنه قال مر به علي وهو على رمح وأنا في غرفة لي فلما حاذاني سمعته يقرأ (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) فقف والله شعري (٢) وناديت رأسك والله يا ابن رسول الله وأمرك أعجب وأعجب.

قلت قد تركت أمورا جرت من هؤلاء الطغام الأجلاف لعنهم الله وأبعدهم من رحمته عند قتله ع وما فعلوه من قطع يده ورشقه بالسهام والحراب وذبحه وأخذ رأسه وإيطاء الخيل جسده الشريف وسبي حريمه وانتزاع ملابسهن إلى غير ذلك من الأفعال التي لا يعتمدها ولا بعضها مسلم ولا يتأتى لمردة الكفار وفجارهم وطغاتهم الإقدام على مثلها والإصرار عليها وكذلك جرت الحال في حمل رأسه الكريم وحريمه الطاهرات إلى دمشق كما تحمل الأسرى والسبايا ودخولهم إلى يزيد بن معاوية على تلك الهيئة المنكرة والأحوال الشاقة وإنفاذ ابن

__________________

(١) الجلوزة : الشرطي الذي يخف في الذهاب والمجيء بين يدي الأمير.

(٢) قف الشعر قفوفا : قام لشدة الفزع.

٦٧

زياد يبشر أولياءه وأصحابه وتابعي رأيه بقتل الحسين ع.

ولما دخل رسوله على عمرو بن سعيد بن العاص وهو أمير المدينة قال له ما وراك قال ما سر الأمير قتل الحسين بن علي قال اخرج فناد بقتله فنادى فلم أسمع والله واعية قط كواعية بني هاشم في دورهم فدخلت على عمرو بن سعيد فلما رآني تبسم إلي ضاحكا ثم أنشأ متمثلا بقول عمرو بن معديكرب.

عجت نساء بني زياد عجة

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب (١)

ثم قال عمرو هذه واعية بواعية عثمان ثم صعد المنبر فأعلم الناس بقتل الحسين ع ودعا ليزيد بن معاوية ونزل.

ودخل بعض موالي عبد الله بن جعفر فنعى إليه ابنيه فاسترجع فقال أبو السلاسل مولى عبد الله هذا ما لقينا من الحسين ع فحذفه عبد الله بنعله (٢) ثم قال يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه والله إنه لمما يسخى بنفسي عنهما ويعزي عن المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسين له صابرين معه ثم أقبل على جلسائه فقال الحمد لله عز علي بمصرع الحسين ع أن لا أكن آسيت حسينا بيدي فقد آساه ولدي.

وخرجت أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين ع حاسرة (٣) ومعها أخواتها أم هانئ وأسماء ورملة وزينب تبكي قتلاها بالطف وتقول :

ما ذا تقولون إذ قال النبي لكم

ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد منقلبي

منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

فلما كان الليل من ذلك اليوم الذي خطب فيه عمرو بن سعيد بقتل الحسين

__________________

(١) وفي اللسان «عجت نساء بنى زبيد عجة» ا ه والأرنب : موضع.

(٢) حذفه : ضربه ورماه.

(٣) حسرت المرأة خمارها عن وجهها : كشفته.

٦٨

ع بالمدينة سمع أهل المدينة في جوف الليل مناديا ينادي يسمعون صوته ولا يرون شخصه :

أيها القاتلون جهلا حسينا

أبشروا بالعذاب والتنكيل

كل من في السماء يدعو عليكم

من نبي وملائك وقبيل

قد لعنتم على لسان بن داود

وموسى وصاحب الإنجيل

قلت أجاد ديك الجن عبد السلام في قوله من قصيدة يرثي بها الحسين ع

ويكبرون بأن قتلت وإنما

قتلوا بك التكبير والتهليلا

ومن شعري

إن في الرزء بالحسين الشهيد

لعناء يؤدي بصبر الجليد

إن رزء الحسين أضرم نارا

لا تني في القلوب ذات وقود (١)

إن رزء الحسين نجل علي

هد ركنا ما كان بالمهدور

حادث أحزن الولي وأضناه

وخطب أقر عين الحسود (٢)

يا لها نكبة أباحت حمي

الصبر وأجرت مدامعا في خدود

ومصابا عم البرية بالحزن

وأعزى العيون بالتسهيد

يا قتيلا ثوى بقتله الدين

وأمسى الإسلام واهي العمود

ووحيدا في معشر من عدو

لهف نفسي على الفريد الوحيد

ونزيفا يسقي المنية صرفا

ظاميا يرتوي بماء الوريد (٣)

وصريعا تبكي السماء عليه

فتروي بالدمع ظامي الصعيد

وغريبا بين الأعادي يعاني

منهم ما يشيب رأس الوليد (٤)

قتلوه مع علمهم أنه

خير البرايا من سيد ومسود

 __________________

(١) قوله «لا تنى» من ونى : فتر وضعف.

(٢) أضنى المرض فلانا : أثقله.

(٣) النزيف : من عطش حتّى يبست عروقه وجف لسانه.

(٤) الوليد : المولود حين يولد.

٦٩

واستباحوا دم النبي رسول

الله إذ أظهروا قديم الحقود

وأضاعوا حق الرسول التزاما

بطليق ورغبة في طريد (١)

وأتوها صماء شنعاء شوهاء

أكانت قلوبهم من حديد

وجروا في العماء إلى الغاية

القصوى أما كان فيهم من رشيد

أسخطوا الله في رضى ابن زياد

وعصوه قضاء حق يزيد

وأرى الحر كان حرا ولكن

ابن سعد في الخزي كابن سعيد (٢)

ومن شعر كنت قلته في أيام الحداثة لم أذكر غزلها

وإذا ما الشباب ولى فما

أنت على فعل أهله معذور

فاتباع الهوى وقد وحظ الشيب

وأودى غصن التصابي غرور

فاله عن حاجز وسلع ودع

وصل الغواني فوصلهن قصير (٣)

وتعرض إلى ولاء أناس

حبل معروفهم قوي مرير

خيرة الله في الأنام ومن

وجه مواليهم بهي منير

أمناء الله الكرام وأرباب

المعالي ففضلهم مشهور

المفيدون حين يخفق سعي

والمجيرون حين عز المجير

كرموا مولدا وطابوا أصولا

فبطون زكية وظهور

عترة المصطفى وحسبك فخرا

أيها السائل البشير النذير

بعلي شيدت معالم دين

الله والأرض بالعناد تمور

وبه أيد الإله رسول

الله إذ ليس في الأنام نصير

وبأسيافه أقيمت حدود

صعرت برهة وخرت نحور

 __________________

(١) أراد (ره) بالطليق يزيد بن معاوية عليه اللعنة والهاوية فإنه من أبناء الطلقاء يوم فتح مكّة حيث قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : اذهبوا فأنتم الطلقاء وبالطريد ابن زياد لعنه اللّه فإنه بمعنى المطرود في نسبه.

(٢) يعني عمرو بن سعيد والى المدينة من قبل يزيد وقد ذكر قبل الأبيات.

(٣) الألفاظ كنايات.

٧٠

وبأولاد الهداة إلى الحق

أضاء المستبهم الديجور (١)

سل حنينا عنه وبدرا فما

يخبر عما سألت إلا الخبير

إذ جلا هبوة الخطوب وللحرب

زناد يشب منها سعير (٢)

أسد ما له إذا استحفل الناس

سوى رنة السلاح زئير (٣)

ثابت الجأش لا يروعه الخطب

ولا يعتريه فيه فتور (٤)

أعرب السيف منه إذ أعجم

الرمح لأن العدى لديه سطور

عزمات أمضى من القدر

المحتوم يجري بحكمه المقدور

ومزايا مفاخر عطر الأفق

شذاها ويخال فيها عبير (٥)

وأحاديث سؤدد هي في الدنيا

على رغم حاسديه تسير

وترى المشركين يبغي رضاء

الله تعالى وأنه موتور

حسدوه على مآثر شتى

وكفاهم حقدا عليه الغدير

كتموا داء دخلهم وطووا كشحا

وقالوا صرف الليالي يدور

ورموا نجله الحسين بأحقاد

تبوخ النيران وهي تفور

لهف نفسي طول الزمان وينمي

الحزن عندي إذا أتى عاشور

لهف نفسي عليه لهف حزين

ظل صرف الردي عليه يجود

أسفا غير بالغ كنه ما

أكفي وحزنا تضيق عنه الصدور

يا لها وقعة لقد شمل

الإسلام منها رزء جليل خطير

ليث غاب تغيث فيه كلاب

وعظيم سطا عليه حقير

 __________________

(١) ليل بهم : لا ضوء فيه إلى الصباح. والد يجور : الظلام.

(٢) الزناد جمع الزند : العود الأعلى الذي يقتدح به النار.

(٣) احتفل القوم : اجتمعوا وفي بعض النسخ «استفحل» بتقديم الفاء على الحاء ومعناه ظاهر. الرنة : صوت السلاح أو الصوت مطلقا. والزئير : صوت الأسد.

(٤) الجأش : رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع.

(٥) شذى الرجل : تطيب بالمسك.

٧١

يا بني أحمد نداء ولي

مخلص جهرة لكم والضمير

لكم صدق وده وعلى

أعدائكم سيف نطقه مشهور

وهواكم طوق له وسوار

وعليه من المخاوف سور

أنتم ذخره إذا أخفق السعي

وأضحى في فعله تقصير

أنتم عونه إذا دهمته

حادثات وفاجأته أمور

أنتم غوثه وعروته الوثقى

إذا ما تضمنته القبور

وإليكم يهدى المديح اعتقادا

وبكم في معاده يستجير

بعلي يرجو علي أمانا

من سعير شرارها مستطير

هاتان القصيدتان قلتهما قديما وكان عهدي بهما بعيدا ولما جرى القلم بجمع هذا الكتاب عزمت على أن أمدح كل واحد من الأئمة ع بقصيدة لا لأنها تزيد أقدارهم أو ترفع منارهم فهم أعلى رتبة وأسمى مكانة من أن يزيد هم مجدا على مجدهم الأثيل أو شرفا على شرفهم الأصيل ولكن كان جهد المقل ونصرة من تعذرت عليه النصرة باليد ولأني أحببت أن أخلد لي ذكرا بذكرهم وحمدهم وأنبه على أني عبدهم بل عبد عبدهم فلما انتهيت إلى أخبار الحسين ع وأثبت تينك القصيدتين خطر أنك قلتهما قديما والثواب عليهما حصل أولا ولا بد الآن من قصيدة وفق ما عزمت عليه فسمحت القريحة بهذه القطعة مع بعد عهد بالشعر وعمله ومن الله أستمد التوفيق فيما أبتغيه والإعانة على ما يختاره ويرتضيه وهي

يا ابن بنت النبي دعوة عبد

مخلص في ولائه لا يحول

لكم محض وده وعلى

أعدائكم سيف نطقه مسلول

أنتم عونه وعروته الوثقى

إذا انكسر الخليل الخليل

وإليكم ينضي ركاب الأماني

فلها نحوكم سرى وذميل (١)

كرمت منكم وطابت فروع

وزكت منكم وطابت أصول

فليوث إذا دعوا لنزال

وغيوث إذا دعاهم نزيل

 __________________

(١) نضا الفرس الخيل : سبقها وتقدمها. والذميل : السير اللين.

٧٢

المجيرون من صروف الليالي

والمنيلين حين عز المنيل

شرف شائع وفضل شهير

وعلاء سام ومجد أثيل

وحلوم عن الجناة وعفو

وندي فائض ورأى أصيل

لي فيكم عقيدة وولاء

لاح لي فيهما وقام الدليل

لم أقلد فيكم وكيف وقد شاركني

في ولائكم جبرئيل

جزتم رتبة المديح جلالا

وكفاكم عن مدحي التنزيل

غير أنا نقول ودا وحبا

لا على قدركم فذاك جليل

للإمام الحسين أهديت مدحا

راق حتى كأنه سلسبيل

وبودي لو كنت بين يديه

باذلا مهجتي وذاك قليل

ضاربا دونه مجيبا دعاه

مستميثا على عداه أصول

قاضيا حق جده وأبيه

فهما غاية المنى والسئول

فعليهم مني التحية ما لاح

سنا بارق وهبت قبول

ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين

زين العابدين ع

قال كمال الدين رحمه‌الله هذا زين العابدين قدوة الزاهدين وسيد المتقين وإمام المؤمنين شيمته تشهد أنه من سلالة رسول الله وسمته يثبت مقام قربة من الله زلفا وثفناته تسجل بكثرة صلاته وتهجده وإعراضه عن متاع الدنيا ينطق بزهده فيها درت له أخلاف التقوى فتفوقها وأشرقت لديه أنوار التأييد فاهتدى بها وألفته أوراد العبادة فأنس بصحبتها وحالفته وظائف الطاعة فتحلو بحليتها طال ما اتخذ سهره مطية ركبها لقطع طريق الآخرة وظمأ الهواجر دليلا استرشد به في مسافة المسافرة وله من الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرة وثبت بالآثار المتواترة وشهد له أنه من ملوك الآخرة

فأما ولادته فبالمدينة في الخميس الخامس من شعبان سنة ثمان وثلاثين

٧٣

من الهجرة في أيام جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع قبل وفاته بسنتين.

وأما نسبه أبا وأما

فوالده الحسين بن علي وقد تقدم بسط ذلك.

فأما أمه أم ولد اسمها غزالة وقيل بل كان اسمها شاه زنان بنت يزدجرد وقيل غير ذلك.

وأما اسمه

فعلي وكان للحسين ع ولد آخر أكبر من هذا فقتل بين يدي والده وقد تقدم ذكره وولد طفل صغير فجاءه سهم فقتله وقد تقدم ذكر ذلك وكان كل واحد منهم يسمى عليا.

فأما كنيته

فالمشهور أبو الحسن ويقال أبو محمد وقيل أبو بكر.

وأما لقبه

فكان له ألقاب كثيرة كلها تطلق عليه أشهرها زين العابدين وسيد العابدين والزكي والأمين وذو الثفنات وقيل كان سبب لقبه بزين العابدين أنه كان ليلة في محرابه قائما في تهجده فتمثل له الشيطان في صورة ثعبان ليشغله عن عبادته فلم يلتفت إليه فجاء إلى إبهام رجله فالتقمها فلم يلتفت إليه فألمه فلم يقطع صلاته فلما فرغ منها وقد كشف الله له فعلم أنه شيطان فسبه ولطمه وقال له اخسأ يا ملعون فذهب وقام إلى إتمام ورده فسمع صوت لا يرى قائله وهو يقول أنت زين العابدين حقا ثلاثا فظهرت هذه الكلمة واشتهرت لقبا له ع.

وأما مناقبه ومزاياه وصفاته

فكثيرة ـ فمنها أنه كان إذا توضأ للصلاة يصفر لونه فيقول له أهله ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء فيقول أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟

ومنها أنه كان إذا مشى لا يجاوز يده فخذه ولا يخطر بيده وعليه السكينة والخشوع وإذا قام إلى الصلاة أخذته الرعدة فيقول لمن يسأله أريد أن أقوم بين يدي ربي وأناجيه فلهذا تأخذني الرعدة.

ووقع الحريق والنار في البيت الذي هو فيه وكان ساجدا في صلاته فجعلوا يقولون له يا ابن رسول الله يا ابن رسول الله النار النار فما رفع رأسه من سجود حتى

٧٤

أطفئت فقيل له ما الذي ألهاك عنها (١) فقال نار الآخرة ..

ومنها ما نقله سفيان قال جاء رجل إلى علي بن الحسين ع فقال له إن فلانا قد وقع فيك وأذاك قال فانطلق بنا إليه فانطلق معه وهو يرى أنه سينتصر لنفسه فلما أتاه قال له يا هذا إن كان ما قلت في حقا فالله تعالى يغفره لي وإن كان ما قلت في باطلا فالله يغفر لك.

وكان بينه وبين ابن عمه حسن بن الحسن شيء من المنافرة فجاء حسن إلى علي وهو في المسجد مع أصحابه فما ترك شيئا إلا قاله له من الأذى وهو ساكت ثم انصرف حسن فلما كان الليل أتاه في منزله فقرع عليه الباب فخرج حسن إليه فقال له علي يا أخي إن كنت صادقا فيما قلت فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فيه فغفر الله لك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ثم ولى فاتبعه حسن والتزمه من خلفه وبكى حتى رق له ثم قال له والله لا عدت إلى أمر تكرهه فقال له علي وأنت في حل مما قلته ..

وكان يقول ع فقد الأحبة غربة.

وكان يقول اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامح العيون علانيتي وتقبح عندك سريرتي اللهم كما أسأت وأحسنت إلي فإذا عدت فعد علي.

وكان يقول إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.

ومنها أنه كان ع لا يحب أن يعينه على طهوره أحد وكان يستقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام (٢) فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم توضأ ثم يأخذ في صلاته.

وكان يقضي ما فاته من صلاة نافلة النهار في الليل ويقول يا بني ليس هذا عليكم بواجب ولكن أحب لمن عود منكم نفسه عادة من الخير أن يدوم عليها.

__________________

(١) ألهاه عن الشيء : شغله.

(٢) خمر الشيء : ستره.

٧٥

وكان لا يدع صلاة الليل في السفر والحضر.

وكان من كلامه ع عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة وهو غدا جيفة وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك العمل لدار البقاء وكان إذا أتاه السائل يقول مرحبا بمن يحمل لي زادي إلى الآخرة.

ومنها ما نقل عن ابن شهاب الزهري أنه قال شهدت علي بن الحسين يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام فأثقله حديدا ووكل به حفاظا في عدة وجمع فاستأذنتهم في التسليم عليه والتوديع له فأذنوا لي فدخلت عليه وهو في قبة والأقياد في رجليه والغل في يديه فبكيت وقلت وددت أني في مكانك وأنت سالم فقال لي يا زهري أوتظن هذا مما ترى علي وفي عنقي مما يكربني أما لو شئت ما كان وأنه إن بلغ بك وبأمثالك غمر ليذكر عذاب الله ثم أخرج يده من الغل ورجليه من القيد ثم قال يا زهري لا جزت معهم على ذا منزلتين من المدينة فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكلون به يطلبونه من المدينة فما وجدوه فكنت فيمن سألهم عنه فقال لي بعضهم إنا نراه متبوعا أنه لنازل ونحن حوله لا ننام نرصده إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديدة.

قال الزهري فقدمت بعد ذلك على عبد الملك بن مروان فسألني عن علي بن الحسين فأخبرته فقال لي إنه جاءني في يوم فقده الأعوان فدخل علي فقال ما أنا وأنت فقلت أقم عندي فقال لا أحب ثم خرج فو الله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة قال الزهري فقلت يا أمير المؤمنين ليس علي بن الحسين ع حيث تظن أنه مشغول بربه فقال حبذا شغل مثله فنعم ما شغل به.

وكان الزهري إذا ذكر علي بن الحسين يبكي ويقول زين العابدين.

وقال أبو حمزة الثمالي أتيت باب علي بن الحسين فكرهت أن أصوت فقعدت حتى خرج فسلمت عليه ودعوت له فرد علي ثم انتهى إلى حائط فقال

__________________

(١) الغمر : الشدة.

٧٦

يا أبا حمزة ألا ترى هذا الحائط فقلت بلى يا ابن رسول الله قال فإني اتكأت عليه يوما وأنا حزين وإذا رجل حسن الوجه حسن الثياب ينظر في تجاه وجهي ثم قال يا علي بن الحسين ما لي أراك كئيبا حزينا أعلى الدنيا فهو رزق حاضر يأكل منها البر والفاجر فقلت ما عليها أحزن وأنه لكما تقول فقال أعلى الآخرة فإنه وعد صادق يحكم فيه ملك قاهر قال قلت ما على هذا أحزن وأنه لكما تقول فقال وما حزنك يا علي فقلت ما أتخوف من فتنة ابن الزبير فقال لي يا علي هل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه قلت لا قال فخاف الله فلم يكفه قلت لا فغاب عني فقيل لي يا علي بن الحسين هذا الخضر ع ناجاك.

وقال سفيان قال لي علي بن الحسين ما أحب لي بنصيبي من الذل حمر النعم.

وقال أبو حمزة الثمالي كنت يوما عند علي بن الحسين ع فإذا عصافير يطرن حوله ويصرخن فقال لي يا أبا حمزة هل تدري ما تقول هذه العصافير قلت لا قال فإنها تقدس ربها وتسأله قوت يومها

ومنها أنه لما مات علي بن الحسين ع وجدوه يقوت مائة بيت من أهل المدينة كان يحمل إليهم ما يحتاجون إليه.

وقال محمد بن إسحاق كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم فلما مات علي بن الحسين ع فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل.

وقال أبو حمزة الثمالي كان زين العابدين ع يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول إن صدقة السر تطفئ غضب الرب ولما مات ع وغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار في ظهره فقالوا ما هذا قيل كان يحمل جرب الدقيق (١) على ظهره ليلا ويوصلها إلى فقراء المدينة سرا

__________________

(١) الجرب جمع الجراب : وعاء من اهاب الشاة وغيره.

٧٧

" وقال ابن عائشة سمعت أهل المدينة يقولون ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ع.

" وقال سفيان أراد علي بن الحسين الخروج إلى الحج فاتخذت له سكينة بنت الحسين أخته زادا أنفقت عليه ألف درهم فلما كان يظهر الحرة (١) سيرت ذلك إليه فلم يزل يفرقه على المساكين.

وقال سعيد بن مرجانة كنت يوما عند علي بن الحسين فقلت سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله ص من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله تعالى بكل إرب منها إربا منه من النار حتى أنه ليعتق باليد اليد وبالرجل الرجل وبالفرج الفرج فقال علي ع أنت سمعت هذه من أبي هريرة فقال سعيد نعم فقال لغلام له أفره غلمانه وكان عبد الله بن جعفر قد أعطاه بهذا الغلام ألف دينار فلم يبعه أنت حر لوجه الله تعالى.

وقدم عليه نفر من أهل العراق فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلما فرغوا من كلامهم قال لهم ألا تخبروني أنتم المهاجرون الأولون (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) قالوا لا قال فأنتم (الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) قالوا لا قال أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أخرجوا عني فعل الله بكم.

وقال نافع بن جبير يوما لعلي بن الحسين ع أنت سيد الناس

__________________

(١) الحرة : أرض ذات حجارة سود نخرة كأنّها أحرقت بالنار وجمعها الحرار قال الحموي والحرار في بلاد العرب كثيرة أكثرها حوالي المدينة إلى الشام.

٧٨

وأفضلهم فتذهب إلى هذا العبد فتجلس عنده يعني زيد بن أسلم (١) فقال له ينبغي للعلم أن يتبع حيث ما كان

ولما حج هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه وجاء علي بن الحسين ع فتوقف له الناس وتنحوا حتى استلم فقالوا جماعة هشام لهشام من هذا فقال لا أعرفه فسمعه الفرزدق فقال لكني أعرفه هذا علي بن الحسين زين العابدين وأنشد هشاما من الأبيات التي قالها في أبيه الحسين ع وقد تقدم ذكرها

هذا ابن خير عباد الله كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجده أنبياء الله قد ختموا

وليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

أي الخلائق ليست في رقابهم

لأولية هذا أو له نعم

من يعرف الله يعرف أولية ذا

الدين من بيت هذا قاله الأمم (٢)

__________________

(١) هو زيد بن أسلم العدوي مولى عمر بن الخطّاب المتوفّى سنة ١٣٦. وروى العسقلاني في التهذيب هذا الحديث عن البخاري بلفظ آخر واختلاف يسير بينهما فراجع ج ٣ ص ٣٩٦

(٢) أقول وهذه قصيدة طويلة ذكرها أهل السير والتواريخ في كتبهم ودونها الأدباء في دواوينهم وروى الشيخ الجليل محمّد بن عليّ بن شهرآشوب في كتاب المناقب عن الحلية والأغاني وغيرهما قال :

حج هشام بن عبد الملك فلم يقدر على الاستلام من الزحام فنصب له منبر وجلس عليه وأطاف به أهل الشام فبينما هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحسين (ع) وعليه ازار ورداء من أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة بين عينيه سجادة كأنّها ركبة عنز ، فجعل يطوف فإذا بلغ إلى موضع *

٧٩

فزاد فيها هذه الأبيات لمخاطبته هشاما بذلك فحبسه هشام فقال وقد أدخل الحبس

أيحبسني بين المدينة والتي

إليها قلوب الناس يهوي منيبها (١)

يقلب رأسا لم يكن رأس سيدي

وعينا له حولاء باد عيوبها

فأخرجه من الحبس فوجه إليه علي بن الحسين ع عشرة ألف درهم وقال اعذرنا يا با فراس فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به فردها الفرزدق وقال ما قلت ما كان إلا لله ولا أرزأ عليه شيئا فقال له علي ع قد رأى الله مكانك فشكرك ولكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئا لم نرجع فيه وأقسم عليه فقبلها.

وقال رجل لسعيد بن المسيب ما رأيت رجلا أورع من فلان لرجل سماه فقال له سعيد أما رأيت علي بن الحسين فقال لا فقال ما رأيت أورع منه.

وقال الزهري لم أر هاشميا أفضل من علي بن الحسين ع.

وقال أبو حازم كذلك أيضا ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين وما رأيت أحدا كان أفقر منه.

وقال طاوس رأيت علي بن الحسين ع ساجدا في الحجر فقلت رجل صالح من أهل بيت طيب لأسمعن ما يقول فأصغيت إليه فسمعته يقول عبدك بفنائك (٣) مسكينك بفنائك سائلك بفنائك فقيرك بفنائك فو الله ما دعوت بهن

__________________

* الحجر تنحى الناس حتّى يستلمه هيبة له فقال شامي : من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال : لا اعرفه لئلا يرغب فيه أهل الشام فقال الفرزدق؟ وكان حاضرا ـ؟ لكني أنا أعرفه فقال الشاميّ : من هو يا أبا فراس؟ فأنشأ قصيدة ذكر بعضها في الأغاني والحلية والحماسة والقصيدة بتمامها هذه : ـ ثم ذكرها بتمامها وقد ذيلناها هنا بما يفسر معضلاتها ويكشف عما ستر محياها. فراجع ج ٤ : ١٦٩ ـ ١٧٢. ط قم. وسيأتي أيضا إنشاء اللّه تعالى.

(١) كان محبسه الذي حبسه هشام بعسفان وهو موضع بين مكّة والمدينة

(٢) رزأه ماله : أصاب منه خيرا.

(٣) وفي نسخة «عبيدك بفنائك».

٨٠