كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

فأخذه الله في تلك الأيام.

وقال أبو الطيب يعقوب بن ياسر كان يقول المتوكل ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا وجهدت أن يشرب معي أو ينادمني فامتنع وجهدت أن أجد فرصة في هذا المعنى فلم أجدها فقال له بعض من حضر إن لم تجد من ابن الرضا ما تريد من هذا الحال فهذا أخوه موسى قصاف عزاف (١) يأكل ويشرب ويعشق ويتخالع فأحضره واشهره فإن الخبر يشيع عن ابن الرضا بذلك فلا يفرق الناس بينه وبين أخيه ومن عرفه اتهم أخاه بمثل فعاله فقال اكتبوا بإشخاصه مكرما فأشخص مكرما وتقدم المتوكل أن يلقاه جميع بني هاشم والقواد وسائر الناس وعمل على أنه إذا رآه أقطعه قطيعة وبنى له فيها وحول إليها الخمارين والقيان (٢) وتقدم بصلته وبره وأفرد له منزلا سريا يصلح أن يزوره هو فيه فلما وافى موسى تلقاه أبو الحسن في قنطرة وصيف وهو موضع يتلقى فيه القادمون فسلم عليه ووفاه حقه ثم قال له إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك فلا تقر له أنك شربت نبيذا قط واتق الله يا أخي أن ترتكب محظورا فقال له موسى إنما دعاني لهذا فما حيلتي قال فلا تضع من قدرك ولا تعص ربك ولا تفعل ما يشينك فما غرضه إلا هتكك فأبى عليه موسى فكرر عليه أبو الحسن ع القول والوعظ وهو مقيم على خلافه فلما رأى أنه لا يجيب قال له أما إن المجلس الذي تريد الاجتماع معه عليه لا تجتمع عليه أنت وهو أبدا فأقام موسى ثلاث سنين يبكر كل يوم إلى باب المتوكل ـ فيقال له قد تشاغل اليوم فيروح ثم يعود فيقال له قد سكر ويبكر فيقال له إنه قد شرب دواء فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل ولم يجتمع معه على شراب.

وروى زيد بن علي بن الحسين بن زيد قال ـ مرضت فدخل الطبيب علي ليلا ووصف لي دواء آخذه في السحر كذا وكذا يوما فلم يمكني تحصيله من الليل

__________________

(١) القصف : اللهو واللعب والقصاف مبالغة منه. والعزاف مبالغة في العازف اللاعب بالمعازف وهي الملاهي كالعود والطنبور.

(٢) جمع القينة : المغنية.

٣٨١

وخرج الطبيب من الباب وورد صاحب أبي الحسن ع في الحال ومعه صرة فيها ذلك الدواء بعينه فقال أبو الحسن يقرئك السلام ويقول خذ هذا الدواء كذا وكذا يوما فأخذته وشربته فبرأت فقال محمد بن علي فقال لي زيد بن علي يا محمد أين الغلاة عن هذا الحديث.

باب ذكر ورود أبي الحسن ع من المدينة إلى العسكر ووفاته بها وسبب ذلك وعدد أولاده وطرف من أخباره.

وكان سبب شخوص أبي الحسن ع إلى سر من رأى أن عبد الله بن محمد كان يتولى الحرب والصلاة في مدينة الرسول ع فسعى بأبي الحسن ع إلى المتوكل وكان يقصده بالأذى وبلغ أبا الحسن سعايته به فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد ويكذبه فيما سعى به فتقدم المتوكل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر على جميل من القول والفعل فخرجت نسخة الكتاب:

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أما بعد فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك راع لقرابتك موجب لحقك مؤثر من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح به حالك وحالهم ويثبت عزك وعزهم ويدخل الأمن عليك وعليهم ويبتغي بذلك رضا ربه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عما كان يتولى من الحرب والصلاة بمدينة الرسول ص إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك وعند ما قرنك به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيتك في برك وقولك وأنك لم تؤهل نفسك لما فرقت بطلبه وقد ولى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل وأمره بإكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على محله و

٣٨٢

طمأنية ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت وتسير كيف شئت وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند يرحلون برحيلك ويسيرون بسيرك والأمر في ذلك إليك وقد تقدمنا إليه بطاعتك فاستخر الله تعالى حتى توافي أمير المؤمنين فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منزلة ولا أحمد له أثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق وبهم أبر وإليهم أسكن منه إليك [والأمر في ذلك إليك] والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وكتب إبراهيم بن العباس في شهر كذا من سنة ثلاث وأربعين ومائتين.

فلما وصل الكتاب إلى أبي الحسن ع تجهز للرحيل وخرج معه يحيى بن هرثمة حتى وصل إلى سر من رأى فلما وصل إليها تقدم المتوكل أن يحجب عنه في يومه فنزل في خان يعرف بخان الصعاليك (١) وأقام فيه بقية يومه ثم تقدم المتوكل بإفراد دار له فانتقل إليها.

وعن صالح بن سعيد قال دخلت على أبي الحسن ع يوم وروده فقلت له جعلت فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك فقال هاهنا أنت يا ابن سعيد ثم أومأ بيده فإذا بروضات أنيقات (٢) وأنهار جاريات وجنات فيها خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون فحار بصري وكثر عجبي فقال لي حيث كنا فهذا لنا يا ابن سعيد لسنا في خان الصعاليك (٣)

وأقام أبو الحسن ع مدة مقامه بسر من رأى مكرما في ظاهر الحال يجتهد المتوكل في إيقاع حيلة به فلا يتمكن من ذلك وله معه أحاديث يطول

__________________

(١) الصعاليك جمع الصعلوك : الفقير.

(٢) جمع الأنيق : الحسن المعجب.

(٣) وللمحدث العلامة المولى محمّد باقر المجلسيّ (ره) في هذا الخبر بيان طويل في وجه إراءته (ع) إياه هذه المنازل وكيفيته في وجوه أربعة فراجع البحار ج ١٢ ص ١٣٠ فإنه لا يخلو عن فائدة.

٣٨٣

بذكرها الكتاب فيها آيات له وبينات إن قصدنا لإيرادها خرجنا عن الغرض فيما نحوناه وتوفي أبو الحسن في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين ودفن في داره بسر من رأى وخلف من الولد أبا محمد الحسن ابنه وهو الإمام من بعده والحسين ومحمد أو جعفر وابنته عائشة وكان مقامه بسر من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهرا وتوفي وسنه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة.

قال الشيخ ابن الخشاب رحمه‌الله تعالى ذكر أبي الحسن العسكري علي بن محمد المرتضى أبي جعفر القانع بن علي الرضا بن موسى الأمين بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي سيد العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين.

وبإسناده قال ولد أبو الحسن العسكري علي بن محمد في رجب سنة مائتين وأربع عشرة سنة من الهجرة وكان مقامه مع أبيه محمد بن علي ست سنين وخمسة أشهر ومضى في يوم الإثنين لخمس ليال بقين من جمادى الآخر سنة مائتين وأربع وخمسين سنة من الهجرة وأقام بعد أبيه ثلاثا وثلاثين سنة وسبعة أشهر إلا أياما وكان عمره أربعين سنة إلا أياما.

قبره بسر من رأى أمه سمانة ويقال متفرشة المغربية (١) لقبه الناصح والمرتضى والنقي والمتوكل يكنى بأبي الحسن.

قال صاحب كتاب الدلائل دلائل علي بن محمد العسكري ع عن الحسن بن علي الوشاء قال حدثتني أم محمد مولاة أبي الحسن الرضا بالخبر وهي مع الحسن بن موسى قالت جاء أبو الحسن قد رعب حتى جلس في حجر أم أبيها بنت موسى فقالت له ما لك فقال لها مات أبي والله الساعة فقالت له لا تقل هذا قال هو والله ما أقول لك قال فكتبنا ذلك اليوم فجاءت وفاة أبي جعفر في ذلك اليوم.

وكتب إليه محمد بن الحسين بن مصعب المدائني يسأله عن السجود على

__________________

(١) وفي بعض النسخ «منفرشة» بالنون ، وفي نسخة «شقراء».

٣٨٤

الزجاج قال فلما نفذ الكتاب حدثت نفسي أنه مما أنبتت الأرض وأنهم قالوا لا بأس بالسجود على ما أنبتت الأرض قال فجاء الجواب لا تسجد عليه وإن حدثتك نفسك أنه مما أنبتت الأرض فإنه من الرمل والملح والملح سبخ.

وعن علي بن محمد النوفلي قال سمعته يقول اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا وإنما كان عند آصف منه حرف واحد تكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان ثم بسطت له الأرض في أقل من طرفة عين وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا وحرف عند الله جل وعز استأثر به في علم الغيب.

وعن فاطمةابنة الهيثم قالت كنت في دار أبي الحسن في الوقت الذي ولد فيه جعفر فرأيت أهل الدار قد سروا به فصرت إليه فلم أر به سرورا فقلت يا سيدي ما لي أراك غير مسرور فقال هوني عليك وسيضل به خلق كثير.

وحدث محمد بن شرف قال كنت مع أبي الحسن ع أمشي بالمدينة فقال لي ألست ابن شرف قلت بلى فأردت أن أسأله عن مسألة فابتدأني من غير أن أسأله فقال نحن على قارعة الطريق وليس هذا موضع مسألة.

" محمد بن الفضل البغدادي قال كتبت إلى أبي الحسن أن لنا حانوتين (١) خلفهما لنا والدنا رضي الله عنه وأردنا بيعهما وقد عسر علينا ذلك فادع الله لنا يا سيدنا إن يتيسر الله لنا بيعهما بإصلاح الثمن ويجعل لنا في ذلك الخيرة فلم يجب فيهما بشيء وانصرفنا إلى بغداد والحانوتان قد احترقا.

أيوب بن نوح قال كتبت إلى أبي الحسن أن لي حملا فادع الله أن يرزقني ابنا فكتب إلي إذا ولد لك فسمه محمدا قال فولد لي ابن فسميته محمدا قال وكان ليحيى بن زكريا حمل فكتب إليه أن لي حملا فادع الله أن يرزقني ابنا فكتب إليه رب ابنة خير من ابن فولدت له ابنة.

أيوب بن نوح قال كتبت إلى أبي الحسن قد تعرض لي جعفر بن عبد الواحد

__________________

(١) الحانوت : دكان الخمار

٣٨٥

القاضي وكان يؤذيني بالكوفة أشكو إليه ما ينالني منه من الأذى فكتب إلي تكفى أمره إلى شهرين فعزل عن الكوفة في شهرين واسترحت منه.

قال فتح بن يزيد الجرجاني قال ضمني وأبا الحسن الطريق حين منصرفي من مكة إلى خراسان وهو صائر إلى العراق فسمعته وهو يقول من اتقى الله يتقى ومن أطاع الله يطاع قال فتلطفت في الوصول إليه فسلمت عليه فرد علي السلام وأمرني بالجلوس وأول ما ابتدأني به أن قال يا فتح من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق ومن أسخط الخالق فأيقن أن يحل به الخالق سخط المخلوق وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وأنى يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحده والأبصار عن الإحاطة به جل عما يصفه الواصفون وتعالى عما ينعته الناعتون نأى في قربه وقرب في نأيه فهو في نأيه قريب وفي قربه بعيد كيف الكيف فلا يقال كيف وأين الأين فلا يقال أين إذ هو منقطع الكيفية والأينية هو الواحد الأحد (الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فجل جلاله أم كيف يوصف بكنهه محمد ص وقد قرنه الجليل باسمه وشركه في عطائه وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته إذ يقول (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) وقال يحكي قول من ترك طاعته وهو يعذبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (٢) أم كيف يوصف بكنهه من قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) وقال (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) (٤) وقال (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٥)

__________________

(١) التوبة : ٤٧.

(٢) الأحزاب : ٦٦.

(٣) النساء : ٥٩.

(٤) النساء : ٨٣

(٥) النساء : ٥٨

٣٨٦

وقال (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١).

يا فتح كما لا يوصف الجليل جل جلاله والرسول والخليل وولد البتول فكذلك لا يوصف المؤمن المسلم لأمرنا ـ فنبينا أفضل الأنبياء وخليلنا أفضل الأخلاء ووصيه أكرم الأوصياء اسمها أفضل الأسماء وكنيتهما أفضل الكنى وأجلاها لو لم يجالسنا إلا كفو لم يجالسنا أحد ولو لم يزوجنا إلا كفو لم يزوجنا أحد أشد الناس تواضعا أعظمهم حلما وأنداهم كفا وأمنعهم كنفا ورث عنهما أوصياؤهما علمهما فاردد إليهم الأمر وسلم إليهم أماتك الله مماتهم وأحياك حياتهم إذا شئت رحمك الله.

قال فتح فخرجت فلما كان من الغد تلطفت في الوصول إليه فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت يا ابن رسول الله أتأذن لي في مسألة اختلج في صدري أمرها ليلتي قال سل وإن شرحتها فلي وإن أمسكتها فلي فصحح نظرك وتثبت في مسألتك واصغ إلى جوابها سمعك ولا تسأل مسألة تعينت واعتن بما تعتني به فإن العالم والمتعلم شريكان في الرشد مأموران بالنصيحة منهيان عن الغش وأما الذي اختلج في صدرك ليلتك فإن شاء العالم أنبأك إن الله لم يظهر (عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) فكلما كان عند الرسول كان عند العالم وكلما اطلع عليه الرسول فقد اطلع أوصياؤه عليه لئلا تخلو أرضه من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته يا فتح عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أودعتك وشككك في بعض ما أنبأتك حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم فقلت متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب معاذ الله أنهم مخلوقون مربوبون مطيعون لله داخرون راغبون فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به فقلت له جعلت فداك فرجت عني وكشفت ما لبس الملعون علي بشرحك فقد كان أوقع في خلدي أنكم أرباب

__________________

(١) الأنبياء : ٧.

٣٨٧

قال فسجد أبو الحسن وهو يقول في سجوده راغما لك يا خالقي داخرا خاضعا قال فلم يزل كذلك حتى ذهب ليلي ثم قال يا فتح كدت أن تهلك وتهلك وما ضر عيسى إذا هلك من هلك فاذهب إذا شئت رحمك الله.

قال فخرجت وأنا فرح بما كشف الله عني من اللبس بأنهم هم وحمدت الله على ما قدرت عليه فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متك وبين يديه حنطة مقلوة (١) يعبث بها وقد كان أوقع الشيطان في خلدي أنه لا ينبغي أن يأكلوا ويشربوا إذ كان ذلك آفة والإمام غير مئوف فقال اجلس يا فتح فإن لنا بالرسل أسوة كانوا يأكلون ويشربون (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) وكل جسم مغذو بهذا إلا الخالق الرازق لأنه جسم الأجسام وهو لم يجسم ولم يجز ابتناءه ولم يتزايد ولم يتناقص مبرأ من ذاته ما ركب في ذات من جسمه الواحد الأحد الصمد الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) منشئ الأشياء مجسم الأجسام وهو السميع العليم اللطيف الخبير الرءوف الرحيم تبارك وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا لو كان كما وصف لم يعرف الرب من المربوب ولا الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ ولكنه فرق بينه وبين من جسمه وشيأ الأشياء إذ كان لا يشبهه شيء يرى ولا يشبه شيئا.

محمد بن الريان بن الصلت قال كتبت إلى أبي الحسن أستأذنه في كيد عدو لم يمكن كيده فنهاني عن ذلك وقال كلاما معناه تكفاه فكفيته والله أحسن كفاية ذل وافتقر ومات في أسوء الناس حالا في دنياه ودينه.

علي بن محمد الحجال قال كتبت إلى أبي الحسن أنا في خدمتك وأصابني علة في رجلي لا أقدر على النهوض والقيام بما يجب فإن رأيت أن تدعو الله أن يكشف علتي ويعينني على القيام بما يجب علي وأداء الأمانة في ذلك ويجعلني من تقصيري من غير تعمد مني وتضييع مال أتعمده من نسيان يصيبني في حل ويوسع علي وتدعو لي بالثبات على دينه الذي ارتضاه لنبيه ع فوقع كشف الله عنك وعن أبيك قال

__________________

(١) قلا اللحم وغيره : أنضجه في المقلى.

٣٨٨

وكان بأبي علة ولم أكتب فيها فدعا له ابتداء.

وعن داود الضرير قال أردت الخروج إلى مكة فودعت أبا الحسن بالعشي وخرجت فامتنع الجمال تلك الليلة وأصبحت فجئت أودع القبر فإذا رسوله يدعوني فأتيته واستحييت وقلت جعلت فداك إن الجمال تخلف أمس فضحك وأمرني بأشياء وحوائج كثيرة فقال كيف تقول فلم أحفظ مثل ما قال لي فمد الدواة وكتب ـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أذكر إن شاء الله والأمر بيدك كله فتبسمت فقال لي ما لك فقلت له خير فقال أخبرني فقلت له ذكرت حديثا حدثني رجل من أصحابنا أن جدك الرضا كان إذا أمر بحاجة كتب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أذكر إن شاء الله فتبسم وقال يا داود لو قلت لك إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا.

وعن علي بن مهزيار قال أرسلت غلاما لي إلى أبي الحسن في حاجة وكان سقلابيا (١) قال فرجع الغلام إلي متعجبا فقلت ما لك يا بني فقال لي وكيف لا أتعجب ما زال يكلمني بالسقلابية كأنه واحد منا.

قال قطب الدين الراوندي رحمه‌الله تعالى الباب الحادي عشر في معجزات علي النقي ع.

حدث جماعة من أهل أصفهان منهم أبو العباس أحمد بن النصر وأبو جعفر محمد بن علوية قالوا كان بأصفهان رجل يقال له عبد الرحمن وكان شيعيا فقيل له ما السبب الذي أوجب عليك القول بإمامة علي النقي دون غيره من أهل الزمان فقال شاهدت ما يوجب علي ذلك وذلك أني كنت رجلا فقيرا وكان لي لسان وجرأة فأخرجني أهل أصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين فجئنا إلى باب المتوكل متظلمين وكنا بباب المتوكل يوما إذ خرج الأمر بإحضار علي بن محمد بن الرضا فقلت لبعض من حضر من هذا الرجل الذي قد أمر بإحضاره فقيل هذا رجل علوي تقول الرافضة بإمامته ثم قيل ونقدر أن المتوكل يحضره للقتل فقلت لا أبرح من

__________________

(١) السقلب : جيل من الناس كما في اللسان والنسبة إليه سقلابى.

٣٨٩

هاهنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أي رجل هو قال فأقبل راكبا على فرس وقد قام الناس صفين يمنة الطريق ويسرتها ينظرون إليه فلما رأيته وقفت فأبصرته فوقع حبه في قلبي فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع الله عنه شر المتوكل فأقبل يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابته لا يلتفت وأنا دائم الدعاء له فلما صار إلي أقبل علي بوجهه وقال استجاب الله دعاءك وطول عمرك وكثر مالك وولدك قال فارتعدت ووقعت بين أصحابي فسألوني ما شأنك فقلت خير ولم أخبرهم فانصرفنا بعد ذلك إلى أصفهان ففتح الله علي وجوها من المال حتى أني أغلق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم سوى مالي خارج داري ورزقت عشرة من الأولاد وقد بلغت من عمري نيفا وسبعين سنة وأنا أقول بإمامة هذا الذي علم ما في قلبي واستجاب الله دعاءه لي.

ومنها ما روي عن يحيى بن هرثمة (١) قال دعاني المتوكل وقال اختر ثلاثمائة رجل ممن تريده واخرجوا إلى الكوفة فخلفوا أثقالكم فيها واخرجوا على طريق البادية إلى المدينة فاحضروا علي بن محمد الرضا ع إلى عندي مكرما معظما مبجلا قال ففعلت وخرجنا وكان في أصحابي قائد من الشراة (٢) وكان لي كاتب متشيع وأنا على مذهب الحشوية فكان الشاري يناظر الكاتب وكنت أستريح إلى مناظرتهما لقطع الطريق فلما صرنا وسط الطريق قال الشاري للكاتب أليس من قول صاحبكم علي بن أبي طالب ع ليس من الأرض بقعة إلا وهي قبر أو ستكون قبرا فانظر إلى هذه البرية العظيمة أين يموت فيها حتى يملأها الله قبورا كما تزعمون قال فقلت للكاتب أهذا من قولكم قال نعم فقلت أين من يموت في هذه البرية حتى تمتلئ قبورا وتضاحكنا ساعة إذا نخذل الكاتب في

__________________

(١) هذا هو الظاهر الموافق لنسخة البحار والمحكى عن المصدر لكن في جملة من النسخ «يحيى بن هبيرة».

(٢) الشراة : طائفة من الخوارج سموا بذلك لزعمهم انهم شروا دنياهم بالآخرة اى باعوها أو شروا أنفسهم بالجنة لأنهم فارقوا أئمة الجور قاله الطريحي في المجمع.

٣٩٠

أيدينا وسرنا حتى دخلنا المدينة.

فقصدت باب أبي الحسن فدخلت إليه وقرأ كتاب المتوكل وقال انزلوا فليس من جهتي خلاف فلما صرت إليه من الغد وكنا في تموز (١) أشد ما يكون من الحر فإذا بين يديه خياط وهو يقطع من ثياب غلاظ خفاتين له ولغلمانه (٢) وقال للخياط اجمع عليها جماعة من الخياطين واعمل من الفراغ منها يومك هذا وبكر بها إلي في هذا الوقت ونظر إلي وقال يا يحيى اقضوا وطركم من المدينة في هذا اليوم واعمل على الرحيل غدا في هذا الوقت فخرجت من عنده وأنا أتعجب منه من الخفاتين وأقول في نفسي نحن في تموز وحر الحجاز وبيننا وبين العراق عشرة أيام فما يصنع بهذه الثياب وقلت في نفسي هذا رجل لم يسافر وهو يقدر أن كل سفر يحتاج إلى هذه الثياب وأتعجب من الروافض حيث يقولون بإمامة هذا مع فهمه هذا.

فعدت إليه في الغد في ذلك الوقت فإذا الثياب قد أحضرت وقال لغلمانه ادخلوا وخذوا لنا معكم لبابيد وبرانس (٣) ثم قال ارحل يا يحيى فقلت في نفسي وهذا أعجب من الأول يخاف أن يلحقنا الشتاء في الطريق حتى أخذ معه اللبابيد والبرانس.

فخرجت وأنا أستصغر فهمه فسرنا حتى إذا وصلنا إلى موضع المناظرة في القبور ارتفعت سحابة واسودت وأرعدت وأبرقت حتى إذا صارت على رءوسنا أرسلت على رءوسنا بردا مثل الصخور وقد شد على نفسه ع وعلى غلمانه الخفاتين ولبسوا اللبابيد والبرانس وقال لغلمانه ادفعوا إلى يحيى لبادة وإلى الكاتب برنسا وتجمعنا والبرد يأخذنا حتى قتل من أصحابي ثمانين رجلا وزالت وعاد

__________________

(١) شهر من السنة المسيحية.

(٢) الخفاتين جمع الخفتان : نوع من الثياب.

(٣) اللبد : اللباس المتلبد من الصوف. والبرنس : كل ثوب يكون غطاء الرأس جزءا منه متصلا به.

٣٩١

الحر كما كان فقال لي يا يحيى انزل من بقي من أصحابك فادفن من مات منهم فهكذا يملأ الله هذه البرية قبورا.

قال فرميت بنفسي عن دابتي وغدوت إليه فقبلت رجله وركابه وقلت أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا ص عبده ورسوله وأنكم خلفاء الله في أرضه فقد كنت كافرا وقد أسلمت الآن على يديك يا مولاي قال يحيى وتشيعت ولزمت خدمته إلى أن مضى.

ومنها أن هبة الله بن أبي منصور الموصلي قال ـ كان بديار ربيعة كاتب لها نصراني يسمى يوسف بن يعقوب وكان بينه وبين والدي صداقة قال فوافانا فنزل عند والدي فقال له والدي فيم قدمت في هذا الوقت قال دعيت إلى حضرة المتوكل ولا أدري ما يراد مني إلا أني اشتريت نفسي من الله بمائة دينار وقد حملتها لعلي بن محمد الرضا ع معي فقال له والدي قد وفقت في هذا وخرج إلى حضرة المتوكل وجاءنا بعد أيام قلائل فرحا مسرورا مستبشرا فقال له والدي حدثني حديثك قال صرت إلى سر من رأى وما دخلتها قط فنزلت في دار وقلت يجب أن أوصل هذه المائة دينار إلى ابن الرضا قبل مصيري إلى دار المتوكل وقبل أن يعرف أحد قدومي وعرفت أن المتوكل قد منعه من الركوب وأنه ملازم لداره فقلت كيف أصنع رجل نصراني يسأل عن دار ابن الرضا لا آمن أن ينذر بي فيكون ذلك زيادة فيما أحاذره قال ففكرت ساعة في ذلك.

فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج في البلد فلا أمنعه حيث يذهب لعلي أقف على معرفة داره من غير أن أسأل أحدا فجعلت الدنانير في كاغذ وجعلتها في كمي وركبت وكان الحمار يتخرق في الشوارع والأسواق يمر حيث يشاء إلى أن صرت إلى باب دار فوقفت الحمار فجهدت أن يزول فلم يزل فقلت للغلام سل لمن هذه الدار فسأل فقيل دار ابن الرضا فقلت الله أكبر دلالة والله مقنعة قال فإذا خادم أسود قد خرج فقال أنت يوسف بن يعقوب قلت نعم قال فانزل فأقعدني في الدهليز ودخل فقلت هذه دلالة أخرى من أين عرف اسمي واسم أبي

٣٩٢

وليس في البلد من يعرفني ولا دخلته قط فخرج الخادم فقال المائة دينار التي في كمك في الكاغذ هاتها فناولته إياها وقلت هذه ثالثة وجاء فقال ادخل فدخلت وهو وحده فقال يا يوسف ما آن لك (١) فقلت يا مولاي قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمن اكتفى فقال هيهات أنك لا تسلم ولكن سيسلم ولدك فلان وهو من شيعتنا يا يوسف إن أقواما يزعمون أن ولايتنا لا تنفع أمثالك كذبوا والله أنها لتنفع امض فيما وافيت له فإنك سترى ما تحب فمضيت إلى باب المتوكل فنلت كلما أردت وانصرفت.

قال هبة الله فلقيت ابنه بعد هذا وهو مسلم حسن التشيع فأخبرني أن أباه مات على النصرانية وأنه أسلم بعد موت أبيه وكان يقول أنا مؤمن ببشارة مولاي ع.

ومنها ما قال أبو هاشم الجعفري إنه ظهر برجل من أهل سر من رأى برص فتنغص عيشه فأشار إليه أبو علي الفهري بالتعرض لأبي الحسن وأن يسأله الدعاء فجلس له يوما فرآه فقام إليه فقال تنح عافاك الله وأشار إليه بيده تنح عافاك الله ثلاث مرات فانخذل ولم يجسر أن يدنو منه فانصرف ولقي الفهري وعرفه ما قال له قال قد دعا لك قبل أن تسأله فاذهب فإنك ستعافى فذهب وأصبح وقد برأ.

وعن زرافة (٢) حاجب المتوكل قال وقع مشعبذ هندي يلعب بالحقة لم ير مثله وكان المتوكل لعابا فأراد أن يخجل عليا ع فقال المتوكل إن أخجلته فلك ألف دينار قال فتقدم أن يخبز رقاق خفاف تجعل على المائدة وأنا إلى جنبه ففعل وحضر علي ع للطعام وجعل له مسورة عليها صورة أسد وجلس اللاعب إلى جنب المسورة فمد علي ع يده إلى رقاقة فطيرها اللاعب كذا ثلاث

__________________

(١) كأن المراد : ما آن لك أن تسلم وتخرج من الضلالة في الدين.

(٢) وفي نسخة «زراقة» بالقاف وفي أخرى «زرارة» ولم أقف على ترجمته في كتب الرجال على اختلاف النسخ.

٣٩٣

مرات فتضاحكوا فضرب علي ع يده على تلك الصورة وقال خذه فوثبت الصورة من المسورة وابتلعت الرجل وعادت إلى المسورة فتحيروا ونهض علي بن محمد فقال له المتوكل سألتك بالله إلا جلست ورددته فقال والله لا يرى بعدها أتسلط أعداء الله على أوليائه وخرج من عنده ولم ير الرجل بعدها.

وأتاه رجل من أهل بيته اسمه معروف وقال جئتك وما أذنت لي قال ما علمت بك وأخبرت بعد انصرافك وذكرتني بما لا ينبغي فحلف ما فعلت وعلم أبو الحسن أنه كاذب فقال اللهم إنه حلف كاذبا فانتقم منه فمات من الغد.

ومنها قال أبو هاشم الجعفري كان للمتوكل بيت فيه شباك وفيه طيور مصوتة فإذا دخل إليه أحد لم يسمع ولم يسمع فإذا دخل علي ع سكتت جميعا فإذا خرج عادت إلى حالها.

وروى حديث زينب الكذابة التي ذكرناها في أخبار الرضا ع عن الهادي ع والله أعلم.

ومنها ما روى ابن أرومة قال خرجت إلى سر من رأى أيام المتوكل فدخلت إلى سعيد الحاجب ودفع المتوكل أبا الحسن ع إليه ليقتله فقال لي أتحب أن تنظر إلى الهلك فقلت سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار فقال الذي تزعمون أنه إمامكم ـ قلت ما أكره ذلك قال قد أمرت بقتله وأنا فاعله غدا فإذا خرج صاحب البريد فادخل عليه فخرج ودخلت وهو جالس وهناك قبر يحفر فسلمت عليه وبكيت بكاء شديدا فقال ما يبكيك قلت ما أرى قال لا تبك أنه لا يتم لهم ذلك وأنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه فو الله ما مضى غير يومين حتى قتل.

ومنها أن أبا محمد الطبري قال تمنيت أن يكون لي خاتم من عنده ع فجاءني نصر الخادم بدرهمين فصنعتهما خاتما ودخلت على قوم يشربون الخمر فتعلقوا بي فشربت قدحا وقدحين وكان ضيقا في إصبعي لا يمكنني إدارته للوضوء فأصبحت

٣٩٤

وقد افتقدته فتبت إلى الله تعالى.

ومنها أن المتوكل عرض عسكره وأمر أن كل فارس يملأ مخلاة فرسه طينا ويطرحوه في موضع واحد فصار كالجبل واسمه تل المخالي وصعد هو وأبو الحسن ع وقال إنما طلبتك لتشاهد خيولي وكانوا لبسوا التجافيف (١) وحملوا السلاح وقد عرضوا بأحسن زينة وأتم عدة وأعظم هيئة وكان غرضه كسر قلب من يخرج عليه وكان يخاف من أبي الحسن أن يأمر أحدا من أهل بيته بالخروج عليه فقال له أبو الحسن فهل أعرض عليك عسكري قال نعم فدعا الله سبحانه فإذا بين السماء والأرض من المشرق إلى المغرب ملائكة مدججون (٢) فغشي على المتوكل فلما أفاق قال له أبو الحسن نحن لا ننافسكم في الدنيا فإنا مشغولون بالآخرة فلا عليك شيء مما تظن ..

ومنها ما روي عن محمد بن الفرج قال قال لي علي بن محمد إذا أردت أن تسأل مسألة فاكتبها وضع الكتاب تحت مصلاك ودعه ساعة ثم أخرجه وانظر فيه قال ففعلت فوجدت جواب المسألة موقعا فيه.

ومنها ما رواه أبو سعيد سهل بن زياد قال حدثنا أبو العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب ونحن بداره بسر من رأى فجرى ذكر أبي الحسن ع فقال يا أبا سعيد أحدثك بشيء حدثني به أبي قال كنا مع المنتصر وأبي كاتبه فدخلنا والمتوكل على سريره فسلم المنتصر ووقف ووقفت خلفه وكان إذا دخل رحب به وأجلسه فأطال القيام وجعل يرفع رجلا ويضع أخرى وهو لا يأذن له في القعود ورأيت وجهه يتغير ساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان هذا الذي يقول فيه ما تقول ويرد عليه القول والفتح يسكنه ويقول هو مكذوب عليه وهو يتلظى

__________________

(١) قال الفيومي : التجفاف ـ تفعال بالكسر ـ : شيء تلبسه الفرس عند الحرب كأنه درع ، قيل سمى بذلك لما فيه من الصلابة واليبوسة ، وقال الجواليقي معرب ومعناه ثوب البدن.

(٢) المدجج : اللابس السلاح لأنه يتغطى به. من دججت السماء : إذا تغيمت

٣٩٥

ويستشيط ويقول والله لأقتلن هذا المرائي الزنديق وهو الذي يدعي الكذب ويطعن في دولتي ثم طلب أربعة من الخزر أجلافا ودفع إليهم أسيافا وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل وقال والله لأحرقنه بعد قتله وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر فدخل أبو الحسن وشفتاه يتحركان وهو غير مكترث ولا جازع فلما رآه المتوكل رمى بنفسه عن السرير إليه وانكب عليه يقبل بين عينيه ويديه واحتمل شقه بيده وهو يقول يا سيدي يا ابن رسول الله يا خير خلق الله يا ابن عمي يا مولاي يا أبا الحسن وأبو الحسن ع يقول أعيذك يا أمير المؤمنين بالله من هذا فقال ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت قال جاءني رسولك قال كذب ابن الفاعلة ارجع يا سيدي يا فتح يا عبيد الله يا منتصر شيعوا سيدكم وسيدي فلما بصر به الخزر خروا سجدا فدعاهم المتوكل وقال لم لم تفعلوا ما أمرتكم به قالوا شدة هيبته ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن نتأملهم وامتلأت قلوبنا من ذلك فقال يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجهه وقال الحمد لله الذي بيض وجهه وأنار حجته انتهى ما أردت نقله من كتابه رحمه‌الله تعالى.

وقال الطبرسي في كتابه إعلام الورى الباب التاسع في ذكر الإمام النقي أبو الحسن علي بن محمد بن موسى ع وفيه أربعة فصول:

الفصل الأول في ذكر مولده ومبلغ سنه ووقت وفاته وموضع قبره ع ولد ع بصريا من المدينة في النصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين وفي رواية ابن عياش يوم الثلاثاء الخامس من رجب وقبض بسر من رأى في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين وله يومئذ إحدى وأربعون سنة وأشهر وكان المتوكل قد أشخصه مع يحيى بن هرثمة بن أعين من المدينة إلى سر من رأى فأقام بها حتى مضى لسبيله ومدة إمامته ثلاث وثلاثون سنة وأمه أم ولد يقال لها سمانة.

وألقابه النقي والعالم والفقيه والأمين والطيب ويقال له أبو الحسن الثالث وكانت في أيام إمامته بقية ملك المعتصم ثم ملك الواثق خمس سنين وسبعة أشهر وملك المتوكل أربع عشرة سنة ثم ملك ابنه المنتصر ستة أشهر

٣٩٦

ثم ملك المستعين وهو أحمد بن محمد بن المعتصم سنتين وتسعة أشهر ثم ملك المعتز وهو الزبير بن المتوكل ثماني سنين وستة أشهر وفي آخر ملكه استشهد ولي الله علي بن محمد ع ودفن في داره بسر من رأى.

الفصل الثاني في طرف من النص الدال على إمامته ع.

وذكر أخبارا قد تقدمت تتضمن النص من أبيه ع وقال والأخبار في هذا الباب كثيرة وفي إجماع العصابة على إمامته وعدم من يدعيها لغيره غنى عن إيراد الأخبار في ذلك وضرورة أئمتنا ع في هذه الأزمنة في خوفهم من أعدائهم وتقيتهم أحوجت شيعتهم في معرفة نصوصهم على من بعدهم إلى ما ذكرنا من الاستخراج حتى أن أوكد الوجوه عندهم في ذلك دلائل العقول الموجبة للإمامة وما اقترن إلى ذلك من حصولها لولد الحسن ع وفساد أقوال ذوي النحل الباطلة وبالله التوفيق.

الفصل الثالث في ذكر طرف من دلائله ع ومعجزاته وبيناته قد ذكر في هذا الفصل شيئا مما أوردته وأنا أذكر من قوله ما انفرد بروايته.

فمنها قال أبو هاشم الجعفري كنت بالمدينة حين مر بها بغاء أيام الواثق في طلب الأعراب فقال أبو الحسن ع اخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التركي فخرجنا فمر بنا تعبيته ومر بنا تركي فكلمه أبو الحسن بالتركية فنزل عن فرسه وقبل حافر دابته قال فقلت للتركي ما قال لك قال أنبي هو قلت لا قال دعاني باسم سميت أمي به في صغري في بلاد الترك ما علمه أحد إلى الساعة.

وعنه قال دخلت إلى أبي الحسن ع فكلمني بالهندية فلم أحسن أن أرد عليه وكان بين يديه حصا فأخذ حصاة وتركها في فمه ومصها ثلاث مصات ودفعها إلي فوضعتها في فمي فو الله ما برحت من عنده حتى تكلمت بثلاثة وسبعين لسانا أولها الهندية.

وعنه قال خرجت معه ع إلى ظاهر سر من رأى يتلقى بعض الطالبيين

٣٩٧

فأبطأ فطرحت له غاشية السرج فجلس عليها ونزلت فجلست بين يديه وهو يحدثني فشكوت إليه قصور يدي فأهوى بيده إلى رمل كان عليه جالسا فناولني منه أكفا وقال اتسع بهذا يا أبا هاشم اكتم ما رأيت فخبأته معي ورجعنا فأبصرته فإذا هو يتقد كالنيران ذهبا أحمر فدعوت صائغا إلى منزلي وقلت له اسبك لي هذا سبيكة فسبكه وقال ما رأيت ذهبا أجود من هذا وهو كالرمل فمن أين لك هذا فما رأيت أعجب منه قلت هذا لنا من قديم مدخر.

وحدث أبو طاهر الحسين بن عبد القاهر الطاهري قال حدثنا محمد بن الحسين الأشتر العلوي قال كنت على باب المتوكل وأنا صبي في جمع من الناس ما بين طالبي إلى عباسي إلى جندي وكان إذا جاء أبو الحسن ترجل الناس كلهم حتى يدخل فقال بعضهم لبعض لم نترجل لهذا الغلام وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا سنا والله لا ترجلنا له فقال له أبو هاشم الجعفري والله لترجلن له صاغرين إذا رأيتموه فما هو إلا أن أقبل حتى ترجلوا أجمعين فقال أبو هاشم أليس زعمتم أنكم لا تترجلون فقالوا والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجلنا.

قال وأولم بعض أولاد الخلفاء وليمة فدعا أبا الحسن ودعا الناس فلما رأوه أنصتوا إجلالا له وجعل شاب في المجلس لا يوقره ويتحدث ويضحك فأقبل عليه وقال يا هذا أتضحك بملء فيك وتذهل عن ذكر الله وأنت بعد ثلاث من أهل القبور قال فقلنا هذا دليل ننظر ما يكون فأمسك الفتى وكف وطعمنا وخرجنا فلما كان بعد يوم اعتل الفتى ومات في اليوم الثالث ودفن فيه.

وقال سعيد اجتمعنا في وليمة لبعض أهل سر من رأى وأبو الحسن معنا فجعل رجل يعبث ويمزح ولا يرى له جلاله فأقبل على جعفر وقال أما إنه لا يأكل من هذا الطعام وسيرد عليه من خبر أهله ما ينغض عيشه فلما قدمت المائدة قال جعفر ليس بعد هذا خبر فو الله لقد غسل الرجل يده وأهوى إلى الطعام فدخل غلامه وهو يبكي ويصرخ وقال الحق أمك فقد وقعت من السطح وهي في الموت قال جعفر فقلت والله لا وقفت بعد هذا فيه وقطعت عليه والروايات في هذا الباب كثيرة وفيما

٣٩٨

أوردناه كفاية.

الفصل الرابع في ذكر طرف من خصائصه ع وأخباره ذكر في هذا الفصل حديث إشخاصه من المدينة وحديث خان الصعاليك الذي أنزل فيه عند قدومه سر من رأى قال وكان المتوكل يجتهد في إيقاع حيلة به فلا يتمكن من ذلك وله معه أحاديث يطول بذكرها الكتاب فيها آيات ودلالات ذكرنا بعضها وفي إيراد جميعها خروج عن الغرض في الإيجاز.

وله من الأولاد ابنه أبو محمد الحسن الإمام بعده والحسين ومحمد وجعفر الملقب بالكذاب وابنته غالية وكان مقامه بسر من رأى إلى أن توفي ع عشرين سنة وأشهرا.

قال أفقر عباد الله تعالى إلى رحمته ـ علي بن عيسى أغاثه الله في الدنيا والآخرة برحمته شرف مولانا الهادي ع قد ضرب على المجرة قبابه ومد على النجوم أطنابه ووصل بأسباب السماء أسبابه فما تعد منقبة إلا وله نخيلتها ولا تذكر كريمة إلا وله فضيلتها ولا تورد حسنة إلا وله تفصيلها وجملتها ولا تستعظم حالة سنية إلا وتظهر عليه أدلتها استحق ذلك بما في جوهر نفسه من كرم تفرد بخصائصه ومجد حكم فيه على طبعه الكريم فحفظه من الشوب حفظة الراعي لقلائصه (١) فكانت نفسه مهذبة وأخلاقه مستعذبة وسيرته عادلة وخلاله فاضلة ومباره إلى العفاة واصلة ورباع العرف بوجوده وجودة أهله جرى من الوقار والسكينة والسكون والطمأنينة والعفة والنزاهة والخمول في النباهة والشفقة والرأفة والحزم والحصافة والحنو على الأقارب والأباعد والحدب على الولي والحاسد على وتيرة نبوية وشنشنة علوية ونفس قدسية لا يقاربها أحد من الأنام ولا يدانيها وطريقة لا يشاركه فيها خلق ولا يطمع فيها.

إن السري إذا سرا فبنفسه

وابن السري إذا سرا أسراهما

إذا قال بذ الفصحاء وحير البلغاء وأسكت العلماء إن جاد بخل الغيث

__________________

(١) جمع القلوص : الشابة من الإبل.

٣٩٩

وإن صال جبن الليث وإن فخر أذعن كل مساجل وسلم إليه كل مناضل وأقر لشرفه كل شريف وإن طاول الأفلاك ونافر الأملاك واعترف أنه ليس هناك وإن ذكرت العلوم فهو ع موضح أشكالها وفارس جلادها وجدالها وابن نجدتها وصاحب أقوالها وأطلاع نجادها وناصب أعلام أعقالها.

هذه صفاته التي تتعلق بذاته وعلاماته الدالة على معجز آياته فإن أتى الناس بآبائهم أتى بقوم أخبر بشرفهم هل أتى ودلت على مناصبهم آية المباهلة وإن عتا عن قبولها من عتا ونطق القرآن الكريم بفضلهم ونبه الرسول ص على نبلهم ولم يسأل على التبليغ أجرا إلا ودهم وبالغ في العهد بأحسنوا خلافتي في أهلي فما حفظوا عهده ولا عهدهم فهم ع أمناء الله وخيرته وخلفاؤه على بريته وصفوته المشار إليهم بآداب القرآن المجيد المخاطبون ب (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) الذين هم على أولياء الله أرق من الماء وعلى أعدائه أقسى من الحديد وأجواد والسحاب باخل أيقاظ في اللقاء والليث ذاهل قلوبهم حاضرة ووجوههم ناضرة وألسنتهم ذاكرة وإذا كان لغيرهم دنيا فلهم دنيا وآخرة صلى الله عليهم صلاة يقتضيها كرم الله واستحقاقهم الكامل وهذان سببان يوجبان الحصول لوجود الفاعل والقابل وقد مدحت مولانا أبا الحسن ع بما أرجو ثوابه في العاجل والآجل وأنا معترف بالتقصير والله عند لسان كل قائل وهو

يا أي هذا الرائح الغادي

عرج على سيدنا الهادي

واخلع إذا شارفت ذاك الثرى

فعل كليم الله في الوادي

وقبل الأرض وسف تربة

فيها العلى والشرف العادي

وقل سلام الله وقف على

مستخرج من صلب أجواد

مؤيد الأفعال ذو نائل

في المحل يروي غلة الصادي

يفوق في المعروف صوب الحيا

الساري بإبراق وإرعاد

في البأس يردي شأفة المعتدي

بصولة كالأسد العادي

٤٠٠