كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

إلى قده لأصف قامته لأصحابنا فقعد ثم قال يا معلى إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا). (١)

وعن داود بن القاسم الجعفري قال دخلت على أبي جعفر ع ومعي ثلاث رقاع غير معنونة واشتبهت علي فاغتممت فتناول أحدها وقال هذه رقعة ريان بن شبيب ثم تناول الثانية فقال هذه رقعة فلان فبهت أنظر إليه فتبسم وأخذ الثالثة فقال هذه رقعة فلان فقلت نعم جعلت فداك فأعطاني ثلاثمائة دينار وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمه ثم قال أما إنه سيقول لك دلني على حريف يشتري لي بها متاعا فدله عليه قال فأتيته بالدنانير فقال لي يا أبا هاشم دلني على حريف يشتري لي بها متاعا فقلت نعم وكلمني في الطريق جمال سألني أن أخاطبه في إدخاله مع بعض أصحابه في أموره فدخلت عليه لأكلمه فوجدته يأكل ومعه جماعة فلم أتمكن من كلامه فقال يا أبا هاشم كل ووضع بين يدي ما آكل منه ثم قال ابتداء من غير مسألة يا غلام انظر الجمال الذي أتانا به أبو هاشم فضمه إليك.

قال أبو هاشم ودخلت معه يوما بستانا فقلت له جعلت فداك إني مولع بأكل الطين فادع الله لي فسكت ثم قال لي بعد أيام ابتداء منه يا أبا هاشم قد أذهب الله عنك أكل الطين قال أبو هاشم فما من شيء أبغض إلي عنه اليوم والأخبار في هذا المعنى كثيرة وفيما أثبتناه منها كفاية فيما قصدناه إن شاء الله.

باب ذكر وفاة أبي جعفر ع وموضع قبره وذكر ولده

قد تقدم القول في مولد أبي جعفر ع وذكرنا أنه ولد بالمدينة وأنه قبض ببغداد وكان سبب وروده إليها إشخاص المعتصم له من المدينة فورد ببغداد لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين ومائتين وتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة وقيل إنه مضى مسموما ولم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به.

ودفن في مقابر قريش في ظهر جده أبي الحسن موسى بن جعفر ع

__________________

(١) مريم : ١٢

٣٦١

وكان له يوم قبض خمس وعشرين سنة وأشهر وكان منعوتا بالمنتجب والمرتضى وخلف بعده من الولد عليا ابنه الإمام من بعده وموسى وفاطمة وأمامة ابنتيه ولم يخلف ذكرا غير من سميناه آخر كلامه.

قال ابن الخشاب ذكر أبي جعفر المرتضى محمد بن علي الرضا بن موسى الأمين بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي سيد العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ص وبهذا الإسناد عن محمد بن سنان قال مضى المرتضى أبو جعفر الثاني محمد بن علي وهو ابن خمس وعشرين سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوما في سنة مائتين وعشرين من الهجرة وكان مولده سنة مائة وخمس وتسعين من الهجرة فكان مقامه مع أبيه سبع سنين وثلاثة أشهر وقبض في يوم الثلاثاء لست ليال خلون من ذي الحجة سنة مائتين وعشرين وفي رواية أخرى أقام مع أبيه تسع سنين وأشهرا.

ولد في رمضان ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت منه سنة خمس وتسعين ومائة وقبض في يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين أمه أم ولد يقال لها سكينة مريسة ويقال لها حريان والله أعلم لقبه المرتضى والقانع وقبره في بغداد بمقابر قريش يكنى بأبي جعفر.

قلت أخل الشيخ بذكر أولاده ع.

ومن كتاب الدلائل عن أمية بن علي قال كنت مع أبي الحسن بمكة في السنة التي حج فيها ثم صار إلى خراسان ومعه أبو جعفر وأبو الحسن يودع البيت فلما قضى طوافه عدل إلى المقام فصلى عنده فصار أبو جعفر على عنق موفق (١) يطوف به فصار أبو جعفر إلى الحجر فجلس فيه فأطال فقال له موفق قم جعلت فداك فقال ما أريد أن أبرح من مكاني هذا إلا أن يشاء الله واستبان في وجهه الغم فأتى موفق أبا الحسن فقال له جعلت فداك قد جلس أبو جعفر

__________________

(١) يعني موفق بن بن هارون وكان الرجل من خدام الرضا (ع) بل من خواصه وأصحاب أسراره كما استظهره الشيخ عند ذكر حاله.

٣٦٢

في الحجر وهو يأبى أن يقوم فقام أبو الحسن فأتى أبا جعفر فقال قم يا حبيبي فقال ما أريد أن أبرح من مكاني هذا قال بلى يا حبيبي ثم قال كيف أقوم وقد ودعت البيت وداعا لا ترجع إليه فقال له قم يا حبيبي فقام معه.

وعن ابن بزيع العطار قال قال أبو جعفر الفرج بعد المأمون بثلاثين شهرا قال فنظرنا فمات بعد ثلاثين شهرا.

وعن معمر بن خلاد عن أبي جعفر أو عن رجل عن أبي جعفر الشك من أبي علي قال قال أبو جعفر يا معمر اركب قلت إلى أين قال اركب كما يقال لك قال فركبت فانتهيت إلى واد أو إلى وهدة (١) الشك من أبي علي فقال لي قف هاهنا قال فوقفت فأتاني فقلت له جعلت فداك أين كنت قال دفنت أبي الساعة وكان بخراسان قال القاسم بن عبد الرحمن وكان زيديا قال خرجت إلى بغداد فبينا أنا بها إذ رأيت الناس يتعادون ويتشرفون ويقفون فقلت ما هذا فقالوا ابن الرضا فقلت والله لأنظرن إليه فطلع على بغل أو بغلة فقلت لعن الله أصحاب الإمامة حيث يقولون إن الله افترض طاعة هذا فعدل إلي وقال يا قاسم بن عبد الرحمن (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) فقلت في نفسي ساحر والله فعدل إلي فقال (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) قال فانصرفت وقلت بالإمامة وشهدت أنه حجة الله على خلقه واعتقدته.

وعن عمران بن محمد الأشعري قال دخلت على أبي جعفر الثاني فقضيت حوائجي وقلت إن أم الحسن تقرؤك السلام وتسألك ثوبا من ثيابك أجعله كفنا لها فقال لي قد استغنت عن ذلك قال فخرجت لست أدري ما معنى ذلك فأتاني الخبر أنها قد ماتت قبل ذلك بثلاثة عشر يوما أو أربعة عشر يوما.

وعن دعبل بن علي أنه دخل على الرضا ع فأمر له بشيء فأخذه ولم يحمد الله فقال له لم لم تحمد الله قال ثم دخلت بعده على أبي جعفر فأمر له بشيء فقلت الحمد لله فقال تأدبت

__________________

(١) الوهدة : ما انهبط من الأرض

٣٦٣

وعن علي بن إبراهيم عن أبيه قال استأذن على أبي جعفر قوم من أهل النواحي فأذن لهم فدخلوا وسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب وله عشر سنين (١)

__________________

(١) قال المجلسيّ (ره) في البحار بعد ذكر الحديث ونقله عن الكافي والمناقب وكشف الغمّة ما لفظه :

أقول : يشكل هذا بأنه لو كان السؤال والجواب عن كل مسئلة بيتا واحدا أعنى خمسين حرفا لكان أكثر من ثلاث ختمات القرآن فكيف يمكن ذلك في مجلس واحد ولو قيل : جوابه (ع) كان في الأكثر بلا ونعم أو بالاعجاز في اسرع زمان فبقى السؤال لا يمكن ذلك ، ويمكن الجواب بوجوه :

«الأول» : ان الكلام محمول على المبالغة في كثرة الأسئلة والأجوبة فان عد مثل ذلك مستبعد جدا «الثاني» يمكن أن يكون في خواطر القوم أسئلة كثيرة متفقة ، فلما أجاب (ع) عن واحد فقد أجاب عن الجميع «الثالث» أن يكون إشارة إلى كثرة ما يستنبط من كلماته الموجزة المشتملة على الاحكام الكثيرة وهذا وجه قريب «الرابع» أن يكون المراد بوحدة المجلس الوحدة النوعية أو مكان واحد كمنى وان كان في أيّام متعدّدة «الخامس» أن يكون مبنيا على بسط الزمان الذي تقول به الصوفية لكنه ظاهرا من قبيل الخرافات «السادس» أن يكون اعجازه اثر في سرعة كلام القوم أيضا ، أو كان يجيبهم بما يعلم من ضمائرهم قبل سؤالهم «السابع» ما قيل إن المراد السؤال بعرض المكتوبات والطومارات فوقع الجواب بخرق العادة «انتهى كلامه رفع مقامه».

قلت : وأقرب الوجوه هو الوجه الثالث كما قربه (ره) أيضا فإنه كثيرا ما نرى في أدلة الاحكام دليلا واحدا يستنبط منه احكام كثيرة وقد ورد في الحديث «انما علينا أن نلقى إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا وقد علمنا ذلك الطريق في استنباط الاحكام مولانا الصادق (ع) في خبر عبد الأعلى مولى آل سام في باب المسح على الجبائر قال قلت لأبي عبد اللّه (ع) عثرت فانقطع ظفرى وجعلت على اصبعى مرارة فكيف أصنع بالوضوء قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزّ وجلّ قال اللّه تعالى :«ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ ـ

٣٦٤

وعن محمد بن سنان قال قبض أبو جعفر محمد بن علي وهو ابن خمس وعشرين سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوما توفي في يوم الثلاثاء لست خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين عاش بعد أبيه تسع عشرة سنة إلا خمسة وعشرين يوما.

وعن أمية بن علي القيسي قال دخلت أنا وحماد بن عيسى على أبي جعفر بالمدينة لنودعه فقال لنا لا تخرجا اليوم وأقيما إلى غد فلما خرجنا من عنده قال لي حماد أنا أخرج فقد خرج ثقلي فقلت أما أنا فأقيم فخرج حماد فجرى الوادي تلك الليلة فغرق فيه وقبره بسيالة آخر ما نقلت من كتاب الدلائل.

وقال الراوندي رحمه‌الله الباب العاشر في معجزات محمد التقي ع عن محمد بن ميمون أنه كان مع الرضا بمكة قبل خروجه إلى خراسان قال فقلت له إني أريد أن أتقدم إلى المدينة فاكتب معي كتابا إلى أبي جعفر فتبسم وكتب وصرت إلى المدينة وكان قد ذهب بصري فأخرج الخادم أبا جعفر إلينا يحمله من المهد فناولته الكتاب فقال لموفق الخادم فضه وانشره ففضه ونشره بين يديه فنظر فيه ثم قال لي يا محمد ما حال بصرك فقلت يا ابن رسول الله اعتلت عيناي فذهب بصري كما ترى فمد يده فمسح بها على عيني فعاد إلي بصري كأصح ما كان فقبلت يده ورجله وانصرفت من عنده وأنا بصير.

وروي عن حكيمة بنت الرضا ع قالت ـ لما توفي أخي محمد بن الرضا صرت يوما إلى امرأته أم الفضل لسبب احتجت إليها فيه قالت فبينا نحن نتذاكر فضل محمد وكرمه وما أعطاه الله من العلم والحكمة إذ قالت امرأته أم الفضل أخبرك عن أبي جعفر بعجيبة لم يسمع مثلها قلت وما ذاك قال إنه ربما كان أغارني مرة بجارية

__________________

ـ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»فامسح عليه. وغير ذلك من الشواهد الكثيرة لهذا الوجه التي لا تخفى على المتتبع ولعله من هذا القبيل ما ورد في الأحاديث الكثيرة ان عليا (ع) قال : ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أسر إلى ألف حديث في كل حديث الف باب لكل باب ألف مفتاح. وفي بعضها عن أبي عبد اللّه (ع) ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله علم عليا بابا يفتح له ألف باب كل باب يفتح له الف باب.

٣٦٥

ومرة بتزويج فكنت أشكوه إلى المأمون فيقول يا بنية احتملي فإنه ابن رسول الله فبينا أنا ذات ليلة جالسة إذ أتت امرأة فقلت من أنت وكأنها قضيب بان أو غصن خيزران [فقلت من أنت] فقالت أنا زوجة أبي جعفر بن الرضا وأنا امرأة من ولد عمار بن ياسر قالت فدخل علي من الغيرة ما لم أملك نفسي فنهضت من ساعتي فدخلت إلى المأمون وكان ثملا من الشراب وقد مضى من الليل ساعات فأخبرته بحالي وقلت إنه يشتمك ويشتمني ويشتم العباس وولده قالت وقلت ما لم يكن فغاظه ذلك فقام وتبعته ومعه خادم وجاء إلى أبي جعفر وهو نائم فضربه بالسيف حتى قطعه إربا إربا وذبحه وعاد فلما أصبح عرفناه ما كان بدا منه وأنفذ الخادم فوجد أبا جعفر قائما يصلي ولا أثر فيه فأخبره أنه سالم ففرح وأعطى الخادم ألف دينار وحمل إليه عشرة آلاف دينار واجتمعا واعتذر إليه بالسكر وأشار عليه بترك الشراب فقبل.

وهذه القصة عندي فيها نظر وأظنها موضوعة فإن أبا جعفر ع إنما كان يتزوج ويتسرى حيث كان بالمدينة ولم يكن المأمون بالمدينة فتشكو إليه ابنته فإن قلت إنه جاء حاجا قلت لم يكن ليشرب في تلك الحال وأبو جعفر ع مات ببغداد وزوجته معه فأخته أين رأتها بعد موته وكيف اجتمعتا وتلك بالمدينة وهذه ببغداد وتلك الامرأة التي من ولد عمار بن ياسر رضي الله عنه في المدينة تزوجها فكيف رأتها أم الفضل فقامت من فورها وشكت إلى أبيها كل هذا يجب أن ينظر فيه والله أعلم. (١)

ومنها ما روي عن الشيخ أبي بكر بن إسماعيل قال قلت لأبي جعفر بن الرضا إن لي جارية تشتكي من ريح بها قال ائتني بها فأتيته بها فقال لها ما تشكين يا جارية قالت ريحا في ركبتي فمسح يده على ركبتها من وراء الثياب

__________________

(١) قال المجلسيّ (ره) بعد نقل كلام المؤلّف (ره) ما لفظه : أقول : كل ما ذكره من المقدمات التي بنى عليها ردّ الخبر في محل المنع ولا يمكن ردّ الخبر المشهور المتكرر في جميع الكتب بمحض هذا الاستبعاد.

٣٦٦

فخرجت وما اشتكت وجعا بعد ذلك.

ومنها ما روي عن علي بن جرير قال كنت عند أبي جعفر ع جالسا وقد ذهبت شاة لمولاة له فأخذوا بعض الجيران يجرونهم إليه يقولون أنتم سرقتم الشاة فقال لهم أبو جعفر ويلكم خلوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم الشاة في دار فلان فأخرجوها من داره فخرجوا فوجدوها في داره فأخذوا الرجل وضربوه وخرقوا ثيابه وهو يحلف إنه لم يسرق هذه الشاة إلى أن صاروا به إلى أبي جعفر ع فقال ويحكم ظلمتم الرجل فإن الشاة دخلت داره وهو لا يعلم ثم دعاه فوهب له شيئا بدل ما خرق من ثيابه وضربه.

ومنها ما روي عن محمد بن عمير بن واقد الرازي قال دخلت على أبي جعفر بن الرضا ومعي أخي وبه بهر شديد (١) فشكا إليه ذلك البهر فقال عافاك الله مما تشكو فخرجنا من عنده وقد عوفي فما عاد إليه ذلك البهر إلى أن مات.

قال محمد بن عمير كان يصيبني وجع في خاصرتي في كل أسبوع ويشتد ذلك بي أياما فسألته أن يدعو لي بزواله عني فقال وأنت فعافاك الله فما عاد إلى هذه الغاية.

ومنها ما روي عن القاسم بن المحسن قال كنت فيما بين مكة والمدينة فمر بي أعرابي ضعيف الحال فسألني شيئا فرحمته وأخرجت له رغيفا فناولته إياه فلما مضى عني هبت ريح شديدة زوبعة (٢) فذهبت بعمامتي من رأسي فلم أرها كيف ذهبت وأين مرت فلما دخلت على أبي جعفر بن الرضا ع فقال لي يا قاسم ذهبت عمامتك في الطريق قلت نعم قال يا غلام أخرج إليه عمامته فأخرج إلي عمامتي بعينها قلت يا ابن رسول الله كيف صارت إليك قال تصدقت على الأعرابي فشكر الله لك ورد عمامتك و (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)

__________________

(١) البهر بالضم ـ : تتابع النفس وانقطاعه من الاعياء وغيره.

(٢) الزوبعة : ما يقوم من تعارض الرياح تأتي من الجهات الأربع ويصعد إلى السماء كأنّه عمود.

٣٦٧

ومنها ما روي عن إسماعيل بن عياش [عباس] الهاشمي قال جئت إلى أبي جعفر يوم عيد فشكوت إليه ضيق المعاش فرفع المصلى وأخذ من التراب سبيكة من ذهب فأعطانيها فخرجت بها إلى السوق فكان فيها ستة عشر مثقالا من ذهب هذا آخر ما نقلته من كتاب الراوندي رحمه‌الله وقال الآبي في نثر الدر محمد بن علي بن موسى ع. نذر المتوكل في علة إن وهب الله له العافية أن يتصدق بمال كثير فعوفي فأحضر الفقهاء واستفتاهم فكل منهم قال شيئا إلى أن قال محمد إن كنت نويت الدنانير فتصدق بثمانين دينارا وإن كنت نويت الدراهم فتصدق بثمانين درهما فقال الفقهاء ما نعرف هذا في كتاب ولا سنة فقال بلى قال الله عزوجل (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) (١) فعدوا وقائع رسول الله ص ففعلوا فإذا هي ثمانون.

وقال هذه القصة إن كانت وقعت للمتوكل فالجواب لعلي بن محمد فإن محمدا لم يلحق أيام المتوكل ويجوز أن يكون له مع غيره من الخلفاء.

وقال عبد الله علي بن عيسى أثابه الله تعالى هذا لا أظنه يصح عن أحد من الأئمة ع أن يجيب بهذا الجواب لأن كل شيء له كثرة بحسبه فمواطن القتال إذا كانت ثمانين بل خمسين بل عشرين كانت كثيرة فكثيرا من الملوك العظماء لا يتفق لهم ذلك عشر مرات فأما المال فلا تستكثر للملك الألوف الكثيرة ألا ترى لو أنا قلنا إن الملك له عشرون ألف فرس كانت تستكثر ولو قيل إن له خمسمائة ألف دينار لم يستعظم له ذلك وعلى هذا وأمثاله فقس. وأتاه ع رجل فقال له أعطني على قدر مروءتك فقال لا يسعني فقال على قدري قال أما ذا فنعم يا غلام أعطه مائة دينار.

وقال أحمد بن حمدون قال محمد بن علي بن موسى كيف يضيع من الله كافله وكيف ينجو من الله طالبه ومن انقطع إلى غير الله وكله الله إليه ومن عمل على غير علم أفسد أكثر مما يصلح. وقال القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب

__________________

(١) التوبة : ٢٥.

٣٦٨

الجوارح بالأعمال.

قال الطبرسي رحمه‌الله في إعلامه الباب الثامن في ذكر الإمام التقي أبي جعفر محمد بن علي الرضا ع وفيه أربعة فصول :

الفصل الأول في تاريخ مولده ومدة إمامته ووقت وفاته ولد ع في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائة لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر وقيل للنصف منه ليلة الجمعة وفي رواية ابن عياش ولد يوم الجمعة لعشر خلون من رجب وقبض ع ببغداد في آخر ذي القعدة سنة عشرين ومائتين وله يومئذ خمس وعشرون سنة وكانت مدة خلافته وولايته سبع عشرة سنة وكانت في أيام إمامته بقية ملك المأمون وقبض في أول ملك المعتصم وأمه أم ولد يقال لها سبيكة ويقال درة ثم سماها الرضا خيزران وكانت نوبية.

ولقبه التقي والمنتجب والجواد والمرتضى ويقال له أبو جعفر الثاني ودفن ع بمقابر قريش في ظهر جده موسى بن جعفر ع.

الفصل الثاني في ذكر النصوص الدالة على إمامته ع يدل على إمامته بعد طريقة الاعتبار وطريقة التواتر اللتين تقدم ذكرهما في إمامة آبائه ع ما ثبت من إشارة أبيه إليه بالإمامة ورواية الثقات من أصحابه وأهل بيته مثل عمه علي بن جعفر الصادق ع وعدد الجماعة الذين ذكرهم الشيخ المفيد رحمه‌الله تعالى والنصوص التي رويت فيه عن أبيه ع.

الفصل الثالث في طرف من دلائله ومعجزاته ع وذكر الطبرسي رحمه‌الله في هذا الفصل ما ذكره المفيد رحمه‌الله وزاد فيه ما أنا ذاكره. عن أمية بن علي قال كنت بالمدينة وكنت أختلف إلى أبي جعفر وأبو الحسن بخراسان وكان أهل بيته وعمومة أبيه يأتونه ويسلمون عليه فدعا يوما بجارية فقال لها قولي لهم يتهيئون للمأتم فلما تفرقوا قالوا هلا سألناه مأتم من فلما كان من الغد فعل مثل ذلك فقالوا مأتم من قال خير من على ظهرها فأتانا خبر أبي الحسن بعد ذلك بأيام فإذا هو قد مات في ذلك اليوم.

٣٦٩

قال محمد بن الفرج كتب إلي أبو جعفر احملوا إلي الخمس فإني لست آخذه منكم سوى عامي هذا فقبض ع في تلك السنة ذكر أن ذلك منقول من كتاب نوادر الحكمة.

الفصل الرابع في ذكر بعض مناقبه وفضائله ع كان ع قد بلغ في وقته من الفضل والعلم والحكم والآداب مع صغر سنه منزلة لم يساوه فيها أحد من ذوي الأسنان من السادات وغيرهم ولذلك كان المأمون مشعوفا به لما رأى من علو رتبته وعظيم منزلته في جميع الفضائل فزوجه ابنته أم الفضل وحملها معه إلى المدينة وكان متوفرا على إعظامه وتوقيره وتبجيله وذكر بعد هذا مناظرته بين يدي المأمون وسؤال يحيى بن أكثم له وأمورا ذكرتها آنفا وقال مضى ع إلى المدينة ولم يزل بها حتى أشخصه المعتصم إلى بغداد في أول سنة عشرين ومائتين فأقام بها حتى توفي في آخر ذي القعدة من السنة وقيل إنه مضى ع مسموما وخلف من الولد عليا ابنه الإمام وموسى وفاطمة وأمامة ابنتيه ولم يخلف غيرهم انتهى كلامه.

قال الفقير إلى الله تعالى عبد الله علي بن عيسى عفى الله عنه بمنه وكرمه ـ الجواد ع في كل أحواله جواد وفيه يصدق قول اللغوي جواد من الجودة من أجواد فاق الناس بطهارة العنصر وزكاء الميلاد وافترع قلة العلاء فما قاربه أحد ولا كاد مجده عالي المراتب ومكانته الرفيعة تسمو على الكواكب ومنصبه يشرف على المناصب إذا أنس الوفد نارا قالوا ليتها ناره لا نار غالب له إلى المعالي سمو وإلى الشرف رواح وغدو وفي السيادة إغراق وعلو وعلى هام السماك ارتفاع وعلو وعن كل رذيلة بعد وإلى كل فضيلة دنو تتأرج المكارم من أعطافه ويقطر المجد من أطرافه وتروى أخبار السماح عنه وعن أبنائه وأسلافه فطوبى لمن سعى في ولائه والويل لمن رغب في خلافه إذا اقتسمت غنائم المجد والمعالي والمفاخر كان له صفاياها وإذا امتطيت غوارب السؤدد كان له أعلاها وأسماها يباري الغيث جوادا وعطية ويجاري الليث نجدة وحمية ويبذ السير سيرة رضية

٣٧٠

مرضية سرية إذا عدد آباءه الكرام وأبناءه ع نظم اللآلئ الأفراد في عده وجاء بجماع المكارم في رسمه وحده وجمع أشتات المعالي فيه وفي آبائه من قبله وفي أبنائه من بعده فمن له أب كأبيه أو جد كجده فهو شريكهم في مجدهم وهم شركاؤه في مجده وكما ملئوا أيدي العفاة برفدهم ملأ أيديهم برفده.

بدور طوالع جبال فوارع

غيوث هوامع سيول دوافع

بها ليل لو عاينت فيض أكفهم

تيقنت أن الرزق في الأرض واسع

إذا خففت بالبذل أرواح جودهم

حداها الندى واستنشقتها المطامع

بهم اتضحت سبل الهدى وبهم سلم من الردى وبحبهم ترجى النجاة والفوز غدا وهم أهل المعروف وأولو الندى كل المدائح دون استحقاقهم وكل مكارم الأخلاق مأخوذة من كريم أخلاقهم وكل صفات الخير مخلوقة في عنصرهم الشريف وأعراقهم فالجنة في وصالهم والنار في فراقهم وهذه الصفات تصدق على الجمع والواحد وتثبت للغائب منهم والشاهد وتتنزل على الولد منهم والوالد حبهم فريضة لازمة ودولتهم باقية دائمة وأسواق سؤددهم قائمة وثغور محبيهم باسمة وكفاهم شرفا أن جدهم محمد وأبوهم علي وأمهم فاطمة فمن يجاريهم في الفخر أو من يسابقهم في علو القدر وما تركوا غاية عز إلا انتهوا إليها سابقين ولا مرتبة سؤدد إلا ارتفقوها آمنين من اللاحقين وهذا حق اليقين بل عين اليقين الناس كلهم عيال عليهم ومنتسبون انتساب العبودية إليهم عنهم أخذت المآثر ومنهم تعلمت المفاخر وبشرفهم شرف الأول والآخر ولو أطلت في صفاتهم لم آت بطائل ولو حاولت حصرها نادتني أين الثريا من يد المتناول وكيف تطيق حصر ما عجز عنه الأواخر والأوائل وهذا مقام يلبس فيه سحبان وائل فهاهة باقل (١) فكففت عنان القلم وكففت من

__________________

(١) سحبان : اسم رجل باهلى يضرب به المثل في الخطابة والفصاحة يقال «أخطب من سحبان وائل» والفهاهة : العى والعجز في الكلام وبأقل : رجل يضرب به المثل في العى.

٣٧١

انثيال الكلم (١) واتبعت العادة في مدحه ع بشعر يزيد قدري وينقص عن قدره ويخلد ذكري بخلود ذكره وهو :

حماد حماد للمثني حماد

على آلاء مولانا الجواد

إمام هدى له شرف ومجد

علا بهما على السبع الشداد

إمام هدى له شرف ومجد

أقر به الموالي والمعادي

تصوب يداه بالجدوى فتغني

عن الأنواء في السنة الجماد (٢)

يبخل جود كفيه إذا ما

جرى في الجود منهل الغواد (٣)

بنى من صالح الأعمال بيتا

بعيد الصيت مرتفع العماد

وشاد من المفاخر والمعالي

بناء لم يشده قوم عاد

فواضله وأنعمه غزار

عهدن أبر من سح العهاد (٤)

ويقدم في الوغى إقدام ليث

ويجري في الندى جري الجواد

فمن يرجو اللحاق به إذا ما

أتى بطريف فخر أو تلاد

من القوم الذين أقر طوعا

بفضلهم الأصادق والأعادي

أياديهم وفضلهم جميعا

قلائد محكمات في الهوادي (٥)

بهم عرف الورى سبل المعالي

وهم دلوا الأنام على الرشاد

وهم أهل المعالي والمعاني

وهم أهل العطايا والأيادي

سموا في الحلم قيسا وابن قيس

وإن قالوا فمن قس الأيادي

 __________________

(١) كفكفه عنه : دفعه وصرفه ومنعه. وانثال عليه القول : تتابع وكثر فلم يعرف بأية يبدأ.

(٢) الجدوى بمعنى الجدا وهو المطر. والأنواء جمع النوء بمعنى المطر أيضا.

(٣) الغواد جمع الغادية : السحابة تنشأ غدوة والسنة الجماد : التي لم يصبها مطر.

(٤) غزر الماء وغيره : كثر ـ وسح الماء والمطر سحا : سال والعهاد : أول المطر

(٥) الهواد جمع الهاد : العنق.

٣٧٢

وهذا مذهب في الشعر جار

وأين من الربا خفض الوهاد (١)

لهم أيد جبلن على سماح

وأفعال طبعن على سداد

وهم من غير ما شك وخلف

إذا أنصفت سادات العباد

أيا مولاي دعوة ذي ولاء

إليكم ينتمي وبكم ينادي

يقدم حبكم ذخرا وكنزا

يعود إليه في يوم المعاد

جرى بمديح مجدكم لساني

فأصبح ديدني فيكم وعادي

ففيكم رغبتي وعلى هواكم

محافظتي وحبكم اعتقادي

إذا محض الوداد الناس قوما

محضتكم وإن سخطوا ودادي

وكيف يجوز عن قصد لساني

وقلبي رائح بهواك غادي

ومما كانت الحكماء قالت

لسان المرء من خدم الفؤاد

وقد قدمتكم زادا لسيري

إلى الأخرى ونعم الزاد زادي

فأنتم عدتي إن ناب دهر

وأنتم إن عرى خطب عتادي

 __________________

(١) الوهاد جمع الوهدة : المنخفض من الأرض.

٣٧٣

ذكر الإمام العاشر

أبي الحسن علي المتوكل بن محمد القانع بن علي الرضا بن موسى بن

جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين

قال كمال الدين بن طلحة رحمه‌الله تعالى الباب العاشر في أبي الحسن علي المعروف بالعسكري الملقب بالمتوكل بن أبي جعفر محمد القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ص.

أما مولده ففي رجب من سنة مائتين وأربع عشرة للهجرة

وأما نسبه أبا وأما فأبوه أبو جعفر محمد القانع بن علي الرضا بن موسى وقد تقدم ذكر ذلك مبسوطا وأمه أم ولد اسمها سمانة المغربية وقيل غير ذلك وأما اسمه فعلي.

وأما ألقابه فالناصح والمتوكل والفتاح والنقي والمرتضى وأشهرها المتوكل وكان يخفي ذلك ويأمر أصحابه أن يعرضوا عنه لكونه كان لقب الخليفة أمير المؤمنين المتوكل يومئذ.

وأما مناقبه فمنها ما حل في الآذان محل حلاها بأشنافها واكتنفه شغفا به اكتناف اللآلئ الثمينة بأصدافها وأشهد لأبي الحسن أن نفسه موصوفة بنفائس أوصافها وأنها نازلة من الدوحة النبوية ذري أشرافها وشرفات أعرافها وذلك. أن أبا الحسن ع كان يوما قد خرج من سر من رأى إلى قرية لمهم عرض له فجاء رجل من الأعراب يطلبه فقيل له قد ذهب إلى الموضع الفلاني فقصده فلما وصل إليه قال له ما حاجتك فقال أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسكين بولاء جدك علي

٣٧٤

بن أبي طالب وقد ركبني دين فادح (١) أثقلني حمله ولم أر من أقصده لقضائه سواك فقال له أبو الحسن طب نفسا وقر عينا ثم أنزله فلما أصبح ذلك اليوم قال له أبو الحسن أريد منك حاجة الله الله أن تخالفني فيها فقال الأعرابي لا أخالفك فكتب أبو الحسن ورقة بخطه معترفا فيها أن عليه للأعرابي مالا عينه فيها يرجح على دينه وقال خذ هذا الخط فإذا وصلت إلى سر من رأى أحضر إلي وعندي جماعة فطالبني به وأغلظ القول علي في ترك إيفائك إياه الله الله في مخالفتي فقال أفعل وأخذ الخط فلما وصل أبو الحسن إلى سر من رأى وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم حضر ذلك الرجل وأخرج الخط وطالبه وقال كما أوصاه فألان أبو الحسن له القول ورفقه وجعل يعتذر إليه ووعده بوفائه وطيبة نفسه فنقل ذلك إلى الخليفة المتوكل فأمر أن يحمل إلى أبي الحسن ثلاثون ألف درهم فلما حملت إليه تركها إلى أن جاء الرجل فقال خذ هذا المال فاقض منه دينك وأنفق الباقي على عيالك وأهلك وأعذرنا فقال له الأعرابي يا ابن رسول الله والله إن أملي كان يقصر عن ثلث هذا ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالاته وأخذ المال وانصرف وهذه منقبة من سمعها حكم له بمكارم الأخلاق وقضى له بالمنقبة المحكوم بشرفها بالاتفاق.

ولده أبو محمد الحسن وسيأتي ذكره بعده إن شاء الله تعالى.

وأما عمره فإنه مات في جمادى الآخر لخمس ليال بقين منه من سنة أربع وخمسين ومائتين في خلافة المعتز وقد تقدم ذكر ولادته في سنة أربع عشرة ومائتين فيكون عمره أربعين سنة غير أيام وكان مقامه مع أبيه ست سنين وخمسة أشهر وبقي بعد وفاة أبيه ثلاثا وثلاثين سنة وشهورا وقبره بسر من رأى آخر كلامه.

وقال الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي رحمه‌الله أبو الحسن علي بن [محمد بن] علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع مولده سنة أربع عشرة ومائتين ومات سنة أربع وخمسين ومائتين فكان عمره أربعين

__________________

(١) فدحه الدين : أثقله ٠

٣٧٥

سنة قبره بسر من رأى دفن بها في زمن المنتصر يلقب بالهادي وأمه سمانة ويقال إنه ولد بالمدينة للنصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين وقبض بسر من رأى في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين وله يومئذ إحدى وأربعون سنة وستة أشهر وقبره بسر من رأى في داره.

قال علي بن يحيى بن أبي منصور قال كنت يوما بين يدي المتوكل ودخل علي بن محمد بن علي بن موسى ع فلما جلس قال له المتوكل ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبد المطلب قال ما يقول ولد أبي يا أمير المؤمنين في رجل فرض الله تعالى طاعة نبيه على خلقه وفرض طاعته على نبيه ص انتهى كلامه.

وقال الشيخ المفيد رحمه‌الله تعالى باب ذكر الإمام بعد أبي جعفر محمد بن علي ع وتاريخ مولده ودلائل إمامته ومبلغ سنه وذكر وفاته وسببها وموضع قبره وعدد أولاده ومختصر من أخباره.

وكان الإمام بعد أبي جعفر ابنه ـ أبا الحسن علي بن محمد ع لاجتماع خصال الإمامة فيه وتكامل فضله وأنه لا وارث لمقام أبيه سواه وثبوت النص عليه بالإمامة وبالإشارة إليه من أبيه بالخلافة وكان مولده بصريا من مدينة الرسول ص ـ للنصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين وتوفي بسر من رأى في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين وله يومئذ إحدى وأربعون سنة وأشهر وكان المتوكل قد أشخصه مع يحيى بن هرثمة بن أعين من المدينة إلى سر من رأى فأقام بها حتى مضى لسبيله وكانت مدة إمامته ثلاثا وثلاثين سنة وأمه أم ولد يقال لها سمانة.

باب طرف من الخبر في النص عليه بالإمامة والإشارة إليه بالخلافة

عن إسماعيل بن مهران قال لما خرج أبو جعفر ع من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه قلت له عند خروجه جعلت فداك إني أخاف عليك من هذا الوجه فإلى من الأمر بعدك قال فكر بوجهه إلي ضاحكا وقال ليس حيث

٣٧٦

ظننت في هذه السنة فلما استدعي به إلى المعتصم صرت إليه فقلت له جعلت فداك أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك فبكى حتى خضبت لحيته ثم التفت إلي فقال في هذه يخاف علي الأمر من بعدي إلى ابني علي.

وعن الخيراني عن أبيه أنه قال ـ كنت ألزم باب أبي جعفر ع للخدمة التي وكلت بها وكان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري يجيء في السحر من آخر كل ليلة لتعرف خبر علة أبي جعفر ع وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر وبين الخيراني إذا حضر قام أحمد وخلا به قال الخيراني فخرج ذات ليلة وقام أحمد بن عيسى عن المجلس وخلا بي الرسول واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام فقال الرسول إن مولاك يقرأ عليك السلام ويقول لك إني ماض والأمر صائر إلى ابني علي وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه وقال ما الذي قال لك قال خيرا قلت قد سمعت ما قال وأعاد علي ما سمع فقلت له قد حرم الله عليك ما فعلت لأن الله يقول (وَلا تَجَسَّسُوا) فإذا سمعت فاحفظ الشهادة لعلنا نحتاج إليها يوما ما وإياك أن تظهرها إلى وقتها قال وأصبحت وكتبت نسخة الرسالة في عشر رقاع وختمتها ودفعتها إلى عشرة من وجوه أصحابنا وقلت إن حدث بي حدث الموت قبل أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها.

فلما مضى أبو جعفر ع لم أخرج من منزلي حتى عرفت أن رؤساء العصابة قد اجتمعوا عند محمد بن الفرج يتفاوضون في الأمر فكتب إلي محمد بن الفرج يعلمني باجتماعهم عنده ويقول لو لا مخافة الشهرة لصرت معهم إليك فأحب أن تركب إلي فركبت وصرت إليه فوجدت القوم مجتمعين عنده فتجارينا في الباب فوجدت أكثرهم قد شكوا فقلت لمن عندهم الرقاع وهم حضور أخرجوا تلك الرقاع فأخرجوها فقلت هذا ما أمرت به فقال بعضهم كنا نحب أن يكون معك في هذا الأمر آخر ليتأكد القول فقلت لهم قد أتاكم الله بما تحبون هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة فاسألوه فسأله القوم فتوقف عن

٣٧٧

الشهادة فدعوته إلى المباهلة فخاف منها وقال قد سمعت ذلك وهي (١) مكرمة كنت أحب أن تكون الرجل من العرب فأما مع المباهلة فلا طريق إلى كتمان الشهادة فلم يبرح القوم حتى سلموا لأبي الحسن ع.

والأخبار في هذا الباب كثيرة إن عملنا على إثباتها طال بها الكتاب وفي إجماع العصابة على إمامة أبي الحسن ع وعدم من يدعيها سواه في وقته ممن يلتبس الأمر فيه غنى عن إيراد الأخبار بالنصوص على التفصيل.

باب طرف من دلائل أبي الحسن علي بن محمد وأخباره وبراهينه وبيناته

عن الوشاء عن خيران الأسباطي قال قدمت على أبي الحسن علي بن محمد ع بالمدينة فقال لي ما خبر الواثق عندك قلت جعلت فداك خلفته في عافية أنا من أقرب الناس عهدا به وعهدي به منذ عشرة أيام قال فقال لي إن أهل المدينة يقولون إنه مات فقلت أنا أقرب الناس به عهدا قال فقال لي إن الناس يقولون إنه مات فلما قال لي إن الناس يقولون علمت أنه يعني نفسه ثم قال لي ما فعل جعفر قلت له تركته أسوء الناس حالا في السجن قال فقال أما إنه صاحب الأمر ثم قال لي ما فعل ابن الزيات قلت الناس معه والأمر أمره فقال أما إنه شؤم عليه قال ثم سكت وقال لي لا بد أن يجري مقادير الله وأحكامه يا خيران مات الواثق وقد قعد جعفر المتوكل وقد قتل ابن الزيات قلت متى جعلت فداك قال بعد خروجك بستة أيام.

وعن علي بن إبراهيم بن محمد الطائفي قال مرض المتوكل من خراج خرج به فأشرف منه على الموت فلم يجسر أحد أن يمسه بحديد فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالا جليلا من مالها وقال له الفتح بن خاقان لو بعثت إلى هذا الرجل يعني أبا الحسن فسألته فإنه ربما كان عنده صفة شيء يفرج الله به عنك فقال ابعثوا إليه فمضى الرسول ورجع فقال خذوا

__________________

(١) أي الإمامة.

٣٧٨

كسب الغنم وديفوه (١) بماء الورد وضعوه على الخراج فإنه نافع بإذن الله إن شاء الله فجعل من يحضره المتوكل يهزأ من قوله فقال لهم الفتح وما يضر من تجربة ما قال فو الله إني لأرجو الصلاح به فأحضر الكسب وديف بماء الورد ووضع على الخراج فانفتح وخرج ما كان فيه وبشرت أم المتوكل بعافيته فحملت إلى أبي الحسن عشرة ألف دينار تحت ختمها واستبل المتوكل (٢) من علته.

فلما كان بعد أيام سعى البطحاني بأبي الحسن ع إلى المتوكل وقال عنده أموال وسلاح فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلا ويأخذ ما يجده عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه قال إبراهيم بن محمد فقال لي سعيد الحاجب ـ صرت إلى دار أبي الحسن ع بالليل ومعي سلم فصعدت منه إلى السطح ونزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة فلم أدر كيف أصل إلى الدار فناداني أبو الحسن ع من الدار يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدت عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة فقال لي دونك البيوت فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئا ووجدت البدرة مختومة بخاتم أم المتوكل وكيسا مختوما معها فقال لي أبو الحسن ع دونك المصلى فرفعته فوجدت سيفا في جفن ملبوس فأخذت ذلك وصرت إليه فلما رأى خاتم أمه على البدرة بعث إليها فخرجت فسألها عن البدرة فأخبرني بعض الخادم الخاصة أنها قالت كنت نذرت في علتك إن عوفيت أن أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه وهذا خاتمك على الكيس ما حركها وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار فأمر أن يضم إلى البدرة بدرة أخرى وقال لي احمل ذلك إلى أبي الحسن واردد السيف والكيس عليه بما فيه فحملت ذلك إليه واستحييت منه فقلت يا سيدي عز علي دخولي دارك بغير إذنك ولكني مأمور فقال لي (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)

__________________

(١) الكسب : عصارة الدهن قال في البحار ولعلّ المراد هنا ما يشبهها ممّا يتلبد من السرقين تحت رجل الشاة. وداف الشيء بالشيء : خلطه

(٢) أي برئ.

٣٧٩

قال لي محمد بن الفرج الرخجي إن أبا الحسن ع كتب إلي يا محمد اجمع أمرك وخذ حذرك فقال أنا في جمع أمري لست أدري ما أراد بما كتب إلي حتى ورد علي رسول حملني من مصر مصفدا بالحديد وضرب علي كلما أملك فمكثت في السجن ثماني سنين ثم ورد علي كتاب منه وأنا في السجن يا محمد لا تنزل في ناحية الجانب الغربي فقرأت الكتاب وقلت في نفسي يكتب أبو الحسن بهذا إلي وأنا في السجن إن هذا لعجب فما مكثت إلا أياما يسيرة حتى أفرج عني وحلت قيودي وخلي سبيلي قال فكتبت إليه بعد خروجي أسأله أن يسأل الله أن يرد ضياعي علي قال فكتب إلي سوف ترد عليك وما يضرك أن لا ترد عليك قال علي بن محمد النوفلي فلما شخص محمد بن الفرج الرخجي إلى العسكر كتب له برد ضياعه عليه فلم يصل الكتاب حتى مات.

وكتب علي بن الخضيب إلى محمد بن الفرج بالخروج إلى العسكر فكتب إلى أبي الحسن يشاوره في ذلك فكتب إليه أبو الحسن ع اخرج فإن فيه فرجك إن شاء الله فخرج فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات.

أبو يعقوب قال رأيت محمد بن الفرج قبل موته بالعسكر في عشية من العشايا وقد استقبل أبا الحسن ع فنظر إليه نظرا شافيا فاعتل محمد بن الفرج من الغد فدخلت عليه عائدا بعد أيام من علته فحدثني أن أبا الحسن قد أنفذ إليه بثوب وأرانيه مدرجا تحت رأسه قال فكفن فيه والله.

قال أبو يعقوب رأيت أبا الحسن ع مع أحمد بن الخضيب يتسايران وقد قصر أبو الحسن ع عنه فقال له ابن الخضيب سر جعلت فداك فقال أبو الحسن أنت المقدم فما لبثنا إلا أربعة أيام حتى وضع الدهق (١) على ساق ابن الخضيب وقتل.

قال وألح عليه ابن الخضيب في الدار التي كان نزلها وطالبه بالانتقال منها إليه فبعث إليه أبو الحسن ع لأقعدن بك والله مقعدا لا تبقى لك معه باقية

__________________

(١) الدهق ـ محركة ـ : خشبتان يغمز بهما ساق المجرمين.

٣٨٠