كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

صفاته وآثاره ما كان أمضى من السيف المنتضى وأبى أن يكون هذا النعت الرضى إلا لذلك السيد المرتضى ولم أزل مذ كنت حدثا أهش لذكره وأطرب لما يبلغني من خلاله وسجاياه وسمو قدره فرزقني الله وله الحمد أن أثبت شيئا من مناقبه وشاهدت بعين الاعتبار جملة من عجائبه وأعجبتني نفسي حين عرفت اختيارها في حالة الشباب وسرني أن عددت من واصفي فضله وفضل آبائه وأبنائه في هذا الكتاب والمنة لله تعالى فهو الذي أمد بالتوفيق وهدى إلى الطريق ولا منة عليهم ع فإن الواجب على العبد مدح سيده ووصف فخاره وسؤدده والذب عنه بلسانه ويده وقد سمح خاطري بشعر في مدحه موسوم وبشريف اسمه واسمي مرقوم وأنا أعتذر إلى محله الشريف ومقامه العالي المنيف من التقصير عما يجب لقدره الخطير ولكن لا مرما جزع أنفه قصير فإني أحب أن أكون من شعراء مجدهم وإن كنت مقصرا عما يجب لعبدهم أو لأحد من أهل ودهم.

(والشعر)

أيها الراكب المجد قف العيش

إذا ما حللت في أرض طوسا

لا تخف من كلالها ودع التأديب

دون الوقوف والتعريسا

والثم الأرض إن رأيت ثرى

مشهد خير الورى علي بن موسى

وأبلغنه تحية وسلاما

كشذي المسك من علي بن عيسى

قل سلام الإله في كل وقت

يتلقى ذاك المحل النفيسا

منزل لم يزل به ذاكر الله

يتلو التسبيح والتقديسا

دار عز ما انفك قاصدها

يزجي إليها آماله والعيسا

بيت مجد ما زال وقفا عليه

الحمد والمدح والثناء حبيسا

ما عسى أن يقال في مدح قوم

أسس الله مجدهم تأسيسا

ما عسى أن أقول في مدح قوم

قدس الله ذكرهم تقديسا

هم هداة الورى وهم أكرم

الناس أصولا شريفة ونفوسا

٣٤١

إن عرت أزمة تندوا غيوثا

أو دجت شبهة تبدوا شموسا

شرفوا الخيل والمنابر لما

افترعوها والناقة العنتريسا (١)

معشر حبهم يجلي هموما

ومزاياهم تجلي طروسا

كرموا مولدا وطابوا أصولا

وزكوا محتدا وطالوا غروسا

ليس يشقي بهم جليس ومن كان

ابن شورى إذا أرادوا جليسا

قمت في نصرهم بمدحي لما

فاتني أن أجر فيه خميسا

ملئوا بالولاء قلبي رجاء

وبمدحي لهم ملأت الطروسا

فتراني لهم مطيعا حنينا

وعلى غيرهم أبيا شموسا

يا علي الرضا أبثك ودا

غادر القلب بالغرام وطيسا

مذهبي فيك مذهبي وبقلبي

لك حب أبقي جوي ورسيسا

لا أرى داءه بغيرك يشفي

لا ولا جرحه بغيرك يوسى

أتمني لو زرت مشهدك

العالي وقبلت ربعك المأنوسا

وإذا عز أن أزورك يقظان

فزرني في النوم واشف السيسا

أنا عبد لكم مطيع إذا ما

كان غيري مطاوعا إبليسا

قد تمسكت منكم بولاء

ليس يلقى القشيب منه دريسا (٢)

أترجي به النجاة إذا ما

خاف غيري في الحشر ضرا وبؤسا

فأراني والوجه مني طلق

وأرى أوجه الشنأة عبوسا

لا أقيس الأنام منكم بشسع

جل مقدار مجدكم أن أقيسا

من عددنا من الورى كان

مرءوسا ومنكم من عد كان رئيسا

فقد العاملون مثل الذنابى

وغدوتم للعالين رءوسا

 __________________

(١) العنتريس : الناقة الغليظة الوثيقة.

(٢) القشيت : الجديد من الثوب وغيره والدريس : الخلق!

٣٤٢

ذكر الإمام التاسع

أبي جعفر القانع محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن

الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين

قال الشيخ كمال الدين محمد بن طلحة رحمه‌الله تعالى الباب التاسع في ذكر أبي جعفر محمد القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم ع هذا أبو جعفر محمد الثاني فإنه تقدم في آبائه ع أبو جعفر محمد وهو الباقر بن علي ع فجاء هذا باسمه وكنيته واسم أبيه فعرف بأبي جعفر الثاني فهو وإن كان صغير السن فهو كبير القدر رفيع الذكر.

فأما ولادته ففي ليلة الجمعة تاسع عشر رمضان سنة مائة وخمس وتسعين للهجرة وقيل عاشر رجب منها.

وأما نسبه أبا وأما فأبوه أبو الحسن علي الرضا بن موسى الكاظم وقد تقدم ذلك مبسوطا وأمه أم ولد يقال لها سكينة المرسية وقيل الخيزران.

وأما اسمه فمحمد وأما كنيته فأبو جعفر بكنية جده محمد الباقر وله لقبان القانع والمرتضى.

وأما مناقبه فما اتسعت له حلبات مجالها ولا امتدت له أوقات آجالها بل قضت عليه الأقدار الإلهية بقلة بقائه في الدنيا بحكمها وإسجالها فقل في الدنيا مقامه وعجل القدوم عليه لزيارة حمامه فلم تطل بها مدته ولا امتدت فيها أيامه غير أن الله جل وعلا خصه بمنقبة متألفه في مطالع التعظيم بارقة أنوارها مرتفعة في معارج التفضيل قيمة أقدارها بادية لأبصار ذوي البصائر بينة منارها هادئة لعقول أهل المعرفة آية آثارها وهي وإن كانت صورتها واحدة فمعانيها كثيرة وصيغتها

٣٤٣

وإن كانت صغيرة فدلالتها كبيرة وهي أن هذا

أبو جعفر محمد بن علي ع لما توفي والده علي الرضا وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته لسنة اتفق أنه خرج يوما إلى الصيد فاجتاز بطرف البلد في طريقه والصبيان يلعبون ومحمد واقف معهم وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة فما حولها فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين ووقف أبو جعفر محمد ع فلم يبرح مكانه فقرب منه الخليفة فنظر إليه وكان الله عز وعلا قد ألقى عليه مسحة من قبول فوقف الخليفة وقال له يا غلام ما منعك من الانصراف مع الصبيان فقال له محمد مسرعا يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضيق لأوسعه عليك بذهابي ولم تكن لي جريمة فأخشاها وظني بك حسن أنك لا تضر من لا ذنب له فوقفت فأعجبه كلامه ووجهه فقال له ما اسمك قال محمد قال ابن من أنت قال يا أمير المؤمنين أنا ابن علي الرضا فترحم على أبيه وساق إلى وجهته وكان معه بزاة فلما بعد عن العمارة أخذ بازيا فأرسله على دراجة فغاب عن عينه غيبة طويلة ثم عاد من الجو وفي منقاره سمكة صغيرة وبها بقايا الحياة فتعجب الخليفة من ذلك غاية التعجب ثم أخذها في يده وعاد إلى داره في الطريق الذي أقبل منه فلما وصل إلى ذلك المكان وجد الصبيان على حالهم فانصرفوا كما فعلوا أول مرة وأبو جعفر لم ينصرف ووقف كما وقف أولا فلما دنا منه الخليفة قال يا محمد قال لبيك يا أمير المؤمنين قال ما في يدي فألهمه الله عز وعلا أن قال يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق بمشيته في بحر قدرته سمكا صغارا تصيدها بزاة الملوك والخلفاء فيختبرون بها سلالة أهل بيت النبوة فلما سمع المأمون كلامه عجب منه وجعل يطيل نظره إليه وقال أنت ابن الرضا حقا وضاعف إحسانه إليه.

وفي هذه الواقعة منقبة تكفيه عن غيرها ويستغنى بها عن سواها.

ولده أبو الحسن علي وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

وأما عمره فإنه مات في ذي الحجة من سنة مائتين وعشرين للهجرة في خلافة المعتصم وقد تقدم ذكر ولادته في سنة مائة وخمس وتسعين فيكون عمره خمسا

٣٤٤

وعشرين سنة وقبره ببغداد في مقابر قريش آخر كلام كمال الدين بن طلحة

أقول إني رأيت في كتاب لم يحضرني الآن اسمه ولعلي أراه بعد هذا أن البزاة عادت وفي أرجلها حيات خضر وأنه سأل بعض الأئمة ع فقال قبل أن يفصح عن السؤال إن بين السماء والأرض حيات خضراء تصيدها بزاة شهب يمتحن بها أولاد الأنبياء وما هذا معناه والله أعلم.

قال الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي رحمه‌الله أبو جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع أمه ريحانة وقيل الخيزران ولد سنة خمس وتسعين ومائة ويقال ولد بالمدينة في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائة وقبض ببغداد في آخر ذي الحجة سنة عشرين ومائتين وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة وأمه أم ولد يقال لها خيزران وكانت من أهل مارية القبطية وقبره ببغداد في مقابر قريش في ظهر جده موسى ع.

قال محمد بن سعيد سنة ست وعشرين ومائتين فيها توفي محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ببغداد وكان قدمها فتوفي بها يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة يعني سنة عشرين ومائتين مولده سنة خمس وتسعين ومائة فيكون عمره خمسا وعشرين سنة قتل في زمن الواثق بالله قبره عند جده موسى بن جعفر وركب هارون بن إسحاق فصلى عليه عند منزله أول رحبة أسوار بن ميمون من ناحية قنطرة البردان وحمل ودفن في مقابر قريش يلقب بالجواد.

حدثنا أحمد بن علي بن ثابت قال محمد بن علي بن موسى أبو جعفر بن الرضا قدم من المدينة إلى بغداد وافدا على أبي إسحاق المعتصم ومعه امرأته أم الفضل بنت المأمون وتوفي ببغداد ودفن في مقابر قريش عند قبر جده موسى بن جعفر ودخلت امرأته أم الفضل إلى قصر المعتصم فجعلت مع الحرم وذكر أخبارا رواها الجواد ع عن آبائه ع عن علي ع قال بعثني النبي ص إلى اليمن فقال لي وهو يوصيني يا علي ما حار من استخار و

٣٤٥

لا ندم من استشار يا علي عليك بالدلجة (١) فإن الأرض تطوي في الليل ما لا تطوي بالنهار يا علي اغد باسم الله فإن الله بارك لأمتي في بكورها وقال ع من استفاد أخا في الله فقد استفاد بيتا في الجنة.

وعنه ع وقد سئل عن حديث النبي ص أن فاطمة أحسنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار فقال خاص للحسن والحسين.

وعنه عن علي ع قال في كتاب علي بن أبي طالب ع إن ابن آدم أشبه شيء بالمعيار إما راجح بعلم وقال مرة بعقل أو ناقص بجهل.

وعنه ع قال علي ع لأبي ذر رضي الله عنه إنما غضبت لله عزوجل فارج من غضبت له إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك والله لو كانت السماوات والأرضون رتقا على عبد ثم اتقى الله لجعل الله له منها مخرجا لا يؤنسنك إلا الحق ولا يوحشنك إلا الباطل.

وعنه عن علي ع أنه قال لقيس بن سعد وقد قدم عليه من مصر يا قيس إن للمحن غايات لا بد أن ينتهي إليها فيجب على العاقل أن ينام لها إلى إدبارها فإن مكايدتها بالحيلة عند إقبالها زيادة فيها.

وعنه عنه ع قال من وثق بالله أراه السرور ومن توكل عليه كفاه الأمور والثقة بالله حصن لا يتحصن فيه إلا مؤمن أمين والتوكل على الله نجاة من كل سوء وحرز من كل عدو والدين عز والعلم كنز والصمت نور وغاية الزهد الورع ولا هدم للدين مثل البدع ولا أفسد للرجال من الطمع وبالراعي تصلح الرعية وبالدعاء تصرف البلية ومن ركب مركب الصبر اهتدى إلى مضمار النصر ومن عاب عيب ومن شتم أجيب ومن غرس أشجار التقى اجتنى ثمار المنى.

وقال ع أربع خصال تعين المرء على العمل الصحة والغنى والعلم والتوفيق.

وقال ع إن لله عبادا يخصهم بالنعم ويقرها فيهم ما بذلوها فإذا منعوها

__________________

(١) الدلجة : السير في الليل كله

٣٤٦

نزعها عنهم وحولها إلى غيرهم

وقال ما عظمت نعمة الله على عبد إلا عظمت عليه مئونة الناس فمن لم يحتمل تلك المئونة فقد عرض النعمة للزوال.

وقال ع أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه لأن لهم أجره وفخره وذكره فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنما يبدأ فيه بنفسه فلا يطلبن شكر ما صنع إلى نفسه من غيره.

وقال ع من أمل إنسانا فقد هابه ومن جهل شيئا عابه والفرصة خلسة ومن كثر همه سقم جسده والمؤمن لا يشتفي غيظه وعنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه وقال في موضع آخر عنوان صحيفة السعيد حسن الثناء عليه.

وقال ع من استغنى بالله افتقر الناس إليه ومن اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا.

وقال ع عليكم بطلب العلم فإن طلبه فريضة والبحث عنه نافلة وهو صلة بين الإخوان ودليل على المروءة وتحفة في المجالس وصاحب في السفر وأنس في الغربة.

وقال ع العلم علمان مطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع ومن عرف الحكمة لم يصبر على الإزدياد منها الجمال في اللسان والكمال في العقل.

وقال ع العفاف زينة الفقر والشكر زينة الغنى والصبر زينة البلاء والتواضع زينة الحسب والفصاحة زينة الكلام والعدل زينة الإيمان والسكينة زينة العبادة والحفظ زينة الرواية وخفض الجناح زينة العلم وحسن الأدب زينة العقل وبسط الوجه زينة الحلم والإيثار زينة الزهد وبذل المجهود زينة النفس وكثرة البكاء زينة الخوف والتقلل زينة القناعة وترك المن زينة المعروف والخشوع زينة الصلاة وترك ما لا يعنى زينة الورع.

وقال ع حسب المرء من كمال المروءة وتركه ما لا يحمل به ومن حيائه

٣٤٧

أن لا يلقي أحدا بما يكره ومن عقله حسن رفقه ومن أدبه أن لا يترك ما لا بد له منه ومن عرفانه علمه بزمانه ومن ورعه غض بصره وعفة بطنه ومن حسن خلقه كفه أذاه ومن سخائه بره بمن يجب حقه عليه وإخراجه حق الله من ماله ومن إسلامه تركه ما لا يعنيه وتجنبه الجدال والمراء في دينه ومن كرمه إيثاره على نفسه ومن صبره قلة شكواه ومن عقله إنصافه من نفسه ومن حلمه تركه الغضب عند مخالفته ومن إنصافه قبوله الحق إذا بان له ومن نصحه نهيه عما لا يرضاه لنفسه ومن حفظه جوارك تركه توبيخك عند إساءتك مع علمه بعيوبك ومن رفقه تركه عذلك (١) عند غضبك بحضرة من تكره ومن حسن صحبته لك إسقاطه عنك مئونة أذاك ومن صداقته كثرة موافقته وقلة مخالفته ومن صلاحه شدة خوفه من ذنوبه ومن شكره معرفة إحسان من أحسن إليه ومن تواضعه معرفته بقدره ومن حكمته علمه بنفسه ومن سلامته قلة حفظه لعيوب غيره وعنايته بإصلاح عيوبه.

وقال ع لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يؤثر دينه على شهوته ولن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.

وقال ع الفضائل أربعة أجناس أحدها الحكمة وقوامها في الفكرة والثاني العفة وقوامها في الشهوة والثالث القوة وقوامها في الغضب والرابع العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس.

وقال ع العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء.

وقال ع يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم.

وقال ع اقصد العلماء للمحجة الممسك عند الشبهة والجدل يورث الرياء ومن أخطأ وجوه المطالب خذلته الجيل والطامع في وثاق الذل ومن أحب البقاء فليعد للبلاء (٢) قلبا صبورا

__________________

(١) العذل ـ محركة ـ : الملامة.

(٢) وفي بعض النسخ «للمصائب» بدل «للبلاء»

٣٤٨

وقال ع العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم.

وقال ع الصبر على المصيبة مصيبة على الشامت بها.

وقال ع التوبة على أربع دعائم ندم بالقلب واستغفار باللسان وعمل بالجوارح وعزم أن لا يعود وثلاث من عمل الأبرار إقامة الفرائض واجتناب المحارم واحتراس من الغفلة في الدين وثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله كثرة الاستغفار وخفض الجانب وكثرة الصدقة وأربع من كن فيه استكمل الإيمان من أعطى لله ومنع في الله وأحب لله وأبغض فيه وثلاث من كن فيه لم يندم ترك العجلة والمشورة والتوكل عند العزم على الله عزوجل.

وقال ع لو سكت الجاهل ما اختلف الناس.

وقال ع مقتل الرجل بين لحييه والرأي مع الأناة وبئس الظهير الرأي الفطير. (١)

وقال ع ثلاث خصال تجتلب بهن المحبة الإنصاف في المعاشرة والمواساة في الشدة والانطواع والرجوع إلى قلب سليم.

وقال ع فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء وصلاح الأخلاق بمنافسة العقلاء والخلق أشكال ف (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) والناس إخوان فمن كانت أخوته في غير ذات الله فإنها تحوز عداوة وذلك قوله تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). (٢)

وقال ع من استحسن قبيحا كان شريكا فيه.

وقال ع كفر النعمة داعية المقت ومن جازاك بالشكر فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك

__________________

(١) الفطير : كل ما أعجل عن ادراكه وفي المثل «إياك والرأي الفطير» وهو الذي يبدو بديها من غير تروية خلاف الخمير

(٢) الزخرف : ٦٧.

٣٤٩

وقال لا يفسدك الظن على صديق وقد أصلحك اليقين له ومن وعظ أخاه سرا فقد زانه ومن وعظ علانية فقد شانه استصلاح الأخيار بإكرامهم والأشرار بتأديبهم والمودة قرابة مستفادة وكفى بالأجل حرزا ولا يزال العقل والحمق يتغالبان على الرجل إلى ثماني عشرة سنة فإذا بلغها غلب عليه أكثرهما فيه وما أنعم الله عزوجل على عبد نعمة فعلم أنها من الله إلا كتب الله جل اسمه له شكرها قبل أن يحمده عليها ولا أذنب ذنبا فعلم أن الله مطلع عليه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له إلا غفر الله له قبل أن يستغفره.

وقال ع الشريف كل الشريف من شرفه علمه والسؤدد حق السؤدد لمن اتقى الله ربه والكريم [كل الكريم] من أكرم عن ذل النار وجهه.

وقال ع من أمل فاجرا كان أدنى عقوبته الحرمان.

وقال ع اثنان عليلان أبدا صحيح محتم وعليل مخلط موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر.

وقال ع لا تعالجوا الأمر قبل بلوغه فتندموا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وارحموا ضعفاءكم واطلبوا الرحمة من الله بالرحمة لهم.

هذا آخر ما أردت نقله من كتاب الجنابذي رحمه‌الله تعالى وقد نقل أشياء رائقة وفوائد فائقة وآدابا نافعة وفقرا ناصعة من كلام أمير المؤمنين ع مما رواه الإمام محمد الجواد بن الإمام علي ابن الرضا عن آبائه عنه ع.

وقال الشيخ المفيد رحمه‌الله تعالى باب ذكر الإمام بعد أبي الحسن علي بن موسى الرضا ع وتاريخ مولده ودلائل إمامته وطرف من أخباره ومدة إمامته ومبلغ سنه وذكر وفاته وسببها وموضع قبره وعدد أولاده ومختصر من أخباره وكان الإمام بعد الرضا علي بن موسى ع ابنه محمد بن علي المرتضى بالنص عليه والإشارة إليه وتكامل الفضل فيه وكان مولده ع في شهر رمضان سنة خمس وتسعين ومائة وقبض ببغداد في ذي القعدة سنة عشرين ومائتين وله يومئذ خمس وعشرون سنة وكانت مدة خلافته لأبيه وإمامته من بعده سبع عشرة سنة

٣٥٠

وأمه أم ولد يقال لها سبيكة النوبية.

باب ذكر طرف من النص على أبي جعفر محمد بن علي ع بالإمامة والإشارة إليه بها من أبيه إليه ع فممن روى النص عن أبي الحسن الرضا على ابنه أبي جعفر ع بالإمامة ـ علي بن جعفر بن محمد الصادق وصفوان بن يحيى ومعمر بن خلاد والحسين بن بشار وابن أبي نصر البزنطي والحسن بن الجهم وأبو يحيى الصنعاني والخيراني ويحيى بن حبيب الزيات ـ في جماعة كثيرة يطول بذكرهم الكتاب.

قال كان علي بن جعفر بن محمد يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال في حديثه ـ لقد نصر الله أبا الحسن الرضا لما بغى عليه إخوته وعمومته وذكر حديثا طويلا حتى انتهى إلى قوله فقمت وقبضت على يد أبي جعفر محمد بن علي الرضا وقلت له أشهد أنك إمام عند الله فبكى الرضا ع وقال يا عم ألم تسمع أبي وهو يقول قال رسول الله ص بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيبة يكون من ولده الطريد الشريد الموتور بأبيه وجده صاحب الغيبة فيقال مات أو هلك وأي واد سلك فقلت صدقت جعلت فداك.

وعن صفوان بن يحيى قال قلت للرضا ع قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول يهب الله لي غلاما وقد وهبك الله وأقر عيوننا فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه فقلت له جعلت فداك وهذا ابن ثلاث سنين قال وما يضره من ذلك وقد قام عيسى بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنين.

وعن معمر بن خلاد قال سمعت الرضا ع يقول وقد ذكر شيئا فقال وما حاجتكم إلى ذلك هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني وقال أنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة (١).

__________________

(١) القذة : ريش السهم «والقذة بالقذة» يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان.

٣٥١

وكتب ابن قياما الواسطي (١) إلى أبي الحسن الرضا ع كتابا يقول فيه كيف تكون إماما وليس لك ولد فأجابه أبو الحسن ع وما علمك أن لا يكون لي ولد والله لا تنقضي الأيام والليالي حتى يرزقني الله ولدا يفرق بين الحق والباطل.

وعن [ابن] أبي نصر البزنطي قال قال لي ابن النجاشي (٢) من الإمام بعد صاحبك فأحب أن تسأله حتى أعلم فدخلت على الرضا ع فأخبرته فقال الإمام بعدي ابني ثم قال هل يجترئ أحد أن يقول ابني وليس له ولد ولم يكن ولد أبو جعفر ع فلم تمض الأيام حتى ولد.

وعن ابن قياما الواسطي وكان واقفيا قال دخلت على علي بن موسى فقلت له أيكون إمامان في عصر قال لا إلا أن يكون أحدهما صامتا فقلت له هو ذا أنت ليس لك صامت فقال لي والله ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله ويمحق به الباطل وأهله ولم يكن في الوقت له ولد فولد له أبو جعفر ع بعد سنة.

وعن الحسن بن الجهم قال كنت مع أبي الحسن ع جالسا فدعا بابنه وهو صغير فأجلسه في حجري وقال لي جرده وانزع قميصه فنزعته فقال لي انظر بين كتفيه قال فنظرت فإذا في إحدى كتفيه شبه الخاتم داخل في اللحم ثم قال لي أترى هذا مثله في هذا الموضع كان في أبي ع.

وعن أبي يحيى الصنعاني قال كنت عند أبي الحسن ع فجيء بابنه

__________________

(١) هو الحسين بن قياما الواسطي كان من أصحاب الكاظم (ع) وكان من الواقفين بعد موته (ع) في امامة الرضا (ع) وقد يظهر من بعض الأخبار رجوعه عن الوقف. ذكره في تنقيح المقال فراجع.

(٢) الظاهر أن الرجل هو أبو بجير عبد اللّه بن النجاشيّ الأسدي جد السابع للنجاشيّ المعروف صاحب كتاب الرجال ويظهر من قول علماء الرجال انه كان واقفيا فراجع تنقيح المقال وغيره.

٣٥٢

أبي جعفر وهو صغير فقال هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم على شيعتنا بركة منه.

عن الخيراني عن أبيه قال كنت واقفا بين يدي أبي الحسن الرضا ع بخراسان فقال قائل يا سيدي إن كان كون فإلى من قال إلى أبي جعفر ابني فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر فقال أبو الحسن ع إن الله بعث عيسى ابن مريم رسولا نبيا صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر ع.

وعن يحيى بن حبيب الزيات قال أخبرني من كان عند أبي الحسن ع جالسا فلما نهض القوم قال لهم الرضا ع ألقوا أبا جعفر فسلموا عليه وجددوا به عهدا فلما نهض القوم التفت إلي وقال رحم الله المفضل (١) إنه كان ليقنع بدون هذا.

وقال الشيخ المفيد رحمه‌الله تعالى باب ذكر طرف من الأخبار عن مناقب أبي جعفر ع ودلائله ومعجزاته وكان المأمون قد شغف بأبي جعفر ع لما رأى من فضله مع صغر سنه وبلوغه في الحكمة والعلم والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان فزوجه ابنته أم الفضل وحملها معه إلى المدينة وكان متوفرا على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره.

عن الريان بن شبيب قال لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي ع بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم ذلك واستنكروه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا ع فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه فقالوا له ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا فإنا نخاف أن تخرج به عنا

__________________

(١) المراد هو المفضل بن عمر الجعفي يعنى لو كان مفضل حيا لما كلفته بلقاء أبى جعفر (ع) بل كان يكتفى بقولي فقط لأنه الذي شهد بامامة الكاظم (ع) بالسماع من الصادق (ع) وروج أمر الكاظم وهذا الحديث ممّا يتمسك به في مدح المفضل وتوثيقه وروى هذا الحديث بعينه الطبرسيّ (ره) في إعلام الورى والكشّيّ في رجاله فراجع.

٣٥٣

أمرا قد ملكناه الله وتنزع عنا عزا قد ألبسناه الله وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت حتى كفانا الله المهم من ذلك فالله الله أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم وأما ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان قاطعا للرحم أعوذ بالله من ذلك وو الله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى (١) (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً).

وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنه والأعجوبة فيه بذلك وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلموا أن الرأي ما رأيت فيه فقالوا إن هذا الصبي وإن راقك منه هديه (٢) فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه فأمهله ليتأدب ويتفقه في الدين ثم اصنع ما تراه بعد ذلك فقال لهم ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم وإن هذا من أهل بيت علمهم من الله ومواده وإلهامه ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يبين لكم ما وصفت من حاله قالوا له قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه فخل بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب من ذلك في معناه فقال لهم المأمون شأنكم وذلك متى أردتم :

__________________

(١) وهذا الكلام يؤيد ما ذهب إليه المؤلّف (ره) من أن الرضا (ع) مات حتف انفه وما قتله المأمون بالسم وقد مر كلامه (ره) في ذلك تفصيلا فراجع.

(٢) أي أعجبك هيئته وسيرته.

٣٥٤

فخرجوا من عنده وأجمع رأيهم على مسألة يحيى ـ بن أكثم وهو يومئذ قاضي الزمان على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب عنها ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوما للإجماع فأجابهم إلى ذلك واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم ـ وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست (١) ويجعل له فيه مسورتان (٢) ففعل ذلك وخرج أبو جعفر ع يومئذ وهو ابن تسع سنين وأشهر فجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر ع فقال يحيى بن أكثم للمأمون أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر فقال المأمون استأذنه في ذلك. فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال تأذن لي جعلت فداك في مسألة فقال له أبو جعفر ع سل إن شئت قال يحيى ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا فقال له أبو جعفر ع قتله في حل أو حرم عالما كان المحرم أم جاهلا قتله عمدا أو خطأ حرا كان المحرم أم عبدا صغيرا كان أو كبيرا مبتدئا كان بالقتل أو معيدا من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها من صغار الصيد كان أو من كباره مصرا على ما فعل أو نادما ليلا كان قتله الصيد أو نهارا محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره فقال المأمون الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في هذا الرأي.

ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ثم أقبل على أبي جعفر فقال له اخطب يا با جعفر قال نعم يا أمير المؤمنين فقال له المأمون اخطب جعلت فداك لنفسك فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي وإن رغم قوم لذلك.

__________________

(١) الدست : الوسادة.

(٢) المسورة. متكأ من جلد :

٣٥٥

فقال أبو جعفر ع الحمد لله إقرارا بنعمته ولا إله إلا الله إخلاصا لوحدانيته وصلى الله على محمد سيد بريته والأصفياء من عترته أما بعد فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد ع وهو خمس مائة درهم جيادا فهل زوجتنيها يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور فقال المأمون نعم قد زوجتك أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور فهل قبلت النكاح قال أبو جعفر قد قبلت ورضيت به.

فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة قال الريان وأخرج الخدم مثل السفينة من فضة وفيها الغالية فتطيب الخاصة والعامة ووضعت الموائد فأكلوا وفرقت الجوائز على قدر المراتب وانصرف الناس وبقي من الخاصة من بقي. قال المأمون لأبي جعفر إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده.

فقال أبو جعفر ع نعم إن المحرم إذا قتل صيدا في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا وإذا قتل فرخا في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن فإذا قتله في الحرم فعليه الحمل قيمة الفرخ وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة وإن كان نعامة كان عليه بدنة وإن كان ظبيا فعليه شاة فإن قتل شيئا من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكة وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي العمد له المآثم وهو موضوع عنه في الخطإ والكفارة على الحر في نفسه وعلى السيد في عبده والصغير لا كفارة عليه وهي على الكبير واجبة والنادم يسقط عنه ندمه عقاب الآخرة والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة فقال له المأمون أحسنت

٣٥٦

أبا جعفر أحسن الله إليك فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك فقال أبو جعفر ع ليحيى أسألك قال ذلك إليك جعلت فداك فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلا استفدته منك.

فقال له أبو جعفر خبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه فلما ارتفع النهار حلت له فلما زال الشمس حرمت عليه فلما كان وقت العصر حلت له فلما غربت الشمس حرمت عليه فلما دخل وقت عشاء الآخرة حلت عليه فلما كان انتصاف الليل حرمت عليه فلما طلع الفجر حلت له ما حال هذه المرأة وبما ذا حلت وحرمت عليه فقال له يحيى بن الأكثم لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه فإن رأيت أن تفيدناه فقال له أبو جعفر ع هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له فلما كان الظهر أعتقها فحرمت عليه فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه فلما كان وقت عشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له.

قال فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب ويعرف القول فيما تقدم من السؤال قالوا لا والله إن أمير المؤمنين أعلم بما رأى فقال لهم ويحكم إن أهل هذا البيت خصوا من بين الخلق بما ترون من الفضل وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال أما علمتهم أن رسول الله ص افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع وهو ابن عشر سنين وقبل منه الإسلام وحكم له به ولم يدع أحدا في سنه غيره وبايع الحسن والحسين وهما أبناء دون الست سنين ولم يبايع صبيا غيرهما أفلا تعلمون الآن ما اختص الله به هؤلاء القوم وأنهم ذرية (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) يجري لآخرهم ما يجري لأولهم قالوا صدقت والله يا أمير المؤمنين ثم نهض القوم.

٣٥٧

فلما كان من الغداء أحضر الناس وحضر أبو جعفر ع وصار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبي جعفر فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة وفيها بنادق مسك وزعفران معجون في أجواف تلك البنادق وقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية وإقطاعات فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته فكان كل من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق له ووضعت البدر فنثر ما فيها على القواد وغيرهم وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المسلمين ولم يزل مكرما لأبي جعفر ع معظما لقدره مدة حياته يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته.

وقد روى الناس أن أم الفضل كتبت إلى أبيها من المدينة تشكو أبا جعفر وتقول إنه يتسرى علي ويغيرني (١) فكتب إليها المأمون يا بنية إنا لم نزوجك أبا جعفر لنحرم عليه حلالا فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها.

ولما توجه أبو جعفر ع من بغداد منصرفا من عند المأمون ومعه أم الفضل قاصدا بها المدينة صار إلى شارع باب الكوفة ومعه الناس يشيعونه فانتهى إلى دار المسيب عند مغيب الشمس فنزل ودخل المسجد وكان في صحنه نبقة (٢) لم تحمل بعد فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في أصل النبقة وقام فصلى بالناس صلاة المغرب فقرأ في الأولى الحمد و (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) وقرأ في الثانية الحمد و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وقنت قبل ركوعه فيها وصلى الثالثة وتشهد وسلم ثم جلس هنيئة يذكر الله تعالى وقام من غير أن يعقب فصلى النوافل أربع ركعات وعقب بعدها وسجد سجدتي الشكر فلما انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملا حسنا فتعجبوا من ذلك وأكلوا منها فوجدوه نبقا حلواء لا عجم له وودعوه ومضى ع من وقته إلى المدينة فلم يزل بها إلى أن أشخصه المعتصم في أول سنة عشرين ومائتين إلى بغداد فأقام بها حتى توفي في آخر ذي القعدة من هذه السنة

__________________

(١) أغار أهله اي تزوج عليها.

(٢) النبقة واحدة النبق : شجر السدر والنخل وظاهر المراد هنا الثاني :

٣٥٨

ودفن في ظهر جده أبي الحسن موسى ع.

وعن علي بن خالد قال كنت بالعسكر (١) فبلغني أن هناك رجلا محبوسا أتي به من الشام مكبولا (٢) وقالوا إنه تنبأ (٣) قال فأتيت الباب ودفعت شيئا للبوابين حتى وصلت إليه فإذا رجل له فهم وعقل فقلت له يا هذا ما قضيتك قال إني كنت رجلا بالشام أعبد الله في الموضع الذي يقال إنه نصب فيه رأس الحسين ع فبينا أنا ذات ليلة في موضعي مقبل على المحراب أذكر الله تعالى إذ رأيت شخصا بين يدي فنظرت إليه فقال لي قم فقمت معه فمشى بي قليلا فإذا أنا في مسجد الكوفة فقال لي تعرف هذا المسجد فقلت نعم هذا مسجد الكوفة قال فصلى وصليت معه ثم انصرف وانصرفت معه ومشى قليلا فإذا نحن بمسجد الرسول ص فسلم على رسول الله ص وصلى وصليت معه ثم خرج وخرجت معه فمشى قليلا وإذا نحن بمكة فطاف بالبيت وطفت معه ثم خرج فمشى قليلا فإذا أنا بموضعي الذي كنت فيه أعبد الله بالشام وغاب الشخص عني فبقيت متعجبا حولا مما رأيت.

فلما كان في العام المقبل رأيت ذلك الشخص فاستبشرت به فدعاني فأجبته ففعل كما فعل في العام الماضي فلما أراد مفارقتي بالشام قلت له سألتك بالحق الذي أقدرك على ما رأيت منك إلا أخبرتني من أنت فقال أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر فحدثت من كان يصير إلي بخبره فرقي (٤) ذلك إلى محمد بن عبد الملك الزيات فبعث إلي من أخذني وكبلني في الحديد وحملني إلى العراق وحبست كما ترى وادعي علي المحال فقلت له فأرفع عنك قصة إلى محمد بن عبد الملك

__________________

(١) هي اسم مواضع ويقال نسر من رأى أيضا لان المعتصم بناها وانتقل إليها بعسكره.

(٢) أي مقيدا :

(٣) أي ادعى النبوّة

(٤) أي بلغ.

٣٥٩

الزيات وشرحت أمره قال افعل فكتبت عنه قصة إلى محمد بن عبد الملك الزيات وشرحت أمره فيها ودفعتها إلى محمد فوقع في ظهرها قل للذي أخرجك من الشام في ليلة إلى الكوفة ومنها إلى المدينة ومنها إلى مكة ومنها إلى الشام أن يخرجك من حبسك هذا قال علي بن خالد فغمني ذلك من أمره ورققت له وانصرفت محروما عليه فلما كان من الغد باكرت الحبس لأعلمه بالحال وآمره بالصبر والعزاء فوجدت الجند وأصحاب الحرس وصاحب السجن وخلقا عظيما من الناس يهرجون (١) فسألت عن حالهم فقيل إن محمول من الشام المتنبئ افتقد البارحة من الحبس فلا ندري أخسفت الأرض أو اختطفته الطير وكان هذا الرجل أعني علي بن خالد زيديا فقال بالإمامة لما رأى ذلك وحسن اعتقاده.

وعن محمد بن علي الهاشمي قال دخلت على أبي جعفر محمد بن علي ع صبيحة عرسه ببنت المأمون وكنت تناولت من الليل دواء فأول من دخل عليه في صبيحته أنا وقد أصابني العطش وكرهت أن أدعو بالماء فنظر أبو جعفر ع في وجهي وقال أراك عطشان قلت أجل قال يا غلام اسقنا ماء فقلت في نفسي الساعة يأتونه بماء مسموم واغتممت لذلك فأقبل الغلام ومعه الماء فتبسم في وجهي ثم قال يا غلام ناولني الماء فتناول فشرب ثم ناولني وتبسم فشربت وأطلت عنده فعطشت فدعا بالماء ففعل كما فعل في المرة الأولى وشرب ثم ناولني وتبسم قال محمد بن حمزة فقال لي محمد بن علي الهاشمي والله إني لأظن أن أبا جعفر يعلم ما في النفوس كما تقول الرافضة.

وعن المطرفي قال مضى أبو الحسن الرضا ع ولي عليه أربعة آلاف درهم لم يكن يعرفها غيري وغيره فأرسل إلي أبو جعفر ع إذا كان في الغد فأتني فأتيته فقال لي مضى أبو الحسن ولك عليه أربعة آلاف درهم فقلت نعم فرفع المصلى فإذا تحته دنانير فدفعها إلي فكان قيمتها في الوقت أربعة آلاف درهم.

وعن معلى بن محمد قال خرج علي أبو جعفر ع حدثان موت أبيه فنظرت

__________________

(١) هرج الناس : وقعوا في فتنة واختلاط :

٣٦٠