كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

وعن عيسى المدائني قال خرجت سنة إلى مكة فأقمت بها ثم قلت أقيم بالمدينة مثل ما أقمت بمكة فهو أعظم لثوابي فقدمت المدينة فنزلت طرف المصلى إلى جنب دار أبي ذر رضي الله عنه فجعلت أختلف إلى سيدي فأصابنا مطر شديد بالمدينة فأتينا أبا الحسن ع يوما فسلمنا عليه وأن السماء تهطل (١) فلما دخلت ابتدأني فقال لي وعليك السلام يا عيسى ارجع فقد انهدم بيتك على متاعك فانصرفت فإذا البيت قد انهدم على المتاع فاكتريت قوما يكشفون عن متاعي فاستخرجته فما ذهب لي شيء ولا افتقدته غير سطل كان لي فلما أتيته من الغد مسلما عليه قال هل فقدت شيئا من متاعك فندعو الله لك بالخلف فقلت ما فقدت شيئا غير سطل كان لي أتوضأ فيه فقدته فأطرق مليا ثم رفع رأسه إلي فقال لي قد ظننت أنك أنسيته فسل جارية رب الدار وقل لها أنت رفعت السطل فرديه فإنها سترده عليك فلما انصرفت أتيت جارية رب الدار فقلت لها إني أنسيت سطلا في الخلاء ودخلت فأخذتيه فرديه أتوضأ فيه قال فردته.

قال علي بن أبي حمزة كنت عند أبي الحسن ع جالسا إذ أتاه رجل من الري يقال له جندب فسلم عليه ثم جلس فسأل أبا الحسن فأكثر السؤال ثم قال له يا جندب ما فعل أخوك فقال الخير وهو يقرئك السلام فقال له أعظم الله أجرك في أخيك فقال له ورد إلي كتابه من الكوفة لثلاثة عشر يوما بالسلامة فقال له يا جندب والله مات بعد كتابه إليك بيومين ودفع إلى امرأته مالا وقال لها ليكن هذا المال عندك فإذا قدم أخي فادفعيه إليه وقد أودعته في الأرض في البيت الذي كان يسكنه فإذا أنت أتيتها فتلطف لها وأطمعها في نفسك فإنها ستدفعه إليك قال علي وكان جندب رجلا جميلا قال علي فلقيت جندبا بعد ما فقد أبو الحسن ع فسألته

__________________

ـ قال : كذا وكذا فاستحلفه وأجراه على حكم موسى عليه السلام ، ولعلها إشارة إلى هذه القضية واللّه أعلم» انتهى.

__________________

(١) من هطل المطر : مطر متتابعا متفرقا عظيم القطر.

٢٤١

عما كان قال أبو الحسن (١) فقال يا علي صدق والله سيدي ما زاد ولا نقص لا في الكتاب ولا في المال.

وعن خالد قال خرجت وأنا أريد أبا الحسن ع فدخلت عليه وهو في عرصة داره جالس فسلمت عليه وجلست وقد كنت أتيته لأسأله عن رجل من أصحابنا كنت سألته حاجة فلم يفعل فالتفت إلي وقال ينبغي لأحدكم إذا لبس الثوب الجديد أن يمر يده عليه ويقول ـ الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به بين الناس وإذا أعجبه شيء فلا يكثر ذكره فإن ذلك مما يهده وإذا كانت لأحدكم إلى أخيه حاجة أو وسيلة لا يمكنه قضاؤها فلا يذكره إلا بخير فإن الله يوقع ذلك في صدره فيقضي حاجته قال فرفعت رأسي وأنا أقول لا إله إلا الله فالتفت إلي وقال يا خالد اعمل ما أمرتك.

وعن إسحاق بن عمار قال سمعت العبد الصالح ينعى إلى رجل نفسه فقلت في نفسي وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته فالتفت إلي شبه المغضب فقال يا إسحاق قد كان رشيد الهجري (٢) وكان من المستضعفين (٣) يعلم علم المنايا

__________________

(١) في المنقول عن الخرائج «عما قال له أبو الحسن ا ه».

(٢) رشيد ـ كزبير ـ والهجري : نسبة إلى هجر ـ بفتح أوله وثانيه ـ : مدينة هي قاعدة البحرين (ومنه حديث عمّار في وقعة الجمل واللّه لو ضربونا حتّى بلغونا سعفات هجر لعلمنا اننا على الحق وقد مر في محله) وكان رشيد من خواص أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وقد القى اليه علم المنايا والبلايا وله حكاية غريبة من تمثله بصورة رجل شامي ووروده على زياد واحترام زياد له ذكره المفيد (ره) في الاختصاص ص ٧٨ وكان مقتله رضي اللّه عنه بيد زياد بن أبيه في الكوفة وله فضائل كثيرة مذكورة في كتب الحديث والرجال.

(٣) قيل : لعل معنى المستضعف هاهنا اي الذي اتخذته أعداء اللّه ضعيفا كقوله تعالى حكاية عن هارون«إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي»أو المعنى انه كان ضعيف القوى والتحمل لحمل العلوم الكثيرة بالنسبة إلى سلمان وأمثاله «انتهى».

قلت : وظاهر المعنى انه كان ضعيفا في العلم والايمان وغير ذلك بالنسبة إلى الامام ويفهم ذلك من قوله عليه السلام فالامام أولى بذلك.

٢٤٢

والبلايا فالإمام أولى بذلك يا إسحاق اصنع ما أنت صانع فعمرك قد فنى وأنت تموت إلى سنتين وإخوتك وأهل بيتك لا يلبثون من بعد إلا يسيرا حتى تفترق كلمتهم ويخون بعضهم بعضا ويصيرون لإخوانهم ومن يعرفهم رحمة حتى يشمت بهم عدوهم قال إسحاق فإني أستغفر الله مما عرض في صدري فلم يلبث إسحاق بعد هذا المجلس إلا سنتين حتى مات ثم ما ذهبت الأيام حتى قام بنو عمار بأموال الناس وأفلسوا أقبح إفلاس رآه الناس فجاء ما قال أبو الحسن ع فيهم ما غادر قليلا ولا كثيرا.

قال هشام بن الحكم أردت شراء جارية بمنى وكتبت إلى أبي الحسن أشاوره فلم يرد علي جوابا فلما كان في الطواف مر بي يرمى الجمار على حمار فنظر إلي وإلى الجارية من بين الجواري ثم أتاني كتابه لا أرى بشرائها بأسا إن لم يكن في عمرها قلة قلت لا والله ما قال لي هذا الحرف إلا وهاهنا شيء لا والله لا اشتريتها قال فما خرجت من مكة حتى دفنت

وعن الوشاء قال حدثني الحسن بن علي قال حججت أنا وخالي إسماعيل بن إلياس فكتبت إلى أبي الحسن الأول ع وكتب خالي أن لي بنات وليس لي ذكر وقد قتل رجالنا وقد خلفت امرأتي حاملا فادع الله أن يجعله غلاما وسمه فوقع في الكتاب قد قضى الله حاجتك فسمه محمدا فقدمنا إلى الكوفة وقد ولد له غلام قبل وصولنا إلى الكوفة بستة أيام ودخلنا يوم سابعه فقال أبو محمد هو والله اليوم رجل وله أولاد.

حدث إسماعيل بن موسى قال كنا مع أبي الحسن ع في عمرة فنزلنا بعض قصور الأمراء وأمر بالرحيل فشدت المحامل وركب بعض الغلمان وكان أبو الحسن ع في بيت فخرج فقام على بابه فقال حطوا حطوا قال إسماعيل وهل ترى شيئا فقال إنه ستأتيكم ريح سوداء مظلمة ترمح (١) بعض الإبل فحطوا وجاءت ريح سوداء

__________________

(١) وفي بعض النسخ «تطرح».

٢٤٣

قال إسماعيل بن موسى فأشهد لقد رأيت جملا كان لي عليه كنيسة كنت أركب فيها أنا وأحمد أخي ولقد قام ثم سقط على جنبه بالكنيسة.

وعن زكريا بن آدم قال سمعت الرضا ع يقول كان أبي ممن تكلم في المهد.

وعن الأصبغ بن موسى قال بعث معي رجل من أصحابنا إلى أبي إبراهيم ع بمائة دينار وكانت معي بضاعة لنفسي وبضاعة له فلما دخلت المدينة صببت على الماء وغسلت بضاعتي وبضاعة الرجل وذررت عليها مسكا ثم إني عددت بضاعة الرجل فوجدتها تسعة وتسعين دينارا فأعدت عدها وهي كذلك فأخذت دينارا آخر لي فغسلته وذررت عليه المسك وأعدتها في صرة كما كانت ودخلت عليه في الليل فقلت له جعلت فداك إن معي شيئا أتقرب به إلى الله تعالى فقال هات فناولته دنانيري وقلت له جعلت فداك إن فلانا مولاك بعث إليك معي بشيء فقال هات فناولته الصرة قال صبها فصببتها فنثرها بيده وأخرج ديناري منها ثم قال إنما بعث إلينا وزنا لا عددا.

وروى هشام بن أحمر أنه ورد تاجر من المغرب ومعه جوار فعرضهن على أبي الحسن ع فلم يختر منهن شيئا وقال أرنا فقال عندي أخرى وهي مريضة فقال ما عليك أن تعرضها فأبى فانصرف ثم إنه أرسلني من الغد إليه وقال قل له كم غايتك فيها قال ما أنقصها من كذا وكذا فقلت قد أخذتها وهو لك فقال وهي لك ولكن من الرجل فقلت رجل من بني هاشم فقال من أي بني هاشم فقلت ما عندي أكثر من هذا فقال أخبرك عن هذه الوصيفة إني اشتريتها من أقصى المغرب فلقيتني امرأة من أهل الكتاب فقالت ما هذه الوصيفة معك فقلت اشتريتها لنفسي فقالت ما ينبغي أن تكون هذه عند مثلك إن هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض ولا تلبث عنده إلا قليلا حتى تلد منه غلاما ما يولد بشرق الأرض ولا غربها مثله يدين له شرق الأرض وغربها قال فأتيته بها فلم تلبث إلا قليلا حتى ولدت عليا الرضا ع.

٢٤٤

وعن أبي حمزة قال سمعت أبا الحسن ع يقول لا والله لا يرى أبو جعفر بيت الله أبدا فقدمت الكوفة فأخبرت أصحابنا [بذلك] فلم يلبث أن خرج فلما بلغ الكوفة قال لي أصحابنا في ذلك فقلت لا والله لا يرى بيت الله أبدا فلما صار في البستان (١) اجتمعوا إلي أيضا وقالوا بقي بعد هذا شيء فقلت لا والله لا يرى بيت الله أبدا فلما نزل بئر ميمون (٢) أتيت أبا الحسن ع فوجدته قد سجد وأطال السجود ثم رفع رأسه إلي فقال اخرج فانظر ما يقول الناس فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر فرجعت فأخبرته فقال الله أكبر ما كان ليرى بيت الله أبدا.

وعن عثمان بن عيسى قال قال أبو الحسن ع لإبراهيم بن عبد الحميد ولقيه سحرا وإبراهيم ذاهب إلى قبا وأبو الحسن داخل المدينة قال يا إبراهيم قلت لبيك قال إلى أين قلت إلى قبا قال في أي شيء قلت إنا كنا نشتري في كل سنة هذا التمر فأردت أن آتي رجلا من الأنصار لأشترى من التمر قال وقد أمنتم الجراد ثم دخل ومضيت أنا فأخبرت أبا الأعز وقلت والله لا أشتري العام نخلة فما مرت بنا خامسة حتى بعث الله جرادا فأكل عامة ما في النخيل.

وعن إبراهيم بن مفضل بن قيس قال سمعت أبا الحسن الأول ع وهو يحلف أنه لا يكلم محمد بن عبد الله الأرقط أبدا فقلت في نفسي هذا يأمر بالبر والصلة ويحلف أن لا يكلم ابن عمه قال فقال هذا من بري به وهو لا يصبر أن يذكرني ويعيبني فإذا علم الناس أني لا أكلمه لا يقبلون منه أمسك عن ذكري وكان خيرا له.

وعن محمد بن سنان قال قبض أبو الحسن ع وهو ابن خمس وخمسين سنة في عام ثلاث وثمانين ومائة عاش بعد أبيه خمسا وثلاثين سنة.

قال الراوندي رحمه‌الله تعالى الباب الثامن في معجزات موسى بن جعفر ع عن أبي الحسن الرضا ع قال قال أبي موسى بن جعفر ع لعلي بن

__________________

(١) والظاهران المراد منه بستان ابن عامر قريب من الجحفة.

(٢) بئر ميمون : موضع بأعلى مكّة وعندها قبر أبى جعفر المنصور قاله الحموي في المعجم.

٢٤٥

أبي حمزة مبتدئا إنك لتلقى رجلا من أهل المغرب يسألك عني فقل هو الإمام الذي قال لنا أبو عبد الله الصادق ع فإذا سألك عن الحلال والحرام فأجبه قال فما علامته قال ع رجل طويل جسيم اسمه يعقوب بن يزيد وهو رائد قومه وإن أراد الدخول إلي فأحضره عندي قال علي بن أبي حمزة فو الله إني لفي الطواف إذ أقبل رجل جسيم طويل فقال لي إني أريد أن أسألك عن صاحبك قلت عن أي الأصحاب قال عن موسى بن جعفر ع قلت فما اسمك قال يعقوب بن يزيد قلت من أين أنت قال من المغرب قلت من أين عرفتني قال أتاني آت في منامي فقال لي الق علي بن أبي حمزة فسله عن جميع ما تحتاج إليه فسألت عنك فدللت عليك فقلت اقعد في هذا الموضع حتى أفرغ من طوافي وأعود إليك.

فطفت ثم أتيته فكلمته فرأيته رجلا عاقلا فطنا فالتمس مني الوصول إلى موسى بن جعفر ع فأوصلته إليه فلما رآه قال يا يعقوب بن يزيد قدمت أمس ووقع بينك وبين أخيك خصومة في موضع كذا حتى تشاتمتما وليس هذا من ديني ولا من دين آبائي فلا نأمر بهذا أحدا من شيعتنا فاتق الله فإنكما ستفترقان عن قريب بموت فأما أخوك فيموت في سفرته هذه قبل أن يصل إلى أهله وتندم أنت على ما كان منك إليه فإنكما تقاطعتما وتدابرتما فقطع الله عليكما أعماركما فقال الرجل يا ابن رسول الله فأنا متى يكون أجلي قال كان قد حضر أجلك فوصلت عمتك بما وصلتها في منزل كذا وكذا فنسأ الله في أجلك عشرين حجة قال علي بن أبي حمزة فلقيت الرجل من قابل بمكة فأخبرني أن أخاه توفي ودفنه في الطريق قبل أن يصل إلى أهله.

ومنها أن المفضل بن عمر قال لما مضى الصادق كانت وصيته إلى موسى الكاظم ع فادعى أخوه عبد الله الإمامة وكان أكبر ولد جعفر في وقته ذلك وهو المعروف بالأفطح فأمر موسى بجمع حطب كثير في وسط داره وأرسل إلى أخيه عبد الله يسأله أن يصير إليه فلما صار إليه ومع موسى جماعة من

٢٤٦

الإمامية فلما جلس موسى أمر بطرح النار في الحطب فاحترق ولا يعلم الناس السبب فيه حتى صار الحطب كله جمرا ثم قام موسى وجلس بثيابه في وسط النار وأقبل يحدث الناس ساعة ثم قام فنفض ثوبه ورجع إلى المجلس فقال لأخيه عبد الله إن كنت تزعم أنك الإمام بعد أبيك فاجلس في ذلك المجلس قالوا فرأينا عبد الله قد تغير لونه وقام يجر ردائه حتى خرج من دار موسى ع.

ومنها ما قال بدر مولى الرضا إن إسحاق بن عمار دخل على موسى بن جعفر ع فجلس عنده إذا استأذن عليه رجل خراساني فكلمه بكلام لم يسمع مثله كأنه كلام الطير قال إسحاق فأجابه موسى بمثله وبلغته إلى أن قضى وطره من مساءلته وخرج من عنده فقلت ما سمعت بمثل هذا الكلام قال هذا كلام قوم من أهل الصين وليس كل كلام أهل الصين مثله ثم قال أتعجب من كلامي قلت هو موضع العجب قال أخبرك بما هو أعجب منه إن الإمام يعلم منطق الطير ونطق كل ذي روح خلقه الله وما يخفى على الإمام شيء.

ومنها ما قال علي بن أبي حمزة أخذ بيدي موسى بن جعفر يوما فخرجنا من المدينة إلى الصحراء فإذا نحن برجل مغربي على الطريق يبكي وبين يديه حمار ميت ورحله مطروح فقال له موسى ما شأنك قال كنت مع رفقائي نريد الحج فمات حماري هاهنا وبقيت ومضى أصحابي وقد بقيت متحيرا ليس لي شيء أحمل عليه فقال له موسى لعله لم يمت قال أما ترحمني حتى تلهو بي قال إن عندي رقية جيدة قال الرجل ما يكفيني ما أنا فيه حتى تستهزئ بي فدنا موسى ع من الحمار ودعا بشيء لم أسمعه وأخذ قضيبا كان مطروحا فنخسه به (١) وصاح عليه فوثب قائما صحيحا سليما فقال يا مغربي ترى هاهنا شيئا من الاستهزاء الحق بأصحابك ومضينا وتركناه قال علي بن أبي حمزة فكنت واقفا يوما على زمزم وإذا

__________________

(١) نخس الدابّة : غرز مؤخرها أو جنبها بعود ونحوه فهاجت.

٢٤٧

المغربي هناك فلما رآني عدا إلي وقبلني فرحا مسرورا فقلت ما حال حمارك فقال هو والله صحيح سليم ولا أدري من أين من الله به علي فأحيا لي حماري بعد موته فقلت له قد بلغت حاجتك فلا تسأل عما لا تبلغ معرفته.

ومنها أن إسحاق بن عمار قال لما حبس هارون أبا الحسن ع دخل عليه أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة ـ فقال أحدهما للآخر نحن على أحد أمرين إما أن نساويه وإما أن نشككه (١) فجلسا بين يديه فجاء رجل كان موكلا به من قبل السندي فقال إن نوبتي قد انقضت وأنا على الانصراف فإن كانت لك حاجة فأمرني حتى آتيك بها في الوقت التي تلحقني النوبة فقال ما لي حاجة فلما خرج قال لأبي يوسف ومحمد بن الحسن ما أعجب هذا يسألني أن أكلفه حاجة ليرجع وهو ميت في هذه الليلة قال فغمز أبو يوسف محمد بن الحسن فقاما فقال أحدهما للآخر إنا جئنا لنسأله عن الفرض والسنة وهو الآن جاء بشيء آخر كأنه من علم الغيب ثم بعثنا برجل مع الرجل فقالا اذهب حتى تلازمه وتنظر ما يكون من أمره في هذه الليلة وتأتينا بخبره من الغد فمضى الرجل فنام في مسجد عند باب داره فلما أصبح سمع الواعية ورأى الناس يدخلون داره فقال ما هذا قالوا مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علة فانصرف إليهما فأخبرهما فأتيا أبا الحسن ع فقالا قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل أنه يموت في هذه الليلة قال من الباب الذي كان أخبر بعلمه رسول الله ص علي بن أبي طالب ع فلما ورد عليهما هذا بقيا لا يحيران جوابا. (٢)

وروي أن هارون الرشيد بعث يوما إلى موسى ع على يدي ثقة له طبقا من السرقين الذي هو على هيئة التين وأراد استخفافه فلما رفع الإزار عنه فإذا هو من أحلى التين وأطيبه فأكل ع وأطعم الحامل منه ورد بعضه إلى هارون

__________________

(١) كذا في أكثر النسخ لكن في الخرائج ونسخة البحار «نشكله» وفي نسخة «نشاكله» وكأنّه الظاهر اي نشبهه وان لم نكن مثله.

(٢) أي سكتا ولم يردا جوابا.

٢٤٨

فلما تناوله هارون صار سرقينا في فيه وكان في يده تينا جنيا

قلت عندي في هذا الخبر نظر فإن الرشيد وإن كان يريد قتل أبي الحسن ع فإنه كان يعرف شرفه ولا يصل به إلى هذا القدر من الهوان وإن كان يخاف على الملك فلا يلزم من ذلك طلبه إهانته إلى هذه الغاية وموسى ع لم يكن يقابله بمثل فعله بإعادة الطبق إليه بحيث يجعله في فيه فيعود إلى حاله لا سيما وهو في حبسه ودينه التقية وهو مسمى بالكاظم والله أعلم.

ومنها ما قال إسحاق بن عمار أيضا قال أقبل أبو بصير مع أبي الحسن موسى ع من المدينة يريد العراق فنزل زبالة فدعا بعلي بن أبي حمزة البطائني وكان تلميذا لأبي بصير فجعل يوصيه بحضرة أبي بصير ويقول يا علي إذا صرنا إلى الكوفة تقدم في كذا فغضب أبو بصير وخرج من عنده فقال لا والله ما أرى هذا الرجل أنا أصحبه منذ حين ثم يتخطاني بحوائجه إلى بعض غلماني فلما كان من الغد حم أبو بصير بزبالة فدعا بعلي بن أبي حمزة فقال أستغفر الله مما حل في صدري من مولاي ومن سوء ظني به كان قد علم أني ميت وأني لا ألحق بالكوفة فإذا أنا مت فافعل بي كذا وتقدم في كذا فمات أبو بصير بزبالة.

ومنها أن إسماعيل بن سالم قال بعث إلي علي بن يقطين وإسماعيل بن أحمد فقالا لي خذ هذه الدنانير فائت الكوفة فالق فلانا فاستصحبه واشتريا راحلتين وامضيا بالكتب وما معكما من مال فادفعاه إلى موسى بن جعفر ع فسرنا حتى إذا كنا ببطن الرملة وقد اشترينا علفا ووضعناه بين الراحلتين وجلسنا نأكل فبينما نحن كذلك إذ طلع علينا موسى بن جعفر على بغلة له أو بغل وخلفه شاكري (١) فلما رأيناه وثبنا له وسلمنا عليه فقال هاتا ما معكما فأخرجناه ودفعناه إليه وأخرجنا الكتب ودفعناها إليه فأخرج كتبا من كمه فقال هذه جوابات كتبكم فانصرفوا في حفظ الله تعالى فقلنا قد فنى زادنا وقد قربنا من المدينة فلو أذنت لنا فزرنا رسول الله ص وتزودنا زادا فقال أبقي معكما من زادكما شيء فقلنا نعم

__________________

(١) الشاكرى معرب «چاكر».

٢٤٩

قال ائتوني به فأخرجناه إليه فقبضه بيده وقال هذه بلغتكم إلى الكوفة امضيا في حفظ الله فرجعنا وكفانا الزاد إلى الكوفة.

قال ابن الجوزي رحمه‌الله في صفة الصفوة موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي أبو الحسن الهاشمي ص كان يدعى العبد الصالح لأجل عبادته واجتهاده وقيامه بالليل وكان كريما حليما إذا بلغه عن رجل أنه يؤذيه بعث إليه بمال.

وحدثني أحمد بن إسماعيل قال بعث موسى بن جعفر ع إلى الرشيد من الحبس برسالة كانت أنه لن يقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتى نقضي جميعا إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون

قال المصنف ولد موسى بن جعفر بالمدينة في سنة ثمان وعشرين وقيل تسع وعشرين ومائة وأقدمه المهدي بغداد ثم رده إلى المدينة فأقام بها إلى أيام الرشيد فقدم الرشيد المدينة فحمله معه وحبسه ببغداد إلى أن توفي بها ـ لخمس بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة آخر كلام ابن الجوزي بعد أن حذفت منه ما نقلته من كتب غيره كقصة شقيق البلخي رحمه‌الله وغيرها والله حسبي (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

وقال الآبي في كتابه نثر الدرر موسى بن جعفر ذكر له أن الهادي قد هم به فقال لأهل بيته بما تشيرون قالوا نرى أن تتباعد عنه وأن تغيب شخصك فإنه لا يؤمن شره فتبسم ثم قال

زعمت سخينة أن ستغلب ربها

ولتغلبن مغالب الغلاب (١)

ثم رفع يده إلى السماء فقال إلهي كم من عدو شحذ لي ظبة مديته (٢) وداف لي قواتل سمومه (٣) ولم تنم عني عين حراسته فلما رأيت ضعفي عن

__________________

(١) البيت لكعب بن مالك وقيل إنه لحسان ولم أجد في ديوانه والسخينة : لقب قريش لأنها كانت تكثر من أكل السخينة فتعاب به وهي : طعام يتخذ من دقيق وسمن وقيل غير ذلك :

(٢) الظبة : حد السيف ونحوه. والمدية : السكين العظيم.

(٣) داف الشيء بالشيء! خلطه.

٢٥٠

احتمال الفوادح (١) وعجزي عن ملمات الحوائج صرفت ذلك عني بحولك وقوتك لا بحولي وقوتي فألقيته في الحفيرة التي احتفر لي خائفا مما أمله في دنياه متباعدا مما رجاه في آخرته فلك الحمد على قدر استحقاقك سيدي اللهم فخذه بعزتك وافلل حده عني بقدرتك واجعل له شغلا فيما يليه وعجزا عمن يناويه اللهم وأعدني عليه عدوى حاضرة تكون من غيظي شفاء ومن حقي عليه وفاء وصل اللهم دعائي بالإجابة وانظم شكايتي بالتغيير وعرفه عما قليل ما وعدت الظالمين وعرفني ما وعدت في إجابة المضطرين إنك ذو الفضل العظيم والمن الكريم ثم تفرق القوم فما اجتمعوا إلا لقراءة الكتاب الوارد بموت موسى الهادي ففي ذلك يقول بعضهم في وصف دعائه

وسارية لم تسر في الأرض تبتغي

محلا ولم يقطع بها السير قاطع

وهي أبيات مليحة ما قيل في وصف الدعاء المستجاب أحسن منها.

وسأله الرشيد فقال لم زعمتم أنكم أقرب إلى رسول الله ص منا فقال ع يا أمير المؤمنين لو أن رسول الله ص انشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه فقال سبحان الله فكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم فقال لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه لأنه ولدنا ولم يلدكم.

وروي أنه قال هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهن متكشفات فقال لا فقال ولكنه كان يدخل على حرمي كذلك وكان يجوز له.

وقيل إنه سأله أيضا لم قلتم إنا ذرية رسول الله ص وجوزتم أن ينسبوكم إليه فيقولوا يا بني رسول الله ص وأنتم بنو علي وإنما ينسب الرجل إلى أبيه دون جده فقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِوَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ) (٢) وليس لعيسى أب وإنما ألحق بذرية

__________________

(١) الفوادح جمع الفادحة : النازلة.

(٢) الأنعام : ٨٤.

٢٥١

الأنبياء من قبل أمه وكذلك ألحقنا بذرية النبي ع من قبل أمنا فاطمة ع وأزيدك يا أمير المؤمنين قال الله تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (١) ولم يدع ع عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين وهما الأبناء ع.

ومات في حبس الرشيد وقيل سعى به جماعة من أهل بيته منهم محمد بن جعفر بن محمد أخوه ومحمد بن إسماعيل بن جعفر ابن أخيه والله أعلم.

وسمع موسى ع رجلا يتمنى الموت فقال له هل بينك وبين الله قرابة يحابيك (٢) لها قال لا قال فهل لك حسنات قدمتها تزيد على سيئاتك قال لا قال فأنت إذا تتمني هلاك الأبد.

وقال من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في النقصان ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة.

وروي عنه أنه قال اتخذوا القيان فإن لهن فطنا وعقولا ليست لكثير من النساء وكأنه أراد النجابة في أولادهن. (٣)

فائدة سنية كنت أرى الدعاء الذي كان يقوله أبو الحسن موسى ع في سجدة الشكر وهو رب عصيتك بلساني ولو شئت وعزتك لأخرستني وعصيتك ببصري ولو شئت وعزتك لأكمهتني (٤) وعصيتك بسمعي ولو شئت وعزتك لأصممتني و

__________________

(١) آل عمران : ٦١.

(٢) حاباه محاباة : نصره. مال إليه. وحاباه في البيع : سامحه وساهله.

(٣) قلت : القيان جمع قينة وهي الأمة مغنية كانت أو غير مغنية قال أبو عمرو : كل عبد فهو عند العرب قين ، والأمة : قينة ، وبعض الناس يظن المغنية خاصّة وليس هو كذلك (ه. م)

(٤) الكمه : العمى.

٢٥٢

عصيتك بيدي ولو شئت وعزتك لكنعتني (١) وعصيتك بفرجي ولو شئت وعزتك لأعقمتني وعصيتك برجلي ولو شئت وعزتك لجذمتني وعصيتك بجميع جوارحي التي أنعمت بها علي ولم يكن هذا جزاك مني بخط عميد الرؤساء لعقمتني والمعروف عقمت المرأة وعقمت وأعقمها الله فكنت أفكر في معناه وأقول كيف يتنزل على ما تعتقده الشيعة من القول بالعصمة وما اتضح لي ما يدفع التردد الذي يوجبه فاجتمعت بالسيد السعيد النقيب رضي الدين أبي الحسن علي بن موسى بن طاوس العلوي الحسيني رحمه‌الله وألحقه بسلفه الطاهر فذكرت له ذلك فقال إن الوزير السعيد مؤيد الدين العلقمي رحمه‌الله تعالى سألني عنه فقلت كان يقول هذا ليعلم الناس ثم إني فكرت بعد ذلك فقلت هذا كان يقوله في سجدته في الليل وليس عنده من يعلمه.

ثم إنه سألني عنه السعيد الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي رحمه‌الله فأخبرته بالسؤال الأول والذي قلت والذي أوردته عليه وقلت ما بقي إلا أن يكون يقوله على سبيل التواضع وما هذا معناه فلم تقع مني هذه الأقوال بموقع ولا حلت من قلبي في موضع ومات السيد رضي الدين رحمه‌الله فهداني الله إلى معناه ووفقني على فحواه فكان الوقوف عليه والعلم به وكشف حجابه بعد السنين المتطاولة والأحوال المحرمة والأدوار المكررة من كرامات الإمام موسى بن جعفر ع ومعجزاته ولتصح نسبة العصمة إليه ع وتصدق على آبائه وأبنائه البررة الكرام وتزول الشبهة التي عرضت من ظاهر هذا الكلام.

وتقريره أن الأنبياء والأئمة ع تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى وقلوبهم مملوة به وخواطرهم متعلقة بالملإ الأعلى وهم أبدا في المراقبة. كما قال ع اعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك فهم أبدا متوجهون إليه ومقبلون بكلهم عليه فمتى انحطوا عن تلك الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الإشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات عدوه ذنبا

__________________

(١) كنع يده بتشديد النون ـ اشلها وايبسها.

٢٥٣

واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه ألا ترى أن بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح وهو يعلم أنه بمرأى من سيده ومسمع لكان ملوما عند الناس ومقصرا فيما يجب عليه من خدمة سيده ومالكه فما ظنك بسيد السادات وملك الأملاك.

وإلى هذا أشار ع. إنه ليران على قلبي وإني لأستغفر بالنهار سبعين مرة ولفظة السبعين إنما هي لعد الاستغفار لا إلى الرين وقوله حسنات الأبرار سيئات المقربين ونظيره إيضاحا من لفظة ليكون أبلغ من التأويل ويظهر من قوله أعقمتني والعقيم الذي لا يولد له والذي يولد من السفاح لا يكون ولدا فقد بان بهذا أنه كان يعد اشتغاله في وقت ما بما هو ضرورة للأبدان معصية يستغفر الله منها وعلى هذا فقس البواقي وكلما يرد عليك من أمثالها. (١)

__________________

(١) وهناك كلام آخر في تصحيح أمثال هذا الدعاء ممّا ورد عنهم عليهم السلام قد استفدته من بعض الأساتيذ دامت بركاته العالية وهو وان لم تكن في المتانة والقوّة بمثابة ما ذكره المؤلّف (ره) لكن لا باس بذكره ولا يخلو عن الفائدة.

تقريره : ان للعبادة مقامات ولكن مقام لذة للعابد لا تدرك تلك اللذة بالوصف والبيان بل لا بدّ لطالب دركها الوقوف دونه أو الدخول فيه وهذا نظير توصيف حديقة ذات أشجار كثيرة بأن فيها ما تشتهيه الا نفس وتلذ الا عين ، من أنواع الفواكه والثمار والأنهار والأزهار ، فإنه لا توجد في نفس المستمع الا صوره خيالية من الحديقة قوامها في الوجود بتوجه النفس وانعدامها بقطع ذلك التوجه ، وهذا وهو ان لكل مرتبة من مراتب الوجود خصوصية وحالة لا تدرك الا بالدخول في تلك المرتبة ولا توجد كمالها الا بعد الوصول إلى تلك الحالة وذلك مثل التفرج في البساتين والمزارع في أول الربيع فإنه قد يدرك بالتوصيف والبيان شعرا ونثرا من متكلم فصيح فيمكن له توصيفها بحيث يرى المستمع نفسه في وسط تلك البستان الخيالي مثلا ولكن ليست الا أوصاف تنتقش منها صورة خيالية يكون قوامها في الوجود. بتوجه النفس وانعدامها بقطع ذلك التوجه ، واما الدرك الحقيقي فهو لا يوجد الا لمن دخل تلك البساتين *

٢٥٤

وهذا معنى شريف يكشف بمدلوله حجاب الشبهة ويهدي به الله من حسر عن بصره وبصيرته رين العمى والعمة وليت السيد كان حيا لأهدي هذه العقيلة إليه وأجلو عرائسها عليه فما أظن أن هذا المعنى اتضح من لفظ الدعاء لغيري ولا أن أحدا سار في إيضاح مشكله وفتح مقفله مثل سيري وقد ينتج الخاطر العقيم فيأتي بالعجائب وقديما ما قيل مع الخواطئ سهم صائب.

وقال ابن حمدون في تذكرته قال موسى بن جعفر ع وجدت علم الناس في أربع أولها أن تعرف ربك والثانية أن تعرف ما صنع بك والثالثة أن

__________________

* والمزارع ووجد لذة التفرج وأكل الثمار والانتفاع من الأنهار والأزهار عيانا ، وقد ثبت في علم الفلسفة أيضا ان درك لذات العالم بتشخص الوجود لا الماهية. ولعلّ هذا أحد اسرار قصة المعراج وسيره (ص) جميع العوالم ، فإنه لا بدّ لهذا النبيّ إذا أراد أن يصير واجدا لجميع الكمالات السير في جميع العوالم واستكمال جهة الملكوتية واللاهوتية الكائنة في وجوده (ص) وانسه وارتباطه مع كل من سكنها حتّى تحصل السنخية ويدرك لذة مراتب الوجود بأسرها وتمامها.

إذا عرفت هذا فنقول : ان العبد الكامل من عبد اللّه في جميع مراتب العبودية وحيث كانت العبادة على اقسام فقسم منها عبادة المخلصين الراجين ، وقسم منها عبادة الخائفين العاصين ، وكان الإمام (ع) طالبا لان يعبد اللّه بالعبودية الكاملة والسير في جميع مراحلها ففي بعض الأحيان نزل نفسه منزلة المذنب العاصي ويذكر في دعائه ما يقوله المرتكب لجميع المعاصي وليس ذلك الا لما ذكر من درك ملاذ العبادة بجميع اقسامها والوصول إلى كمال العبودية من طرقها بأسرها.

ويشهد لما ذكرنا بل يدلّ عليه قول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه في التذلل للّه (على ما في الصحيفة الكاملة ـ الدعاء الثالث والخمسون ـ) قال (ع) بعد كلام له ... قد أوقفت نفسي موقف الأذلاء المذنبين ، موقف الأشقياء المتبحرين عليك ، المستخفين بوعدك ... الدعاء. وهذا هو المراد في جميع ما ورد في الأدعية من الاعتراف بالذنب والمعصية من هؤلاء المعصومين (ص) :

٢٥٥

تعرف ما أراد منك والرابعة أن تعرف ما يخرجك من دينك معنى هذه الأربع الأولى وجوب معرفة الله تعالى التي هي اللطف الثانية معرفة ما صنع بك من النعم التي يتعين عليك لأجلها الشكر والعبادة الثالثة أن تعرف ما أراد منك فيما أوجبه عليك وندبك إلى فعله لتفعله على الحد الذي أراده منك فتستحق بذلك الثواب الرابع أن تعرف الشيء الذي يخرجك عن طاعة الله فتجتنبه.

قال الفقير إلى الله تعالى عبد الله علي بن عيسى غفر الله له ذنوبه بكرمه وأجراه على عوائد ألطافه ونعمه مناقب الكاظم ع وفضائله ومعجزاته الظاهرة ودلائله وصفاته الباهرة ومخائله تشهد أنه افترع قبة الشرف وعلاها وسما إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها وذللت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها.

تركت والحسن تأخذه تصطفي منه وتنتحب

فانتفت منه أحاسنه واستزادت فضل ما تحب

طالت أصوله فسمت إلى أعلى رتب الجلال وطابت فروعه فعلت إلى حيث لا تنال يأتيه المجد من كل أطرافه ويكاد الشرف يقطر من أعطافه.

أتاه المجد من هنا وهنا

وكان له بمجتمع السيول

السحاب الماطر قطرة من كرمه والعباب الزاخر نغبة من نغبه واللباب الفاخر من عد من عبيده وخدمه كأن الشعرى علقت في يمينه ولا كرامة للشعرى العبور وكأن الرياض أشبهت خلائقه ولا نعمى لعين الروض الممطور وهو ع غرة في وجه الزمان وما الغرر والحجول وهو أضوأ من الشمس والقمر وهذا جهد من يقول بل هو والله أعلى مكانة من هذه الأوصاف وأسمى وأشرف عرقا من هذه النعوت وأنمى فكيف تبلغ المدائح كنه مقداره أو ترتقي همة البليغ إلى نعت فخاره أو تجري جياد الأقلام في جلباب صفاته أو يسري خيال الأوهام في ذكر حالاته.

كاظم الغيظ وصائم القيظ عنصره كريم ومجده حادث وقديم وخلق سؤدده وسيم وهو بكل ما يوصف به زعيم الآباء عظام والأبناء كرام والدين

٢٥٦

متين والحق ظاهر مبين والكاظم في أمر الله قوي أمين وجوهر فضله عال ثمين وواصفه لا يكذب ولا يمين قد تلقى راية الإمامة باليمين فسما ع إلى الخيرات منقطع القرين وأنا أحلف على ذلك فيه وفي آبائه وأبنائه ع باليمين.

كم له من فضيلة جليلة ومنقبة بعلو شأنه كفيلة وهي وإن بلغت الغاية بالنسبة إليه قليلة ومهما عد من المزايا والمفاخر فهي فيهم صادقة وفي غيرهم مستحيلة إليهم ينسب العظماء وعنهم يأخذ العلماء ومنهم يتعلم الكرماء وهم الهداة إلى الله (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وهم الأدلاء على الله فلا تحل عنهم ولا تنشده وهم الأمناء على أسرار الغيب وهم المطهرون من الرجس والعيب وهم النجوم الزواهر في الظلام وهم الشموس المشرقة في الأيام وهم الذين أوضحوا شعار الإسلام وعرفوا الحلال من الحرام من تلق منهم تقل لاقيت سيدا ومتى عددت منهم واحدا كان بكل الكمالات منفردا ومن قصدت منهم حمدت قصدك مقصدا ورأيت من لا يمنعه جوده اليوم أن يجود غدا ومتى عدت إليه عاد كما بدا المائدة والأنعام يشهدان بحالهم والمائدة والأنعام يخبران بنوالهم فلهم كرم الأبوة والبنوة وهم معادن الفتوة والمروءة والسماح في طبائعهم عزيزة والمكارم لهم شنشنة ونحيزة (١) والأقوال في مدحهم وإن طالت وجيزة بحور علم لا تنزف وأقمار عز لا يخسف وشموس مجد لا تكسف مدح أحدهم يصدق على الجميع وهم متعادلون في الفخار فكلهم شريف رفيع بذوا الأمثال بطريفهم وتالدهم ولا مثيل ونالوا النجوم بمفاخرهم ومحامدهم فانقطع دون شأوهم العديل ولا عديل فمن الذي ينتهي في السير إلى أمدهم وقد سد دونه السبيل أمن لهم يوم كيومهم أو غد كغدهم ولو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ص صلاة نامية الأمداد باقية على الآباد مدخرة ليوم المعاد إنه كريم جواد.

وقد اتبعت العادة في مدحه ع وأنا معتذر كعذري في ما تقدم من الكلام فإن شرفه يعلو عن الأقوال ومن نطق بمدحه الكتاب العزيز فما

__________________

(١) النحيزة : الطبيعة.

٢٥٧

عسى أن يقال ولكن اتباع العوائد يوسع المجال ومن اعترف بتقصيره كان كمن بلغ الكمال وهذا الشعر.

مدائحي وقف على الكاظم

فما على العاذل واللائم

وكيف لا امدح مولى غدا

في عصره خير بني آدم

ومن كموسى أو كآبائه

أو كعلي وإلى القائم

إمام حق يقتضي عدله

لو سلم الحكم إلى الحاكم

إفاضة العدل وبذل الندى

والكف من عادية الظالم

يبسم للسائل مستبشرا

أفديه من مستبشر باسم

ليث وغى في الحرب دامي الشبا

وغيث جود كالحيا الساجم (١)

مآثر يعجز عن وصفها

بلاغة الناثر والناظم

تعد إن قيست إلى جوده

معايبا ما قيل عن حاتم

في الحلم بحر ذاخر مده

وفي الوغى أمضى من الصارم

يعفو عن الجاني ويولي الندى

ويحمل الغرم عن الغارم

القائم الصائم أكرم به

من قائم مجتهد صائم

من معشر سنوا الندى والقرى

وأشرقوا في الزمن القائم

وأحرزوا خصل العلى فاغتدوا

أشرف خلق الله في العالم

يروي المعالي عالم منهم

مصدق في النقل عن عالم

قد استووا في شرف المرتقى

كما تساوت حلقة الخاتم

من ذا يجاريهم إذا ما اعتزوا

إلى علي وإلى فاطم

ومن يناويهم إذا عددوا

خير بني الدنيا أبا القاسم

صلى عليه الله من مرسل

لما أتى من قبله خاتم

يا آل طه أنا عبد لكم

باق على حبكم اللازم

أرجو بكم نيل الأماني غدا

إذا استبانت حسرة النادم

معتصم منكم بود إذا

ما ضل شانيكم بلا عاصم

وليكم في نعم خالد

وضدكم في نسب دائم

 __________________

(١) سجم الدمع : سال.

٢٥٨

ذكر الإمام الثامن أبي الحسن علي بن موسى

الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن

علي زين العابدين بن الحسين بن

علي بن أبي طالب ع

قال كمال الدين بن طلحة رحمه‌الله الباب الثامن في أبي الحسن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ع قد تقدم القول في أمير المؤمنين علي وفي زين العابدين علي وجاء هذا علي الرضا ثالثهما ومن أمعن نظره وفكره وجده في الحقيقة وارثهما فيحكم أنه ثالث العليين نمى إيمانه وعلا شانه وارتفع مكانه واتسع إمكانه وكثر أعوانه وظهر برهانه حتى أحله الخليفة المأمون محل مهجته وشركه في مملكته وفوض إليه أمر خلافته وعقد له على رءوس الأشهاد عقد نكاح ابنته وكانت مناقبه علية وصفاته الشريفة سنية ومكارمه حاتمية وشنشنته أخزمية وأخلاقه عربية ونفسه الشريفة هاشمية وأرومته الكريمة نبوية فمهما عد من مزاياه كان ع أعظم منه ومهما فصل من مناقبه كان أعلى رتبه عنه.

أما ولادته ع ففي حادي عشر ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين ومائة للهجرة بعد وفاة جده أبي عبد الله جعفر ع بخمس سنين.

وأما نسبه أبا وأما فأبوه أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ع وقد تقدم ذكر ذلك وأمه أم ولد تسمى الخيزران المرسية وقيل شقراء النوبية واسمها أروى وشقراء لقب لها.

٢٥٩

وأما اسمه فعلي وهو ثالث العليين أمير المؤمنين وزين العابدين.

وأما كنيته فأبو الحسن وأما ألقابه فالرضا والصابر والرضي والوفي وأشهرها الرضا.

وأما مناقبه وصفاته فمنها ما خصه الله به ويشهد له بعلو قدره وسمو شأنه وهو أنه لما جعله الخليفة المأمون ولي عهده وأقامه خليفة من بعده وكان في حاشية المأمون أناس كرهوا ذلك وخافوا خروج الخلافة عن بني العباس وعودها إلى بني فاطمة على الجميع السلام فحصل عندهم من الرضا نفور وكان عادة الرضا ع إذا جاء إلى دار المأمون ليدخل عليه يبادر من الدهليز من الحاشية إلى السلام عليه ورفع الستر بين يديه ليدخل.

فلما حصلت لهم النفرة عنه تواصوا فيما بينهم وقالوا إذا جاء ليدخل على الخليفة أعرضوا عنه ولا ترفعوا الستر له فاتفقوا على ذلك فبينا هم قعود إذ جاء الرضا ع على عادته فلم يملكوا أنفسهم أن سلموا عليه ورفعوا الستر على عادتهم فلما دخل أقبل (بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) كونهم ما وقفوا على ما اتفقوا عليه وقالوا النوبة الآتية إذا جاء لا نرفعه له.

فلما كان في ذلك اليوم جاء فقاموا وسلموا عليه ووقفوا ولم يبتدروا إلى رفع الستر فأرسل الله ريحا شديدة دخلت في الستر فرفعته أكثر مما كانوا يرفعونه فدخل فسكنت الريح فعاد إلى ما كان فلما خرج عادت الريح ودخلت في الستر فرفعته حتى خرج ثم سكنت فعاد الستر فلما ذهب أقبل بعضهم على بعض وقالوا هل رأيتم قالوا نعم فقال بعضهم لبعض يا قوم هذا رجل له عند الله منزلة ولله به عناية ألم تروا أنكم لما لم ترفعوا له الستر أرسل الله الريح وسخرها له لرفع الستر كما سخرها لسليمان فارجعوا إلى خدمته فهو خير لكم فعادوا إلى ما كانوا عليه وزادت عقيدتهم فيه.

ومنها أنه كان بخراسان امرأة تسمى زينب فادعت أنها علوية من سلالة فاطمة ع وصارت تصول على أهل خراسان بنسبها فسمع بها علي الرضا

٢٦٠