كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

ويقال إنه كان يخالط الحشوية ويميل إلى المرجئة وادعى بعد أبيه الإمامة واحتج بأنه أكبر إخوته الباقين فاتبعه على قوله جماعة من أصحاب أبي عبد الله ع ثم رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى ع لما تبينوا ضعف دعواه وقوة أمر أبي الحسن ع ودلائل حقه وبراهين إمامته وأقام نفر يسير منهم على أمرهم ودانوا بإمامة عبد الله وهم الفطحية وإنما لزمهم هذا اللقب لقولهم بإمامة عبد الله وكان أفطح الرجلين أي عريضهما ويقال إنهم إنما لقبوا بذلك لأن داعيتهم إلى إمامة عبد الله كان يقال له عبد الله بن أفطح وكان إسحاق بن جعفر من أهل الفضل والصلاح والورع والاجتهاد.

وروى عنه الناس الحديث والآثار وكان ابن كاسب إذا حدث عنه يقول حدثني ثقة الرضي إسحاق بن جعفر وكان إسحاق رضي الله عنه يقول بإمامة أخيه موسى ع وروى عن أبيه النص بالإمامة على أخيه موسى ع وكان محمد بن جعفر سخيا شجاعا وكان يصوم يوما ويفطر يوما ورأى رأي الزيدية في الخروج بالسيف. وروي عن زوجته خديجة بنت عبد الله بن الحسين أنها قالت ما خرج من عندنا محمد قط في ثوب حتى يكسوه وكان يذبح في كل يوم كبشا لأضيافه.

وخرج على المأمون في سنة تسع وتسعين ومائة بمكة وتبعه الزيدية الجارودية فخرج لقتاله عيسى الجلودي ففرق جمعه وأخذه فأنفذه إلى المأمون فلما وصل إليه أكرمه المأمون وأدنى مجلسه منه ووصله وأحسن جائزته وكان مقيما معه بخراسان يركب إليه في موكب من بني عمه وكان المأمون يحتمل منه ما لا يحتمله السلطان من رعيته.

وروي أن المأمون أنكر ركوبه إليه في جماعة من الطالبيين الذين خرجوا على المأمون في سنة المائتين فآمنهم فخرج التوقيع إليهم لا تركبوا مع محمد بن جعفر واركبوا مع عبيد الله بن الحسين فأبوا أن يركبوا ولزموا منازلهم فخرج التوقيع أن اركبوا مع من أحببتم فكانوا يركبون مع محمد بن جعفر إذا ركب إلى المأمون وينصرفون بانصرافه.

١٨١

وذكر عن موسى بن سلمة أنه قال أتي إلى محمد بن جعفر فقيل له إن غلمان ذي الرئاستين قد ضربوا غلمانك على حطب اشتروه فخرج متزرا ببردتين ومعه هراوة (١) وهو يرتجز ويقول الموت خير لك من عيش بذل وتبعه الناس حتى ضرب غلمان ذي الرئاستين وأخذ الحطب منهم فرفع الخبر إلى المأمون فبعث إلى ذي الرئاستين فقال له ائت محمد بن جعفر واعتذر إليه وحكمه في غلمانك قال فخرج ذو الرئاستين إلى محمد بن جعفر قال موسى بن سملة فكنت عند محمد بن جعفر جالسا حين أتي فقيل له هذا ذو الرئاستين فقال لا يجلس إلا على الأرض وتناول بساطا كان في البيت فرمى به هو ومن معه ناحية ولم يبق في البيت إلا وسادة جلس عليها محمد بن جعفر فلما دخل عليه ذو الرئاستين وسع له محمد على الوسادة فأبى أن يجلس عليها وجلس على الأرض فاعتذر إليه وحكمه في غلمانه.

وتوفي محمد بن جعفر بخراسان مع المأمون فركب المأمون ليشهده فلقيهم وقد خرجوا به فلما نظر إلى السرير ترجل ومشى حتى دخل بين العمودين ولم يزل بينهما حتى وضع فتقدم فصلى عليه ثم حمله حتى بلغ به إلى القبر ثم دخل قبره فلم يزل فيه حتى بني عليه ثم خرج فقام على القبر حتى دفن فقال له عبد الله بن الحسين ودعا له يا أمير المؤمنين إنك قد تعبت فلو ركبت فقال له المأمون إن هذه رحم قد قطعت من مائتي سنة.

وروي عن إسماعيل بن محمد بن جعفر أنه قال قلت لأخي وهو إلى جنبي والمأمون قائم على القبر لو كلمناه في دين الشيخ فلا نجده أقرب منه في وقته هذا فابتدأنا المأمون فقال كم ترك أبو جعفر من الدين فقلت خمسة وعشرين ألف دينار فقال قد قضى الله عنه دينه إلى من أوصى قلنا إلى ابن له يقال له يحيى بالمدينة فقال ليس هو بالمدينة هو بمصر وقد علمنا بكونه فيها ولكن كرهنا أن نعلمه بخروجه من المدينة لئلا يسوءه ذلك لعلمه بكراهتنا لخروجهم عنا.

__________________

(١) الهراوة : العصا أو الضخمة منه.

١٨٢

وكان علي بن جعفر رضي الله عنه راوية (١) للحديث سديد الطريق شديد الورع كثير الفضل ولزم أخاه موسى بن جعفر ع وروى عنه شيئا كثيرا.

وكان العباس بن جعفر رحمه‌الله فاضلا نبيلا

وكان موسى بن جعفر أجل ولد أبي عبد الله ع قدرا وأعظمهم محلا وأبعدهم في الناس صيتا ولم ير في الناس وفي زمانه أسخى منه ولا أكرم نفسا وعشرة وكان أعبد أهل زمانه وأورعهم وأفقههم وأعلمهم واجتمع جمهور شيعة أبيه على القول بإمامته والتعظيم لحقه والتسليم لأمره ورووا عن أبيه الصادق ع نصوصا عليه بالإمامة وإشارات إليه بالخلافة وأخذوا عنه معالم دينهم ورووا عنه من الآيات والمعجزات ما يقطع بها على حجته وصواب القول بإمامته انتهى كلام الشيخ المفيد رضي الله عنه.

وقال الحافظ أبو نعيم رحمه‌الله ومنهم الإمام الناطق أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق ع أقبل على العبادة والخضوع وأثر العزلة والخشوع ولها عن الرئاسة والجموع وقيل إن التصوف انتفاع بالنسب وارتفاع بالسبب ـ عن عمرو بن أبي المقدام قال كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين.

وروى عن مالك بن أنس عن جعفر بن محمد ع أن سفيان الثوري دخل عليه وسأله الحديث فقال جعفر أحدثك وما كثرة الحديث لك بخير يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقائها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر الحديث إلى قوله ع ثلاث وأي ثلاث (٢).

وعن محمد بن بشير عن جعفر بن محمد ع أوحى الله إلى الدنيا أن اخدمي من خدمني وأتعبي من خدمك.

وعنه ع (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٣) قال للمتفرسين وكان

__________________

(١) التاء للمبالغة كما في علامة.

(٢) وقد مر في صفحة ٣٦٩.

(٣) الحجز : ٧٥.

١٨٣

يقول كيف أعتذر وقد احتججت وكيف أحتج وقد علمت.

وكان ع يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء. وسئل لم حرم الله الربا قال لئلا يتمانع الناس المعروف. وقال بني الإنسان على خصال فمهما بني عليه فإنه لا يبني على الخيانة والكذب.

وقال ع الفقهاء أمناء الرسل فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتهموهم.

وعن الأصمعي قال قال جعفر بن محمد ع الصلاة قربان كل تقي والحج جهاد كل ضعيف وزكاة البدن الصيام والداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر واستنزلوا الرزق بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة وما عال امرئ اقتصد والتقدير نصف العيش والتودد نصف العقل وقلة العيال إحدى اليسارين ومن حزن والديه فقد عقهما ومن ضرب بيده على فخذه عند المصيبة فقد حبط أجره والصنيعة لا تكون صنيعة إلا عند ذي حسب أو دين والله عزوجل ينزل الصبر على قدر المصيبة وينزل الرزق على قدر المئونة ومن قدر معيشته رزقه الله ومن بذر معيشته حرمه الله.

وعن بعض أصحاب جعفر ع قال دخلت عليه وموسى ع بين يديه وهو يوصيه بهذه الوصية فكان مما حفظت منها أن قال يا بني اقبل وصيتي واحفظ مقالتي فإنك إن حفظتها تعش سعيدا وتمت حميدا يا بني من قنع بما قسم له استغنى ومن مد عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرا ومن لم يرض بما قسم الله له اتهم الله في قضائه ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره يا بني من كشف عن حجاب غيره تكشفت عورات بيته ومن سل سيف البغي قتل به ومن احتفر لأخيه بئرا سقط فيها ومن داخل السفهاء حقر ومن خالط العلماء وقر ومن دخل مداخل السوء اتهم يا بني إياك أن تزري بالرجال فيزرى بك (١) وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتزل يا بني قل الحق لك وعليك تستشار من بين

__________________

(١) أزرى بأخيه : وضع منه.

١٨٤

أقرانك يا بني كن لكتاب الله تاليا وللإسلام فاشيا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا ولمن قطعك واصلا ولمن سكت عنك مبتدئا ولمن سألك معطيا وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال وإياك والتعرض لعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس كمنزلة الهدف يا بني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه فإن للجود معادن وللمعادن أصولا وللأصول فروعا وللفروع ثمرا ولا يطيب ثمر إلا بفرع ولا فرع إلا بأصل ولا أصل ثابت إلا بمعدن طيب يا بني إذا زرت فزر الأخيار ولا تزر الفجار فإنهم صخرة لا يتفجر ماؤها وشجرة لا يخضر ورقها وأرض لا تظهر عشبها.

قال علي بن موسى ع فما ترك أبي هذه الوصية إلى أن توفي.

قلت قد نقلت هذه الوصية آنفا ونقلتها الآن لزيادة في هذه الرواية.

وقال جعفر بن محمد ع لا زاد أفضل من التقوى ولا شيء أحسن من الصمت ولا عدو أضر من الجهل ولا داء أدوى من الكذب.

وعن شيخ من أهل المدينة كان من دعاء جعفر بن محمد ع اللهم اعمرني بطاعتك ولا تخزني بمعصيتك اللهم ارزقني مواساة من قترت عليه رزقك بما وسعت علي من فضلك قال غسان فحدثت بهذا سعيد بن مسلم فقال هذا دعاء الأشراف.

وعن نضر بن كثير قال دخلت أنا وسفيان على جعفر بن محمد ع فقلت إني أريد البيت الحرام فعلمني ما أدعو به فقال إذا بلغت الحرم فضع يدك على الحائط وقل يا سابق الفوت يا سامع الصوت يا كاسي العظام لحما بعد الموت ثم ادع بما شئت فقال له سفيان شيئا لم أفهمه فقال له يا سفيان إذا جاءك ما تحب فأكثر من الحمد لله وإذا جاءك ما تكره فأكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار.

وعن عبد الله بن شبرمة قال دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد ع فقال لابن أبي ليلى من هذا معك فقال هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين

١٨٥

قال لعله الذي يقيس الدين برأيه قال نعم إلى آخرها. وإنما لم أذكرها لأن الصادق ع كان أعلى شأنا وأشرف مكانا وأعظم بيانا وأقوى دليلا وبرهانا من أن يسأل مثل أبي حنيفة مع دقة نظره وفرط ذكائه وقوة عارضته وشدة استخراجه عن هذه المسائل الواضحة ثم إن المسائل الأولى إنما ينظر فيها ويعللها الطبيب وليست من تكليف الفقيه والعهدة على الناقل وأنا أستغفر الله.

وعن عنبسة الخثعمي وكان من الأخيار قال سمعت جعفر بن محمد ع يقول إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب وتورث النفاق.

وقال ع إذا بلغك عن أخيك شيء يسوؤك فلا تغتم فإنه إن كان كما يقول كانت عقوبة عجلت وإن كانت على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها. قال وقال موسى ع يا رب أسألك أن لا يذكرني أحد إلا بخير قال ما فعلت ذلك لنفسي. قال الحافظ أبو نعيم أسند جعفر بن محمد ع عن أبيه وعن عطاء بن أبي رباح وعكرمة وعبيد الله بن أبي رافع وعبد الرحمن بن القاسم وغيرهم.

وروى عن جعفر عدة من التابعين منهم يحيى بن سعيد الأنصاري وأيوب السختياني وأبان بن تغلب وأبو عمر بن العلا ويزيد بن عبد الله بن الهاد وحدث عنه من الأئمة الأعلام مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وابن جريح وعبيد الله بن عمرو وروح بن القاسم وسفيان بن عيينة وسليمان بن بلال وإسماعيل بن جعفر وحاتم بن إسماعيل وعبد العزيز بن المختار ووهب بن خالد وإبراهيم بن طهمان.

وأخرج عنه مسلم بن الحجاج في صحيحه محتجا بحديثه عن يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في حديث أسماء بنت عميس حين نفست بذي حليفة أن رسول الله ص أمر أبا بكر رضي الله عنه يأمرها أن تغتسل وتهل : حديث ثابت أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي غسان محمد بن عمرو عن حريز ويحيى بن سعيد هو الأنصاري من تابعي أهل المدينة إلى هنا نقلت مما ذكره الحافظ أبو نعيم رحمه‌الله.

١٨٦

قال ابن الخشاب رحمه‌الله ذكر أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد الباقر بن علي سيد العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين وبالإسناد الأول عن محمد بن سنان مضى أبو عبد الله وهو ابن خمس وستين سنة ويقال ثمان وستين سنة في سنة مائة وثمان وأربعين وكان مولده سنة ثلاث وثمانين من الهجرة في إحدى الروايتين وفي الرواية الثانية كان مولده سنة ثمانين من الهجرة وكان مقامه مع جده علي بن الحسين اثنتي عشرة سنة وأياما وفي الرواية الثانية كان مقامه مع جده خمس عشرة سنة وكان مقامه مع أبيه بعد مضي جده أربع عشرة سنة وتوفي أبو جعفر ع ولأبي عبد الله أربع وثلاثون سنة في إحدى الروايتين وأقام بعد أبيه أربعا وثلاثين سنة وكان عمره في إحدى الروايتين خمسا وستين سنة وفي الرواية الأخرى ثمان وستين سنة قال لنا الذارع والأولى هي الصحيحة وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر يعني الصديق رضي الله عنه وكان له ست بنين وابنة واحدة إسماعيل وموسى الإمام ومحمد وعلي وعبد الله وإسحاق وأم فروة وهي التي زوجها من ابن عمه الخارج مع زيد بن علي بن الحسين لقبه الصادق والصابر والفاضل والطاهر قبره بالمدينة بالبقيع يكنى بأبي عبد الله وبأبي إسماعيل انتهى كلامه.

ونقلت من كتاب الدلائل عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (١) قال أبو عبد الله أما والله لربما وسدنا لهم الوسائد في منازلنا.

وعن الحسين بن أبي العلا القلانسي قال قال أبو عبد الله ع يا حسين وضرب بيده إلى مساور في البيت (٢) فقال مساور طالما والله اتكأت عليها الملائكة و

__________________

(١) سورة فصلت : ٣٠.

(٢) المساور : الوسائد.

١٨٧

ربما التقطنا من زغبها. (١) " وعن عبد الله النجاشي قال كنت في حلقة عبد الله بن الحسن فقال يا ابن النجاشي اتقوا الله ما عندنا إلا ما عند الناس قال فدخلت على أبي عبد الله فأخبرته بقوله فقال والله إن فينا من ينكت في قلبه وينقر في أذنه وتصافحه الملائكة فقلت اليوم أو كان قبل اليوم فقال اليوم والله يا ابن النجاشي.

وعن جرير بن مرازم قال قلت لأبي عبد الله ع إني أريد العمرة فأوصني فقال اتق الله ولا تعجل فقلت أوصني فلم يزدني على هذا فخرجت من عنده من المدينة فلقيني رجل شامي يريد مكة فصحبني وكان معي سفرة فأخرجتها وأخرج سفرته وجعلنا نأكل فذكر أهل البصرة فشتمهم ثم ذكر أهل الكوفة فشتمهم ثم ذكر الصادق ع فوقع فيه فأردت أن أرفع يدي فأهشم أنفه وأحدث نفسي بقتله أحيانا فجعلت أتذاكر قوله اتق الله ولا تعجل وأنا أسمع شتمه فلم أعد ما أمرني.

وعن أبي بصير دخلت على أبي عبد الله ع وأنا أريد أن يعطيني من دلالة الإمامة مثل ما أعطاني أبو جعفر ع فلما دخلت وكنت جنبا قال يا أبا محمد أما كان لك فيما كنت فيه شغل تدخل علي وأنت جنب فقلت ما عملته إلا عمدا فقال (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) قلت (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال نعم يا أبا محمد قم فاغتسل فقمت واغتسلت وصرت إلى مجلسي وقلت عند ذلك إنه إمام.

وعن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال قال لي أبو عبد الله إذا لقيت السبع ما تقول له قلت ما أدري قال إذا لقيته فاقرأ في وجهه آية الكرسي وقل عزمت عليك بعزيمة الله وعزيمة محمد رسول الله ص وعزيمة سليمان بن داود وعزيمة علي أمير المؤمنين والأئمة من بعده فإنه ينصرف عنك قال عبد الله الكاهلي فقدمت إلى الكوفة فخرجت مع ابن عم لي إلى قرية فإذا سبع قد اعترض لنا في الطريق فقرأت في وجهه آية الكرسي وقلت عزمت عليك بعزيمة الله وعزيمة محمد رسول الله وعزيمة سليمان بن داود وعزيمة أمير المؤمنين والأئمة من بعده إلا تنحيت

__________________

(١) الزغب : صغار الريش.

١٨٨

عن طريقنا ولم تؤذنا فإنا لا نؤذيك فنظرت إليه وقد طأطأ رأسه وأدخل ذنبه بين رجليه وتنكب الطريق راجعا من حيث جاء فقال ابن عمي ما سمعت كلاما قط أحسن من كلام سمعته منك فقلت إن هذا الكلام سمعته من جعفر بن محمد ع فقال أشهد أنه إمام مفترض الطاعة وما كان ابن عمي يعرف قليلا ولا كثيرا فدخلت على أبي عبد الله من قابل فأخبرته الخبر وما كنا فيه فقال أتراني لم أشهدكم بئس ما رأيت إن لي مع كل ولي أذنا سامعة وعينا ناظرة ولسانا ناطقا ثم قال لي يا عبد الله بن يحيى أنا والله صرفته عنكما وعلامة ذلك أنكما كنتما في البداءة على شاطئ النهر وأن ابن عمك أثبت عندنا وما كان الله يميته حتى يعرفه هذا الأمر فرجعت إلى الكوفة فأخبرت ابن عمي بمقالة أبي عبد الله ففرح وسر به سرورا شديدا وما زال مستبصرا بذلك إلى أن مات.

قال علي بن عيسى أثابه الله انظر بعين الاعتبار إلى شرف هؤلاء القوم ومحلهم ومكانتهم من المعارف الإلهية وفضلهم وارتفاعهم في درجات العرفان ونبلهم فإن تعريفه ع إياه بما يقوله إذا لقي السبع فيه إشعار بأنه يلقى السبع وإلا لم يكن في الحديث إلا تعليمه ما يقوله متى لقيه وليس في ذلك كثير طائل.

وعن شعيب العقرقوفي قال دخلت أنا وعلي بن أبي حمزة وأبو بصير على أبي عبد الله ع ومعي ثلاثمائة دينار فصببتها قدامه فأخذ منها أبو عبد الله قبضة لنفسه ورد الباقي علي وقال يا شعيب رد هذه المائة دينار إلى موضعها الذي أخذتها منه قال شعيب فقضينا حوائجنا جميعا فقال لي أبو بصير يا شعيب ما حال هذه الدنانير التي ردها عليك أبو عبد الله قلت أخذتها من عروة أخي سرا منه وهو لا يعلمها فقال لي أبو بصير يا شعيب أعطاك أبو عبد الله والله علامة الإمامة ثم قال لي أبو بصير وعلي بن أبي حمزة يا شعيب عد الدنانير فعددتها فإذا هي مائة دينار ولا تزيد دينارا ولا تنقص دينارا.

وعن سماعة بن مهران قال دخلت على أبي عبد الله ع فقال لي مبتدئا يا سماعة ما هذا الذي كان بينك وبين جمالك في الطريق إياك أن تكون فحاشا أو

١٨٩

صخابا أو لعانا فقلت والله لقد كان ذلك وذلك أنه كان يظلمني فقال لئن كان ظلمك لقد أربيت عليه إن هذا ليس من فعالي ولا آمر به شيعتي ثم قال أبو عبد الله استغفر ربك يا سماعة مما كان وإياك أن تعود فقلت إني أستغفر الله مما كان ولا أعود.

وعن أبي بصير قال كنت عند أبي عبد الله ذات يوم جالسا إذ قال يا أبا محمد هل تعرف إمامك قلت إي والله الذي لا إله إلا هو وأنت هو ووضعت يدي على ركبته أو فخذه فقال صدقت قد عرفت فاستمسك به قلت أريد أن تعطيني علامة الإمام قال يا أبا محمد ليس بعد المعرفة علامة قلت أزداد إيمانا ويقينا قال يا أبا محمد ترجع إلى الكوفة وقد ولد لك عيسى ومن بعد عيسى محمد ومن بعدهما ابنتان واعلم أن ابنيك مكتوبان عندنا في الصحيفة الجامعة مع أسماء شيعتنا وأسماء آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وأنسابهم وما يلدون إلى يوم القيامة وأخرجها فإذا هي صفراء مدرجة.

وعن أبي بصير قال دخلت على أبي عبد الله قال لي يا أبا محمد ما فعل أبو حمزة الثمالي قلت خلفته صالحا قال فإذا رجعت فاقرأه مني السلام وأعلمه أنه يموت في شهر كذا في يوم كذا قال أبو بصير لقد كان فيه أنس وكان لكم شيعة قال صدقت يا أبا محمد وما عندنا خير له قلت شيعتكم معكم قال نعم إذا هو خاف الله وراقب الله وتوقى الذنوب كان معنا في درجتنا قال أبو بصير فرجعنا تلك السنة فما لبث أبو حمزة الثمالي إلا يسيرا حتى مات.

وعن زيد الشحام قال قال لي أبو عبد الله يا زيد كم أتى لك سنة قلت كذا وكذا قال يا أبا أسامة أبشر فأنت معنا وأنت من شيعتنا أما ترضى أن تكون معنا قلت بلى يا سيدي وكيف لي أن أكون معكم فقال يا زيد إن الصراط إلينا وإن الميزان إلينا وحساب شيعتنا إلينا والله يا زيد إني أرحم بكم من أنفسكم والله لكأني أنظر إليك وإلى الحارث بن المغيرة النضري في الجنة في درجة واحدة.

وعن عبد الحميد بن أبي العلا وكان صديقا لمحمد بن عبد الله بن الحسين

١٩٠

وكان به خاصا فأخذه أبو جعفر فحبسه في المضيق زمانا ثم إنه وافى الموسم فلما كان يوم عرفة لقيه أبو عبد الله في الموقف فقال يا أبا محمد ما فعل صديقك عبد الحميد فقال أخذه أبو جعفر فحبسه في المضيق زمانا فرفع أبو عبد الله يده ساعة ثم التفت إلى محمد بن عبد الله فقال يا محمد قد والله خلى سبيل صاحبك قال محمد فسألت عبد الحميد أي ساعة أخرجك أبو جعفر قال أخرجني يوم عرفة بعد العصر.

وعن رزام بن مسلم مولى خالد بن عبد الله القسري قال إن المنصور قال لحاجبه إذا دخل علي جعفر بن محمد فاقتله قبل أن يصل إلي فدخل أبو عبد الله فجلس فأرسل إلى الحاجب فدعاه فنظر إليه وجعفر قاعد عنده قال ثم قال له عد إلى مكانك قال وأقبل يضرب يده على يده فلما قام أبو عبد الله وخرج دعا حاجبه فقال بأي شيء أمرتك قال لا والله ما رأيته حين دخل ولا حين خرج ولا رأيته إلا وهو قاعد عندك.

وعن عبد العزيز القزاز قال كنت أقول فيهم بالربوبية فدخلت على أبي عبد الله ع فقال لي يا عبد العزيز ضع لي ماء أتوضأ ففعلت فلما دخل قلت في نفسي هذا الذي قلت فيه ما قلت يتوضأ فلما خرج قال يا عبد العزيز لا تحمل على البناء فوق ما يطيق فينهدم أنا عبيد مخلوقون.

وعن جابر عن أبي جعفر وسعيد أبي عمر الجلاب عن أبي عبد الله كلاهما رويا عنهما معا أن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس ثم تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين وعندنا نحن من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفا وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب.

وقيل أراد عبد الله بن محمد الخروج مع زيد فنهاه أبو عبد الله وعظم عليه فأبى إلا الخروج مع زيد فقال له لكأني والله بك بعد زيد وقد خمرت كما يخمر النساء وحملت في هودج وصنع بك ما يصنع بالنساء فلما كان من أمر زيد ما كان

١٩١

جمع أصحابنا لعبد الله بن محمد دنانير وتكاروا له وأخذوه حتى إذا صاروا به إلى الصحراء وشيعوه فتبسم فقالوا له ما الذي أضحكك فقال والله تعجبت من صاحبكم أني ذكرت وقد نهاني عن الخروج فلم أطعه وأخبرني بهذا الأمر الذي أنا فيه وقال لكأني بك وقد خمرت كما تخمر النساء فجعلت في هودج فعجبت.

وعن مالك الجهني قال إني يوما عند أبي عبد الله جالس وأنا أحدث نفسي بفضل الأئمة من أهل البيت إذ أقبل علي أبو عبد الله ع فقال يا مالك أنتم والله شيعتنا حقا لا ترى أنك أفرطت في القول في فضلنا يا مالك إنه ليس يقدر على صفة الله وكنه قدرته وعظمته (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) وكذلك لا يقدر أحد أن يصف حق المؤمن ويقوم به كما أوجب الله له على أخيه المؤمن يا مالك إن المؤمنين ليلتقيان فيصافح كل واحد منهما صاحبه فلا يزال الله ينظر إليهما بالمحبة والمغفرة وإن الذنوب لتتحات عن وجوههما حتى يفترقا فمن يقدر على صفة من هو هكذا عند الله تعالى.

وعن رفاعة بن موسى قال كنت عند أبي عبد الله ذات يوم جالسا فأقبل أبو الحسن إلينا فأخذته فوضعته في حجري وقبلت رأسه وضممته إلي فقال لي أبو عبد الله يا رفاعة أما إنه سيصير في يد آل العباس ويتخلص منهم ثم يأخذونه ثانية فيعطب في أيديهم.

عن عائذ الأحمسي قال دخلت على أبي عبد الله وأنا أريد أن أسأله عن الصلاة فقلت السلام عليك يا ابن رسول الله فقال وعليك السلام والله إنا لولده وما نحن بذوي قرابته حتى قالها ثلاثا ثم قال من غير أن أسأله إذا لقيت الله بالصلوات المفروضات لم يسألك عما سوى ذلك.

وعن أبي حمزة الثمالي قال كنت مع أبي عبد الله بين مكة والمدينة إذ التفت عن يساره فرأى كلبا أسود فقال ما لك قبحك الله ما أشد مسارعتك فإذا هو شبيه الطائر فقال هذا عثم بريد الجن مات هشام الساعة وهو يطير ينعاه في كل بلد.

وعن إبراهيم بن عبد الحميد قال اشتريت من مكة بردة وآليت على نفسي ألا

١٩٢

تخرج عن ملكي حتى تكون كفني فخرجت فيها إلى عرفة فوقفت فيها الموقف ثم انصرفت إلى جمع فقمت إليها في وقت الصلاة فرفعتها وطويتها شفقة مني عليها وقمت لأتوضأ ثم عدت فلم أرها فاغتممت لذلك غما شديدا فلما أصبحت وقمت لأتوضأ أفضت مع الناس إلى منى فإني والله لفي مسجد الخيف إذ أتاني رسول أبي عبد الله ع فقال لي يقول لك أبو عبد الله أقبل إلينا الساعة فقمت مسرعا حتى دخلت إليه وهو في فسطاط فسلمت وجلست فالتفت إلي أو رفع رأسه إلي فقال يا إبراهيم أتحب أن نعطيك بردة تكون كفنك قال قلت والذي يحلف به إبراهيم لقد ضاعت بردتي قال فنادى غلامه فأتى ببردة فإذا هي والله بردتي بعينها وطيي بيدي والله قال فقال خذها يا إبراهيم واحمد الله.

وعن شعيب العقرقوفي أنه بعث معه رجل بألف درهم فقلت إني أريد أن أعرف فضل أبي عبد الله فأخذت خمسة دراهم ستوقة (١) فجعلتها في الألف درهم وأخذت عوضها خمسة فصيرتها في لبنة قميصي ثم أتيت أبا عبد الله فأخذها ونثرها وأخذ الخمسة منها وقال هات خمستك وهات خمستنا.

وعن بكر بن أبي بكر الحضرمي قال حبس أبو جعفر أبي فخرجت إلى أبي عبد الله فأعلمته ذلك فقال إني مشغول بابني إسماعيل ولكن سأدعو له قال فمكث أياما بالمدينة فأرسل إلي أن أرحل فإن الله قد كفاك أمر أبيك فأما إسماعيل فقد أبى الله إلا قبضه قال فرحلت فأتيت مدينة ابن هبيرة فصادفت أبا جعفر راكبا فصحت إليه أبي أبو بكر الحضرمي شيخ كبير فقال إن ابنه لا يحفظ لسانه خلوا سبيله.

وعن مرازم قال قال لي أبو عبد الله وهو بمكة يا مرازم لو سمعت رجلا يسبني ما كنت صانعا قال قلت كنت أقتله قال يا مرازم إن سمعت من يسبني فلا تصنع به شيئا قال فخرجت من مكة عند الزوال في يوم حار فألجأني الحر أن

__________________

(١) الستوق ـ بضم السين وفتحها كقدوس وتنور ـ : درهم زيف بهرج ملبس بالفضة وقيل أردأ من ذلك.

١٩٣

صرت إلى بعض القباب وفيها قوم فنزلت معهم فسمعت بعضهم يسب أبا عبد الله فذكرت قوله فلم أقل شيئا ولو لا ذلك لقتلته

قال أبو بصير كان لي جار يتبع السلطان فأصاب مالا فاتخذ قيانا (١) وكان يجمع الجموع ويشرب المسكر ويؤذيني فشكوته إلى نفسه غير مرة فلم ينته فلما ألححت عليه قال يا هذا أنا رجل مبتلى وأنت رجل معافى فلو عرفتني لصاحبك رجوت أن يستنقذني الله بك فوقع ذلك في قلبي فلما صرت إلى أبي عبد الله ذكرت له حاله فقال لي إذا رجعت إلى الكوفة فإنه سيأتيك فقل له يقول لك جعفر بن محمد دع ما أنت عليه وأضمن لك على الله الجنة قال فلما رجعت إلى الكوفة أتاني فيمن أتى فاحتبسته حتى خلا منزلي فقلت يا هذا إني ذكرتك لأبي عبد الله فقال أقرئه السلام وقل له يترك ما هو عليه وأضمن له على الله الجنة فبكى ثم قال الله أقال لك جعفر هذا قال فحلفت له إنه قال لي ما قلت لك فقال لي حسبك ومضى فلما كان بعد أيام بعث إلي ودعاني فإذا هو خلف باب داره عريان فقال لي يا أبا بصير ما بقي في منزلي شيء إلا وقد أخرجته وأنا كما ترى فمشيت إلى إخواننا فجمعت له ما كسوته به ثم لم يأت عليه إلا أيام يسيرة حتى بعث إلي أني عليل فأتني فجعلت أختلف إليه وأعالجه حتى نزل به الموت فكنت عنده جالسا وهو يجود بنفسه ثم غشي عليه غشية ثم أفاق فقال يا أبا بصير قد وفى صاحبك لنا ثم مات فحججت فأتيت أبا عبد الله ع فاستأذنت عليه فلما دخلت قال لي ابتداء من داخل البيت وإحدى رجلي في الصحن وأخرى في دهليز داره يا أبا بصير قد وفينا لصاحبك.

وعن عمر بن يزيد قال اشتكى أبو عبد الله شكاة شديدة خفت عليه قلت في نفسي أسأله عن الإمام بعده قال لي مبتدئا ليس علي من وجعي هذا بأس.

وعنه قال دخلت على أبي عبد الله وهو متكئ على فراشه ووجهه إلى الحائط وظهره إلى الباب فقال من هذا فقلت عمر بن يزيد فقال غمز رجلي

__________________

(١) قال ابن الأثير في الحديث نهى عن بيع القينات اي الا ماء المغنيات وتجمع على قيان أيضا.

١٩٤

فقلت في نفسي أسأله عن الإمام بعده أعبد الله أم موسى فرفع رأسه إلي وقال إذا والله لا أجيبك.

وعن هشام بن أحمر قال كتب أبو عبد الله رقعة في حوائج لأشتريها وكتب إذا قرأت الرقعة خرقها فاشتريت الحوائج وأخذت الرقعة فأدخلتها في زنفيلجتي (١) وقلت أتبرك بها قال وقدمت عليه فقال يا هشام اشتريت الحوائج قلت نعم قال وخرقت الرقعة قلت أدخلتها زنفيلجتي وأقفلت عليها الباب أطلب البركة وهو ذا المفتاح في تكتي قال فرفع جانب مصلاه وطرحها إلي وقال خرقها فخرقتها ورجعت ففتشت الزنفيلجة فلم أجد فيها شيئا.

وعن عبد الله بن أبي ليلى قال كنت بالربذة مع المنصور وكان قد وجه إلى أبي عبد الله فأتي به وبعث إلى المنصور فدعاني فلما انتهيت إلى الباب سمعته يقول عجلوا علي به قتلني الله إن لم أقتله سقى الله الأرض من دمي إن لم أسق الأرض من دمه فسألت الحاجب من يعني قال جعفر بن محمد فإذا هو قد أتي به مع عدة جلاوزة (٢) فلما انتهى إلى الباب قبل أن يرفع الستر رأيته قد تململت (٣) شفتاه عند رفع الستر فدخل فلما نظر إليه المنصور قال مرحبا يا ابن عم مرحبا يا ابن رسول الله فما زال يرفعه حتى أجلسه على وسادته ثم دعا بالطعام فرفعت رأسي وأقبلت أنظر عليه ويلقنه جدبا باردا وقضى حوائجه وأمره بالانصراف فلما خرج قلت له قد عرفت موالاتي لك وما قد ابتليت به في دخولي عليهم وقد سمعت كلام الرجل وما كان يقول فلما صرت إلى الباب رأيتك قد تململت شفتاك وما أشك أنه شيء قلته ورأيت ما صنع بك فإن رأيت أن تعلمني ذلك فأقوله إذا دخلت عليه قال نعم قلت ما شاء الله ما شاء الله لا يأتي بالخير إلا الله ما شاء الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ما شاء الله ما شاء الله كل نعمة فمن الله

__________________

(١) الزنفيلجة والزنفيلجة شبه الكنف وهو وعاء أدوات الراعي وهو معرب وأصله بالفارسية «زين‌بيله :».

(٢) جلاوزة جمع الجلواز : الشرطي.

(٣) أي تحركت.

١٩٥

ما شاء الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله.

وعن المفضل بن عمر قال كنا جماعة على باب أبي عبد الله ع فتكلمنا في الربوبية فخرج إلينا أبو عبد الله بلا حذاء ولا رداء وهو ينتفض وهو يقول لا يا خالد لا يا مفضل لا يا سليمان لا يا نجم بل عبيد (مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) فقلت لا والله لا قلت فيك بعد اليوم إلا ما قلت في نفسك.

وعن صفوان الجمال قال كنت عند أبي عبد الله بالحيرة إذ أقبل الربيع فقال أجب أمير المؤمنين فلم يلبث أن عاد فقلت دعاك فأسرعت الانصراف فقال إنه سألني عن شيء فالق الربيع فاسأله عنه كيف صار الأمر الذي سألني عنه قال صفوان وكان بيني وبين الربيع لطيف فخرجت فأتيت الربيع فسألته عما دعا المنصور أبا عبد الله لأجله فقال الربيع أخبرك بالعجب إن الأعراب خرجوا يجتنون الكمأة فأصابوا في البدو خلقا ملقى فأتوني به فأدخلته على المنصور لأعجبه منه فوضعته بين يديه فلما رآه قال نحه وادع لي جعفر بن محمد فدعوته فقال يا أبا عبد الله أخبرني عن الهواء ما فيه فقال في الهواء موج مكفوف فقال فيه سكان قال نعم قال وما سكانه قال خلق أبدانهم خلق الحيتان رءوسهم رءوس الطير ولهم أعراف كأعراف الديكة (١) ونغانغ كنغانغ الديكة (١) وأجنحة كأجنحة الطير في ألوان أشد بياضا من الفضة المجلوة فقال المنصور هلم الطست قال فجئت بها وفيها ذلك الخلق فإذا هو والله كما وصف جعفر بن محمد فلما نظر إليه جعفر قال هذا هو الخلق الذي يسكن الموج المكفوف فأذن له بالانصراف فلما خرج قال ويلك يا ربيع هذا الشجا (٢) المعترض في حلقي من أعلم الناس.

وعن عبد الأعلى وعبيد بن بشير قالا قال أبو عبد الله ابتداء منه والله إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وما في الجنة وما في النار وما كان وما يكون إلى

__________________

(١) العرف ـ بالضم ـ : لحمة مستطيلة في أعلى رأس الديك. والنغانغ جمع النغنغ : ما سال تحت منقاره كاللحية.

(٢) الشجا : ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.

١٩٦

أن تقوم الساعة ثم سكت ثم قال أعلمه من كتاب الله أنظر إليه هكذا ثم بسط كفه وقال إن الله يقول فيه تبيان كل شيء.

وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله أن الله بعث محمدا نبيا فلا نبي بعده أنزل عليه الكتاب فختم به الكتب فلا كتاب بعده أحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم ثم أومأ بيده إلى صدره وقال نحن نعلمه.

وعن يونس بن أبي يعفور عن أخيه عبد الله عن أبي عبد الله قال مروان خاتم بني مروان وإن خرج محمد بن عبد الله قتل.

وعن إسحاق بن عمار قال قلت لأبي عبد الله إن لنا أموالا ونحن نعامل الناس وأخاف إن حدث حدث أن تتفرق أموالنا فقال له اجمع مالك في شهر ربيع الأول قال علي بن إسماعيل فمات إسحاق في شهر ربيع.

وعن إسحاق بن عمار الصيرفي قال دخلت على أبي عبد الله وكنت تركت التسليم على أصحابنا في مسجد الكوفة وذلك لتقية علينا فيها شديدة فقال لي أبو عبد الله يا إسحاق متى أحدثت هذا الجفاء لإخوانك تمر بهم فلا تسلم عليهم فقلت له ذلك لتقية كنت فيها فقال ليس عليك في التقية ترك السلام وإنما عليك في التقية الإذاعة إن المؤمن ليمر بالمؤمنين فيسلم عليهم فترد الملائكة سلام عليك ورحمة الله وبركاته أبدا.

عن مالك الجهني قال كنا بالمدينة حين أجلبت الشيعة وصاروا فرقا فتنحينا عن المدينة ناحية ثم خلونا فجعلنا نذكر فضائلهم وما قالت الشيعة إلى أن خطر ببالنا الربوبية فما شعرنا بشيء إذا نحن بأبي عبد الله واقف على حمار فلم ندر من أين جاء فقال يا مالك ويا خالد متى أحدثتما الكلام في الربوبية فقلنا ما خطر ببالنا إلا الساعة فقال اعلما أن لنا ربا يكلئنا بالليل والنهار (١) نعبده يا مالك ويا خالد قولوا فينا ما شئتم واجعلونا مخلوقين فكررها علينا مرارا وهو واقف

__________________

(١) كلاه اللّه : حفظه وحرسه.

١٩٧

على حماره.

قال أفقر عباد الله تعالى إلى رحمته جامع هذا الكتاب أثابه الله في هذا الكلام وأمثاله من أقوال الغلاة وإن كانت باطلة دلالة على علو شأن الأئمة ع وإتيانهم بالخوارق للعادات وإخبارهم بالأمور المغيبات وتفننهم في إبراز الكرامات والمعجزات فإنهم يرونها منهم مشاهدة وعيانا مرة بعد أخرى ويصادف ذلك أذهانهم وفيها قصور في النظر وضعف في التمييز فيعتقدون هذا الاعتقاد الفاسد المذموم نعوذ بالله تعالى كما جرى للنصارى فإنهم نظروا إلى المسيح عليه أفضل الصلاة والسلام وما يجيء به من الخوارق كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وإطعام الجمع الكثير الطعام القليل وغير ذلك من معجزاته ع فاعتقدوه ربا واتخذوه إلها تعالى الله وتقدس فنظروا جانبا وأهملوا النظر في جانب لضعف تمييزهم فإنهم لو فكروا في أنه ولد من امرأة وأنه كان صغيرا فتنقل في أطوار الخلقة وأنه كان يأكل ويشرب ويبول ويغوط وينام ويسهر ويصح ويسقم ويخاف ويحذر وأنه صلب على زعمهم وأنه كان يصلي ويصوم ويجتهد في العبادة والخضوع لعلموا أن هذه الصفات منافية لصفات الملك فضلا عن الله رب العالمين الذي (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) الذي (يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا والمعبود كيف يعبد والموجود كيف يجحد ولنفي هذا الاحتمال قال الله تعالى (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لئلا تحملهم ما يرونه من معجزاته وآياته على مثل ما يتخيله النصارى نعوذ بالله تعالى ونسأله العصمة وحسن الخاتمة بمنه ورحمته.

وعن أبي حمزة قال دخلت على أبي عبد الله وهو متخل فدخلت فقعدت في جانب البيت فقال لي إن نفسك لتحدثك بشيء وتقول لك إنك مفرط في حبنا أهل البيت وليس هو كما تقول إن المؤمن ليلقى أخاه فيصافحه فيقبل الله عليهما بوجهه وتتحات الذنوب عنهما حتى يفترقا.

وعن أبي بكر الحضرمي قال ذكرنا أمر زيد وخروجه عند أبي عبد الله

١٩٨

فقال عمي مقتول إن خرج قتل فقروا في بيوتكم فو الله ما عليكم بأس فقال رجل من القوم إن شاء الله.

وعن داود بن أعين قال تفكرت في قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قلت خلقوا للعبادة ويعصون ويعبدون غيره والله لأسألن جعفرا عن هذه الآية فأتيت الباب فجلست أريد الدخول عليه إذ رفع صوته فقرأ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ثم قرأ (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فعرفت أنها منسوخة.

عن عمار السجستاني عن أبي عبد الله قال كنت أجيء فأستأذن عليه فجئت ذات ليلة فجلست في فسطاطه بمنى فاستؤذن لشباب كأنهم رجال زط وخرج علي عيسى شلقان فذكرني له فأذن لي فقال يا عمار متى جئت قلت قبل أولئك الشباب الذين دخلوا عليك وما رأيتهم خرجوا قال أولئك قوم من الجن سألوا عن مسائل ثم ذهبوا هذا آخر ما أردت إثباته من كتاب الدلائل للحميري.

قال الراوندي الباب السابع في معجزات جعفر بن محمد الصادق ع. روي عن المفضل بن عمر قال كنت أمشي مع أبي عبد الله بمكة أو بمنى إذ مررنا بامرأة بين يديها بقرة ميتة وهي مع صبية لها يبكون فقال ما شأنك قالت كنت وصبياني نعيش من لبن هذه البقرة وقد ماتت فتحيرت في أمري قال أفتحبين أن يحييها الله لك فقالت أوتسخر مني مع مصيبتي قال كلا ما أردت ذلك ثم دعا بدعاء وركضها برجله وصاح بها فقامت البقرة مسرعة سوية فقالت عيسى ابن مريم ورب الكعبة فدخل الصادق ع بين جمع من الناس فلم تعرفه المرأة.

قال علي بن أبي حمزة حججت مع الصادق ع فجلسنا في بعض الطريق تحت نخلة يابسة فحرك شفتيه بدعاء لم أفهمه ثم قال يا نخلة أطعمينا مما جعل الله فيك من رزق عباده فنظرت إلى النخلة وقد تمايلت نحو الصادق وعليها أعذاقها (١) وفيها الرطب فقال ادن وسم وكل فأكلنا منها رطبا أعذب رطب

__________________

(١) الأعذاق جمع العذق ـ بالكسر ـ : القنو وهو من النخل كالعنقود من العنب.

١٩٩

وأطيبه وإذا نحن بأعرابي يقول ما رأيت كاليوم أعظم سحرا من هذا فقال الصادق نحن ورثة الأنبياء ليس فينا ساحر ولا كاهن بل ندعو الله فيجيب وإن أحببت أن أدعو الله فيمسخك كلبا فتهتدي إلى منزلك فتدخل عليهم فتبصبص لأهلك فعلت قال الأعرابي بجهله نعم فدعا الله فصار كلبا في الوقت ومضى على وجهه فقال لي الصادق اتبعه فاتبعته حتى صار إلى حيه فدخل إلى منزله فجعل يبصبص لأهله وولده فأخذوا له العصا حتى أخرجوه فانصرفت إلى الصادق فأخبرته بما كان فبينا نحن في هذا الحديث إذ أقبل حتى وقف بين يدي الصادق وجعلت دموعه تسيل وأقبل يتمرغ في التراب ويعوي فرحمه فدعا له فصار أعرابيا فقال له الصادق هل آمنت يا أعرابي قال نعم ألفا وألفا.

ومنها ما روي عن يونس بن ظبيان قال كنت عند الصادق ع مع جماعة قلت قول الله لإبراهيم (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) (١) أكانت أربعة من أجناس مختلفة أو من جنس واحد قال أتحبون أن أريكم مثله قلت نعم قال يا طاوس فإذا طاوس طار إلى حضرته فقال يا غراب فإذا غراب بين يديه ثم قال يا بازي فإذا باز بين يديه ثم قال يا حمامة فإذا حمامة بين يديه ثم أمر بذبحها كلها وتقطيعها ونتف ريشها وأن يخلط ذلك كله بعضه ببعض ثم أخذ برأس الطاوس فقال يا طاوس فرأينا لحمه وعظامه وريشه يتميز من غيره حتى التزق ذلك برأسه وقام الطاوس بين يديه حيا ثم صاح بالغراب فقام حيا وبالبازي والحمامة فقامتا كذلك حتى قامت كلها أحياء بين يديه.

ومنها ما روى هشام بن الحكم أن رجلا من أهل الجبل أتى أبا عبد الله ومعه عشرة آلاف درهم وقال اشتر لي بها دارا أنزلها إذا قدمت وعيالي بعدي ثم مضى إلى مكة فلما حج وانصرف أنزله الصادق إلى داره وقال اشتريت لك دارا في الفردوس الأعلى حدها الأول إلى رسول الله ص والثاني إلى علي والثالث إلى الحسن والرابع إلى الحسين وكتبت الصك به فلما سمع الرجل ذلك قال رضيت

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

٢٠٠