كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

الْأَعْلَى وَأَحُوطُهُ بِالْيَدِ الْعُلْيَا وَالْكَفِّ الَّتِي لَا تُرَى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وَحِجَابُ اللهِ دُونَ عَادِيَتِهِمْ لَا يَطُورُهُ وَلَا يَضُرُّهُ فِي مَقْعَدٍ وَلَا مَقَامٍ وَلَا مَسِيرٍ وَلَا مَنَامٍ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَ الْأَيَّامِ.

وَارْتَجَسَ إِيْوَانُ كِسْرَى يَوْمَ وِلَادَتِهِ الرَّجْسُ بِالْفَتْحِ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ مِنَ الرَّعْدِ وَمِنْ هَدِيرِ الْبَعِيرِ وَرُجَّتِ السَّمَاءُ بِالْفَتْحِ تُرَجُّ إِذَا رَعَدَتْ وَتَمَخَّضَتْ وَارْتَجَّتْ مِثْلُهُ وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً (١) وَخَمَدَتْ نِيرَانُ فَارِسَ وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ مُنْذُ أَلْفِ سَنَةٍ وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ (٢) وَرُؤْيَا الْمُؤْبَذَانِ (٣) وَإِنْفَاذُ عَمْرِو بْنِ بُقَيْلَةَ إِلَى شَقٍّ وَسَطِيحٍ الْكَاهِنَيْنِ وَإِخْبَارُهُمَا بِقُرْبِ أَيَّامِهِ لَهُ وَظُهُورِهِ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ قَدْ نَقَلَهَا الرُّوَاةُ وَتَدَاوَلَهَا الْأَخْبَارِيُّونَ وَرَأَى بَعْضُ الْيَهُودِ فِي لَيْلَةِ وِلَادَتِهِ صلی الله علیه وسلم النُّجُومَ وَانْقِضَاضِهَا فَقَالَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وُلِدَ نَبِيٌّ فَإِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُمْنَعُ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَتُرْجَمُ بِالنُّجُومِ لِذَلِكَ وَسَأَلَ هَلْ وُلِدَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِأَحَدٍ فَقِيلَ نَعَمْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ أَرُونِيهِ فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ فِي قِمَاطِهِ فَرَأَى عَيْنَيْهِ وَكَشَفَ عَنْ كَتِفَيْهِ فَرَأَى شَامَةً سَوْدَاءَ وَعَلَيْهَا شَعَرَاتٌ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ فَتَعَجَّبَتْ مِنْهُ قُرَيْشٌ وَضَحِكُوا فَقَالَ أَتَضْحَكُونَ هَذَا نَبِيُّ السَّيْفِ وَلَيُبِيرَنَّكُمْ بَارَ فُلَانٌ إِذَا هَلَكَ وَأَبَارَهُ اللهُ أَهْلَكَهُ وَقَدْ ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْأَبَدِ فَتَفَرَّقُوا يَتَحَدَّثُونَ بِمَا قَالَ.

وَفِي التَّوْرَاةِ مَا حَكَاهُ لِي بَعْضِ الْيَهُودِ وَرَأَيْتُهُ أَنَا فِي تَوْرَاةٍ مُعَرَّبَةٍ وَقَدْ نَقَلَهُ الرُّوَاةُ أَيْضاً إِسْمَاعِيلُ قَبِلْتُ صَلَاتَهُ وَبَارَكْتُ فِيهِ وَأَنْمَيْتُهُ وَكَثَّرْتُ عَدَدَهُ بِ مادماد مَعْنَاهُ بِمُحَمَّدٍ وَعَدَدُ حُرُوفِهِ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ حَرْفاً سَأُخْرِجُ اثْنَيْ عَشَرَ إِمَاماً مَلِكاً مِنْ نَسْلِهِ وَأُعْطِيهِ قَوْماً كَثِيرَ الْعَدَدِ وَأَوَّلُ هَذَا الْفَصْلِ بِالْعِبْرِيِّ لإشموعيل شمعيثوخو (٤).

________________

(١) الشرفة من القصر : ما اشرف من بناته.

(٢) غاض الماء : نقص اوغار فذهب في الارض.

(٣) المؤبذان «كلمة فارسية» : حاكم المجوس وكاهنهم.

(٤) وفي نسخة «شمعيثخو»

٢١

وَلَمَّا سَافَرَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ قَالَ يَا عَمِّ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي وَلَا أَبٌ لِي وَلَا أُمٌّ فَرَقَّ لَهُ فَقَالَ وَاللهِ لَأُخْرِجَنَّكَ مَعِي وَلَا تُفَارِقُنِي أَبَداً وَلَمَّا وَصَلَ مَعَهُ إِلَى بُصْرَى رَآهُ بَحِيرَاءُ الرَّاهِبُ عَنْ بُعْدٍ وَالْغَمَامَةُ تُظِلُّهُ فَصَنَعَ لِقُرَيْشٍ طَعَاماً وَدَعَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ فَحَضَرُوهُ وَتَأَخَّرَ صلی الله علیه وسلم لِصِغَرِ سِنِّهِ فَقَالَ هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ فَقَالُوا نَعَمْ صَبِيٌّ صَغِيرٌ فَقَالَ أُرِيدُهُ فَلَمَّا أَكَلُوا وَانْصَرَفُوا خَلَا بِهِ وَبِعَمِّهِ وَقَالَ يَا غُلَامُ أَسْأَلُكَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى لِأَنَّهُ سَمِعَهُمْ يَحْلِفُونَ بِهَا فَقَالَ لَا تَسْأَلْنِي بِهَا فَوَ اللهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئاً كَبُغْضِي لَهُمَا فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ وَيَقْظَتِهِ وَمَنَامِهِ وَأُمُورِهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا وَافَقَ مَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى ظَهْرِهِ فَرَأَى خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا فَقَالَ لِأَبِي طَالِبٍ مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ قَالَ ابْنِي قَالَ لَيْسَ ابْنَكَ وَمَا يَكُونُ أَبُوهُ حَيّاً قَالَ ابْنُ أَخِي قَالَ وَمَا فَعَلَ أَبُوهُ قَالَ مَاتَ وَأُمُّهُ حُبْلَى بِهِ (١) قَالَ صَدَقْتَ ارْجِعْ بِابْنِ أَخِيكَ وَاحْفَظْهُ مِنَ الْيَهُودِ فَوَ اللهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ مِنْهُ لَيَبْغِيَنَّهُ شَرّاً فَإِنَّهُ صلی الله علیه وسلم كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ وَلَمَّا عَادَ بِهِ عَمُّهُ تَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَبْغُونَ قَتْلَهُ فَرَدَّهُمْ بَحِيرَاءُ وَذَكَرَهُمُ اللهُ وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِهِ.

وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ

شِعْرٌ

إِنَّ ابْنَ آمِنَةَ النَّبِيَّ مُحَمَّداً

عِنْدِي بِمِثْلِ مَنَازِلِ الْأَوْلَادِ

يَذْكُرُ فِيهَا حَالَ بَحِيرَاءَ وَرَدَّ مَنْ رَدَّهُ مِنْ يَهُودَ عَنِ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَبِشَارَةُ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزِنَ (٢) جَدَّهُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بِهِ وَتَعْرِيفُهُ إِيَّاهُ حَالَهُ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ يُهَنِّئُهُ بِعَوْدِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ وهي معروفة منقولة وهذا باب لو أوغلت فيه أطلت ولم أبلغ مدى

________________

(١) ولا يخفى ان ذلك يخالف ما اختاره (ره) فيما سيأتي عند مدة حياته (صلی الله علیه وسلم) من : نه عاش مع اببه سنتان وأربعة أشهر.

(٢) من ملوك اليمن لما ظفر بالحبشة وذلك بعد مولد النبي (صلی الله علیه وسلم) بسنتين اتاه عبد المطلب وأفداً مع سبعة وعشرين رجلا من قريش للتهنئة فاكرمه الملك واخبره باهنه ـ

٢٢

عشيره ولا أتيت مع الإسهاب بيسيره (١).

شعر

وأين الثريا من يد المتناول

وكيف لي بعد الرمال والجنادل (٢)

وأما ما ظهر من معجزاته وآياته صلی الله علیه وسلم بعد بعثته

فالقرآن الذي أخرس الفصحاء عن مجاراته وقيد البلغاء بالعي عن مباراته (٣) فعاد سحبان بيانهم باقلا وتناصروا لمعارضته فلم يجدوا إلا خاذلا وتعاهدوا وتعاقدوا فعدموا معينا ونصيرا وعادوا بالخيبة والخذلان ف (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فأذعنوا منقادين بخزائم الذل والصغار وعنوا خاضعين في ربق الذل والإسار الخزامة حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير يجعل فيها الزمام وجمعها خزائم والربق بالكسر حبل فيه عدة عرى تشد به البهم وهي أولاد الضأن وواحدها بهمة يقع على المذكر والمؤنث والسخال أولاد المعزى فإذا اجتمعت البهام والسخال قيل لهم أبهام وبهم والواحدة من العرى ربقة والجمع ربق وأرباق ورباق ومنها مجيء الشجرة إليه وقد ذكرها علي علیهما السلام في خطبته القاصعة يقال قصعت الرجل قصعا صغرته وحقرته وقصعت هامته إذا ضربتها ببسط كفك وغلام مقصوع إذا بقي قميئا [قميا صغيرا] لا يشب ولا يزداد فتكون هذه الخطبة قد فعلت في الكفار والمنافقين شيئا من هذه الأفعال ـ قَالَ لَهُ الْكُفَّارُ إِنْ دَعَوْتَهَا فَجَاءَتْ آمِناً فَقَالَ أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ فَجَاءَتْ وَلَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ الحديث بتمامه فقالوا (ساحِرٌ كَذَّابٌ). ومنها خُرُوجُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَذَلِكَ حِينَ كَانَ فِي سَفَرٍ

________________

ـ يكون جد النبي المبعوث من تهامة واشهده على نفسه انه مؤمن به وبمايأتى به من عند ربه وكان يتمنى ان يراه وينصره ثم دعا بفرسه العقاب وبغلته الشهباء وناقته الغضباء وسلمها الى عبد المطلب ليسلمها الى محمد (صلی الله علیه وسلم) اذا بلغ مبلغ الرجال.

(١) العشير : الجزء من اجزاء العشرة. والسهاب : الاطالة والاطناب في الطلام.

(٢) الجنادل جمع الجندلة : الصخرة العظيمة.

(٣) جاراء مجراة : جرى معه. والمباراة : المعاوضة

٢٣

وَشَكَا أَصْحَابُهُ الْعَطَشَ وَكَانُوا بِمَعْرَضِ التَّلَفِ فَقَالَ (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي) عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ثُمَّ دَعَا بِرَكْوَةٍ فَصَبَّ فِيهَا مَاءً مَا كَانَ يَرْوِي إِنْسَاناً وَاحِداً وَجَعَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَصِيحَ فِي النَّاسِ اشْرَبُوا فَشَرِبُوا وَسَقَوْا حَتَّى نَهِلُوا وَعَلُّوا النهل الشرب الأول وقد نهل بالكسر وأنهلته أنا لأن الإبل تسقى في أول الورد فترد إلى العطن ثم تسقى الثانية وهي العلل فترد إلى المرعى والعطن والمعطن واحد الأعطان والمعاطن وهي مبارك الإبل عند الماء لتشرب عللا بعد نهل وهم ألوف وهو يقول أشهد أني رسول الله حقا. ومنها حَنِينُ الْجِذْعِ إِلَيْهِ حِينَ كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ وَفَارَقَهُ حِينَ اتَّخَذُوا لَهُ مِنْبَراً فَلَمَّا صَعِدَهُ حَنَّ الْجِذْعُ حَنِينَ النَّاقَةِ الَّتِي فَقَدَتْ وَلَدَهَا ـ. ومنها حَدِيثُ شَاةِ أُمِّ مَعْبَدٍ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَطَلَبُوا مَا يَشْرَبُونَ فَلَمْ يَجِدُوهُ وَقَالَتْ إِنَّا مُرْمِلُونَ فَرَأَى شَاةً فَقَالَ مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ فَقَالَتْ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ (١) عَنِ الْغَنَمِ قَالَ هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ فَقَالَتْ هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَتَأْذَنِينَ فِي أَنْ أَحْلُبَهَا قَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلَباً فَاحْلُبْهَا فَدَعَا بِهَا وَمَسَحَ عَلَى ضَرْعِهَا وَقَالَ اللهُمَّ بَارِكْ لَهَا فِي شَاتِهَا فَتَفَاجَتْ وَدَرَّتْ وَدَعَا بِإِنَاءٍ لَهَا فَسَقَاهَا فَشَرِبَتْ حَتَّى رَوِيَتْ ثُمَّ سَقَى أَصْحَابَهُ فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا وَشَرِبَ هُوَ آخِرَهُمْ وَقَالَ سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْباً وَشَرِبُوا جَمِيعاً عَلَلاً بَعْدَ نَهْلٍ ثُمَّ حَلَبَ ثَانِياً عَوْداً عَلَى بَدْءٍ فَغَادَرَهُ عِنْدَهَا فَجَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ وَمَعَهُ أَعْنُزٌ عِجَافٌ فَرَأَى اللَّبَنَ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا وَلَا حَلُوبَةَ لَكُمْ وَالشَّاةُ عَازِبٌ فَقَالَتْ إِنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ حَدِيثِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ وَحَدَّثَتْهُ الحلب بالتحريك اللبن المحلوب ومصدر حلب الناقة يحلبها حلبا والحلوب والحلوبة ما يحلب وجاء بالهاء لأنك تريد الشيء الذي يحلب أي اتخذوه ليحلبوه وليس لتكثير الفعل وتفاجت فرجت ما بين رجليها ووسعته وتقول فعلت ذلك عودا بعد بدء ورجع عودة على بدأة إذا رجع في الطريق الذي جاء منه والعجف بالتحريك الهزال والأعجف المهزول وقد عجف والأنثى عجفاء والجمع عجاف والعازب البعيد وكيت وكيت يقال بالفتح والكسر والتاء فيها هاء في الأصل فصارت تاء في الوصل ونَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي

________________

(١) اي الهزال ، قاله الجزرى في النهاية في حديث ام معبد.

٢٤

كِتَابِهِ رَبِيعِ الْأَبْرَارِ عَنْ هِنْدِ بِنْتِ الْجَوْنِ قَالَتْ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم خَيْمَةَ خَالَتِهَا أُمِّ مَعْبَدٍ فَقَامَ مِنْ رَقْدَتِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَمَجَّ فِي عَوْسَجَةَ (١) إِلَى جَانِبِ الْخَيْمَةِ فَأَصْبَحْنَا وَهِيَ كَأَعْظَمِ دَوْحَةٌ (٢) وَجَاءَتْ بِثَمَرٍ كَأَعْظَمِ مَا يَكُونُ فِي لَوْنِ الْوَرْسِ (٣) وَرَائِحَةِ الْعَنْبَرِ وَطَعْمِ الشَّهْدِ مَا أَكَلَ مِنْهَا جَائِعٌ إِلَّا وَشَبِعَ وَلَا ظَمْآنُ إِلَّا رَوِيَ وَلَا سَقِيمٌ إِلَّا بَرَأَ وَمَا أَكَلَ مِنْ وَرَقِهَا بَعِيرٌ وَلَا شَاةٌ إِلَّا دَرَّ لَبَنُهَا وَكُنَّا نُسَمِّيهَا الْمُبَارَكَةَ وَيَنْتَابُنَا (٤) مِنَ الْبَوَادِي مَنْ يَسْتَشْفِي بِوَرَقِهَا وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا حَتَّى أَصْبَحْنَا ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَسَاقَطَ ثَمَرُهَا وَصَغُرَ وَرَقُهَا فَفَزِعْنَا فَمَا رَاعَنَا إِلَّا نَعْيُ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَصْبَحَتْ ذَاتَ شَوْكٍ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا وَتَسَاقَطَ ثَمَرُهَا فَذَهَبَ فَمَا شَعَرْنَا إِلَّا بِمَقْتَلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ صلی الله علیه وسلم فَمَا أَثْمَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَكُنَّا نَنْتَفِعُ بِوَرَقِهَا ثُمَّ أَصْبَحْنَا وَإِذَا بِهَا قَدْ نَبَعَ مِنْ سَاقِهَا دَمٌ عَبِيطٌ وَقَدْ ذَبُلَ وَرَقُهَا (٥) فَبَيْنَا نَحْنُ فَزِعُونَ مَهْمُومُونَ إِذْ أَتَانَا مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ علیهما السلام وَيَبِسَتِ الشَّجَرَةُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَذَهَبَتْ والعجب كيف لم يشهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة في قصة هي من أعلام القصص آخر كلامه.

ومنها حَدِيثُ سُرَاقَةَ حِينَ أَدْرَكَهُ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ مُهَاجِراً إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَقَرَّبَ إِلَى قُرَيْشٍ بِأَخْذِهِ وَقَتْلِهِ فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهُ نَالَ غَرَضَهُ دَعَا عَلَيْهِ فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَغَيَّبَتْ بِأَجْمَعِهَا وَهُوَ بِمَوْضِعِ جَدْبٍ وَقَاعٍ صَفْصَفٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ ادْعُ رَبَّكَ يُطْلِقْ قَوَائِمَ فَرَسِي وَلَكَ ذِمَّةُ اللهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَدُلَّ عَلَيْكَ أَحَداً فَدَعَا لَهُ فَوَثَبَ كَأَنَّمَا أَفْلَتَ مِنْ أُنْشُوطَةٍ وَكَانَ رَجُلاً ذَا هَيْئَةٍ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ فَطَلَبَ مِنْهُ أَمَاناً وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ أَجِبِ الَّذِينَ

________________

(١) مج الشيء من فمه : رمى به وعوسجة واحدة الموسج : جنس الشجرات من فصيلة الباذنجانيات ، اغصانه شائكة وازهره مختلفة الالوان.

(٢) الدوحة : الشجرة العطيمة المتسعة.

(٣) الورس : نبات حبه كالسسم اصغر يضبع به وتتخذ منه الغمرة اي الرغفان

(٤) إنتابهم انتيابا : أنا هم مرة بعد اخرى. واتتاب زيد عبرواً : قصده اليه.

(٥) جم عبيط : خالص طرى. وذبل النبات : قل ماؤه وذهبت تضاوته.

٢٥

يَسْأَلُونَكَ عَنَّا فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِي أَنْ أَكْذَبَ فَكَانَ إِذَا سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَنْتَ قَالَ أَنَا بَاغٍ فَإِذَا قِيلَ مَنِ الَّذِي مَعَكَ قَالَ هَادٍ يَهْدِينِي الجدب ضد الخصب والقاع المستوي من الأرض وكذلك الصفصف والجمع أقوع وأقواع قيعان صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها والأنشوطة عقدة يسهل انحلالها يقال نشطت الحبل أنشطها أنشطه نشطا عقدته أنشوطة وأنشطته أحللته يقال كأنما نشط من عقال والباغي الذي ينشد الضالة أي يطلبها وهو صلی الله علیه وسلم الهادي يهدي إلى طرق الرشاد وسبل الخيرات.

ومنها حَدِيثُ الْغَارِ وَكَانَ قَرِيباً مِنْ مَكَّةَ كَانَ يَعْتَوِرُهُ النَّاسُ وَيَأْوِي إِلَيْهِ الرِّعَاءُ فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَأَعْمَاهُمُ اللهُ عَنْهُ وَحُمَّى نَبِيَّهُ مِنْ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ وَهُمْ دُهَاةُ الْعَرَبِ وَأَصْحَابُ تِلْكَ الْأَرْضِ وَالْعَارِفُونَ بِسُبُلِهَا وَمَخَارِمِهَا كَمَا قِيلَ أَهْلُ مَكَّةَ أَعْرَفُ بِشِعَابِهَا

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ السَّيِّدُ الْحِمْيَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ

حَتَّى إِذَا قَصَدُوا لُبَابَ مَغَارِهِ

أَلْفَوْا عَلَيْهِ مِثْلَ نَسْجِ الْعَنْكَبِ (١)

صَنْعَ الْإِلَهِ لَهُمْ فَقَالَ فَرِيقُهُمْ

مَا فِي الْمَغَارِ لِطَالِبٍ مِنْ مَطْلَبٍ

مِيلُوا وَصَدَّهُمُ الْمَلِيكُ وَمَنْ يُرِدْ

عَنْهُ الدِّفَاعَ مَلِيكُهُ لَمْ يَعْطَبْ

 [يَعْتَوِرُهُ النَّاسُ يَقْصِدُونَهُ وَيَتَدَاوَلُونَهُ وَالرِّعَاءُ جَمْعُ رَاعٍ وَالسُّبُلُ الطُّرُقُ وَالْمَخَارِمُ جَمْعُ مَخْرِمٍ بِكِسْرِ الرَّاءِ فَهُوَ مُنْقَطِعُ أَنْفِ الْجَبَلِ وَهِيَ أَفْوَاهُ الْفِجَاجِ وَالْفَجُّ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَالشِّعَابُ جَمْعُ شِعْبٍ وَهُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ وَالْعَنْكَبُ الْعَنْكَبُوتُ].

وَبَعَثَ اللهُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَوَقَعَتَا بِفَمِ الْغَارِ وَأَقْبَلَ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ بِعِصِيِّهِمْ وَسُيُوفِهِمْ حَتَّى إِذَا كَانُوا مِنْهُ بِمِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعاً تَعَجَّلَ رَجُلٌ لِيَنْظُرَ فِي الْغَارِ فَرَجَعَ فَقَالُوا مَا لَكَ لَا تَنْظُرْ فِي الْغَارِ فَقَالَ رَأَيْتُ بِفَمِهِ حَمَامَتَيْنِ وَسَمِعَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم مَا قَالَ فَدَعَا لَهُنَّ.

________________

(١) الغوا : وجدوا.

٢٦

ومنها : كلام الذئب وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً (١) كَانَ فِي غَنَمِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ الذِّئْبُ شَاةً فَأَقْبَلَ يَعْدُو خَلْفَهُ فَطَرَحَهَا وَقَالَ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ تَمْنَعُنِي رِزْقاً سَاقَهُ اللهُ إِلَيَّ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا عَجَبَا لِلذِّئْبِ يَتَكَلَّمُ قَالَ أَنْتُمْ أَعْجَبُ وَفِي شَأْنِكُمْ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ هَذَا مُحَمَّدٌ صلی الله علیه وسلم يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ بِبَطْنِ مَكَّةَ وَأَنْتُمْ عَنْهُ لَاهُونَ فَأَبْصَرَ الرَّجُلُ رُشْدَهُ وَهَدَاهُ اللهُ وَأَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَأَبْقَى لِعَقِبِهِ شَرَفاً وَكَانُوا يُعْرَفُونَ بِبَنِي مُكَلَّمِ الذِّئْبِ.

ومنها : أَنَّهُ كَلَّمَهُ الذِّرَاعُ وَقَالَ إِنِّي مَسْمُومٌ وَذَلِكَ حِينَ أَهْدَتْهُ إِلَيْهِ الْيَهُودِيَّةُ وقصته معروفة.

ومنها : أنه أطعم من القليل الجم الغفير في غير موضع.

ومنها : أَنَّهُ شَكَا إِلَيْهِ قَوْمٌ مُلُوحَةَ بِئْرِهِمْ وَقِلَّةَ مَائِهَا وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ مِنَ الظَّمَاءِ شِدَّةً فَتَفَلَ فِيهَا فَغَزُرَ مَاؤُهَا وَطَابَ وَعَذُبَ وَأَهْلُهَا يَفْخَرُونَ بِهَا وَيَتَوَارَثُونَهَا (٢).

[الْجَمُّ الْغَفِيرُ وَالْجَمَّاءُ الْغَفِيرُ أَيْ جَمَاعَتُهُمُ الشَّرِيفُ وَالْوَضِيعُ الَّذِينَ لَا يُعْلَمُ عَدَدُهُمْ لِكَثْرَتِهِمُ].

ومنها : حَدِيثُ الِاسْتِسْقَاءِ وَذَلِكَ حِينَ شَكَا إِلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَدَعَا اللهَ فَمُطِرُوا حَتَّى أَشْفَقُوا مِنْ خَرَابِ دُورِهَا فَسَأَلُوهُ فِي كَشْفِهِ فَقَالَ اللهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا (٣) فَاسْتَدَارَ حَتَّى صَارَ كَالْإِكْلِيلِ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي الْمَدِينَةِ وَالْمَطَرُ يَجِيءُ عَلَى مَا حَوْلَهَا يَرَى ذَلِكَ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ فَضَحِكَ صلی الله علیه وسلم وَقَالَ لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ حَيّاً قَرَّتْ عَيْنَاهُ فَقَامَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ علیهما السلام وَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ كَأَنَّكَ تُرِيدُ قَوْلَهُ :

شِعْرٌ

وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ

ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ

________________

(١) وفي رواية ابن شهر آشوب : ن ذلك الرجل هو أبو ذر رض الله عنه.

(٢) ولما ادعى مسيلمة النبوة أتته امرأة وطلبت منه ان يدعو الله لمئها ونخلها كما دعى محمد (صلی الله علیه وسلم) لهاذا القوم في بئرهم ففعل مسيلة مثل ما فعله رسول الله (صلی الله علیه وسلم) وتغل في البئر ففار ماؤها ويبس النخل.

(٣) قال الجرزى في حديث الاستسقاء : يريد اللهم انزل الغيث في مواضع النبات لا في مواضع الابنية.

٢٧

يَطُوفُ بِهِ الْهَلَاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ

فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلَ

 [الثمال بالكسر الغياث يقال فلان ثمال قومه أي غياث لهم يقوم بأمرهم. ]

ومنها انشقاق القمر وقصته معروفة وغير ذلك من إخباره بالمغيبات والكائنات مما هو مشهور في الكتب والسير والتواريخ لو تتبع وجمع لجاء في عدة مجاليد ولتعذر جمعه لكثرته وسعة أقطاره ومن أين وكيف يصف اللسان فضله وشرفه وهو خلاصة الوجود أنكره من أنكره وعرفه من عرفه.

فأما أخلاقه وكرمه وشجاعته وفصاحته وأمانته وذكره وشكره وعبادته وكرم عترته وشفقته وأدبه ورفقه وأناته وتجاوزه وبأسه ونجدته وعزمه وهمته وعلمه وحكمته وزهده وورعه ورضاه وصبره وفكره واعتباره وتبصره وخوفه من ربه وخشوعه وتواضعه وخضوعه وكرم آبائه وجدوده وسخاؤه وجوده وصمته وبيانه وصدق لهجته ورعايته للعهد ووفاؤه بالوعد وعدم تلونه واستمرار طريقته وإنصافه في معاملته وحسن خلقه وخلقه وجده ووقاره وضياؤه وأنواره وحياؤه ولينه وثقته ويقينه وعفوه ورحمته وصفحه وقناعته وصدق توكله ومكانته من الله تعالى التي يدل عليها مَا نَقَلْتُهُ مِنْ مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى دَخَلَ نَخْلاً فَسَجَدَ وَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى خِفْتُ أَوْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَوَفَّاهُ وَقَبَضَهُ فَجِئْتُ أَنْظُرُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ مَا لَكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ فَقَالَ لِي إِنَّ جَبْرَئِيلَ علیهما السلام قَالَ لِي أَلَا أُبَشِّرُكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكَ مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لِلَّهِ شُكْراً.

ومن ذلك مَا نَقَلْتُهُ مِنْ كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ لِأَبِي عَمْرٍو الزَّاهِدِ قَالَ أَخْبَرَنِي الْعَطَّافِيُّ عَنْ رِجَالِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ علیهما السلام عَنْ آبَائِهِ الطَّاهِرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَلَا لِيَقُمْ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ لِكَرَامَةِ سَمِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وسلم فانظر إلى شرفه الذي فاق به الأوائل والأواخر مفخرا وتدبر معا في كماله التي بلغت السماء وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا وهذه صفات بلغ فيها النهاية التي أعجزت البشر واستولى

٢٨

على الأمد فيها ومن أبى فقد كفر وتوقل من تحصيل كمالاتها إلى الذروة التي فاقت الشمس والقمر وسبق الأوائل والأواخر إلى قنن الشرف فنهى فيها وأمر وشهد الله سبحانه ببلوغه هذه الكمالات فيما ضمن الآيات والسور ولو أراد مريد أن يجمع في كل صفة من هذه الصفات كتابا مطولا أمكنه لما جمعه الله فيه من محاسنها وخصه به من صفاياها فأما ذكر باقي أحواله ومغازيه وتسمية أعمامه وعماته وذكر أزواجه وذكر عبيده وخيله وسياقة سنته وغير ذلك من أحاديثه وخطبه ومواعظه فليس ذلك من غرض هذا الكتاب فلنقتصر على ما ذكرناه

فصل

قبل الشروع في ذكر علي وأولاده علیهما السلام نذكر شيئا مما يتعلق بفضل بني هاشم وشرفهم وما لهم من المزايا التي فضلوا بها الناس.

ومن ذلك رسالة وقعت إلي من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أذكرها مختصرا لها قال اعلم حفظك الله أن أصول الخصومات معروفة بينة وأبوابها مشهورة كالخصومة بين الشعوبية والعرب والكوفي والبصري والعدناني والقحطاني فهذه الأبواب الثلاثة أنقض للعقول السليمة وأفسد للأخلاق الحسنة من المنازعة في القدر والتشبيه وفي الوعد والوعيد وفي الأسماء والأحكام وفي الآثار وتصحيح الأخبار وأنقض من هذه للعقول تمييز الرجال وترتيب الطبقات وذكر تقديم علي وأبي بكر فأولى الأشياء بك القصد وترك الهوى فإن اليهود نازعت النصارى في المسيح فلج بهما القول حتى قالت اليهود إنه ابن يوسف النجار وإنه لغير رشدة وإنه صاحب نيرنج وخدع ومخاريق وناصب شرك وصياد سمك وصاحب شص وشبك فما يبلغ من عقل صياد وربيب نجار وزعمت النصارى أنه رب العالمين وخالق السماوات والأرضين وإله الأولين والآخرين.

فلو وجدت اليهود أسوأ من ذلك القول لقالته فيه ولو وجدت النصارى أرفع من ذلك القول لقالته فيه وعلى هذا قَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلَانِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ والرأي كل الرأي أن لا يدعوك حب الصحابة إلى بخس عترة

٢٩

الرسول صلی الله علیه وسلم حقوقهم وحظوظهم فإن عمر لما كتبوا الدواوين وقدموا ذكره أنكر ذلك وقال ابدءوا بطرفي رسول الله صلی الله علیه وسلم وضعوا آل الخطاب حيث وضعهم الله قالوا فأنت أمير المؤمنين فأبى إلا تقديم بني هاشم وتأخر نفسه فلم ينكر عليه منكر وصوبوا رأيه وعدوا ذلك من مناقبه.

واعلم أن الله لو أراد أن يسوي بين بني هاشم وبين الناس لما أبانهم بسهم ذوي القربى ولما قال (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وإذا كان لقومه في ذلك ما ليس لغيرهم فكل من كان أقرب كان أرفع ولو سواهم بالناس لما حرم عليهم الصدقة وما هذا التحريم إلا لإكرامهم على الله ـ ولذلك قال للعباس حيث طلب ولاية الصدقات لا أوليك غسالات خطايا الناس وأوزارهم بل أوليك سقاية الحاج والإنفاق على زوار الله ولهذا كان رباه أول ربا وضع ودم ربيعة بن حارث أول دم أهدر لأنهما القدوة في النفس والمال ولهذا قَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام عَلَى مِنْبَرِ الْجَمَاعَةِ نَحْنُ أَهْلُ بَيْتٍ لَا يُقَاسُ بِنَا أَحَدٌ وصدق صلی الله علیه وسلم كيف يقاس بقوم منهم رسول الله صلی الله علیه وسلم والأطيبان علي وفاطمة والسبطان الحسن والحسين والشهيدان أسد الله حمزة وذو الجناحين جعفر وسيد الوادي عبد المطلب وساقي الحجيج العباس وحليم البطحاء والنجدة والخير فيهم والأنصار أنصارهم والمهاجر من هاجر إليهم ومعهم والصديق من صدقهم والفاروق من فرق بين الحق والباطل فيهم والحواري حواريهم وذو الشهادتين لأنه شهد لهم ولا خير إلا فيهم ولهم ومنهم ومعهم وقَالَ علیهما السلام فِيمَا أَبَانَ بِهِ أَهْلَ بَيْتِهِ إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الْخَلِيفَتَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ كِتَابَ اللهِ حَبَلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي نَبَّأَنِي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ولو كانوا كغيرهم لما قال عمر حين طلب مصاهرة علي إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَقُولُ كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي.

واعلم أن الرجل قد ينازع في تفضيل ماء دجلة على ماء الفرات فإن لم يتحفظ وجد في قلبه على شارب ماء دجلة رقة لم يكن يجدها ووجد في قلبه غلظة

٣٠

على شارب ماء الفرات لم يكن يجدها فالحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أبناء نبينا ورسلنا نحكم لجميع المرسلين بالتصديق ولجميع السلف بالولاية ونخص بني هاشم بالمحبة ونعطي كل امرئ قسطه من المنزلة.

فأما علي بن أبي طالب علیهما السلام فلو أفردنا لأيامه الشريفة ومقاماته الكريمة ومناقبه السنية كلاما لأفنينا في ذلك الطوامير الطوال العرق صحيح والمنشأ كريم والشأن عظيم والعمل جسيم والعلم كثير والبيان عجيب واللسان خطيب والصدر رحيب فأخلاقه وفق أعراقه وحديثه يشهد لقديمه وليس التدبير في وصف مثله إلا ذكر جمل قدره واستقصاء جميع حقه فإذا كان كتابنا لا يحتمل تفسير جميع أمره ففي هذه الجملة بلاغ لمن أراد معرفة فضله.

وأما الحسن والحسين علیهما السلام فمثلهما مثل الشمس والقمر فمن أعطي ما في الشمس والقمر من المنافع العامة والنعم الشاملة التامة ولو لم يكونا ابني علي من فاطمة علیهما السلام ورفعت من دهمك كل رواية وكل سبب توجبه القرابة لكنت لا تقرن بهما أحدا من أجلة من أولاد المهاجرين والصحابة إلا أراك فيهما الإنصاف من تصديق قَوْلِ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم إِنَّهُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وجميع من هما سادته سادة والجنة لا تدخل إلا بالصدق والصبر وإلا بالحلم والعلم وإلا بالطهارة والزهد وإلا بالعبادة والطاعة الكثيرة والأعمال الشريفة والاجتهاد والأثرة والإخلاص في النية فدل على أن حظهما في الأعمال المرضية والمذاهب الزكية فوق كل حظ.

وأما محمد ابن الحنفية فقد أقر الصادر والوارد والحاضر والبادي أنه كان واحد دهره ورجل عصره وكان أتم الناس تماما وكمالا.

وأما علي بن الحسين علیهما السلام فالناس على اختلاف مذاهبهم مجمعون عليه لا يمتري أحد في تدبيره ولا يشك أحد في تقديمه وكان أهل الحجاز يقولون لم نر ثلاثة في دهر يرجعون إلى أب قريب كلهم يسمى عليا وكلهم يصلح للخلافة لتكامل خصال الخير فيهم يعنون علي بن الحسين بن علي علیهما السلام وعلي بن عبد الله بن جعفر وعلي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم ولو عزونا لكتابنا هذا ترتيبهم

٣١

لذكرنا رجال أولاد علي لصلبه وولد الحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس إلا أنا ذكرنا جملة من القول فيهم فاقتصرنا من الكثير على القليل.

فأما النجدة فقد علم أصحاب الأخبار وحمال الآثار أنهم لم يسمعوا بمثل نجدة علي بن أبي طالب علیهما السلام وحمزة رضي الله عنه ولا بصبر جعفر الطيار رضوان الله عليه وليس في الأرض قوم أثبت جنانا ولا أكثر مقتولا تحت ظلال السيوف ولا أجدر أن يقاتلوا وقد فرت الأخيار وذهبت الصنائع وخام ذو البصيرة وجاد أهل النجدة من رجالات بني هاشم وهم كما قيل :

شعر

وخام الكمي وطاح اللواء

ولا تأكل الحرب إلا سمينا (١)

وكذلك قال دغفل (٢) حين وصفهم أنجاد أمجاد ذوو ألسنة حداد وكذلك قَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام حِينَ سُئِلَ عَنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي أُمَيَّةَ نَحْنُ أَنْجَدُ وَأَمْجَدُ وَأَجْوَدُ وَهُمْ أَنْكَرُ وَأَمْكَرُ وَأَغْدَرُ وَقَالَ أَيْضاً نَحْنُ أَطْعَمُ لِلطَّعَامِ وَأَضْرَبُ لِلْهَامِ (٣) وقد عرفت جفاء المكيين وطيش المدنيين وأعراق بني هاشم مكية ومناسبهم مدنية ثم ليس في الأرض أحسن أخلاقا ولا أطهر بشرا ولا أدوم دماثة (٤) ولا ألين عريكة ولا أطيب عشيرة ولا أبعد من كبر منهم والحدة لا يكاد يعدمها الحجازي والتهامي إلا أن حليمهم لا يشق غباره وذلك في الخاص والجمهور على خلاف ذلك حتى تصير إلى بني هاشم فالحلم في جمهورهم وذلك يوجد في الناس كافة ولكنا نضمن أنهم أتم الناس فضلا وأقلهم نقصا وحسن الخلق في البخيل أسرع وفي الذليل أوجد وفيهم مع فرط جودهم وظهور عزهم من البشر الحسن والاحتمال وكرم التفاضل

________________

(١) خام : جبن والكمى : الشجاع. وطاح الشيء : ذهب وغنى.

(٢) وهود غفل بن حنظلة النسابة احمد بتى شيبان.

(٣) الهام جمع الهامة : رأس كل شيء.

(٤) الدمائة : سهولة الخلق.

٣٢

ما لا يوجد مع البخيل الموسر والذليل المكثر اللذين يجعلان البشر وقاية دون المال وليس في الأرض خصلة تدعو إلى الطغيان والتهاون بالأمور وتفسد العقول وتورث السكر إلا وهي تعتريهم وتعرض لهم دون غيرهم إذا قد جمعوا من الشرف العالي والمغرس الكريم العز والمنعة مع إبقاء الناس عليهم والهيبة لهم وهم في كل أوقاتهم وجميع أعصارهم فوق من هم على مثل ميلادهم في الهيئة الحسنة والمروءة الظاهرة والأخلاق المرضية وقد عرفت الحدث العزيز من فتيانهم وذوو الغرامة من شبانهم أنه إن افترى لم يفتر عليه وإن ضرب لم يضرب ثم لا تجده إلا قوي الشهوة (١) بعيد الهمة كثير المعرفة مع خفة ذات اليد وتعذر الأمور ثم لا تجد عند أفسدهم شيئا من المنكر إلا رأيت في غيره من الناس أكثر منه من مشايخ القبائل وجمهور العشائر وإذا كان فاضلهم فوق كل فاضل وناقصهم أنقص نقصانا من كل ناقص فأي دليل أدل وأي برهان أوضح مما قلته وقد علمت أن الرجل منهم ينعت بالتعظيم والرواية في دخول الجنة بغير حساب ويتأول القرآن له ويزاد في طمعه بكل حيلة وينقص من خوفه ويحتج له بأن النار لا تمسه وأنه ليشفع في مثل ربيعة ومضر وأنت تجد لهم مع ذلك العدد الكثير من الصوام والمصلين والتالين الذين لا يجارهم أحد ولا يقاربهم.

كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ وَكَذَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ علیهما السلام مع الحلم والعلم وكظم الغيظ والصفح الجميل والاجتهاد المبرز فلو أن خصلة من هذه الخصال أو داعية من هذه الدواعي عرضت لغيرهم لهلك وأهلك.

اعلم أنهم لم يمتحنوا بهذه المحن ولم يتحملوا هذه البلوى إلا لما قدموا من العزائم التامة والأدوات الممكنة ولم يكن الله ليزيدهم في المحنة إلا وهم يزدادون على شدة المحن خبرا وعلى التكشف تهذيبا.

________________

(١) وفي نسخة «القلب» بدل «الشهورة».

٣٣

وجملة أخرى مما لعلي بن أبي طالب علیهما السلام خاصة الأب أبو طالب والجد عبد المطلب بن هاشم والأم فاطمة بنت أسد بن هاشم والزوجة فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وسلم سيدة نساء أهل الجنة والولد الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة والأخ جعفر الطيار في الجنة والعم العباس وحمزة سيد الشهداء في الجنة والعمة صفية بنت عبد المطلب وابن العم رسول الله صلی الله علیه وسلم وأول هاشمي بين هاشميين كان في الأرض ولد أبو طالب والأعمال التي يستحق بها الخير أربعة التقدم في الإسلام والذب عن رسول الله صلی الله علیه وسلم وعن الدين والفقه في الحلال والحرام والزهد في الدنيا وهي مجتمعة في علي بن أبي طالب متفرقة في الصحابة وفي علي يقول أسد بن رقيم يحرض عليه قريشا وإنه قد بلغ منهم على حداثة سنه ما لم يبلغه ذوو الأسنان

شعر

في كل مجمع غاية أخزاكم

جذع أبر على المذاكي القرحي (١)

لله دركم ألما تنكروا

قد ينكر الضيم الكريم ويستحي (٢)

هذا ابن فاطمة الذي أفناكم

ذبحا ويمشي آمنا لم يجرح

أين الكهول وأين كل دعامة

للمعضلات وأين زين الأبطح (٣)

أفناهم ضربا بكل مهند

صلت وحد غزاره لم يصفح (٤)

وأما الجود فليس على ظهر الأرض جواد جاهلي ولا إسلامي ولا عربي ولا عجمي إلا وجوده يكاد يصير بخلا إذا ذكر جود علي بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وعبد الله

________________

(١) الجذع يقتحتبن : الشاب الحدث وابر علمه ـ بتشديد الراء ـ غلبة وفاق عليه والمذا جمع المذكي : الرجل المسن الذى تقدم اقرانه في العمر. والقرح بتشديد الراء ـ : جمع القارح وهو من الفرس : الذى كل سنة وانتهت اسنانه.

(٢) الضيم : الظلم.

(٣) دعامة القوم : سيدهم.

(٤) المهند : السيف المطبوع من حديد الهند والصلت من السيوف : الصقيل الماضي والغرار بمعني الكثرة.

٣٤

بن عباس والمذكورون بالجود منهم كثير لكنا اقتصرنا ثم ليس في الأرض قوم أنطق خطيبا ولا أكثر بليغا من غير تكلف ولا تكسب من بني هاشم وقال أبو سفيان بن الحرث :

شعر

لقد علمت قريش غير فخر

بأنا نحن أجودهم حصانا

وأكثرهم دروعا سابغات

وأمضاهم إذا طعنوا سنانا (١)

وأدفعهم عن الضراء فيهم

وأثبتهم إذا نطقوا لسانا

ومما يضم إلى جملة القول في فضل علي بن أبي طالب علیهما السلام أنه أطاع قبلهم ومعهم وبعدهم وامتحن بما لم يمتحن به ذو عزم وابتلي بما لم يبتل به ذو صبر.

وأما جملة القول في ولد علي علیهما السلام فإن الناس لا يعظمون أحدا من الناس إلا بعد أن يصيبوا منهم وينالوا من فضلهم وإلا بعد أن تظهر قدرتهم وهم معظمون قبل الاختبار وهم بذلك واثقون وبه موقنون فلو لا أن هناك سرا كريما وخيما عجيبا وفضلا مبينا وعرقا ناميا لاكتفوا بذلك التعظيم ولم يعانوا تلك التكاليف الشداد والمحن الغلاظ.

وأما المنطق والخطب فقد علم الناس كيف كان علي بن أبي طالب عند التفكير والتحبير وعند الارتجال والبدأة وعند الإطناب والإيجاز في وقتيهما وكيف كان كلامه قاعدا وقائما وفي الجماعات ومنفردا مع الخبرة بالأحكام والعلم بالحلال والحرام وكيف كان عبد الله بن العباس رضوان الله عليه الذي كان يقال له الحبر والبحر ومثل عمر بن الخطاب يقول له غص يا غواص وشنشنة أعرفها من أخزم قلب عقول ولسان قئول ولو لم يكن لجماعتهم إلا لسان زيد بن علي بن الحسين وعبد الله بن معاوية بن جعفر لقرعوا بهما جميع البلغاء وعلوا بهما على جميع الخطباء ولذلك قالوا أجواد أمجاد وألسنة حداد وقد ألقيت

________________

(١) درع سابتة اى واسعة.

٣٥

إليك جملة من ذكر آل الرسول يستدل بالقليل منها على الكثير وبالبعض على الكل والبغية في ذكرهم أنك متى عرفت منازلهم ومنازل طاعاتهم ومراتب أعمالهم وأقدار أفعالهم وشدة محنتهم وأضفت ذلك إلى حق القرابة كان أدنى ما يجب علينا وعليك الاحتجاج لهم وجعلت بدل التوقف في أمرهم الرد على من أضاف إليهم ما لا يليق بهم وقد تقدم من قولنا فيهم متفرقا ومجملا ما أغنى عن الاستقصاء في هذا الكتاب (تمت الرسالة وهي بخط عبد الله بن الحسن الطبري).

ووقع إلي رسالة أخرى من كلامه أيضا في التفضيل أثبتها أيضا مختصرا ألفاظها وترجمتها.

رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في الترجيح والتفضيل نسخ من مجموع للأمير أبي محمد الحسن بن عيسى المقتدر بالله قال هذا كتاب من اعتزل الشك والظن والدعوى والأهواء وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله وطاعة رسوله صلی الله علیه وسلم وإجماع الأمة بعد نبيها علیهما السلام مما تضمنه الكتاب والسنة وترك القول بالآراء فإنها تخطئ وتصيب لأن الأمة أجمعت أن النبي صلی الله علیه وسلم شاور أصحابه في الأسرى ببدر واتفق رأيهم على قبول الفداء منهم فأنزل الله تعالى (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية فقد بان لك أن الرأي يخطئ ويصيب ولا يعطي اليقين وإنما الحجة لله ولرسوله وما أجمعت عليه الأمة من كتاب الله وسنة نبيها ونحن لم ندرك النبي ولا أحدا من أصحابه الذين اختلفت الأمة في أحقهم فنعلم أيهم أولى ونكون معهم كما قال تعالى (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ونعلم أيهم على الباطل فنجتنبهم وكما قال تعالى (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) حتى أدركنا العلم فطلبنا معرفة الدين وأهله وأهل الصدق والحق فوجدنا الناس مختلفين يبرأ بعضهم من بعض ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان

أحدهما قالوا إن النبي صلی الله علیه وسلم مات ولم يستخلف أحدا وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه فاختاروا أبا بكر.

والآخرون قالوا إن النبي صلی الله علیه وسلم استخلف عليا فجعله إماما للمسلمين بعده

٣٦

وادعى كل فريق منهم الحق فلما رأينا ذلك وقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحق من المبطل.

فسألناهم جميعا هل للناس بد من وال يقيم أعيادهم ويجبي زكواتهم ويفرقها على مستحقيها ويقضي بينهم ويأخذ لضعيفهم من قويهم ويقيم حدودهم فقالوا لا بد من ذلك فقلنا هل لأحد أن يختار أحدا فيوليه بغير نظر في كتاب الله وسنة نبيه صلی الله علیه وسلم فقالوا لا يجوز ذلك إلا بالنظر فسألناهم جميعا عن الإسلام الذي أمر الله به فقالوا إنه الشهادتان والإقرار بما جاء من عند الله والصلاة والصوم والحج بشرط الاستطاعة والعمل بالقرآن يحل حلاله ويحرم حرامه فقبلنا ذلك منهم ثم سألناهم جميعا هل لله خيرة من خلقه اصطفاهم واختارهم فقالوا نعم فقلنا ما برهانكم فقالوا قوله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) من أمرهم فسألناهم من الخيرة فقالوا هم المتقون قلنا ما برهانكم قالوا قوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فقلنا هل لله خيرة من المتقين قالوا نعم المجاهدون بأموالهم بدليل قوله تعالى (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) فقلنا هل لله خيرة من المجاهدين قالوا جميعا نعم السابقون من المهاجرين إلى الجهاد بدليل قوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) الآية فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه وعلمنا أن خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد ثم قلنا هل لله منهم خيرة قالوا نعم قلنا من هم قالوا أكثرهم عناء في الجهاد وطعنا وضربا وقتلا في سبيل الله بدليل قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) فقبلنا ذلك منهم وعلمناه وعرفنا أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناء وأبذلهم لنفسه في طاعة الله وأقتلهم لعدوه فسألناهم عن هذين الرجلين علي بن أبي طالب علیهما السلام وأبي بكر أيهما كان أكثر عناء في الحرب وأحسن بلاء في سبيل الله فأجمع الفريقان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه كان أكثر طعنا وضربا وأشد قتالا وأذب عن دين الله ورسوله صلی الله علیه وسلم فثبت بما ذكرناه من إجماع الفريقين ودلالة

٣٧

الكتاب والسنة أن عليا علیهما السلام أفضل.

وسألناهم ثانيا عن خيرته من المتقين فقالوا هم الخاشعون بدليل قوله تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) إلى قوله (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) وقال تعالى (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) ثم سألناهم من الخاشعون قالوا هم العلماء لقوله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ثم سألناهم جميعا من أعلم الناس قالوا أعلمهم بالقول وأهداهم إلى الحق وأحقهم أن يكون متبوعا ولا يكون تابعا بدليل قوله تعالى (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فجعل الحكومة إلى أهل العدل فقبلنا ذلك منهم ثم سألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو قالوا أدلهم عليه قلنا فمن أدل الناس عليه قالوا أهداهم إلى الحق وأحقهم أن يكون متبوعا ولا يكون تابعا بدليل قوله تعالى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) الآية فدل كتاب الله وسنة نبيه علیهما السلام والإجماع أن أفضل الأمة بعد نبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیهما السلام لأنه إذا كان أكثرهم جهادا كان أتقاهم وإذا كان أتقاهم كان أخشاهم وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم وإذا كان أعلمهم كان أدل على العدل وإذا كان أدل على العدل كان أهدى الأمة إلى الحق وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعا وأن يكون حاكما لا تابعا ولا محكوما عليه.

وأجمعت الأمة بعد نبيها أنه خلف كتاب الله تعالى ذكره وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر وإلى سنة نبيه صلی الله علیه وسلم فيتدبرونها ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه فإذا قرأ قارئهم (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) فيقال له أثبتها ثم يقرأ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) وفي قراءة ابن مسعود إن خيركم عند الله أتقاكم ثم يقرأ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) فدلت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشعون ثم يقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فيقال له اقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) علم أن العلماء أفضل من غيرهم ثم يقال اقرأ فإذا بلغ إلى قوله تعالى (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) قيل قد دلت هذه

٣٨

الآية على أن الله تعالى قد اختار العلماء وفضلهم ورفعهم درجات وقد أجمعت الأمة على أن العلماء من أصحاب رسول الله صلی الله علیه وسلم الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة علي بن أبي طالب علیهما السلام وعبد الله بن العباس وابن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وقالت طائفة عمر بن الخطاب رض فسألنا الأمة من أولى الناس بالتقديم إذا حضرت الصلاة فقالوا إِنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم قَالَ يَؤُمُّ بِالْقَوْمِ أَقْرَؤُهُمْ ثم أجمعوا أن الأربعة كانوا أقرأ لكتاب الله تعالى من عمر فسقط عمر ثم سألنا الأمة أي هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب الله وأفقه لدينه فاختلفوا فوقفناهم حتى نعلم ثم سألناهم أيهم أولى بالإمامة ـ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم قَالَ الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ فسقط ابن مسعود وزيد بن ثابت وبقي علي بن أبي طالب وابن عباس فسألنا أيهما أولى بالإمامة فأجمعوا على أَنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم قَالَ إِذَا كَانَا عَالِمَيْنِ فَقِيهَيْنِ قُرَشِيَّيْنِ فَأَكْبَرُهُمَا سِنّاً وَأَقْدَمُهُمَا هِجْرَةً فسقط عبد الله بن العباس وبقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلی الله علیه وسلم فيكون أحق بالإمامة لما أجمعت عليه الأمة ولدلالة الكتاب والسنة عليه هذا آخر رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.

أقول : إن أبا عثمان من رجال الإسلام وأفراد الزمان في الفضل والعلم وصحة الذهن وحسن الفهم والاطلاع على حقائق العلوم والمعرفة بكل جليل ودقيق ولم يكن شيعيا فيتهم وكان عثمانيا مروانيا وله في ذلك كتب مصنفة وقد شهد في هاتين الرسالتين من فضل بني هاشم وتقديمهم وفضل علي علیهما السلام وتقديمه بما لا شك فيه ولا شبهة وهو أشهر من فلق الصباح وهذا إن كان مذهبه فذاك وليس بمذهبه وإلا فقد أنطقه الله تعالى بالحق وأجرى لسانه بالصدق وقال ما يكون حجة عليه في الدنيا والآخرة ونطق بما لو اعتقد غيره لكان خصمه في محشره فإن الله عند لسان كل قائل فلينظر قائل ما يقول وأصعب الأمور وأشقها أن يذكر الإنسان شيئا يستحق به الجنة ثم يكون ذلك موجبا لدخوله النار نعوذ بالله من ذلك.

٣٩

شعر

أحرم منكم بما أقول وقد

نال به العاشقون من عشق

صرت كأني ذبالة نصبت

تضيء للناس وهي تحترق (١)

وليكن هذا القدر كافيا فإنه حيث ثبت ما طلبناه بشهادة هذا الرجل شرعنا فيما نحن بصدده بعون الله وحوله ولا بد من ذكر أشياء مهمة نقدمها أمام ما وجهنا إليه وجه قصدنا وصرفنا إليه اهتمامنا وبالله التوفيق.

فمن ذلك تفسير معنى قولهم آل الرسول وأهل البيت والعترة وتبيين من هم وما ورد في ذلك من الأخبار وأقوال أرباب اللغة قال أبو عبد الله الحسين بن خالويه الآل ينقسم في اللغة خمسة وعشرين قسما آل الله قريش قال الشاعر هو عبد المطلب :

شعر

نحن آل الله في كعبته

لم يزل ذاك على عهد إبرهم (٢)

وقال آخرون أراد نحن آل بيت الله أي قطان مكة وسكان حرم الله والعرب تقول في الاستغاثة يال الله يريدون قريشا وآل محمد صلی الله علیه وسلم بنو هاشم من آل إليه بحسب أو قرابة وقيل آل محمد صلی الله علیه وسلم كل تقي وقيل آل محمد من حرمت عليه الصدقة فأما قوله تعالى (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قيل يرث نبوتهم وعلمهم عن الحسن البصري وقوله تعالى (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) وقال ابن عباس ورثه الحبورة يعني العلم والحكمة ولذلك سمي العالم حبرا من الحبار وهو الحسن والجمال وآل الله أهل القرآن قَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ قِيلَ مَنْ هُمْ قَالَ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَهْلُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وإذا فضل الله شيئا نسبه

________________

(١) الذبالة : الفتيلة

(٢) ابرهم مخفف ابراهيم.

(٣) مريم : ٦.

(٤) النمل : ١٦.

٤٠