كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

وَأَنْتَ حَاسِرٌ (١) وَهُوَ مُدَجَّجٌ فِي الْحَدِيدِ؟ (٢) فَقَالَ علیهما السلام لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ ثُمَّ نَادَى ثَانِيَةً فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَدَنَا مِنْهُ حَتَّى وَاقَفَهُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ علیهما السلام يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقَالَ الطَّلَبُ بِدَمِ عُثْمَانَ فَقَالَ علیهما السلام أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ قَتَلْتُمُوهُ فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُقِيدَ مِنْ نَفْسِكَ وَلَكِنْ أَنْشُدُكَ اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وسلم أَمَا تَذْكُرُ يَوْماً قَالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَا زُبَيْرُ أَتُحِبُّ عَلِيّاً فَقُلْتَ وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ حُبِّهِ وَهُوَ ابْنُ خَالِي فَقَالَ لَكَ أَمَا أَنْتَ فَسَتَخْرُجُ عَلَيْهِ يَوْماً وَأَنْتَ لَهُ ظَالِمٌ فَقَالَ الزُّبَيْرُ اللهُمَّ بَلَى فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فَقَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام فَأَنْشُدُكَ اللهَ الَّذِي أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وسلم أَمَا تَذْكُرُ يَوْماً جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَوْفٍ وَأَنْتَ مَعَهُ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِكَ فَاسْتَقْبَلْتُهُ أَنَا فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَضَحِكَ فِي وَجْهِي وَضَحِكْتُ أَنَا إِلَيْهِ فَقُلْتَ أَنْتَ لَا يَدَعُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ زَهْوَهُ أَبَداً فَقَالَ لَكَ النَّبِيُّ مَهْلاً يَا زُبَيْرُ فَلَيْسَ بِهِ زَهْوٌ (٣) وَلَتَخْرُجَنَّ عَلَيْهِ يَوْماً وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ فَقَالَ الزُّبَيْرُ اللهُمَّ بَلَى وَلَكِنْ أُنْسِيتُ فَأَمَّا إِذَا ذَكَّرْتَنِي ذَلِكَ فَلَأَنْصَرِفَنَّ عَنْكَ وَلَوْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَمَا خَرَجْتُ عَلَيْكَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ وَاللهِ وَرَائِي أَنِّي مَا وَقَفْتُ مَوْقِفاً فِي شِرْكٍ وَلَا إِسْلَامٍ إِلَّا وَلِي فِيهِ بَصِيرَةٌ وَأَنَا الْيَوْمَ عَلَى شَكٍّ مِنْ أَمْرِي وَمَا أَكَادُ أُبْصِرُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ ثُمَّ شَقَّ الصُّفُوفَ وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَنَزَلَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَامَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنِ جُرْمُوزٍ الْمُجَاشِعِيُّ فَقَتَلَهُ حِينَ نَامَ وَكَانَ فِي ضِيَافَتِهِ فَنَفَذَتْ دَعْوَةُ عَلِيٍّ علیهما السلام فِيهِ.

وَأَمَّا طَلْحَةُ فَجَاءَهُ سَهْمٌ وَهُوَ قَائِمٌ لِلْقِتَالِ فَقَتَلَهُ ثُمَّ الْتَحَمَ الْقِتَالُ.

وَقَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام يَوْمَ الْجَمَلِ (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (٤) ثُمَّ حَلَفَ حِينَ

________________

(١) الحاسر : من لامغفر له ولا درع.

(٢) المدجج : الشاكي السلاح يقال : تدجج في سلاحة : اذا دخل فيه (منه در)

(٣) الزهو : الكبر والفخر (ه. م).

٢٤١

قَرَأَهَا أَنَّهُ مَا قُوتِلَ عَلَيْهَا مُنْذُ نَزَلَتْ حَتَّى الْيَوْمَ وَاتَّصَلَ الْحَرْبُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ وَالْجَرْحُ ثُمَّ تَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْجَمَلِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ فَجَالَ بَيْنَ الصُّفُوفِ وَقَالَ أَيْنَ أَبُو الْحَسَنِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ علیهما السلام وَشَدَّ عَلَيْهِ وَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَأَسْقَطَ عَاتِقَهُ وَوَقَعَ قَتِيلاً فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَقَدْ رَأَيْتَ أَبَا الْحَسَنِ فَكَيْفَ وَجَدْتَهُ وَلَمْ يَزَلِ الْقَتْلُ يُؤَجِّجُ نَارَهُ وَالْجَمَلُ يُفْنِي أَنْصَارَهُ حَتَّى خَرَجَ رَجُلٌ مَدَجَّجٌ يُظْهِرُ بَأْساً وَيُعَرِّضُ بِذِكْرِ عَلِيٍّ علیهما السلام حَتَّى قَالَ

أَضْرِبُكُمْ وَلَوْ رَأَى عَلِيّاً

عَمَّمْتُهُ أَبْيَضَ مَشْرَفِيّاً

فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ علیهما السلام مُتَنَكِّراً وَضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَرَمَى بِنِصْفِ قِحْفِ رَأْسِهِ (١) فَسَمِعَ صَائِحاً مِنْ وَرَائِهِ فَالْتَفَتَ فَرَأَى ابْنَ أَبِي خَلَفٍ الْخُزَاعِيَّ مِنْ أَصْحَابِ الْجَمَلِ فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي الْمُبَارَزَةِ يَا عَلِيُّ فَقَالَ عَلِيٌّ مَا أَكْرَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ وَيْحَكَ يَا ابْنَ أَبِي خَلَفٍ مَا رَاحَتُكَ فِي الْقَتْلِ وَقَدْ عَلِمْتَ مَنْ أَنَا فَقَالَ ذَرْنِي يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ مِنْ بَذْخِكَ بِنَفْسِكَ (٢) وَادْنُ مِنِّي لِتَرَى أَيُّنَا يَقْتُلُ صَاحِبَهُ فَثَنَى عَلِيٌّ عَنَانَ فَرَسِهِ إِلَيْهِ فَبَدَرَهُ ابْنُ خَلَفٍ بِضَرْبَةٍ فَأَخَذَهَا عَلِيٌّ فِي جَحْفَتِهِ (٣) ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِضَرْبَةٍ أَطَارَ بِهَا يَمِينَهُ ثُمَّ ثَنَى بِأُخْرَى أَطَارَ بِهَا قِحْفَ رَأْسِهِ وَاسْتَعَرَّ الْحَرْبُ حَتَّى عُقِرَ الْجَمَلُ وَسَقَطَ وَقَدِ احْمَرَّتِ الْبَيْدَاءُ بِالدِّمَاءِ وَخُذِلَ الْجَمَلُ وَحِزْبُهُ وَقَامَتِ النَّوَادِبُ بِالْبَصْرَةِ عَلَى الْقَتْلَى.

وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ قُتِلَ مِنْ جُنْدِ الْجَمَلِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفاً وَسَبْعَمِائَةٍ وَتِسْعِينَ إِنْسَاناً وَكَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفاً فَأَتَى الْقَتْلُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِمْ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ علیهما السلام أَلْفٌ وَسَبْعُونَ رَجُلاً وَكَانُوا عِشْرِينَ أَلْفاً.

وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ الْمَعْرُوفُ بِالسَّجَّادِ قَدْ خَرَجَ مَعَ أَبِيهِ وَأَوْصَى عَلِيٌّ علیهما السلام عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَقْتُلَهُ مَنْ عَسَاهُ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ وَكَانَ شِعَارُ أَصْحَابِ عَلِيٍّ علیهما السلام (حم) فَلَقِيَهُ شُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى

________________

(١) القحف ـ بالكسر ـ : ما انفلق من الجمجمة فبان اى انفصل ولا يدعي قحفا حتى بين او يتكسر منه شيء

(٢) البدخ : الكبر «ه. م»

(٣) الجحفة ـ محركة ـ : واحدة الجحف وهو الترس بلا خشب ولا عقب.

٢٤٢

الْعَبْسِيُّ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ علیهما السلام فَطَعَنَهُ فَقَالَ (حم) وَقَدْ سَبَقَ كَمَا قِيلَ السَّيْفُ الْعَذْلُ فَأَتَى عَلَى نَفْسِهِ قَالَ شُرَيْحٌ هَذَا :

وَأَشْعَثُ قَوَّامٌ بِآيَاتِ رَبِّهِ

قَلِيلُ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنَ مُسْلِمٌ

شَكَكْتُ بِصَدْرِ الرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ

فَخَرَّ صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ

عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرِ أَنْ لَيْسَ تَابِعاً

عَلِيّاً وَمَنْ لَمْ يَتْبَعِ الْحَقَّ يَنْدَمُ

يَذْكُرُنِي (حم) وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ

(فَهَلَّا تَلَا) (حم) (قَبْلَ التَّقَدُّمِ) (١)

وَجَاءَ عَلِيٌّ علیهما السلام فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا رَجُلٌ قَتَلَهُ بِرُّهُ بِأَبِيهِ.

وَكَانَ مَالِكٌ الْأَشْتَرُ قَدْ لَقِيَ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فِي الْمَعْرَكَةِ وَوَقَعَ عَبْدُ اللهِ إِلَى الْأَرْضِ وَالْأَشْتَرُ فَوْقَهُ فَكَانَ يُنَادِي اقْتُلُونِي وَمَالِكاً فَلَمْ يَنْتَبِهْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْجَمَلِ لِذَلِكَ وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ الْأَشْتَرُ لَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَفْلَتَ عَبْدُ اللهِ مِنْ يَدِهِ وَهَرَبَ فَلَمَّا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَدَخَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَدَخَلَ عَلَيْهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَمَعَهُ الْأَشْتَرُ فَقَالَتْ مَنْ مَعَكَ يَا أَبَا الْيَقْظَانِ فَقَالَ مَالِكٌ الْأَشْتَرُ فَقَالَتْ أَنْتَ فَعَلْتَ بِعَبْدِ اللهِ مَا فَعَلْتَ فَقَالَ نَعَمْ فَلَوْ لَا كَوْنِي شَيْخاً كَبِيراً وَطَاوِياً (٢) لَقَتَلْتُهُ وَأَرَحْتُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ قَالَتْ أَوَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ إِلَّا عَنْ كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ النَّفْسِ (الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) قَتْلَهَا فَقَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَحَدِ الثَّلَاثَةِ قَاتَلْنَاهُ.

ثُمَّ أَنْشَدَ

أَعَائِشُ لَوْ لَا أَنَّنِي كُنْتُ طَاوِياً

ثَلَاثاً لَأَلْقَيْتَ ابْنَ أُخْتِكِ هَالِكاً

عَشِيَّةَ يَدْعُو وَالرِّمَاحُ تَحُوزُهُ

بِأَضْعَفِ صَوْتٍ اقْتُلُونِي وَمَالِكاً

فَلَمْ يَعْرِفُوهُ إِذْ دَعَاهُمْ وَعَمُّهُ

خَدَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَجَاجَةِ بَارِكاً (٣)

________________

(١) شعر فلان بالرمح : طعنه به.

(٢) الظاوي : الجايع.

(٣) الخدب ـ كسر الخاء وفتح الدال ـ : الرجل الضخم الطويل. والمجاجة : الفبار.

٢٤٣

فَنَجَّاهُ مِنِّي أَكْلُهُ وَشَبَابُهُ

وَأَنِّي شَيْخٌ لَمْ أَكُنْ مُتَمَاسِكاً

وَعَنْ زِرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيّاً علیهما السلام يَقُولُ أَنَا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ وَلَوْ لَا أَنَا مَا قُتِلَ أَهْلُ النَّهْرِ وَأَهْلُ الْجَمَلِ وَلَوْ لَا أَنَّنِي أَخْشَى أَنْ تَتْرُكُوا الْعَمَلَ لَأَنْبَأْتُكُمْ بِالَّذِي قَضَى اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلی الله علیه وسلم لِمَنْ قَاتَلَهُمْ مُسْتَبْصِراً ضَلَالَهُمْ عَارِفاً لِلْهُدَى الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. (١)

وعلى هذا قيل حضر جماعة من قريش عند معاوية وعنده عدي بن حاتم وكان فيهم عبد الله بن الزبير فقالوا يا أمير المؤمنين ذرنا نكلم عديا فقد زعموا أن عنده جوابا فقال إني أحذركموه فقالوا لا عليك دعنا وإياه فقال له ابن الزبير يا أبا طريف متى فقئت عينك قال يوم فر أبوك وقتل شر قتلة وضربك الأشتر على استك فوقعت هاربا من الزحف وأنشد

أما وأبي يا ابن الزبير لو أنني

لقيتك يوم الزحف ما رمت لي سخطا

وكان أبي في طي وأبو أبي

صحيحين لم تنزع عروقهما القبطا

ولو رمت شتمي عند عدل قضاؤه

لرمت به يا ابن الزبير مدى شحطا

فقال معاوية قد كنت حذرتكموه فأبيتم الحديث ذو شجون. (٢)

وندمت عائشة على ما وقع منها وكانت لا تذكر يوم الجمل إلا أظهرت أسفا وأبدت ندما وبكت.

وَنَقَلْتُ مِنْ رَبِيعٍ الْأَبْرَارِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ جُمَيْعُ بْنُ عُمَيْرٍ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ مَنْ كَانَ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَقَالَتْ فَاطِمَةُ صلی الله علیه وسلم قُلْتُ لَهَا إِنَّمَا أَسْأَلُكِ عَنِ الرِّجَالِ قَالَتْ زَوْجُهَا وَمَا يَمْنَعُهُ فَوَ اللهِ إِنَّهُ كَانَ لَصَوَّاماً قَوَّاماً وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فِي يَدِهِ فَرَدَّهَا إِلَى فِيهِ قُلْتُ فَمَا حَمَلَكِ عَلَى

________________

(١) وفي بعض النسخ «نحن فيه».

(٢) الشجون جمع الشجن : الشعبة من كل شيء ، و «الحديث ذو شجون اى فنون متشبه تأخذ منه في طرف فلا تلبث حتى تكون في آخر ويعرض لك منه ما لم تكن تقصده.

٢٤٤

مَا كَانَ فَأَرْسَلَتْ خِمَارَهَا عَلَى وَجْهِهَا وَبَكَتْ وَقَالَتْ أَمْرٌ قُضِيَ عَلَيَّ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لَهَا قَبْلَ مَوْتِهَا أَنَدْفِنُكِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَقَالَتْ لَا إِنِّي أَحْدَثْتُ بَعْدَهُ

والحال في حرب أصحاب الجمل معروفة تحتمل الإطالة فاقتصرت منها على هذا القدر.

وكانت حروبه صلی الله علیه وسلم مشكلة على من لم يؤت نور البصيرة فقعد عنه قوم وشك فيه آخرون وما فيهم إلا من عرف أن الحق معه وندم على التخلف عنه وكيف لا يكون الحق معه والصواب فيما رواه والرشد فيما أتاه وأَدْعِيَةُ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم قَدْ سَبَقَتْ لَهُ اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ وَأَدِرِ الْحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ كَيْفَ دَارَ وإذا كان دعاء النبي صلی الله علیه وسلم مستجابا لزم أن ولي علي ولي الله وأولياؤه مؤمنون وعدو علي عدو الله وأعداؤه كافرون وأن ناصره منصور وخاذله مخذول وأن الحق يدور معه ويتصرف بتصرفه ولا يفارقه ولا يزايله فكلما فعله كان فيه مصيبا ومن خالفه في أمر أو نابذه في حال أو منعه شيئا يريده أو حمله على ما يكرهه أو عصاه فيما يأمره به أو غصبه حقا أو شك فيه أو لامه على حركاته وسكناته وقضاياه وتصرفاته كان بمدلول دعاء النبي صلی الله علیه وسلم مخطئا لأن من أقدم على شيء من ذلك كان عدوا له علیهما السلام وعدوه عدو الله وعدو الله كافر وهذا واضح فتأمل.

ومن حروبه حرب صفين

المشتملة على وقائع يضطرب لها فؤاد الجليد ويشيب لهولها فود الوليد ويذوب لتسعر بأسها زبر الحديد ويجب منها قلب البطل الصنديد ويذهب بها عناد المريد وتمرد العنيد فإنها أسفرت عن نفوس آساد مختطفه باللهازم ورءوس أجلاد مقتطفه بالصوارم وأرواح فرسان طائره عن أوكارها وأشباح شجعان قد نبذت بالعراء دون إدراك أوتارها وفراخ هام قد أنهضت عن مجاثمها وترائيب دوام أباح حرمتها من أمر بحفظ محارمها فأصبحت فرائس الوحوش في السباسب وطعمة الكواسر والكواسب قد ارتوت الأرض من دمائها المطلولة وغصت البيداء بأشلائها المقتولة ورغمت أنوف حماتها ودنت حتوف

٢٤٥

كماتها بأيدي رجالات بني هاشم الأخيار وسيوف سروات المهاجرين والأنصار في طاعة سيدها وإمامها وحامي حقيقتها من خلفها وأمامها مفرق جموع الكفر بعد التيامها ومشتت طواغيت النفاق بعد انتظامها شيخ الحرب وفتاها وسيد العرب ومولاها ذي النسب السامي والعرق النامي والجود الهامي والسيف الدامي والشجاع المحامي والبحر الطامي مزيل الضيم ري الظامي مقتحم اللجج صاحب البراهين والحجج أكرم من دب بعد المصطفى ودرج الذي ما حوكم إلا وفلج فارس الخيل وسابق السيل وراكب النهار والليل تولى علیهما السلام الحرب بنفسه النفيسة فخاض غمارها واصطلى نارها وأزكى أوارها ودوخ أعوانها وأنصارها وأجرى بالدماء أنهارها وحكم في مهج القاسطين بسيفه فعجل بوارها فصارت الفرسان تتحاماه إذا بدر والشجعان تلوذ بالهزيمة إذا زأر عالمة أنه ما صافحت صفحة سيفه مهجة إلا فارقت جسدها ولا كافح كتيبة إلا افترس ثعلب رمحه أسدها وهذا حكم ثبت له بطريق الإجمال وحال اتصف به بعموم الاستدلال ولا بد من ذكر بعض مواقفه في صفين فكثرتها توجب الاقتصار على يسيرها وكأين من حادثة يستغنى عن ثبوت طويلها بقصيرها.

فَمِنْهَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ عَسْكَرِ مُعَاوِيَةَ الْمِخْرَاقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَلَبَ الْبِرَازَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ عَسْكَرِ عَلِيٍّ علیهما السلام الْمُؤَمِّلُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الْمُرَادِيُّ فَقَتَلَهُ الشَّامِيُّ وَنَزَلَ فَجَزَّ رَأْسَهُ وَحَكَّ بِوَجْهِهِ الْأَرْضَ (١) وَكَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَتًى مِنَ الْأَزْدِ اسْمُهُ مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ (٢) فَقَتَلَهُ الشَّامِيُّ وَفَعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ علیهما السلام ذَلِكَ تَنَكَّرَ وَالشَّامِيُّ وَاقِفٌ يَطْلُبُ الْبِرَازَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ فَطَلَبَهُ فَبَدَرَهُ عَلِيٌّ علیهما السلام بِضَرْبَةٍ عَلَى عَاتِقِهِ فَرَمَى بِشِقِّهِ فَنَزَلَ فَاجْتَزَّ رَأْسَهُ وَقَلَبَ وَجْهَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَرَكِبَ وَنَادَى هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَارِسٌ فَقَتَلَهُ وَفَعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ وَرَكِبَ وَنَادَى هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَارِسٌ فَقَتَلَهُ وَفَعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ كَذَا إِلَى أَنْ قَتَلَ سَبْعَةً فَأَحْجَمَ عَنْهُ النَّاسُ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ وَكَانَ لِمُعَاوِيَةَ عَبْدٌ

________________

(١) حك الشيء بالشي : أمره عليه دلكا وسكا.

(٢) وفي بعض النسخ «مسلم بن عبد ربه»

٢٤٦

يُسَمَّى حَرْباً وَكَانَ شُجَاعاً فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَيْلَكَ يَا حَرْبُ اخْرُجْ إِلَى هَذَا الْفَارِسِ فَاكْفِنِي أَمْرَهُ فَقَدْ قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِي مَا قَدْ رَأَيْتَ فَقَالَ لَهُ حَرْبٌ وَاللهِ إِنِّي أَرَى مَقَامَ فَارِسٍ لَوْ بَرَزَ إِلَيْهِ أَهْلُ عَسْكَرِكَ لَأَفْنَاهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فَإِنْ شِئْتَ بَرَزْتُ إِلَيْهِ وَأَعْلَمُ أَنَّهُ قَاتِلِي وَإِنْ شِئْتَ فَاسْتَبِقْنِي لِغَيْرِهِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَا وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تُقْتَلَ فَقِفْ مَكَانَكَ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيْهِ غَيْرُكَ وَجَعَلَ عَلِيٌّ علیهما السلام يُنَادِيهِمْ وَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَرَفَعَ الْمِغْفَرَ عَنْ رَأْسِهِ وَرَجَعَ إِلَى عَسْكَرِهِ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ أَبْطَالِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ كُرَيْبُ بْنُ الصَّبَّاحِ وَطَلَبَ الْبِرَازَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْمُبَرْقَعُ الْخَوْلَانِيُّ فَقَتَلَهُ الشَّامِيُّ وَخَرَجَ إِلَيْهِ آخَرُ فَقَتَلَهُ أَيْضاً فَرَأَى عَلِيٌّ علیهما السلام فَارِساً بَطَلاً فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ علیهما السلام بِنَفْسِهِ فَوَقَفَ قُبَالَتَهُ وَقَالَ لَهُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا كُرَيْبُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْحِمْيَرِيُّ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ وَيْحَكَ يَا كُرَيْبُ إِنِّي أُحَذِّرُكَ اللهَ فِي نَفْسِكَ وَأَدْعُوكَ إِلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ فَقَالَ لَهُ كُرَيْبٌ مَنْ أَنْتَ فَقَالَ أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَاللهَ اللهَ فِي نَفْسِكَ فَإِنِّي أَرَاكَ فَارِساً بَطَلاً فَيَكُونُ لَكَ مَا لَنَا وَعَلَيْكَ مَا عَلَيْنَا وَتَصُونُ نَفْسَكَ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَلَا يُدْخِلَنَّكَ مُعَاوِيَةُ نَارَ جَهَنَّمَ فَقَالَ كُرَيْبٌ ادْنُ مِنِّي إِنْ شِئْتَ وَجَعَلَ يَلُوحُ بِسَيْفِهِ فَمَشَى إِلَيْهِ عَلِيٌّ علیهما السلام فَالْتَقَيَا ضَرْبَتَيْنِ بَدَرَهُ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ علیهما السلام الْحَارِثُ الْحِمْيَرِيُّ فَقَتَلَهُ وَآخَرُ فَقَتَلَهُ حَتَّى قَتَلَ أَرْبَعَةً وَهُوَ يَقُولُ (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ثُمَّ صَاحَ عَلِيٌّ علیهما السلام يَا مُعَاوِيَةُ هَلُمَّ إِلَى مُبَارَزَتِي وَلَا تُفْنِيَنَّ الْعَرَبَ بَيْنَنَا فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ فَقَدْ قَتَلْتَ أَرْبَعَةً مِنْ سِبَاعِ الْعَرَبِ فَحَسْبُكَ فَصَاحَ شَخْصٌ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ اسْمُهُ عُرْوَةُ بْنُ دَاوُدَ يَا عَلِيُّ إِنْ كَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ كَرِهَ مُبَارَزَتَكَ فَهَلُمَّ إِلَى مُبَارَزَتِي فَذَهَبَ عَلِيٌّ نَحْوَهُ فَبَدَرَهُ عُرْوَةُ بِضَرْبَةٍ فَلَمْ تَعْمَلْ شَيْئاً فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَأَسْقَطَهُ قَتِيلاً ثُمَّ قَالَ انْطَلِقْ إِلَى النَّارِ وَكَبُرَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ عِنْدَ قَتْلِ عُرْوَةَ وَجَاءَ اللَّيْلُ وَخَرَجَ عَلِيٌّ علیهما السلام فِي يَوْمٍ آخَرَ مُتَنَكِّراً وَطَلَبَ الْبِرَازَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ عَلِيٌّ وَعَرَفَهُ عَلِيٌّ علیهما السلام فَاطَّرَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُبَعِّدَهُ عَنْ عَسْكَرِهِ فَتَبِعَهُ عَمْرٌو مُرْتَجِزاً :

يَا قَادَةَ الْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْفِتَنِ

أَضْرِبُكُمْ وَلَا أَرَى أَبَا الْحَسَنِ

 

٢٤٧

فَرَجَعَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ علیهما السلام وَهُوَ يَقُولُ

أَبُو الْحُسَيْنِ فَاعْلَمَنْ وَالْحَسَنِ

جَاءَكَ يَقْتَادُ الْعَنَانَ وَالرَّسَنَ

فَعَرَفَهُ عَمْرٌو فَوَلَّى رَكْضاً وَلَحِقَهُ عَلِيٌّ علیهما السلام فَطَعَنَهُ طَعْنَةً وَقَعَ الرُّمْحُ فِي فُصُولِ دِرْعِهِ فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ وَخَشِيَ أَنْ يَقْتُلَهُ عَلِيٌّ فَرَفَعَ رِجْلَيْهِ فَبَدَتْ سَوْأَتُهُ فَصَرَفَ عَلِيٌّ علیهما السلام وَجْهَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى عَسْكَرِهِ.

وَجَاءَ عَمْرٌو وَمُعَاوِيَةُ يَضْحَكُ مِنْهُ فَقَالَ مِمَّ تَضْحَكُ وَاللهِ لَوْ بَدَا لِعَلِيٍّ مِنْ صَفْحَتِكَ مَا بَدَا لَهُ مِنْ صَفْحَتِي إِذًا لَأَوْجَعَ قَذَالَكَ (١) وَأَيْتَمَ عِيَالَكَ وَأَنْهَبَ مَالَكَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَوْ كُنْتَ تَحْتَمِلُ مِزَاحاً لَمَازَحْتُكَ فَقَالَ عَمْرٌو وَمَا أَحْمَلَنِي لِلْمِزَاحِ وَلَكِنْ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلُ رَجُلاً فَصَدَّ عَنْهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ أَتَقْطُرُ السَّمَاءُ دَماً فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَا وَلَكِنَّهَا تُعْقِبُ فَضِيحَةَ الْأَبَدِ حِيناً أَمَا وَاللهِ لَوْ عَرَفْتُهُ لَمَا أَقْدَمْتُ عَلَيْهِ قُلْتُ قَدْ أَجَادَ الْقَائِلُ مَا شَاءَ وَأَظُنُّهُ أَبَا فِرَاسِ بْنَ حَمْدَانَ

وَلَا خَيْرَ فِي دَفْعِ الرَّدَى بِمَذَلَّةٍ

كَمَا رَدَّهَا يَوْماً بِسَوْأَتِهِ عَمْرٌو

وَكَانَ فِي أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ فَارِسٌ مَشْهُورٌ بِالشَّجَاعَةِ اسْمُهُ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ.

قلت هذا بسر بن أرطاة لعنه الله هو صاحب جيش معاوية إلى اليمن وكان من شر الناس وأقدمهم على معاصي الله تعالى وسفك الدماء المحرمة وأشد العالمين عداوة لله ولرسوله ولآل بيته وأقلهم دينا وأكثرهم عنادا للحق وأقربهم إلى مساوئ الأخلاق وأبعدهم من خير وأعظمهم تمردا وكفرا وتسلطا لا يميز بين حق وباطل جاهل فاسق فظ غليظ متمرد لئيم سيئ الملكة قتال.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي تَارِيخِهِ مَا هَذَا مُلَخَّصُهُ قَالَ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ بُسْرَ بْنَ أَرْطَاةَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ إِلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ فَأَتَى الْمَدِينَةَ وَفِيهَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ عَامِلُ عَلِيٍّ عَلَيْهَا فَهَرَبَ وَأَتَى عَلِيّاً بِالْكُوفَةِ وَدَخَلَ بُسْرٌ الْمَدِينَةَ وَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ وَنَادَى الْأَنْصَارَ شَيْخِي عُهْدَتُهُ هُنَا فَمَا فَعَلَ يَعْنِي عُثْمَانَ ثُمَّ قَالَ وَاللهِ لَوْ لَا مَا عَهِدَ إِلَيَّ مُعَاوِيَةُ مَا تَرَكْتُ بِهَا مُحْتَلِماً وَطَلَبَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ لِيُبَايِعَ فَهَرَبَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ

________________

(١) القذال : جماع مؤخر الرأس.

٢٤٨

اللهُ عَنْهَا فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالْمُبَايَعَةِ وَخَرَجَ بُسْرٌ إِلَى مَكَّةَ فَخَافَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنْ يَقْتُلَهُ فَهَرَبَ وَأَكْرَهَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ وَسَارَ إِلَى الْيَمَنِ وَعَامِلُهَا مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ علیهما السلام عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْعَبَّاسِ فَهَرَبَ إِلَى عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْيَمَنِ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ الْمَدَانِ الْحَارِثِيَّ فَأَتَاهُ بُسْرٌ فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ ابْنَهُ وَقَتَلَ ابْنَيْنِ لِعُبَيْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ ـ وَكَانَا مُقِيمَيْنِ عِنْدَ شَخْصٍ بِالْبَادِيَةِ فَقَالَ أَيُّ ذَنْبٍ لَهُمَا إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ قَاتِلَهُمَا فَاقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ وَقِيلَ إِنَّهُ حَارَبَ دُونَهُمَا حَتَّى قُتِلَ وَكَانَ يُنْشِدُ

اللَّيْثُ مَنْ يَمْنَعُ حَافَاتِ الدَّارِ

وَلَا يَزَالُ مُصْلِتاً دُونَ الْجَارِ

وَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ قَتَلْتَ الرِّجَالَ فَعَلَا مَ تَقْتُلُ الذُّرِّيَّةَ وَاللهِ مَا كَانُوا يُقْتَلُونَ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ وَاللهِ يَا ابْنَ أَرْطَاةَ إِنَّ سُلْطَاناً لَا يَقُومُ إِلَّا بِقَتْلِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَنَزْعِ الرَّحْمَةِ وَعُقُوقِ الْأَرْحَامِ لَسُلْطَانُ سَوْءٍ وَقَتَلَ بُسْرٌ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ جَمَاعَةً مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ بِالْيَمَنِ وَبَلَغَ عَلِيّاً الْخَبَرُ فَأَرْسَلَ حَارِثَةَ بْنَ قُدَامَةَ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ وَوَهْبَ بْنَ مَسْعُودٍ فِي أَلْفَيْنِ فَسَمِعَ بِهِمَا الْمَلْعُونُ بُسْرٌ فَهَرَبَ وَكَانَتْ أُمُّ الصَّبِيَّيْنِ الْمَقْتُولَيْنِ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ فَارِطٍ وَقِيلَ عَائِشَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمَدَانِ قَدْ وُلِهَتْ لَمَّا قُتِلَ وَلَدَاهَا فَلَا تَعْقِلُ وَلَا تُصْغِي وَلَا تَزَالُ تُنْشِدُهُمَا فِي الْمَوَاسِمِ وَتَقُولُ.

يَا مَنْ أَحَسَّ بِابْنَيِ اللَّذَيْنِ هُمَا

كَالدُّرَّتَيْنِ تَشَظَّى عَنْهُمَا الصَّدَفُ

يَا مَنْ أَحَسَّ بِابْنَيِ اللَّذَيْنِ هُمَا

قَلْبِي وَسَمْعِي فَقَلْبِي الْيَوْمَ مُخْتَطَفٌ

وَهِيَ أَبْيَاتٌ مَشْهُورَةٌ وَلَمَّا سَمِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِهِمَا جَزِعَ جَزَعاً شَدِيداً وَدَعَا عَلَى بُسْرٍ فَقَالَ اللهُمَّ اسْلُبْهُ دِينَهُ وَعَقْلَهُ فَأَصَابَهُ ذَلِكَ وَفَقَدَ عَقْلَهُ وَكَانَ يُهْدِي بِالسَّيْفِ وَيَطْلُبُهُ فَيُؤْتَى بِسَيْفٍ مِنْ خَشَبٍ وَيُجْعَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ زِقٌّ مَنْفُوخٌ فَلَا يَزَالُ يَضْرِبُهُ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ.

وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمُعَاوِيَةَ دَخَلَ عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْعَبَّاسِ وَعِنْدَهُ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ فَقَالَ وَدِدْتُ أَنَّ الْأَرْضَ أَنْبَتَتْنِي عِنْدَكَ حِينَ قَتَلْتَ وَلَدَيَّ فَقَالَ بُسْرٌ هَاكَ

________________

(١) تشظي الشيء : تشقق.

٢٤٩

سَيْفِي فَأَهْوَى عُبَيْدُ اللهِ يَتَنَاوَلُهُ فَأَخَذَهُ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ لِبُسْرٍ أَخْزَاكَ اللهُ شَيْخاً قَدْ خَرِفْتَ وَاللهِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْهُ لَبَدَأَ بِي قَالَ عُبَيْدُ اللهِ أَجَلْ ثُمَّ ثَنَيْتُ بِهِ وَقِيلَ إِنَّ مَسِيرَ بُسْرٍ إِلَى الْحِجَازِ كَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ.

رَجَعَ الْحَدِيثُ فَلَمَّا سَمِعَ بُسْرٌ عَلِيّاً يَدْعُو مُعَاوِيَةَ إِلَى الْبِرَازِ وَمُعَاوِيَةُ يَمْتَنِعُ قَالَ قَدْ عَزَمْتُ عَلَى مُبَارَزَةِ عَلِيٍّ فَلَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأَذْهَبُ فِي الْعَرَبِ بِشُهْرَتِهِ وَشَاوَرَ غُلَاماً يُقَالُ لَهُ لَاحِقٌ فَقَالَ إِنْ كُنْتَ وَاثِقاً مِنْ نَفْسِكَ فَافْعَلْ وَإِلَّا فَلَا تَبْرُزْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ وَاللهِ الشُّجَاعُ الْمُطْرِقُ

فَأَنْتَ لَهُ يَا بُسْرُ إِنْ كُنْتَ مِثْلَهُ

وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّيْثَ لِلضَّبُعِ آكِلٌ

مَتَى تَلْقَهُ فَالْمَوْتُ فِي رَأْسِ رُمْحِهِ

وَفِي سَيْفِهِ شُغُلٌ لِنَفْسِكَ شَاغِلٌ

فَقَالَ وَيْحَكَ هَلْ هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ وَلَا بُدَّ مِنْ لِقَاءِ اللهِ عَلَى كُلِّ الْأَحْوَالِ إِمَّا بِمَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ ثُمَّ خَرَجَ بُسْرٌ إِلَى عَلِيٍّ علیهما السلام وَهُوَ سَاكِتٌ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ عَلِيٌّ علیهما السلام لِحَالَةٍ كَانَتْ صَدَرَتْ مِنْهُ فَلَمَّا نَزَلَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ علیهما السلام حَمَلَ عَلَيْهِ فَسَقَطَ بُسْرٌ عَنْ فَرَسِهِ عَلَى قَفَاهُ وَرَفَعَ رِجْلَيْهِ وَانْكَشَفَ سَوْأَتَهُ فَصَرَفَ عَلِيٌّ وَجْهَهُ عَنْهُ وَوَثَبَ بُسْرٌ قَائِماً وَسَقَطَ الْمِغْفَرُ عَنْ رَأْسِهِ فَصَاحَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ فَقَالَ علیهما السلام ذَرُوهُ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ فَضَحِكَ مُعَاوِيَةُ مِنْ بُسْرٍ وَقَالَ لَا عَلَيْكَ فَقَدْ نَزَلَ بِعَمْرٍو مِثْلُهَا وَصَاحَ فَتًى مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَيْلَكُمْ يَا أَهْلَ الشَّامِ أَمَا تَسْتَحْيُونَ لَقَدْ عَلَّمَكُمْ ابْنُ الْعَاصِ لَعَنَهُ اللهُ تَعَالَى كَشْفَ الْأَسْتَاهِ فِي الْحُرُوبِ وَأَنْشَدَ

أَفِي كُلِّ يَوْمٍ فَارِسٌ ذُو كَرِيهَةٍ

لَهُ عَوْرَةٌ وَسْطَ الْعِجَاجَةِ بَادِيَةً

يَكُفُّ بِهَا عَنْهُ عَلِيٌّ سَنَانَهُ

وَيَضْحَكُ مِنْهُ فِي الْخَلَاءِ مُعَاوِيَةُ

فَقُولَا لِعَمْرٍو وَابْنِ أَرْطَاةَ أَبْصِرَا

سَبِيلَكُمَا لَا تَلْقَيَا اللَّيْثَ ثَانِيَةً

وَلَا تُحْمَدَا إِلَّا الْحَيَا وَخُصَاكُمَا

هُمَا كَانَتَا وَاللهِ لِلنَّفْسِ وَاقِيَةٌ

فَلَوْلَاهُمَا لَمْ تُنْجَوَا مِنْ سَنَانِهِ

وَتِلْكَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَوْدِ ثَانِيَةً

وَكَانَ بُسْرٌ يَضْحَكُ مِنْ عَمْرٍو فَعَادَ عَمْرٌو يَضْحَكُ مِنْهُ وَتَحَامَى أَهْلُ الشَّامِ عَلِيّاً (١) وَخَافُوهُ خَوْفاً شَدِيداً.

________________

(١) تحاماه الناس : توقوه واجتنبوه.

٢٥٠

وَكَانَ لِعُثْمَانَ مَوْلًى اسْمُهُ أَحْمَرُ فَخَرَجَ يَطْلُبُ الْبِرَازَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ كَيْسَانُ مَوْلَى عَلِيٍّ علیهما السلام فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَقَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام قَتَلَنِي اللهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ فَاسْتَقْبَلَهُ بِالسَّيْفِ فَاتَّقَى عَلِيٌّ ضَرَبْتَهُ بِالْجُحْفَةِ ثُمَّ قَبَضَ ثَوْبَهُ وَأَقْلَعَهُ مِنْ سَرْجِهِ وَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ فَكَسَرَ مَنْكِبَيْهِ وَعَضُدَيْهِ وَدَنَا مِنْهُ أَهْلُ الشَّامِ فَمَا زَادَهُ قُرْبُهُمْ إِسْرَاعاً فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ علیهما السلام مَا ضَرَّكَ لَوْ سَعَيْتَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أَصْحَابِكَ فَقَالَ يَا بُنَيَّ إِنَّ لِأَبِيكَ يَوْماً لَنْ يَعْدُوَهُ وَلَا يُبْطِئَ بِهِ عَنْهُ السَّعْيُ وَلَا يَعْجَلُ بِهِ إِلَيْهِ الْمَشْيُ وَإِنَّ أَبَاكَ وَاللهِ لَا يُبَالِي أَوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ أَمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَيْهِ.

وَكَانَ لِمُعَاوِيَةَ عَبْدٌ اسْمُهُ حُرَيْثٌ وَكَانَ فَارِساً بَطَلاً فَحَذَرَهُ مُعَاوِيَةُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِعَلِيٍّ علیهما السلام فَخَرَجَ وَتَنَكَّرَ لَهُ عَلِيٌّ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِحُرَيْثٍ لَا يَفُوتُكَ هَذَا الْفَارِسُ وَعَرَفَ عَمْرٌو أَنَّهُ عَلِيٌّ فَحَمَلَ حُرَيْثٌ فَدَاخَلَهُ عَلِيٌّ وَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَارَ بِهَا قِحْفَ رَأْسِهِ فَسَقَطَ قَتِيلاً وَاغْتَمَّ مُعَاوِيَةُ عَلَيْهِ غَمّاً شَدِيداً وَقَالَ لِعَمْرٍو أَنْتَ قَتَلْتَ حُرَيْثاً وَغَرَرْتَهُ.

وَخَرَجَ الْعَبَّاسُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيُّ فَأَبْلَى وَخَرَجَ فَارِسٌ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ فَتَنَازَلَا وَتَضَارَبَا وَنَظَرَ الْعَبَّاسُ إِلَى وَهْنٍ فِي دِرْعِ الشَّامِيِّ فَضَرَبَهُ الْعَبَّاسُ عَلَى ذَلِكَ الْوَهْنِ فَقَدَّهُ بِاثْنَيْنِ فَكَبَّرَ جَيْشُ عَلِيٍّ علیهما السلام وَرَكِبَ الْعَبَّاسُ فَرَسَهُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ مَنْ يَخْرُجُ إِلَى هَذَا فَقَتَلَهُ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا فَوَثَبَ رَجُلَانِ مِنْ لَخْمٍ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالا نَحْنُ نَخْرُجُ إِلَيْهِ فَقَالَ اخْرُجَا فَأَيُّكُمَا سَبَقَ إِلَى قَتْلِهِ فَلَهُ مِنَ الْمَالِ مَا ذَكَرْتُ وَلِلْآخَرِ مِثْلُ ذَلِكَ فَخَرَجَا إِلَى مَقَرِّ الْمُبَارَزَةِ وَصَاحَا بِالْعَبَّاسِ وَدَعَوَاهُ إِلَى الْمُبَارَزَةِ فَقَالَ أَسْتَأْذِنُ صَاحِبِي وَأَعُودُ إِلَيْكُمَا وَجَاءَ إِلَى عَلِيٍّ علیهما السلام لِيَسْتَأْذِنَهُ فَقَالَ لَهُ أَعْطِنِي ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ وَفَرَسَكَ فَلَبِسَهَا عَلِيٌّ علیهما السلام وَرَكِبَ الْفَرَسَ وَخَرَجَ إِلَيْهِمَا عَلَى أَنَّهُ الْعَبَّاسُ فَقَالا اسْتَأْذَنْتَ صَاحِبَكَ فَتَحَرَّجَ مِنَ الْكَذِبِ فَقَرَأَ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ فَالْتَقَيَا ضَرْبَتَيْنِ ضَرَبَهُ عَلِيٌّ عَلَى مَرَاقِّ بَطْنِهِ فَقَطَعَهُ بِاثْنَيْنِ فَظَنَّ أَنَّهُ أَخْطَأَهُ فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْفَرَسُ سَقَطَ قِطْعَتَيْنِ وَصَارَ فَرَسُهُ إِلَى عَسْكَرِ عَلِيٍّ وَتَقَدَّمَ الْآخَرُ فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ علیهما السلام فَأَلْحَقَهُ بِصَاحِبِهِ ثُمَّ جَالَ عَلَيْهِمْ جَوْلَةً وَرَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ وَعَلِمَ مُعَاوِيَةُ أَنَّهُ

٢٥١

عَلِيٌّ فَقَالَ قَبَّحَ اللهُ اللَّجَاجَ إِنَّهُ لَقَعُودٌ مَا رَكِبْتُهُ إِلَّا خُذِلْتُ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْمَخْذُولُ وَاللهِ اللَّخْمِيَّانِ لَا أَنْتَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ اسْكُتْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ لَيْسَ هَذِهِ السَّاعَةُ مِنْ سَاعَاتِكَ فَقَالَ عَمْرٌو فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ سَاعَاتِي فَرَحِمَ اللهُ اللَّخْمِيَّيْنِ وَلَا أَظُنُّهُ يَفْعَلُ (١).

ومن وقائع صفين ليلة الهرير التي خاضت الفرسان فيها في دماء أقرانها وأضرمت الحرب فيها شواظ نيرانها وتعاطى الشجعان فيها كاسات الحمام فمالت بصاحبها وسكرانها وجل الأمر عن المضاربة بسيفها والمطاعنة بسنانها فهرت لحقدها كادمة بأنيابها عاضة بأسنانها قد شعلت بنار الحمية فطائفة تجهد في طاعتها وأخرى تدأب في عصيانها قد صبرت هذه اتباعا لحقها وصدقها وتلك لباطلها وبهتانها قاتلت هذه حسبة سبيل ربها وإمامها وتلك في اتباع غويها وشيطانها وهذه تعلن بتلاوة كتابها وترتيل قرآنها وتلك القاسطة تنادي بدعوى الجاهلية وأوثانها والإمام علیهما السلام قد باشرها بنفسه فكم قتل من رجالها وأردى من فرسانها وكم أنحى على كتيبة فما عاد إلا بعد تفريق جمعها وهد أركانها ووصل بين الحزن وأهلها وفرق بين رءوسها وأبدانها وشتت شمل اجتماعها فجمع عليها بين وحوش الأرض وعقبانها فيا لها من ليلة خرست فيها الشقاشق فلا تسمع إلا همهمة وخشعت لها الأصوات فلا تحس إلا غمغمة وعجزت بها الألسن عن النطق فكان نطقها تمتمة وأرادت التقريع على فعالها فلم تستطعه فاعتاضت عنه زئيرا ودمدمة وأظلم سواد حديدها وليلها وغبارها فعدت بليالي وسال بأرضها طوفان الدم فسوى بين السافل والعالي وأومضت في ظلمائها بوارق السيوف وبدور البيض وشهب العوالي ودارت بها رحى الحرب فطحنت الأواخر والأوالي وانتصب مالك لتلقي روح المعادي واستبشر رضوان بروح الموالي وأمير المؤمنين فارس ذلك الجمع وأسده وإمامه ومولاه وسيده وهادي من اتبعه ومرشده يهدر كالفحل ويزأر كالأسد ويفرقهم ويجمعهم كفعله بالنقد لا يعترضه في إقامة الحق وإدحاض الباطل فتور ولا يلم به في إعلاء كلمة الله وخزي أعدائه قصور يختطف النفوس ويقتطف الرءوس ويلقي

________________

(١) وروى المياشي في التفسير قصته بالبسط من ذلك ج ٢ : ٧٩ ود ذبلته هنابما يفسر معضلاته. وتقله من العامة ابن قيتبة في عيون الاخبار ج ٢ : ٤ ٧ باختلاف يسير بينهما

٢٥٢

بطلاقة وجهه اليوم العبوس ويذل بسطوة بأسه الأسود السود والفرسان الشئوس ويخجل بأنواره في ليل القتام الأقمار والشموس فما لقي شجاعا إلا وأراق دمه ولا بطلا إلا وزلزل قدمه ولا مريدا إلا أعدمه ولا قاسطا إلا قصر عمره وأطال ندمه ولا جمع نفاق إلا فرقه ولا بناء ضلال إلا هدمه

وَكَانَ كُلَّمَا قَتَلَ فَارِساً أَعْلَنَ بِالتَّكْبِيرِ فَأَحْصَيْتُ تَكْبِيرَاتِهِ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ فَكَانَتْ خَمْسَمِائَةٍ وَثَلَاثاً وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً بِخَمْسِمِائَةٍ وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ قَتِيلاً مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ وَقِيلَ إِنَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَتَقَ نَيْفَقَ دِرْعِهِ لِثِقَلِ مَا كَانَ يَسِيلُ مِنَ الدَّمِ عَلَى ذِرَاعِهِ وَقِيلَ إِنَّ قَتْلَاهُ عُرِفُوا فِي النَّهَارِ فَإِنَّ ضَرَبَاتِهِ كَانَتْ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ إِنْ ضَرَبَ طُولاً قَدَّ أَوْ عَرْضاً قَطَّ وَكَانَتْ كَأَنَّهَا مِكْوَاةٌ بِالنَّارِ قال كمال الدين بن طلحة فما تحلى بهذه المزايا والخلال ولا أبلى بلاؤه المذكور في النزال ولا صدرت منه هذه الأفعال إلا عن شجاعة تذل لها الأبطال وتقل لديها الأهوام ولا تقوم بوصفها الأقلام والأقوال ولا يحتاج في تحققها أن يثبتها الاستدلال وعلى الجملة والتفصيل فمقام شجاعته لا ينال وما ذا (بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) ولما أسفر صبح ليلة الهرير عن ضيائه وحسر الليل جنح ظلمائه كانت القتلى من الفريقين ستة وثلاثين ألف قتيل هكذا نقله مصنف كتاب الفتوح ومؤرخ الوقائع التي نقلها بألسنة أقلامه فهي في الرواية منسوبة إليه العهدة فيها عند تتبعها عليه وهذه الوقائع المذكورة مع أهوالها الصعاب وصيالها المصلى لظى الطعان والضراب هي بالنسبة إلى بقايا وقائع صفين كالقطرة من السحاب والشذرة من السحاب انتهى كلام ابن طلحة.

قلت وَفِي صَبِيحَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ اسْتَظْهَرَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ علیهما السلام وَلَاحَتْ لَهُمْ أَمَارَاتُ الظَّفَرِ وَعَلَائِمُ الْغَلَبِ وَزَحَفَ مَالِكٌ الْأَشْتَرُ رَحِمَهُ اللهُ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ سَاعَتَئِذٍ وَرَأَى عَلِيٌّ علیهما السلام أَمَارَاتِ النَّصْرِ مِنْ جِهَةِ الْأَشْتَرِ فَأَمَدَّهُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحِينَ رَأَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ذَلِكَ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ إِنِّي أَعْدَدْتُ لِهَذَا الْوَقْتِ رَأْياً أَرْجُو بِهِ تَفْرِيقَ كَلِمَتِهِمْ وَدَفْعَ هَذَا الْأَذَى الْمُعَجَّلِ قَالَ مُعَاوِيَةُ وَمَا

________________

(١) نيفق الدرع : الموضع المستع منه.

٢٥٣

هُوَ قَالَ نَرْفَعُ الْمَصَاحِفَ عَلَى رُءُوسِ الرِّمَاحِ وَنَدْعُوهُمْ إِلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى فَقَالَ أَصَبْتَ وَرَفَعُوهَا وَرَجَعَ الْقُرَّاءُ عَنِ الْقِتَالِ فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ علیهما السلام إِنَّهَا فَعْلَةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَدِيعَةٌ وَفِرَارٌ مِنَ الْحَرَبِ وَلَيْسُوا مِنْ رِجَالِ الْقُرْآنِ فَيَدْعُونَنَا إِلَيْهِ فَلَمْ يَقْبَلُوا وَقَالُوا لَا بُدَّ أَنْ تُنْفِذَ وَتَرُدَّ الْأَشْتَرَ عَنْ مَوْقِفِهِ وَإِلَّا حَارَبْنَاكَ وَقَتَلْنَاكَ أَوْ سَلَّمْنَاكَ إِلَيْهِمْ فَأَنْفَذَ فِي طَلَبِ الْأَشْتَرِ فَأَعَادَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ يَجِبُ أَنْ تُزِيلَنِي فِيهِ عَنْ مَوْقِفِي وَقَدْ أَشْرَفْتُ عَلَى الْفَتْحِ فَعَرَّفَهُ بِالاخْتِلَافِ الَّذِي وَقَعَ فَعَادَ وَلَامَ الْقُرَّاءَ وَعَنَّفَهُمْ وَسَبَّهُمْ وَسَبُّوهُ وَضَرَبَ وَجْهَ دَوَابِّهِمْ وَضَرَبُوا وَجْهَ دَابَّتِهِ وَأَبَوْا إِلَّا الِاسْتِمْرَارَ عَلَى غَيِّهِمْ وَانْهِمَاكاً فِي بَغْيِهِمْ وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا.

وَسَأَلَ عَلِيٌّ علیهما السلام مَا الَّذِي أَرَدْتُمْ بِرَفْعِ الْمَصَاحِفِ قَالُوا الدُّعَاءَ إِلَى مَا فِيهَا وَالْحُكْمَ بِمَضْمُونِهَا وَأَنْ نُقِيمَ حَكَماً وَتُقِيمُوا حَكَماً يَنْظُرَانِ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَيُقِرَّانِ الْحَقَّ مَقَرَّهُ فَعَرَّفَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا فِي طَيِّ أَقْوَالِهِمْ مِنَ الْخِدَاعِ وَمَا يَنْضَمُّون عَلَيْهِ مِنْ خُبْثِ الطِّبَاعِ فَلَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُجِيبُوا وَأَلْزَمُوهُ بِذَلِكَ إِلْزَاماً لَا مَحِيصَ عَنْهُ فَأَجَابَ عَلَى مَضَضٍ. (١)

وَنَصَبَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَيَّنَ عَلِيٌّ علیهما السلام عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَلَمْ يُوَافِقُوا وَقَالُوا لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ فَقَالَ فَأَبُو الْأَسْوَدِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَاخْتَارُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَ علیهما السلام إِنَّ أَبَا مُوسَى مُسْتَضْعَفٌ وَهَوَاهُ مَعَ غَيْرِنَا فَقَالُوا لَا بُدَّ مِنْهُ فَقَالَ إِذَا أَبَيْتُمْ فَاذْكُرُوا كُلَّمَا قُلْتُ وَقُلْتُمْ وَكَانَ مِنْ خَدْعِ عَمْرٍو أَبَا مُوسَى وَحَمْلِهِ عَلَى خَلْعِ ١ عَلِيٍّ علیهما السلام وَإِقْرَارِهَا عَلَى لِسَانِ عَمْرٍو فِي مُعَاوِيَةَ وَتَشَاتُمِهِمَا وَتَلَاعُنِهِمَا مَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ.

وَقَدْ عُمِلَ فِي صِفِّينَ كِتَابٌ مُفْرَدٌ وَلَيْسَ كِتَابُنَا هَذَا بِصَدَدِ ذِكْرِ ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ وَإِنَّمَا غَرَضُنَا وَصْفُ مَوَاقِفِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام وَشِدَّةِ بَأْسِهِ وَإِقْدَامِهِ وَتَعْدِيدُ مَنَاقِبِهِ وَذِكْرُ أَيَّامِهِ وَنَذْكُرُ مُلَخَّصاً حَالَ مُعَاوِيَةَ عِنْدَ عَزْمِهِ عَلَى قِتَالِ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ شَاوَرَ فِيهِ ثِقَاتِهِ وَأَهْلَ وُدِّهِ فَقَالُوا هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَإِنَّهُ قَرِيعُ زَمَانِهِ فِي الدَّهَاءِ

________________

(١) المضض : وجمع المصيبة.

٢٥٤

وَالْمَكْرِ وَقُلُوبُ أَهْلِ الشَّامِ مَائِلَةٌ إِلَيْهِ وَهُوَ يَخْدَعُ وَلَا يُخْدَعُ فَقَالَ صَدَقْتُمْ وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ عَلِيّاً فَأَخَافُ أَنْ يَمْتَنِعَ فَقَالُوا رَغِّبْهُ بِالْمَالِ وَأَعْطِهِ مِصْرَ.

فَكَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ خَلِيفَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَخَلِيفَةِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ذِي النُّورَيْنِ خَتَنِ الْمُصْطَفَى عَلَى ابْنَتَيْهِ وَصَاحِبِ جَيْشِ الْمُعْسِرَةِ وَبِئْرِ رُومَةَ الْمَعْدُومِ النَّاصِرِ الْكَثِيرِ الْخَاذِلِ الْمَحْصُورِ فِي مَنْزِلِهِ الْمَقْتُولِ عَطَشاً وَظُلْماً فِي مِحْرَابِهِ الْمُعَذَّبِ بِأَسْيَافِ الْفَسَقَةِ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَثِقَتِهِ وَأَمِيرِ عَسْكَرِهِ بِذَاتِ السَّلَاسِلِ الْمُعَظَّمِ رَأْيُهُ الْمُفَخَّمِ تَدْبِيرُهُ أَمَّا بَعْدَ فَلَنْ يَخْفَى عَلَيْكَ احْتِرَاقُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَفَجْعَتُهُمْ بِقَتْلِ عُثْمَانَ وَمَا ارْتَكَبَهُ جَارُهُ بَغْياً وَحَسَداً وَامْتِنَاعُهُ عَنْ نُصْرَتِهِ وَخِذْلَانِهِ إِيَّاهُ حَتَّى قُتِلَ فِي مِحْرَابِهِ فَيَا لَهَا مُصِيبَةً عَمَّتِ النَّاسَ وَفَرَضَتْ عَلَيْهِمْ طَلَبَ دَمِهِ مِنْ قتله [قَتَلَتِهِ] وَأَنَا أَدْعُوكَ إِلَى الْحَظِّ الْأَجْزَلِ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّصِيبِ الْأَوْفَرِ مِنْ حُسْنِ الْمَآبِ بِقِتَالِ مَنْ آوَى قَتَلَةَ عُثْمَانَ.

فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ وَصَلَ كِتَابُكَ فَقَرَأْتُهُ وَفَهِمْتُهُ فَأَمَّا مَا دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ مِنْ خَلْعِ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِي وَالتَّهَوُّرِ فِي الضَّلَالَةِ مَعَكَ وَإِعَانَتِي إِيَّاكَ عَلَى الْبَاطِلِ وَاخْتِرَاطِ السَّيْفِ فِي وَجْهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ علیهما السلام وَهُوَ أَخُو رَسُولِ اللهِ وَوَصِيُّهُ وَوَارِثُهُ وَقَاضِي دَيْنِهِ وَمُنْجِزُ وَعْدِهِ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَبُو السِّبْطَيْنِ سَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّكَ خَلِيفَةُ عُثْمَانَ فَقَدْ صَدَقْتَ وَلَكِنْ تَبَيَّنَ الْيَوْمَ عَزْلُكَ مِنْ خِلَافَتِهِ وَقَدْ بُويِعَ لِغَيْرِهِ فَزَالَتْ خِلَافَتُكَ وَأَمَّا مَا عَظَّمْتَنِي بِهِ وَنَسَبْتَنِي إِلَيْهِ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَأَنِّي صَاحِبُ جَيْشِهِ فَلَا أَغْتَرُّ بِالتَّزْكِيَةِ وَلَا أَمِيلُ بِهَا عَنِ الْمِلَّةِ. وَأَمَّا مَا نَسَبْتَ أَبَا الْحَسَنِ أَخَا رَسُولِ اللهِ ـ وَوَصِيَّهُ إِلَى الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ لِعُثْمَانَ وَسَمَّيْتَ الصَّحَابَةَ فَسَقَةً وَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَشْلَاهُمْ عَلَى قَتْلِهِ فَهَذَا كَذِبٌ وَغَوَايَةٌ وَيْحَكَ يَا مُعَاوِيَةُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ بَذَلَ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ وَبَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ صَاحِبُ السَّبْقِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ.

وَقَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم هُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي.

وَقَالَ فِيهِ يَوْمَ الْغَدِيرِ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ

٢٥٥

مَنْ عَادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْه.

مَنْ خَذَلَهُ وَقَالَ فِيهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ [خَيْبَرَ] لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَداً رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.

وَقَالَ فِيهِ يَوْمَ الطَّيْرِ اللهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ وَإِلَيَّ وَإِلَيَّ.

وَقَالَ فِيهِ يَوْمَ النَّضِيرِ عَلِيٌّ إِمَامُ الْبَرَرَةِ وَقَاتِلُ الْفَجَرَةِ مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ.

وَقَالَ فِيهِ عَلِيٌّ وَلِيُّكُمْ بَعْدِي وَأَكَّدَ الْقَوْلَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَ إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي.

وَقَالَ أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا وَقَدْ عَلِمْتَ يَا مُعَاوِيَةَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّاتِ فِي فَضَائِلِهِ الَّتِي لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا أَحَدٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١)

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم أَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ سِلْمُكَ سِلْمِي وَحَرْبُكَ حَرْبِي وَتَكُونَ أَخِي وَوَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَا أَبَا الْحَسَنِ مَنْ أَحَبَّكَ فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَبْغَضَكَ فَقَدْ أَبْغَضَنِي وَمَنْ أَحَبَّكَ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ أَبْغَضَكَ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ وَكِتَابُكَ يَا مُعَاوِيَةَ الَّذِي هَذَا جَوَابُهُ لَيْسَ مِمَّا يَنْخَدِعُ بِهِ مَنْ لَهُ عَقْلٌ وَدِينٌ وَالسَّلَامُ.

فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْأَمْوَالَ وَالْوِلَايَاتِ وَكَتَبَ فِي آخِرِ كِتَابِهِ

جَهِلْتَ وَلَمْ تَعْلَمْ مَحَلَّكَ عِنْدَنَا

فَأَرْسَلْتَ شَيْئاً مِنْ خِطَابٍ وَمَا تَدْرِي

فَثِقْ بِالَّذِي عِنْدِي لَكَ الْيَوْمَ آنِفاً

مِنَ الْعِزِّ وَالْإِكْرَامِ وَالْجَاهِ وَالنَّصْرِ

________________

(١) الآية الأولى في سورة الإنسان : ٧. والثانية في سورة المائدة : ٥٥ والثالثة في سورة هود : ١٧ والرابعة في سورة الأحزاب : ٢٣. والخامسة في سورة الشورى : ٢٣.

٢٥٦

فَأَكْتُبُ عَهْداً تَرْتَضِيهِ مُؤَكَّداً

وَأُشَفِّعُهُ بِالْبَذْلِ مِنِّي وَبِالْبِرِّ

فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرٌو :

أَبَى الْقَلْبُ مِنِّي أَنْ أُخَادِعَ بِالْمَكْرِ

بِقَتْلِ ابْنِ عَفَّانَ أُجَرُّ إِلَى الْكُفْرِ

أَبْيَاتٌ لَيْسَتْ بِالشِّعْرِ الْجَيِّدِ يَطْلُبُ فِيهَا مِصْرَ فَكَتَبَ لَهُ مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ وَأَنْفَذَهُ إِلَيْهِ فَفَكَّرَ عَمْرٌو وَلَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ وَذَهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَقَالَ :

تَطَاوَلَ لَيْلِي بِالْهُمُومِ الطَّوَارِقِ

فَصَافَحْتُ مِنْ دَهْرِي وُجُوهَ الْبَوَائِقِ

أَأَخْدَعُهُ وَالْخَدْعُ مِنِّي سَجِيَّةٌ

أَمْ أُعْطِيهِ مِنْ نَفْسِي نَصِيحَةَ وَامِقٍ

أَمْ أَقْعُدُ فِي بَيْتِي وَفِي ذَاكَ رَاحَةٌ

لِشَيْخٍ يَخَافُ الْمَوْتَ فِي كُلِّ شَارِقٍ

فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا مَوْلَاهُ وَرْدَانَ وَكَانَ عَاقِلاً فَشَاوَرَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ وَرْدَانُ إِنَّ مَعَ عَلِيٍّ آخِرَةً وَلَا دُنْيَا مَعَهُ وَهِيَ الَّتِي تَبْقَى لَكَ وَتَبْقَى فِيهَا وَإِنَّ مَعَ مُعَاوِيَةَ دُنْيَا وَلَا آخِرَةَ مَعَهُ وَهِيَ الَّتِي لَا تَبْقَى عَلَى أَحَدٍ فَاخْتَرْ مَا شِئْتَ فَتَبَسَّمَ عَمْرٌو وَقَالَ :

يَا قَاتَلَ اللهُ وَرْدَاناً وَفِطْنَتَهُ

لَقَدْ أَصَابَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَرْدَانُ

لَمَّا تَعَرَّضَتِ الدُّنْيَا عَرَضْتُ لَهَا

بِحِرْصِ نَفْسٍ وَفِي الْأَطْبَاعِ إِدْهَانُ

نَفْسٍ تَعِفُّ وَأُخْرَى الْحِرْصُ يَغْلِبُهَا

وَالْمَرْءُ يَأْكُلُ نَتْناً وَهُوَ غَرْثَانُ (٣)

أَمَّا عَلِيٌّ فَدَيِّنٌ لَيْسَ يَشْرَكُهُ

دُنْيَا وَذَاكَ لَهُ دُنْيَا وَسُلْطَانٌ

فَاخْتَرْتُ مِنْ طَمَعِي دُنْيَا عَلَى بَصَرٍ

وَمَا مَعِي بِالَّذِي أَخْتَارُ بُرْهَانٌ

إِنِّي لَأَعْرِفُ مَا فِيهَا وَأُبْصِرُهُ

وَفِيَّ أَيْضاً لِمَا أَهْوَاهُ أَلْوَانٌ

لَكِنْ نَفْسِي تُحِبُّ الْعَيْشَ فِي شَرَفٍ

وَلَيْسَ يَرْضَى بَذْلَ الْعَيْشِ إِنْسَانٌ

ثُمَّ إِنَّ عَمْراً أَرْحَلَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَمَنَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ وَوَرْدَانُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ فَلَمَّا بَلَغَ مَفْرَقَ الطَّرِيقَيْنِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ قَالَ لَهُ وَرْدَانُ طَرِيقُ الْعِرَاقِ طَرِيقُ الْآخِرَةِ وَطَرِيقُ الشَّامِ طَرِيقُ الدُّنْيَا فَأَيَّهُمَا تَسْلُكُ قَالَ طَرِيقَ الشَّامِ.

________________

(١) ومقه : أحبه.

(٢) الشارق : الشمس حين تشرق.

(٣) الغرثان : الجائع.

٢٥٧

قُلْتُ لَا يُغْنِي عَبْدُ اللهِ وَوَرْدَانُ وَقَدْ قَادَهُ إِلَى جَهَنَّمَ الشَّيْطَانُ وَبَاعَ حَظَّهُ مِنَ الْآخِرَةِ وَشَهِدَ عَلَيْهِ مَا جَرَى عَلَى لَفْظِهِ فَأَحَلَّهُ فِي السَّاحِرَةِ

وكان من جملة آثاره المذمومة وأفعاله المشئومة رفع المصاحف التي خرج بها الخوارج فتنكبوا بها عن الصراط المستقيم وأخذوا على أمير المؤمنين الرضا بالتحكيم وانقادوا إلى امتثال أمر الشيطان الرجيم وهناك نجم أمر الخوارج فأساءوا في التأويل ففارقوا الحق وتنكبوا سواء السبيل وعملوا بآرائهم المدخولة فتنوعت لهم فنون الضلالات والأباطيل وسأذكر كيفية أمرهم وحالهم وما جرى عليهم جزاء كفرهم وضلالهم وما أباحه الله على يد وليه من دمارهم ووبالهم عند إنجازي ذكر زوائد أذكرها من أخبار صفين وعلى الله أتوكل وبه أعتضد وأستعين.

في هذه الحرب قتل أبو اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنه وقد تظاهرت الروايات أَنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ جَلْدَةٌ بَيْنَ عَيْنِي تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ رَحِمَهُ اللهُ وَخَرَجَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ رِضَاكَ فِي أَنْ أَقْذِفَ بِنَفْسِي فِي هَذَا الْبَحْرِ لَفَعَلْتُهُ اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ رِضَاكَ فِي أَنْ أَضَعَ ظُبَةَ سَيْفِي (١) فِي بَطْنِي ثُمَّ أَنْحَنِي عَلَيْهَا حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي لَفَعَلْتُ وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ عَمَلاً أَرْضَى لَكَ مِنْ جِهَادِ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ وَلَوْ أَعْلَمُ عَمَلاً هُوَ أَرْضَى لَكَ مِنْهُ لَفَعَلْتُهُ وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى قَوْماً لَيَضْرِبَنَّكُمْ ضَرْباً يَرْتَابُ مِنْهُ الْمُبْطِلُونَ وَاللهِ لَوْ ضَرَبُونَا حَتَّى بَلَغُونَا سَعَفَاتِ هَجَرَ (٢) لَعَلِمْنَا أَنَّا عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَبْتَغِي رِضْوَانَ اللهِ لَا يَرْجِعُ إِلَى مَالٍ وَلَا وَلَدٍ فَأَتَاهُ عِصَابَةٌ فَقَالَ اقْصِدُوا بِنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ بِدَمِ عُثْمَانَ وَاللهِ مَا أَرَادُوا الطَّلَبَ بِدَمِهِ وَلَكِنَّهُمْ ذَاقُوا الدُّنْيَا وَاسْتَحَبُّوهَا وَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ إِذَا لَزِمَهُمْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَتَمَرَّغُونَ

________________

(١) ظبة السيف : حده.

(٢) سعفات جمع السعفة ـ بالتحريك ـ : جريدة النخل. وهجر : اسم لجميع ارض بحرين. وقيل انما خص هجر في هذا الحديث لبعد المسافة ولكثرة النخيل بها.

٢٥٨

فِيهِ مِنْهَا وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ سَابِقَةٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا طَاعَةَ النَّاسِ وَالْوَلَايَةَ عَلَيْهِمْ فَخَدَعُوا أَتْبَاعَهُمْ بِأَنْ قَالُوا إِمَامُنَا قُتِلَ مَظْلُوماً لِيَكُونُوا بِذَلِكَ جَبَابِرَةً وَمُلُوكاً فَبَلَغُوا مَا تَرَوْنَ وَلَوْ لَا هَذِهِ الشُّبْهَةُ لَمَا تَبِعَهُمْ رَجُلَانِ مِنَ النَّاسِ اللهُمَّ إِنْ تَنْصُرْنَا فَطَالَ مَا نَصَرْتَ وَإِنْ تَجْعَلْ لَهُمُ الْأَمْرَ فَادَّخِرْ لَهُمْ بِمَا أَحْدَثُوا فِي عِبَادِكَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ثُمَّ مَضَى وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِوَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ صِفِّينَ إِلَّا تَبِعَهُ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم ثُمَّ جَاءَ إِلَى هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي الْوَقَّاصِ وَهُوَ الْمِرْقَالُ وَكَانَ صَاحِبَ رَايَةِ عَلِيٍّ علیهما السلام فَقَالَ يَا هَاشِمُ أَعَوَراً وَجُبْناً لَا خَيْرَ فِي أَعْوَرَ لَا يَغْشَى الْبَأْسَ ارْكَبْ يَا هَاشِمُ فَرَكِبَ وَمَضَى مَعَهُ وَهُوَ يَقُولُ :

أَعْوَرُ يَبْغِي أَهْلَهُ مُحِلًّا

قَدْ عَالَجَ الْحَيَاةَ حَتَّى مَلَّا

وَعَمَّارٌ يَقُولُ تَقَدَّمْ يَا هَاشِمُ ـ الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ وَالْمَوْتُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْأَسَلِّ (١) وَقَدْ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَزُيِّنَتِ الْحُورُ الْعِينُ :

الْيَوْمَ أَلْقَى الْأَحِبَّةَ

مُحَمَّداً وَحِزْبَهُ

وَتَقَدَّمَ حَتَّى دَنَا مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ يَا عَمْرُو بِعْتَ دِينَكَ بِمِصْرَ تَبّاً لَكَ تَبّاً لَكَ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ أَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ قَالَ لَهُ أَشْهَدُ عَلَى عِلْمِي فِيكَ أَنَّكَ لَا تَطْلُبُ بِشَيْءٍ مِنْ فِعْلِكَ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى وَأَنَّكَ إِنْ لَمْ تُقْتَلِ الْيَوْمَ تَمُتْ غَداً فَانْظُرْ إِذَا أُعْطِيَ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ نِيَّاتِهِمْ مَا نِيَّتُكَ لِغَدٍ فَإِنَّكَ صَاحِبُ هَذِهِ الرَّايَةِ ثَلَاثاً مَعَ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ وَمَا هِيَ بِأَبَرَّ وَلَا أَتْقَى ثُمَّ قَاتَلَ عَمَّارٌ وَلَمْ يَرْجِعْ وَقُتِلَ.

قَالَ حَبَّةُ بْنُ جُوَيْنٍ الْعُرَنِيُّ قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ حَدِّثْنَا فَإِنَّا نَخَافُ الْفِتَنَ فَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْفِئَةِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ سُمَيَّةَ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم قَالَ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ النَّاكِبَةُ عَنِ الطَّرِيقِ فَإِنَّ آخِرَ رِزْقِهِ ضَيَاحٌ مِنْ لَبَنٍ (٢) قَالَ حَبَّةُ فَشَهِدْتُهُ يَوْمَ قُتِلَ يَقُولُ ائْتُونِي بِآخِرِ رِزْقٍ لِي مِنَ الدُّنْيَا فَأُتِيَ بِضَيَاحٍ مِنْ لَبَنٍ فِي قَدَحٍ أَرْوَحَ بِحَلْقَةٍ حَمْرَاءَ فَمَا أَخْطَأَ حُذَيْفَةُ بِقِيَاسِ شِعْرِهِ فَقَالَ :

الْيَوْمَ أَلْقَى الْأَحِبَّةَ

مُحَمَّداً وَحِزْبَهُ

وَقَالَ :

________________

(١) الأسل : الرماح.

(٢) الضيح والضياح ـ بالفتح ـ : اللبن الرقيق الممزوج (ه. م)

٢٥٩

وَاللهِ لَوْ ضَرَبُونَا حَتَّى بَلَغُونَا سَعَفَاتِ هَجَرَ لَعَلِمْتُ أَنَّنَا عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ ثُمَّ قُتِلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قِيلَ قَتَلَهُ أَبُو الْعَادِيَةِ وَاجْتَزَّ رَأْسَهُ ابْنُ جوى [جُونِيٍ] السَّكْسَكِيُّ وَكَانَ ذُو الْكِلَاعِ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ وَآخِرُ شَرْبَةٍ تَشْرَبُهَا ضَيَاحٌ مِنْ لَبَنٍ.

وَنَقَلْتُ مِنْ مَنَاقِبِ الْخُوَارِزْمِيِّ قَالَ شَهِدَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ الْجَمَلَ وَهُوَ لَا يَسُلُّ سَيْفاً وَصِفِّينَ وَقَالَ لَا أُصَلِّي أَبَداً خَلْفَ إِمَامٍ حَتَّى يُقْتَلَ عَمَّارٌ فَأَنْظُرَ مَنْ يَقْتُلُهُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَقُولُ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ قَالَ فَلَمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ قَالَ خُزَيْمَةُ قَدْ جَاءَتْ لِي الصَّلَاةُ ثُمَّ اقْتَرَبَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ عَمَّاراً أَبُو الْعَادِيَةِ الْمُزَنِيُّ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ فَسَقَطَ وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يُقَاتِلُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً فَلَمَّا وَقَعَ أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَاجْتَزَّ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَا يَخْتَصِمَانِ كِلَاهُمَا يَقُولُ أَنَا قَتَلْتُهُ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَاللهِ إِنْ يَخْتَصِمَانِ إِلَّا فِي النَّارِ فَسَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ فَقَالَ لِعَمْرٍو وَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا صَنَعْتَ قَوْمٌ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ دُونَنَا تَقُولُ لَهُمَا إِنَّكُمَا تَخْتَصِمَانِ فِي النَّارِ فَقَالَ عَمْرٌو هُوَ وَاللهِ ذَاكَ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُهُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي مِتُّ قَبْلَ هَذَا بِعِشْرِينَ سَنَةً وَبِالْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنَّا نُعَمِّرُ الْمَسْجِدَ وَكُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم فَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ (١) وَيَقُولُ أَلَا تَحْمِلُ كَمَا يَحْمِلُ أَصْحَابُكَ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ الْأَجْرَ مِنَ اللهِ تَعَالَى قَالَ فَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ وَيْحَكَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَكَ إِلَى النَّارِ قَالَ عَمَّارٌ أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ أَظُنُّهُ قَالَ مِنَ الْفِتَنِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لِأَبِيهِ عَمْرٍو حِينَ قُتِلَ عَمَّارٌ أَقَتَلْتُمْ عَمَّاراً وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم مَا قَالَ فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللهِ فَقَالَ إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ فَسَمِعَهُ أَهْلُ الشَّامِ فَقَالُوا إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ فَبَلَغَتْ عَلِيّاً علیهما السلام فَقَالَ أَيَكُونُ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم قَاتَلَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ.

________________

(١) وفي بعض النسخ «عن رأس عمار».

٢٦٠