كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

لَيُرَى بَيَاضُ مَا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ حُنَيْنٍ فَاسْتَظْهَرَ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ فَخَرَجَ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَظَنَّ أَكْثَرُهُمْ أَنْ لَنْ يُغْلَبُوا لَمَّا شَاهَدُوا مِنْ كَثْرَةِ جَمْعِهِمْ وَعَدَدِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ وَأَعْجَبَ أَبَا بَكْرٍ (١) الْكَثْرَةَ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ لَنْ يُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ فَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا ظَنُّوهُ وَعَانَهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا الْتَقَوْا لَمْ يَلْبَثُوا وَانْهَزَمُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم إِلَّا تِسْعَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَعَاشِرُهُمْ أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ وَقُتِلَ رَحِمَهُ اللهُ وَثَبَتَ التِّسْعَةُ الْهَاشِمِيُّونَ وَرَجَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَلَاحَقُوا وَكَانَتِ الْكَرَّةُ لَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِعْجَابِ أَبِي بَكْرٍ بِالْكَثْرَةِ (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٢) يُرِيدُ عَلِيّاً علیهما السلام وَمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَثَمَانِيَةٌ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَنْ يَسَارِهِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ مُمْسِكٌ بِسَرْجِهِ عِنْدَ نَفْرِ بَغْلَتِهِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنَوْفَلُ بْنُ حَرْثٍ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَرْثِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعُتْبَةُ وَمُعَتِّبُ ابْنَا أَبِي لَهَبٍ حَوْلَهُ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ عِبَادَةِ الْغَافِقِيُ

لَمْ يُوَاسِ النَّبِيَّ غَيْرُ بَنِي

هَاشِمٍ عِنْدَ السُّيُوفِ يَوْمَ حُنَيْنٍ

هَرَبَ النَّاسُ غَيْرَ تِسْعَةٍ وَرَهْطٍ

فَهُمْ يَهْتِفُونَ بِالنَّاسِ أَيْنَ (٣)

ثُمَّ قَامُوا مَعَ النَّبِيِّ عَلَى الْمَوْتِ

فَأَبَوْا زَيْناً لَنَا غَيْرَ شَيْنٍ (٤)

________________

(١) أي أصابهم بالعين.

(٢) التوبة : ٢٥.

(٣) هتف فلان بفلان : صاح.

(٤) آب : رجع.

٢٢١

وَثَوَى أَيْمَنُ الْأَمِينُ مِنَ  

 

الْقَوْمِ شَهِيداً فَاعْتَاضَ قُرَّةَ عَيْنٍ (١)  

وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ :

نَصَرْنَا رَسُولَ اللهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةً

وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَاقْشَعُوا (٢)

وَقَوْلِي إِذَا مَا الْفَضْلُ شَدَّ بِسَيْفِهِ

عَلَى الْقَوْمِ أُخْرَى يَا بَنِيَّ لِيَرْجِعُوا (٣)

وَعَاشِرُنَا لَاقَى الْحَمَامَ بِنَفْسِهِ

لِمَا نَالَهُ فِي اللهِ لَا يَتَوَجَّعُ (٤)

يَعْنِي بِهِ أَيْمَنَ ابْنَ أُمِّ أَيْمَنَ وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم هَزِيمَةَ الْقَوْمِ قَالَ لِلْعَبَّاسِ وَكَانَ رَجُلاً جَهْوَرِيّاً صَيِّتاً نَادِ فِي النَّاسِ وَذَكِّرْهُمُ الْعَهْدَ فَنَادَى الْعَبَّاسُ يَا أَهْلَ بِيعَةِ الشَّجَرَةِ يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَى أَيْنَ تَفِرُّونَ اذْكُرُوا الْعَهْدَ الَّذِي عَاهَدَكُمْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَالْقَوْمُ عَلَى وُجُوهِهِمْ قَدْ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَكَانَتْ لَيْلَةٌ ظَلْمَاءُ وَرَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم فِي الْوَادِي وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ خَرَجُوا عَلَيْهِ مِنْ جَنَبَاتِ الْوَادِي وَشِعَابِهِ وَمَضَايِقِهِ بِسُيُوفِهِمْ وَعُمُدِهِمْ فَنَظَرَ إِلَى النَّاسِ بِبَعْضِ وَجْهِهِ فَأَضَاءَ كَأَنَّهُ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ثُمَّ نَادَى أَيْنَ مَا عَاهَدْتُمُ اللهَ عَلَيْهِ فَأَسْمَعَ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ فَلَمْ يَسْمَعْهَا رَجُلٌ إِلَّا رَمَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَانْحَدَرُوا إِلَى حَيْثُ كَانُوا مِنَ الْوَادِي حَتَّى لَحِقُوا بِالْعَدُوِّ فَوَاقَعُوهُ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ وَمَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ أَمَامَ الْقَوْمِ إِذَا أَدْرَكَ ظُفُراً مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَكَبَّ عَلَيْهِمْ وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَاتَّبَعُوهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ

أَنَا أَبُو جَرْوَلٍ لَا بِرَاحٍ

حَتَّى نُبِيحَ الْقَوْمَ أَوْ نُبَاحَ

فَصَمَدَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَضَرَبَ عَجُزَ بَعِيرِهِ فَصَرَعَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَطَرَهُ.

يُقَالُ قَطَرَهُ أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى أَحَدِ قُطْرَيْهِ أَيْ جَانِبَيْهِ.

________________

(١) ثوى بالمكان : أقام. واعتاض : أخذ العوض.

(٢) اقشع القوم عن المكان : أقلعوا.

(٣) أي اضرب ضربة أخرى ليرجع القوم على أدبارهم.

(٤) الحمام : الموت.

٢٢٢

ثُمَّ قَالَ

قَدْ عَلِمَ الْقَوْمُ لَدَى الصَّبَاحِ

أَنِّي فِي الْهَيْجَاءِ ذُو نَضَاحٍ (١)

فَكَانَتْ هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلِ أَبِي جَرْوَلٍ لَعَنَهُ اللهُ ثُمَّ الْتَأَمَ الْمُسْلِمُونَ وَصَفُّوا لِلْعَدُوِّ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم اللهُمَّ إِنَّكَ أَذَقْتَ أَوَّلَ قُرَيْشٍ نَكَالاً فَأَذِقْ آخِرَهُمْ وَبَالاً وَتَجَالَدُوا فَقَامَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم فِي رَكَائِبِهِ فَقَالَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ.

الْوَطِيسُ التَّنُّورُ وَاسْتُعِيرَ لِلْحَرْبِ إِذَا اشْتَدَّتْ وَيُقَالُ إِنَّهَا لَمْ تُسْمَعْ إِلَّا مِنْهُ ع.

أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ

فَمَا كَانَ أَسْرَعَ مِنْ أَنْ وَلَّى الْقَوْمُ أَدْبَارَهُمْ وَجِيءَ بِالْأُسَرَى مُكَتِّفِينَ وَلَمَّا قَتَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَبَا جَرْوَلٍ وَوَضَعَ الْمُسْلِمُونَ سُيُوفَهُمْ فِيهِمْ قَتَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ رَجُلاً ثُمَّ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ وَالْأَسْرُ حِينَئِذٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي عَانَهُمْ وَعَلِيٌّ علیهما السلام الَّذِي أَعَانَهُمْ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ فِي جُمْلَةِ مَنِ انْهَزَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

فَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَقِيتُ أَبِي مُنْهَزِماً مَعَ بَنِي أَبِيهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَصِحْتُ بِهِ يَا ابْنَ حَرْبٍ وَاللهِ مَا صَبَرْتَ مِنِ ابْنِ عَمِّكَ وَلَا قَاتَلْتَ عَنْ دِينِكَ وَلَا كَفَفْتَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ عَنْ حَرِيمِكَ فَقَالَ مَنْ أَنْتَ فَقُلْتُ مُعَاوِيَةُ قَالَ ابْنُ هِنْدٍ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ بِأَبِي وَأُمِّي ثُمَّ وَقَفَ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَانْضَمَمْتُ إِلَيْهِمْ وَحَمَلْنَا عَلَى الْقَوْمِ فَضَعْضَعْنَاهُمْ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ.

وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ قَسَمَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم الْغَنَائِمَ وَأَجْزَلَ الْقِسْمَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ كَأَبِي سُفْيَانَ وَمُعَاوِيَةَ ابْنِهِ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَرِجَالٍ مِنْهُمْ وَأَعْطَى الْأَنْصَارَ شَيْئاً يَسِيراً فَغَضِبَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَلَغَهُ عَنْهُمْ مَقَالٌ فَأَسْخَطَهُ فَجَمَعَهُمْ وَقَالَ اجْلِسُوا وَلَا يَجْلِسُ

________________

(١) نضح القوم بالنبل : رماهم بها وفرقها فيهم. وجاء النضاح بمنى الدفع والذب أيضا وأنشد «ولو بلا في محفل نضاحى» أي ذبى ونضحى عنه لكنه يتعدى بلفظة «عن» غالبا.

٢٢٣

مَعَكُمْ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم وَمَعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَجَلَسَ وَسْطَهُمْ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكُمْ فَأَجِيبُونِي أَلَمْ تَكُونُوا ضَالِّينَ فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي قَالُوا بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ قَالَ أَلَمْ تَكُونُوا (عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) فَأَنْقَذَكُمُ اللهُ بِي قَالُوا بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ قَالَ أَلَمْ تَكُونُوا قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمُ اللهُ بِي قَالُوا بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ قَالَ أَلَمْ تَكُونُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِي قَالُوا بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ سَكَتَ صلی الله علیه وسلم هُنَيْئَةً وَقَالَ أَلَا تُجِيبُونَ بِمَا عِنْدَكُمْ قَالُوا بِمَ نُجِيبُكَ فِدَاكَ آبَاؤُنَا وَأُمَّهَاتُنَا قَدْ أَجَبْنَا بِأَنَّ لَكَ الْمَنَّ وَالْفَضْلَ وَالطَّوْلَ عَلَيْنَا قَالَ أَمَا لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ وَأَنْتَ جِئْتَنَا طَرِيداً فَآوَيْنَاكَ وَخَائِفاً فَآمَنَّاكَ وَمُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْبُكَاءِ وَقَامَ شُيُوخُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالُوا رَضِينَا بِاللهِ وَعَنْهُ وَبِرَسُولِهِ وَعَنْهُ وَهَذِهِ أَمْوَالُنَا بَيْنَ يَدَيْكَ فَإِنْ شِئْتَ فَاقْسِمْهَا عَلَى قَوْمِكَ وَإِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَّا عَلَى غَيْرِ وَغْرِ صَدْرٍ وَغِلٍّ فِي قَلْبٍ (١) وَلَكِنَّهُمْ ظَنُّوا سَخَطاً عَلَيْهِمْ وَتَقْصِيراً بِهِمْ وَقَدِ اسْتَغْفَرُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ صلی الله علیه وسلم اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ـ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ غَيْرُكُمْ بِالثَّنَاءِ وَالنِّعَمِ وَتَرْجِعُونَ أَنْتُمْ وَفِي سَهْمِكُمْ رَسُولُ اللهِ قَالُوا بَلَى رَضِينَا قَالَ صلی الله علیه وسلم الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ الكرش معروفة يقال لها كرش وكرش والعيبة ما يجعل فيه الثياب والجمع عيب وكان المعنى هم موضع سري أودع عندهم منه وما أريد حفظه والانتفاع به وكتمانه كما يودع الكرش والعيبة ما يترك فيهما للانتفاع والحفظ وهذا أنسب من كون الكرش يراد بها الجماعة من الناس كما قال الجوهري فإنه قال الكرش الجماعة من الناس وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي فيخلو الكلام من

________________

(١) الوغر : شدة توقد الحر ، ومنه قيل : في صدره على وغر بالتسكين اي ضغن وعداوة وتوقد من الغيظ والمصدر بالتحريك يقول : وغر صدره على يوغر وغرا فهو واغر الصدر على وقد اوغرت صدره على فلان اي أحميته الغيظ. والغل ـ بالكسر ـ : الغش والحقد ، وقد غل صدره يغل بالكسر غلا إذا كان ذا غش أو ضعن أو حقد (منه ره)

٢٢٤

المناسبة والمدح على قوله وَكَانَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم أَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ أَرْبَعَةً مِنَ الْإِبِلِ يَوْمَئِذٍ فَسَخِطَهَا وَقَالَ يَوْمَئِذٍ :

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ

بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ (١)

وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ

يَفُوقَانِ شَيْخِي فِي مَجْمَعٍ

وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمْ

وَمَنْ يُوضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعُ

فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم ذَلِكَ فَأَحْضَرَهُ وَقَالَ أَنْتَ الْقَائِلُ أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَسْتَ بِشَاعِرٍ قَالَ وَكَيْفَ قَالَ قَالَ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام قُمْ يَا عَلِيُّ إِلَيْهِ فَاقْطَعْ لِسَانَهُ قَالَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ فَوَ اللهِ لَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَانَتْ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ يَوْمِ خَثْعَمٍ حِينَ أَتَوْنَا فِي دِيَارِنَا فَانْطَلَقَ بِي وَإِنِّي لَأَوَدُّ أَنْ أُخْلِصَ مِنْهُ فَقُلْتُ أَتَقْطَعُ لِسَانِي قَالَ إِنِّي مُمْضٍ فِيكَ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَمَا زَالَ حَتَّى أَدْخَلَنِي الْحَظَائِرَ (٢) وَقَالَ خُذْ مَا بَيْنَ أَرْبَعٍ إِلَى مِائَةٍ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَكْرَمَكُمْ وَأَحْلَمَكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم أَعْطَاكَ أَرْبَعاً وَجَعَلَكَ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ شِئْتَ فَخُذْهَا وَإِنْ شِئْتَ فَخُذِ الْمِائَةَ وَكُنْ مَعَ أَهْلِ الْمِائَةِ قَالَ قُلْتُ أَشَرٌّ عَلَيَّ قَالَ إِنِّي آمُرُكَ أَنْ تَأْخُذَ مَا أَعْطَاكَ وَتَرْضَى قُلْتُ فَإِنِّي أَفْعَلُ وَلَمَّا قَسَمَ صلی الله علیه وسلم غَنَائِمَ حُنَيْنٍ جَاءَ رَجُلٌ طُوَالٌ آدَمُ أَحْنَى الْأُدْمَةُ السُّمْرَةُ وَرَجُلٌ أَحْنَى الظَّهْرِ وَامْرَأَةٌ حَنْيَاءُ وَحَنَاءٌ فِي ظَهْرِهَا احْدِيدَابٌ وَالطُّولُ بِالضَّمِّ الطَّوِيلُ فَإِذَا فَرَطَ قِيلَ طَوَّالٌ شُدِّدَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ فَسَلَّمَ وَلَمْ يَخُصَّ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُكَ وَمَا صَنَعْتَ فِي هَذِهِ الْغَنَائِمِ فَقَالَ وَكَيْفَ رَأَيْتَ قَالَ لَمْ أَرَكَ عَدَلْتَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ وَقَالَ وَيْلَكَ

________________

(١) عينية بن حصن ، والأقرع بن حابس من أهل مكّة ومن جملة المؤلّفة قلوبهم وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم أعطاهما أكثر ممّا أعطاه العباس بن مرداس.

(٢) الخطيرة : الموضع الذي يحاط عليه لتأوى إليه الغنم والإبل وسائر الماشية يقيها البرد والريح.

٢٢٥

إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَدْلُ عِنْدِي فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ أَلَا نَقْتُلُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ أَتْبَاعٌ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُهُمُ اللهُ عَلَى يَدَيْ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِي فَقَتَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ قَتَلَ مِنَ الْخَوَارِجِ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ.

فانظر إلى مفاخر أمير المؤمنين في هذه الغزاة ومناقبه وجل بفكرك في بدائع فضله وعجائبه واحكم فيها برأي صحيح الرأي صائبه واعجب من ثباته حين فر الشجاع على أعقابه ولم ينظر في الأمر وعواقبه واعلم أنه أحق بالصحبة حين لم ير مفارقة صاحبه وتيقن أنه إذا حم الحمام لم ينتفع المرء بغير أهله وأقاربه فإذا صح ذلك عندك بدلائله وبيناته وعرفته بشواهده وعلاماته فاقطع أن ثبات من ثبت من نتائج ثباته وأنهم كانوا أتباعا له في حروبه ومقاماته وأن رجوع من رجع من هزيمته فإنما كان عند ما بان لهم من النصر وأماراته وقتله ذلك الطاغية في أربعين من حماته حتى أذن الله بتفرقة ذلك الجمع وشتاته واقتسم المسلمون ما أفاءه الله عليهم من غنائم ذلك الجيش اللهام وإصلاحه أمر العباس حين فهم عن رسول الله فحوى الكلام ورده بلطف توصله إلى الرضا بقسم النبي صلی الله علیه وسلم فصح له باتباع رأيه الثبات على الإسلام ثم كلام ذلك الشقي الذي اعترض على قسمة النبي ونطق الشيطان على لسانه فسام نفسه في المرعى الوبيل الوبي وحكم الرسول صلی الله علیه وسلم أنه من جرز سيف الوصي ونبه بذلك على فضله وأنه على الصراط السوي وأنه على الحق والحق معه إخبارا من الله العلي.

وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرَهَا وَأَنْفَذَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي خَيْلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَطَأَ مَا وَجَدَ وَيَكْسِرُ كُلَّ صَنَمٍ وَجَدَهُ فَسَارَ وَلَقِيَتْهُ خَيْلٌ مِنْ خَثْعَمٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ وَبَرَزَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ شِهَابٌ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ فَقَالَ صلی الله علیه وسلم :

إِنَّ عَلَى كُلِّ رَئِيسٍ حَقّاً

أَنْ يَرْوِيَ الصَّعْدَةَ أَوْ تَنْدَقَّا (١)

________________

(١) وفي بعض الكتب «ان يخضب الصعدة أو تندقا» الصعدة : القناة المستوية المستقيمة.

٢٢٦

وَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ وَهَزَمَ جَمْعَهُ وَكَسَرَ الْأَصْنَامَ وَعَادَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَهُوَ عَلَى الطَّائِفِ فَخَلَا بِهِ وَنَاجَاهُ طَوِيلاً قَالَ جَابِرٌ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتُنَاجِيهِ وَتَخْلُو بِهِ دُونَنَا فَقَالَ يَا عُمَرُ مَا أَنَا انْتَجَيْتُهُ وَلَكِنَّ اللهَ انْتَجَاهُ وَخَرَجَ مِنْ حِصْنِ الطَّائِفِ نَافِعُ بْنُ غَيْلَانَ فِي خَيْلٍ مِنْ ثَقِيفٍ فَلَقِيَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِبَطْنِ وَجٍّ فَقَتَلَهُ وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَدَخَلَهُمُ الرُّعْبُ فَنَزَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَأَسْلَمُوا وَكَانَ حِصَارُ الطَّائِفِ بَضْعَةَ عَشَرَ يَوْماً.

ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ

فَأَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ وَأَنْ يَسْتَنْفِرَ النَّاسَ لِلْخُرُوجِ إِلَيْهَا وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى حَرْبٍ وَلَا يُمْنَى فِيهَا بِقِتَالِ عَدُوٍّ وَأَنَّ الْأُمُورَ تَنْقَادُ لَهُ بِغَيْرِ سَيْفٍ وَتَعَبَّدَهُ بِامْتِحَانِ أَصْحَابِهِ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ وَاخْتِبَارِهِمْ لِيَتَمَيَّزُوا بِذَلِكَ وَكَانَ الْحَرُّ قَوِيّاً وَقَدْ أَيْنَعَتْ ثِمَارُهُمْ (١) فَأَبْطَأَ أَكْثَرُهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ رَغْبَةً فِي الْعَاجِلِ وَحِرْصاً عَلَى الْمَعِيشَةِ وَإِصْلَاحِهَا وَخَوْفاً مِنَ الْقَيْظِ وَبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ وَنَهَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى اسْتِثْقَالِ النُّهُوضِ وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ وَاسْتُخْلِفَ عَلِيٌّ علیهما السلام فِي أَهْلِهِ وَوُلْدِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَمُهَاجِرِيهِ ـ : وَقَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ الْمَدِينَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا بِي أَوْ بِكَ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَيْهَا فِي غَيْبَتِهِ مِمَّنْ عَسَاهُ يَطْمَعُ فِيهَا مِنْ مُفْسِدِي الْعَرَبِ فَاسْتَظْهَرَ لَهَا بِاسْتِخْلَافِهِ فِيهَا وَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا عَلِمُوا بِاسْتِخْلَافِهِ عَلِيّاً حَسَدُوهُ وَعَظُمَ عَلَيْهِمْ مَقَامُهُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَغِبْ إِذَا حَضَرَهَا وَأَنَّهُ لَا مَطْمَعَ لِلْعَدُوِّ فِيهَا بِوُجُودِهِ وَغَبَطُوهُ عَلَى الرَّفَاهِيَةِ وَالدَّعَةِ وَتَكَلَّفَ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمُ الْمَشَاقَّ فَأَرْجَفُوا أَنَّهُ لَمْ يُخَلِّفْهُ إِكْرَاماً لَهُ وَلَا إِجْلَالاً وَإِنَّمَا خَلَّفَهُ اسْتِثْقَالاً لِمَكَانِهِ وَرَغْبَةً فِي بَعْدِهِ فَبَهَتُوهُ بِهَذَا الْإِرْجَافِ كَمَا قِيلَ عَنِ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم إِنَّهُ سَاحِرٌ وَإِنَّهُ شَاعِرٌ وَ (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) وَهُمْ يَعْلَمُونَ

________________

(١) أينع الثمر : أدرك وطاب.

(٢) أرجف القوم : خاضوا في الاخبار السيئة وذكر الفتن على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أنّ يصحّ عندهم شيء.

٢٢٧

أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُ كَانَ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْ قَلْبِهِ.

فَلَمَّا سَمِعَ علیهما السلام أَرَادَ إِظْهَارَ كَذِبِهِمْ وَفَضِيحَتِهِمْ فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ زَعَمُوا أَنَّكَ إِنَّمَا خَلَّفْتَنِي اسْتِثْقَالاً وَمَقْتاً فَقَالَ ارْجِعْ يَا أَخِي إِلَى مَكَانِكَ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا بِي أَوْ بِكَ فَأَنْتَ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي وَدَارِ هِجْرَتِي وَقَوْمِي أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي فأظهر من استخلافه وأبان من منزلته منه ما استوجب به كلما كان وجب لهارون علیهما السلام واستثنى النبوة ليتحقق له ما عداها من الأحكام التي كان لهارون في قوله تعالى (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (١) وفي قوله تعالى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) فأجاب الله مسألته بقوله تعالى (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٢) فوجب لعلي علیهما السلام من النبي صلی الله علیه وسلم كلما وجب لهارون من موسى علیهما السلام إلا النبوة التي استثناها.

وهذه فضيلة ما شاركه فيها أحد من البشر ومنقبة فات بها من بقي ومن غبر وسيرة طرزت عيون التواريخ والسير ومكارم نبه لها علي فاستغنى عن عمر ولو علم الله تعالى أن نبيه صلی الله علیه وسلم يحتاج في هذه الغزاة إلى حرب لم يأذن في تخلفه ولا رضي بلبثه عنها وتوقفه ولكنه وعد بأن الجهة التي يقصدها لا يفتقر في نيلها إلى مصاولة ولا يحتاج في تملكها إلى منازلة فاستخلف عليا على حراسة دار هجرته وحفظ ما يخاف عليه من كيد العدو ومعرته.

وَلَمَّا عَادَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم قَدِمَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ أَسْلِمْ يَا عَمْرُو يُؤْمِنُكَ اللهَ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ فَقَالَ مَا الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فَإِنِّي لَا أَفْزَعُ فَقَالَ يَا عَمْرُو إِنَّهُ لَيْسَ كَمَا تَظُنُّ إِنَّ النَّاسَ يُصَاحُ بِهِمْ صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَبْقَى مَيِّتٌ إِلَّا نُشِرَ وَلَا حَيٌّ إِلَّا مَاتَ إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ يُصَاحُ بِهِمْ صَيْحَةٌ أُخْرَى فَيُنْشَرُ مَنْ مَاتَ وَيَصُفُّونَ جَمِيعاً وَتَنْشَقُّ السَّمَاءُ وَتُهَدُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ وَ

________________

(١) الأعراف : ١٤٢.

(٢) طه : ٣٢ ـ ٣٦.

٢٢٨

تَزْفِرُ النِّيرَانُ وَتَرْمِي النَّارُ بِمِثْلِ الْجِبَالِ شَرَراً فَلَا يَبْقَى ذُو رُوحٍ إِلَّا انْخَلَعَ قَلْبُهُ ذَكَرَ ذَنْبَهُ وَشُغِلَ بِنَفْسِهِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ فَأَيْنَ أَنْتَ يَا عَمْرُو مِنْ هَذَا قَالَ إِنِّي أَسْمَعُ أَمْراً عَظِيماً وَأَسْلَمَ وَآمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَآمَنَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ وَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ.

ثُمَّ إِنَّ عَمْراً نَظَرَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ عَثْعَثٍ الْخَثْعَمِيِّ فَأَخَذَ بِرَقَبَتِهِ وَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم فَقَالَ أَعْدِنِي عَلَى هَذَا الْفَاجِرِ الَّذِي قَتَلَ أَبِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم أَهْدَرَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَانْصَرَفَ عَمْرٌو مُرْتَدّاً وَأَغَارَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ بَنِي الْحَرْثِ بْنِ كَعْبٍ وَمَضَى إِلَى قَوْمِهِ فَاسْتَدْعَى رَسُولُ اللهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام وَأَمَّرَهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَأَنْفَذَهُ إِلَى بَنِي زُبَيْدٍ وَأَرْسَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْأَعْرَابِ وَأَمَّرَهُ بِقَصْدِ الْجُعْفِيِّ فَإِذَا الْتَقَيَا فَالْأَمِيرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَعْمَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ـ وَاسْتَعْمَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَلَمَّا سَمِعَتْ جُعْفِيٌّ افْتَرَقَتْ فِرْقَتَيْنِ ذَهَبَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْيَمَنِ وَمَالَتِ الْأُخْرَى إِلَى بَنِي زُبَيْدٍ فَسَمِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَكَاتَبَ خَالِداً أَنْ قِفْ حَيْثُ أَدْرَكَكَ رَسُولِي فَلَمْ يَقِفْ فَكَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ يَأْمُرُهُ بِأَنْ تَعَرَّضَ لَهُ حَتَّى تَحْبِسَهُ فَاعْتَرَضَ لَهُ وَحَبَسَهُ فَأَدْرَكَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَنَّفَهُ عَلَى خِلَافِهِ وَسَارَ حَتَّى لَقِيَ بَنِي زُبَيْدٍ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا لِعَمْرٍو وَكَيْفَ أَنْتَ يَا أَبَا ثَوْرٍ إِذَا لَقِيَكَ هَذَا الْغُلَامُ الْقُرَشِيُّ فَأَخَذَ مِنْكَ الْإِتَاوَةَ (١) فَقَالَ سَيَعْلَمُ إِذَا لَقِيَنِي وَخَرَجَ عَمْرٌو فَقَالَ مَنْ يُبَارِزُ فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام فَقَامَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ فَقَالَ لَهُ دَعْنِي يَا أَبَا الْحَسَنِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أُبَارِزْهُ فَقَالَ علیهما السلام إِنْ كُنْتَ تَرَى لِي عَلَيْكَ طَاعَةً فَقِفْ مَكَانَكَ فَوَقَفَ ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَصَاحَ بِهِ صَيْحَةً فَانْهَزَمَ عَمْرٌو وَقَتَلَ أَخَاهُ وَابْنَ أَخِيهِ وَأُخِذَتِ امْرَأَتُهُ فَسُبِيَ مِنْهُمْ نِسْوَانٌ وَانْصَرَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام وَخَلَّفَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ لِيَقْبِضَ زَكَوَاتِهِمْ وَيُؤْمِنَ مَنْ عَادَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ مُسْلِماً فَرَجَعَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ وَاسْتَأْذَنَ عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ فَأَذِنَ لَهُ فَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَلَّمَهُ فِي امْرَأَتِهِ وَوُلْدِهِ فَوَهَبَهُمْ لَهُ وَكَانَ علیهما السلام اصْطَفَى مِنَ السَّبْيِ جَارِيَةً فَبَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَقَالَ لَهُ تَقَدَّمِ الْجَيْشَ وَأَعْلِمْهُ

________________

(١) الإتاوة : الخراج.

٢٢٩

بِمَا فَعَلَ عَلِيٌّ ـ مِنِ اصْطِفَائِهِ الْجَارِيَةَ مِنَ الْخُمُسِ لِنَفْسِهِ وَقَعْ فِيهِ (١) فَسَارَ بُرَيْدَةُ إِلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ فَلَقِيَهُ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِمْ فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ إِنَّمَا جِئْتُ لِأُعَرِّفَ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم مَا فَعَلَ عَلِيٌّ مِنِ اصْطِفَائِهِ الْجَارِيَةَ فَقَالَ اذْهَبْ لِمَا جِئْتَ فِيهِ فَإِنَّهُ سَيَغْضِبُ لِابْنَتِهِ مِمَّا صَنَعَ عَلِيٌّ فَدَخَلَ بُرَيْدَةُ وَمَعَهُ كِتَابُ خَالِدٍ فِيمَا أَرْسَلَهُ فِيهِ فَجَعَلَ يَقْرَؤُهُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللهِ يَتَغَيَّرُ فَقَالَ بُرَيْدَةُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ رَخَّصْتَ لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا ذَهَبَ فَيْؤُهُمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَيْحَكَ يَا بُرَيْدَةُ أَحْدَثْتَ نِفَاقاً إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَحِلُّ لَهُ مِنَ الْفَيْءِ مَا يَحِلُّ لِي إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَيْرُ النَّاسِ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَخَيْرُ مَنْ أُخَلِّفُ بَعْدِي لِكَافَّةِ أُمَّتِي يَا بُرَيْدَةُ احْذَرْ أَنْ تُبْغِضَ عَلِيّاً فَيُبْغِضَكَ اللهُ قَالَ بُرَيْدَةُ فَتَمَنَّيْتُ أَنَّ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ لِي فَسُخْتُ فِيهَا وَقُلْتُ أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سَخَطِ اللهِ وَسَخَطِ رَسُولِهِ يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَغْفِرْ لِي فَلَنْ أُبْغِضَ عَلِيّاً أَبَداً وَلَا أَقُولُ فِيهِ إِلَّا خَيْراً فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ص.

وفي هذه الغزاة من الفضل لأمير المؤمنين والفتح على يده وإظهار النبي صلی الله علیه وسلم منزلته وأنه يحل له من الفيء ما يحل له واختصاصه بذلك دون غيره وما ظهر من حب النبي له وتحذيره من بغضه وتعريف فضله من لم يكن يعرفه وحث بريدة على حبه وقوله هو خير الناس لك ولقومك وخير من أخلف بعدي لكافة أمتي تعريض لا والله بل تصريح بخلافته وإمامته وإشعار بمحله منه ومكانته وأنه أحقهم بمقامه من بعده وأخصهم به في نفسه وآثرهم عنده ما لا يشاركه فيه أحد ولا يقاربه ولا يدانيه ومن أين يدرك شأوه صلی الله علیه وسلم من يبتغيه وقد اجتمع له من خلال الشرف ما اجتمع فيه صلى الله عليه وعلى نبيه وآله وذويه

فصل ثم كانت غزاة السلسلة ، جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَقَالَ إِنَّ قَوْماً مِنَ الْعَرَبِ قَدِ اجْتَمَعُوا بِوَادِي الرَّمْلِ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَيِّتُوكَ بِالْمَدِينَةِ (٢) فَأَمَرَ بِالصَّلَاةَ جَامِعَةً فَاجْتَمَعُوا وَعَرَّفَهُمْ وَقَالَ مَنْ لَهُمْ فَانْتَدَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ عِدَّتُهُمْ ثَمَانُونَ

________________

(١) مر من وقع فلان وقيعة : سبه وعابه واغتابه.

(٢) بيت القوم والعدو : أوقع بهم ليلا من دون ان يعلموا.

٢٣٠

مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ فَاسْتَدْعَى أَبَا بَكْرٍ وَقَالَ لَهُ خُذِ اللِّوَاءَ وَامْضِ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ فَإِنَّهُمْ قَرِيبٌ مِنَ الْحَرَّةِ فَمَضَى وَمَعَهُ الْقَوْمُ حَتَّى قَارَبَ أَرْضَهُمْ وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الْحِجَارَةِ وَالشَّجَرِ وَهُمْ بِالْوَادِي وَالْمُنْحَدِرُ إِلَيْهِمْ صَعْبٌ فَلَمَّا صَارَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْوَادِي وَأَرَادَ الِانْحِدَارَ خَرَجُوا إِلَيْهِ فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمْعاً فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم عَقَدَ لِعُمَرَ لِوَاءً وَسَيَّرَهُ إِلَيْهِمْ فَكَمَنُوا لَهُ تَحْتَ الْحِجَارَةِ وَالشَّجَرِ فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَهْبِطَ خَرَجُوا إِلَيْهِ فَهَزَمُوهُ فَسَاءَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ابْعَثْنِي إِلَيْهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ وَلَعَلِّي أَخْدَعُهُمْ فَأَنْفَذَهُ مَعَ جَمَاعَةٍ وَوَصَّاهُ فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْوَادِي خَرَجُوا إِلَيْهِ فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً.

وَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم أَيَّاماً يَدْعُو عَلَيْهِمْ ثُمَّ دَعَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَعَقَدَ لَهُ ثُمَّ قَالَ : أَرْسَلْتُهُ كَرَّاراً غَيْرَ فَرَّارٍ وَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ اللهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ فَاحْفَظْنِي فِيهِ وَافْعَلْ بِهِ وَافْعَلْ فَدَعَا لَهُ مَا شَاءَ وَخَرَجَ عَلِيٌّ علیهما السلام وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم يُشَيِّعُهُ وَبَلَغَ مَعَهُ مَسْجِدَ الْأَحْزَابِ فَشَيَّعَهُ وَدَعَا لَهُ وَأَنْفَذَ مَعَهُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ الْعِرَاقِ مُتَنَكِّباً عَنِ الطَّرِيقِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ الْوَجْهِ ثُمَّ أَخَذَ بِهِمْ عَلَى طَرِيقٍ غَامِضَةٍ وَاسْتَقْبَلَ الْوَادِيَ مِنْ فَمِهِ وَكَانَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْوَادِي أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُخْفُوا حِسَّهُمْ (١) وَوَقَفَهُمْ مَكَاناً وَأَقَامَ أَمَامَهُمْ نَاحِيَةً مِنْهُمْ وَرَأَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ صَنِيعَهُ فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّ الْفَتْحَ يَكُونُ لَهُ فَأَرَادَ إِفْسَادَ الْحَالِ وَخَوَّفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ وُحُوشِ الْوَادِي وَذِئَابِهِ وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ أَنْ تَعْلُوَا الْوَادِيَ فَكَلَّمَا عَلِيّاً علیهما السلام فِي ذَلِكَ فَلَمْ يُجِبْهُمَا فَقَالَ عُمَرُ لَا نُضِيعُ أَنْفُسَنَا انْطَلِقُوا بِنَا نَعْلُو الْوَادِيَ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم أَمَرَنَا أَنْ لَا نُخَالِفَ عَلِيّاً فَكَيْفَ نُخَالِفُهُ وَنَسْمَعُ قَوْلَكَ فَمَا زَالُوا حَتَّى أَحَسَّ عَلِيٌّ الْفَجْرَ فَكَبَسَ الْقَوْمُ (٢) وَهُمْ غَافِلُونَ فَأَمْكَنَهُ اللهُ مِنْهُمْ وَنَزَلَتْ (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) إِلَى آخِرِهَا.

________________

(١) وفي رواية الإرشاد «أن يعكموا الخيل»

(٢) أي هجم عليهم من كل جانب.

٢٣١

فَبَشَّرَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم أَصْحَابَهُ بِالْفَتْحِ وَأَمَرَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ عَلِيٍّ فَاسْتَقْبَلُوهُ وَالنَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم يَقْدُمُهُمْ فَقَامُوا صَفَّيْنِ فَلَمَّا بَصُرَ بِالنَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم تَرَجَّلَ عَنْ فَرَسِهِ فَقَالَ لَهُ ارْكَبْ فَإِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ عَنْكَ رَاضِيَانِ فَبَكَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَرَحاً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم يَا عَلِيُّ لَوْ لَا أَنَّنِي أَشْفَقُ أَنْ تَقُولَ فِيكَ طَوَائِفُ مِنْ أُمَّتِي مَا قَالَتِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لَقُلْتُ فِيكَ الْيَوْمَ مَقَالاً لَا تَمُرُّ بِمَلَإٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ.

فصل [في المباهلة] وَلَمَّا انْتَشَرَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَمَا وَلَّاهُ مِنَ الْغَزَوَاتِ وَفَدَتِ الْوُفُودُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَكَانَ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ أَبُو حَارِثَةَ أُسْقُفُ نَجْرَانَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلاً مِنَ النَّصَارَى مِنْهُمُ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ وَعَبْدُ الْمَسِيحِ فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَصَارَتْ إِلَيْهِمْ الْيَهُودُ فَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ فَقَالَتِ النَّصَارَى لَهُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَهُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) (١) إِلَى آخِرِهَا فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ الْعَصْرَ جَاءُوا إِلَيْهِ يَقْدُمُهُمْ الْأُسْقُفُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَا تَقُولُ فِي السَّيِّدِ الْمَسِيحِ فَقَالَ صلی الله علیه وسلم عَبْدُ اللهِ اصْطَفَاهُ وَانْتَجَبَهُ فَقَالَ الْأُسْقُفُ أَتَعْرِفُ لَهُ أَباً وَلَدَهُ فَقَالَ علیهما السلام لَمْ يَكُنْ عَنْ نِكَاحٍ فَيَكُونَ لَهُ وَالِدٌ فَقَالَ كَيْفَ تَقُولُ إِنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ وَأَنْتَ لَا تَرَى عَبْداً بِغَيْرِ أَبٍ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى قَوْلِهِ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ). (٢)

فَتَلَاهَا عَلَى النَّصَارَى وَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَقَالَ إِنَّ اللهَ أَخْبَرَنِي أَنَ الْعَذَابَ يَنْزِلُ عَلَى الْمُبْطِلِ عَقِيبَ الْمُبَاهَلَةِ وَيُبَيِّنُ اللهُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ فَاجْتَمَعَ الْأُسْقُفُ وَأَصْحَابُهُ وَتَشَاوَرُوا وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى اسْتِنْظَارِهِ إِلَى صَبِيحَةِ غَدٍ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى رِحَالِهِمْ قَالَ الْأُسْقُفُ انْظُرُوا مُحَمَّداً فَإِنْ غَدَا بِأَهْلِهِ وَوُلْدِهِ فَاحْذَرُوا مُبَاهَلَتَهُ وَإِنْ غَدَا بِأَصْحَابِهِ فَبَاهِلُوهُ فَإِنَّهُ

________________

(١) البقرة : ١١٣.

(٢) الآيات : ٥٩ إلى ٦١.

٢٣٢

عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم آخِذاً بِيَدِ عَلِيٍّ علیهما السلام وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ علیهما السلام يَمْشِيَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَفَاطِمَةُ تَمْشِي خَلْفَهُ فَسَأَلَ الْأُسْقُفُ عَنْهُمْ فَقَالُوا هَذَا عَلِيٌّ ابْنُ عَمِّهِ وَهُوَ صِهْرُهُ وَأَبُو وُلْدِهِ وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَهَذَانِ الطِّفْلَانِ ابْنَا بِنْتِهِ مِنْ عَلِيٍّ وَهُمَا أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَهَذِهِ الْجَارِيَةُ فَاطِمَةُ ابْنَتُهُ وَهِيَ أَعَزُّ النَّاسِ عِنْدَهُ وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى قَلْبِهِ فَنَظَرَ الْأُسْقُفُ إِلَى الْعَاقِبِ وَالسَّيِّدِ وَعَبْدِ الْمَسِيحِ وَقَالَ لَهُمُ انْظُرُوا قَدْ جَاءَ بِخَاصَّتِهِ مِنْ وُلْدِهِ وَأَهْلِهِ لِيُبَاهِلَ بِهِمْ وَاثِقاً بِحَقِّهِ وَاللهِ مَا جَاءَ بِهِمْ وَهُوَ يَتَخَوَّفُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ فَاحْذَرُوا مُبَاهَلَتَهُ وَاللهِ لَوْ لَا مَكَانَةُ قَيْصَرَ لَأَسْلَمْتُ لَهُ وَلَكِنْ صَالِحُوهُ عَلَى مَا يَتَّفِقُ بَيْنَكُمْ وَارْجِعُوا إِلَى بِلَادِكُمْ وَارْتَئُوا لِأَنْفُسِكُمْ (١) فَقَالُوا رَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ فَقَالَ الْأُسْقُفُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّا لَا نُبَاهِلُكَ وَلَكِنَّا نُصَالِحُكَ فَصَالِحْنَا عَلَى مَا نَنْهَضُ بِهِ فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ قِيمَةُ كُلِّ حُلَّةٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَماً جِيَاداً فَمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ كَانَ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَكَتَبَ لَهُمْ بِهِ كِتَاباً.

ففي هذه القضية بيان لفضل علي علیهما السلام وظهور معجز النبي صلی الله علیه وسلم فإن النصارى علموا أنهم متى باهلوه حل بهم العذاب فقبلوا الصلح ودخلوا تحت الهدنة وإن الله تعالى أبان أن عليا هو نفس رسول الله كاشفا بذلك عن بلوغه نهاية الفضل ومساواته للنبي صلی الله علیه وسلم في الكمال والعصمة من الآثام وإن الله جعله وزوجته وولديه مع تقارب سنهما حجة لنبيه صلی الله علیه وسلم وبرهانا على دينه ونص على الحكم بأن الحسن والحسين أبناؤه وأن فاطمة علیهما السلام نساؤه والمتوجه إليهن الذكر والخطاب في الدعاء إلى المباهلة والاحتجاج وهذا فضل لم يشاركهم فيه أحد من الأمة ولا قاربهم.

ونقلت من كتاب الكشاف للزمخشري في تفسير هذه الآية ما صورته يقال بهله الله على الكاذب منا ومنكم والبهلة بالضم والفتح اللعنة وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها.

قلت الصرار خيط يشد على خلفها لئلا يرضعها ولدها.

________________

(١) ارتاي الامر : نظرفيه وتدبر.

٢٣٣

قال وأصل الابتهال هذا ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ قَالُوا حَتَّى نَرْجِعَ وَنَنْظُرَ فَلَمَّا تَخَالَوْا قَالُوا لِلْعَاقِبِ وَكَانَ ذَا رَأْيِهِمْ يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ مَا تَرَى فَقَالَ وَاللهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى أَنَّ مُحَمَّداً نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَضْلِ مِنْ أَمْرِ صَاحِبِكُمْ وَاللهِ مَا بَاهَلَ قَوْمٌ نَبِيّاً قَطُّ فَعَاشَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ وَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَتَهْلِكَنَّ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَوَادَعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرَفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَقَدْ غَدَا مُحْتَضِناً الْحُسَيْنَ (١) آخِذاً بِيَدِ الْحَسَنِ وَفَاطِمَةُ تَمْشِي خَلْفَهُ وَعَلِيٌّ خَلْفَهَا وَهُوَ يَقُولُ إِذَا أَنَا دَعَوْتُ فَأَمِّنُوا فَقَالَ أُسْقُفُ نَجْرَانَ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى إِنِّي لَأَرَى وُجُوهاً لَوْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُزِيلَ جَبَلاً مِنْ مَكَانِهِ لَأَزَالَهُ بِهَا فَلَا تُبَاهِلُوا فَتَهْلِكُوا وَلَا يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نَصْرَانِيٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ رَأَيْنَا أَنْ لَا نُبَاهِلَكَ وَأَنْ نُقِرَّكَ عَلَى دِينِكَ وَنَثْبُتُ عَلَى دِينِنَا قَالَ صلی الله علیه وسلم فَإِذَا أَبَيْتُمُ الْمُبَاهَلَةَ فَأَسْلِمُوا يَكُنْ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا قَالَ فَإِنِّي أُنَاجِزُكُمْ فَقَالُوا مَا لَنَا بِحَرْبِ الْعَرَبِ طَاقَةٌ وَلَكِنْ نُصَالِحُكَ عَلَى أَنْ لَا تَغْزُونَا وَلَا تُخِيفَنَا وَلَا تَرُدَّنَا عَنْ دِينِنَا عَلَى أَنْ نُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كُلَّ عَامٍ أَلْفَيْ حُلَّةٍ أَلْفاً فِي صَفَرٍ وَأَلْفاً فِي رَجَبٍ وَثَلَاثِينَ دِرْعاً عَادِيَةً مِنْ حَدِيدٍ فَصَالَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْهَلَاكَ [الْعَذَابَ] قَدْ تَدَلَّى عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ وَلَوْ لَاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَلَاضْطَرَمَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَاراً وَلَاسْتَأْصَلَ اللهُ نَجْرَانَ وَأَهْلَهُ حَتَّى الطَّيْرِ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارَى كُلِّهِمْ حَتَّى يَهْلِكُوا.

وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم خَرَجَ وَعَلَيْهِ مُرْطٌ مُرَجَّلٌ (٢) مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ فَجَاءَ الْحَسَنُ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ عَلِيٌّ ثُمَّ قَالَ (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

فإن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه و

________________

(١) احتضن الصبى : ضمه الى صدر.

(٢) المرط : الكساء والمرجل : الذى له طراز (منه ره).

٢٣٤

ذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء.

قلت ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأه على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك لم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إلى أن تمت المباهلة وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ثم من ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الضغائن في الحروب لتمنعهم من الحرب يسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء علیهما السلام وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلی الله علیه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك انتهى كلام الزمخشري.

فصل وَتَلَا وَفْدَ نَجْرَانَ إِنْفَاذُ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم عَلِيّاً علیهما السلام إِلَى الْيَمَنِ لِيُخَمِّسَ زَكَوَاتِهَا وَيَقْبِضَ مَا تَقَرَّرَ عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ فَتَوَجَّهَ وَقَامَ بِمَا تَوَجَّهَ لَهُ مُسَارِعاً إِلَى طَاعَةِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم ثُمَّ أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم الْحَجَّ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِهِ وَبَلَغَتْ دَعْوَتُهُ إِلَيْهِ أَقَاصِيَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَتَجَهَّزَ النَّاسُ لِلْخُرُوجِ وَكَاتَبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْحَجِّ مِنَ الْيَمَنِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ نَوْعَ الْحَجِّ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ وَخَرَجَ صلی الله علیه وسلم قَارِناً لِلْحَجِّ بِسِيَاقِ الْهَدْيِ وَأَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَحْرَمَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَبَّى مِنْ عِنْدِ الْمِيلِ الَّذِي بِالْبَيْدَاءِ فَاتَّصَلَ مَا بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ بِالتَّلْبِيَةِ فَلَمَّا قَارَبَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم مَكَّةَ مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ قَارَبَهَا عَلِيٌّ علیهما السلام مِنْ جِهَةِ الْيَمَنِ بِعَسْكَرِهِ وَتَقَدَّمَهُمْ لِلِقَاءِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَأَدْرَكَهُ وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَخَبَّرَهُ بِمَا صَنَعَ وَقَبْضِ مَا قَبَضَ فَسُرَّ بِهِ وَابْتَهَجَ بِلِقَائِهِ فَقَالَ بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ لَمْ تَكْتُبْ إِلَيَّ بِإِهْلَالِكَ وَلَا عَرَفْتُهُ فَعَقَدْتُ نِيَّتِي بِنِيَّتِكَ وَقُلْتُ اللهُمَّ إِهْلَالاً كَإِهْلَالِ نَبِيِّكَ وَسُقْتُ أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ بَدَنَةً فَقَالَ اللهُ أَكْبَرُ قَدْ سُقْتُ أَنَا سِتّاً وَسِتِّينَ وَأَنْتَ شَرِيكِي فِي حَجِّي

٢٣٥

وَمَنَاسِكِي وَهَدْيِي فَأَقِمْ عَلَى إِحْرَامِكَ وَعُدْ إِلَى جَيْشِكَ وَعَجِّلْ بِهِمْ إِلَيَّ حَتَّى نَجْتَمِعَ بِمَكَّةَ فَعَادَ فَلَقِيَ أَصْحَابَهُ عَنْ قُرْبٍ وَقَدْ لَبِسُوا الْحُلَلَ الَّتِي مَعَهُمْ فَأَنْكَرَ عَلَى الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ فَاسْتَعَادَهَا وَوَضَعَهَا فِي الْأَعْدَالِ (١) فَأَطْعَنُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَكَثُرَتْ شِكَايَتُهُمْ مِنْهُ حِينَ دَخَلُوا مَكَّةَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ مُنَادِيَهُ فَنَادَى ارْفَعُوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ خَشِنٌ فِي ذَاتِ اللهِ غَيْرُ مُدَاهِنٍ فِي دِينِهِ فَكُفُّوا عَنْ ذِكْرِهِ وَعَرَفُوا مَكَانَهُ مِنْهُ وَسَخَطَهُ عَلَى مَنْ رَامَ الْغَمِيزَةَ فِيهِ. (٢)

وَخَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم جَمَاعَةٌ بِغَيْرِ سِيَاقِ هَدْيٍ فَأَنْزَلَ اللهُ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (٣) فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ وَشَبَّكَ إِحْدَى أَصَابِعِ يَدَيْهِ بِالْأُخْرَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ قَالَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ ثُمَّ أَمَرَ فَنُودِيَ مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْياً فَلْيُحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً وَمَنْ سَاقَ هَدْياً فَلْيَقُمْ عَلَى إِحْرَامِهِ فَأَطَاعَ بَعْضٌ وَخَالَفَ بَعْضٌ وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ خُطُوبٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ رَسُولُ اللهِ أَشْعَثُ أَغْبَرُ وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ وَنَقْرَبُ النِّسَاءَ وَنَدَّهِنُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَمَا تَسْتَحْيُونَ أَنْ تَخْرُجُوا وَرُءُوسُكُمْ تَقْطُرُ مِنَ الْغُسْلِ وَرَسُولُ اللهِ عَلَى إِحْرَامِهِ فَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ خَالَفَ وَقَالَ لَوْ لَا أَنَّنِي سُقْتُ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ لَمْ يَسُقْ فَلْيُحِلَّ فَرَجَعَ قَوْمٌ وَأَقَامَ آخَرُونَ فَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ أَقَامَ هَلَّا أَحْلَلْتَ وَلَمْ تَسُقْ هَدْياً فَقَالَ وَاللهِ لَا أَحْلَلْتُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ فَقَالَ لَهُ إِنَّكَ لَنْ تُؤْمِنَ بِهَا حَتَّى تَمُوتَ فلذلك أقام على إنكار متعة الحج وصرح بتحريمها ونهى عنها.

قلت لو نقب (٤) أحد مسند أحمد بن حنبل لوجد فيه أحاديث كثيرة تقتضي

________________

(١) العدال جمع دعل ـ بالكسر ـ : والحمل.

(٢) الغميزة : ضعف في العقل وفي العمل.

(٣) البقرة : ١٩٦.

(٤) نقب الاخبار : بحث عنها. ونقب ـ بتشديد القاف ـ عن الشيء : فحص فصا بليغا.

٢٣٦

الأمر بها والحث عليها والإشارة بذكرها ولعلها تزيد على خمسين موضعا أو أكثر.

وَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم نُسُكَهُ شَرِكَ عَلِيّاً فِي هَدْيِهِ وَقَفَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَعَهُ فَانْتَهَى إِلَى غَدِيرِ خُمٍّ فَنَزَلَ حِينَ لَا مَوْضِعَ نُزُولٍ لِعَدَمِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَكَانَ سَبَبَ نُزُولِهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِنَصْبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ خَلِيفَةً فِي الْأُمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ وَتَقَدَّمَ الْوَحْيُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ فَأَخَّرَهُ إِلَى وَقْتٍ يَأْمَنُ فِيهِ الِاخْتِلَافَ وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ تَجَاوَزَ غَدِيرَ خُمٍّ انْفَصَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ وَبَوَادِيهِمْ فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ لِسَمَاعِ النَّصِّ وَتَأْكِيدِ الْحُجَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (٢) يَعْنِي فِي اسْتِخْلَافِ عَلِيٍّ وَالنَّصِّ عَلَيْهِ بِالْإِمَامَةِ (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فَأَكَّدَ الْفَرْضَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَخَوَّفَهُ مِنْ تَأْخِيرِ الْأَمْرِ وَضَمِنَ لَهُ الْعِصْمَةَ وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْهُ فَنَزَلَ كَمَا وَصَفْنَا وَكَانَ يَوْماً قَائِظاً شَدِيدَ الْحَرِّ وَسَاقَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ قَوْلِهِ إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ إِلَى آخِرِهِ وَنَعَى إِلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَقَالَ قَدْ حَانَ مِنِّي خُفُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَقَالُوا اللهُمَّ بَلَى فَقَالَ عَلَى النَّسَقِ وَقَدْ أَخَذَ بِضَبْعَيْ عَلِيٍّ علیهما السلام فَرَفَعَهُمَا حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِمَا مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ ثُمَّ نَزَلَ وَصَلَّى الظُّهْرَ وَأَمَرَ عَلِيّاً أَنْ يَجْلِسَ فِي خَيْمَةٍ بِإِزَائِهِ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ فَوْجاً فَوْجاً فَيُهَنِّئُوهُ بِالْمَقَامِ وَيُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ وَنِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ فَفَعَلَتْهُ وَأَظْهَرَ عُمَرُ بِذَلِكَ سُرُوراً كَامِلاً وَقَالَ فِيمَا قَالَ بَخْ بَخْ لَكَ يَا عَلِيُّ أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَاسْتَأْذَنَ حَسَّانُ رَحِمَهُ اللهُ فِي الْإِنْشَادِ فَأَذِنَ لَهُ فَأَنْشَدَ :

يُنَادِيهِمْ يَوْمَ الْغَدِيرِ نَبِيُّهُمْ

بِخُمٍّ وَأَسْمَعُ بِالرَّسُولِ مُنَادِياً

________________

(١) اى رجمع معه.

(٢) المائدة : ٦٧

٢٣٧

وقد تقدم ذكري لهذه القصة والأبيات آنفا بألفاظ قريبة من هذه أو مثلها.

فهذه مقاماته وحروبه ومشاهده في عهد رسول الله صلی الله علیه وسلم على سبيل الاختصار والإجمال.

فأما حروبه في زمن خلافته علیهما السلام ومواقفه التي تزلزلت لبأسها ثوابت الأقدام ومقاماته التي دفعته إليها الأقدار في مقاتلة بغاة الإسلام وحروبه التي أنذره بها رسول الله فعرفت من قتله إياهم مشكلات الأحكام واشتبه الحق فيها على قوم فقعدوا عن نصرته فندموا في الدنيا على التخلف عن الإمام وإن سلموا في الأخرى من العذاب فلن يسلموا من التعنيف والملام وثبات جأشه الذي هو أثبت من ثبير (١) وسطوة بأسه التي تضطرم في الحروب اضطرام السعير وأفعاله التي تشهد بها وقعة الجمل ويوم النهروان وليلة الهرير فأنا أذكرها على عادتي في الاختصار وسبيلي في الاقتناع بجمل الأخبار.

فمن ذلك وقعة الجمل

والمجتمعون لها لما رفضوا عليا علیهما السلام ونقضوا بيعته ونكثوا عهده وغدروا به وخرجوا عليه وجمعوا الناس لقتاله مستخفين بعقد بيعته التي لزمهم فرض حكمها مسفين إلى إثارة فتنة عامة باءوا بإثمها لم ير إلا مقاتلتهم على مسارعتهم إلى نكث بيعته ومقابلتهم على الخروج عن حكم الله ولزوم طاعته وكان من الداخلين في البيعة أولا والملتزمين لها ثم من المحرضين ثانيا على نكثها ونقضها طلحة والزبير فأخرجا عائشة وجمعا من استجاب لهما وخرجوا إلى البصرة ونصبوا لعلي علیهما السلام حبائل الغوائل وألبوا عليه (٢) مطيعهم من الرامح والنابل مظهرين المطالبة بدم عثمان مع علمهم في الباطن أن عليا علیهما السلام ليس بالآمر ولا القاتل.

ومن العجب أَنَّ عَائِشَةَ حَرَّضَتِ النَّاسَ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ بِالْمَدِينَةِ وَقَالَتْ اقْتُلُوا نَعْثَلاً قَتَلَ

________________

(١) اسم جبل بمكة.

(٢) ألب على الامر : لزمه فلم يفارقه.

٢٣٨

اللهُ نَعْثَلاً فَلَقَدْ أَبْلَى سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تُبْلِ وَخَرَجَتْ إِلَى مَكَّةَ وَقُتِلَ عُثْمَانُ وَعَادَتْ إِلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ فَسَمِعَتْ بِقَتْلِهِ وَأَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلِيّاً علیهما السلام فَوَرِمَ أَنْفُهَا وَعَادَتْ وَقَالَتْ لَأُطَالِبَنَّ بِدَمِهِ فَقِيلَ لَهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتِ أَمَرْتِ بِقَتْلِهِ وَتَقُولِينَ هَذَا قَالَتْ لَمْ يَقْتُلُوهُ إِذْ قُلْتُ وَتَرَكُوهُ حَتَّى تَابَ وَعَادَ كَالسَّبِيكَةِ مِنَ الْفِضَّةِ وَقَتَلُوهُ وَخَرَجَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى خُفْيَةٍ وَوَصَلَا إِلَيْهَا مَكَّةَ وَأَخْرَجَاهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَرَحَلَ عَلِيٌّ علیهما السلام مِنَ الْمَدِينَةِ يَطْلُبُهُمْ فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْبَصْرَةِ كَتَبَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ :

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمَا أَنِّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي وَلَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى أَكْرَهُوني وَأَنْتُمَا مِمَّنْ أَرَادُوا بَيْعَتِي وَبَايَعُوا وَلَمْ تُبَايِعَا لِسُلْطَانٍ غَالِبٍ وَلَا لِغَرَضٍ حَاضِرٍ فَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَاني طَائِعَيْنِ فَتُوبَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا أَنْتُمَا عَلَيْهِ وَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَا مُكْرَهَيْنِ فَقَدْ جَعَلْتُمَا السَّبِيلَ عَلَيْكُمَا بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ وَإِسْرَارِكُمَا (١) الْمَعْصِيَةَ وَأَنْتَ يَا زُبَيْرُ فَارِسُ قُرَيْشٍ وَأَنْتَ يَا طَلْحَةُ شَيْخُ الْمُهَاجِرِينَ وَدَفَعَكُمَا هَذَا الْأَمْرُ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَا فِيهِ كَانَ أَوْسَعَ لَكُمَا مِنْ خُرُوجِكُمَا مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِكُمَا بِهِ وَأَمَّا قَوْلُكُمَا إِنِّي قَتَلْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَبَيْنِي وَبَيْنَكُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي وَعَنْكُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ يَلْزَمُ كُلَّ امْرِئٍ بِقَدْرِ مَا احْتَمَلَ وَهَؤُلَاءِ بَنُو عُثْمَانَ إِنْ قُتِلَ مَظْلُوماً كَمَا تَقُولَانِ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَنْتُمَا رَجُلَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَقَدْ بَايَعْتُمَانِي وَنَقَضْتُمَا بَيْعَتِي وَأَخْرَجْتُمَا أُمَّكُمَا مِنْ بَيْتِهَا الَّذِي أَمَرَهَا اللهُ أَنْ تَقَرَّ فِيهِ وَاللهُ حَسْبُكُمَا وَالسَّلَامُ.

وَكَتَبَ عَلِيٌّ علیهما السلام إِلَى عَائِشَةَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكِ خَرَجْتِ مِنْ بَيْتِكِ عَاصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلی الله علیه وسلم تَطْلُبِينَ أَمْراً كَانَ عَنْكِ مَوْضُوعاً ثُمَّ تَزْعُمِينَ أَنَّكِ تُرِيدِينَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ فَخَبِّرِينِي مَا لِلنِّسَاءِ وَقُوَّةِ الْعَسَاكِرِ وَزَعَمْتِ أَنَّكِ طَالِبَةٌ بِدَمِ عُثْمَانَ وَعُثْمَانُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ وَلَعَمْرِي إِنَّ الَّذِي عَرَضَكِ لِلْبَلَاءِ وَحَمَلَكِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَأَعْظَمُ إِلَيْكِ ذَنْباً مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَمَا غَضِبْتِ حَتَّى أُغْضِبْتِ

________________

(١) وفي بعض النسخ «كتمانكما» عوض «اسرار كما».

٢٣٩

وَلَا هِجْتِ حَتَّى هُيِّجْتِ فَاتَّقِي اللهَ يَا عَائِشَةُ وَارْجِعِي إِلَى مَنْزِلِكِ وَأَسْبِلِي عَلَيْكِ سِتْرَكِ وَالسَّلَامُ.

فَجَاءَ الْجَوَابُ إِلَيْهِ علیهما السلام يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ جَلَّ الْأَمْرُ عَنِ الْعِتَابِ وَلَنْ نَدْخُلَ فِي طَاعَتِكَ أَبَداً (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) وَالسَّلَامُ ثُمَّ تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَارَبَا وَرَأَى عَلِيٌّ علیهما السلام تَصْمِيمَ الْقَوْمِ عَلَى قِتَالِهِ فَجَمَعَ أَصْحَابَهُ وَخَطَبَهُمْ خُطْبَةً بَلِيغَةً قَالَ علیهما السلام فِيهَا وَاعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنِّي قَدْ تَأَنَّيْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَرَاقَبْتُهُمْ وَنَاشَدْتُهُمْ كَيْمَا يَرْجِعُوا وَيَرْتَدِعُوا فَلَمْ يَفْعَلُوا وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا وَقَدْ بَعَثُوا إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ إِلَى الطِّعَانِ وَأَثْبُتَ لِلْجِلَادِ وَقَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَلَا أُدْعَى إِلَيْهَا وَقَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا مِنْهَا (١) فَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الَّذِي فَلَلْتُ حَدَّهُمْ وَفَرَّقْتُ (٢) جَمَاعَتَهُمْ فَبِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي وَأَنَا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي لِمَا وَعَدَنِي مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَإِنِّي لَعَلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ أَمْرِي أَلَا وَإِنَّ الْمَوْتَ لَا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ وَلَا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ وَمَنْ لَمْ يُقْتَلْ يَمُتْ فَإِنَّ أَفْضَلَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ وَالَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ.

ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ اللهُمَّ إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ أَعْطَانِي صَفْقَةَ يَمِينِهِ طَائِعاً ثُمَّ نَكَثَ بَيْعَتِي اللهُمَّ فَعَاجِلْهُ وَلَا تُمْهِلْهُ وَإِنَّ زُبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَطَعَ قَرَابَتِي وَنَكَثَ عَهْدِي وَظَاهَرَ عَدُوِّي وَنَصَبَ الْحَرْبَ لِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ إِلَيَّ اللهُمَّ فَاكْفِنِيهِ كَيْفَ شِئْتَ.

ثُمَّ تَقَارَبُوا وَتَعِبُوا لَابِسِي سِلَاحِهِمْ وَدُرُوعِهِمْ مُتَأَهِّبِينَ لِلْحَرْبِ كُلُّ ذَلِكَ وَعَلِيٌّ علیهما السلام بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عَلَيْهِ قَمِيصٌ وَرِدَاءٌ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَغْلَةٍ ـ فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا مُصَافَحَةُ الصِّفَاحِ (٣) وَالْمُطَاعَنَةُ بِالرِّمَاحِ صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَيْنَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فَلْيَخْرُجْ إِلَيَّ فَقَالَ النَّاسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَخْرُجُ إِلَى الزُّبَيْرِ

________________

(١) القارة : قبيلة وهم رماة (ه. م).

(٢) فلل القوم : كسرهم وهزمهم.

(٣) الصفاح جمع الصفح وهو السيف : عرضه.

٢٤٠