كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

فصل في غزاة بني النضير وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم لَمَّا حَاصَرَهُمْ عَمِلَ عَلَى حِصَارِهِمْ (١) فَضَرَبَ قُبَّتَهُ فِي أَقْصَى بَنِي حَطْمَةَ فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ فِي اللَّيْلِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ الْقُبَّةَ فَأَمَرَ علیهما السلام فَحُوِّلَتْ قُبَّتُهُ إِلَى السَّفْحِ (٢) وَأَحَاطَ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَلَمَّا اخْتَلَطَ الظَّلَامُ فَقَدُوا عَلِيّاً فَعَرَّفُوهُ ذَلِكَ فَقَالَ أَرَاهُ فِي بَعْضِ مَا يُصْلِحُ شَأْنَكُمْ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ بِرَأْسِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي رَمَى الْقُبَّةَ وَاسْمُهُ عَزْوَرَاءُ فَطَرَحَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ فَقَالَ كَيْفَ عَمِلْتَ بِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ رَأَيْتُهُ شُجَاعاً فَقُلْتُ مَا أَجْرَأَهُ أَنْ يَخْرُجَ لَيْلاً يَطْلُبُ غُرَّةً فَكَمَنْتُ لَهُ فَأَقْبَلَ مُصْلِتاً سَيْفَهُ وَمَعَهُ تِسْعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ وَأَفْلَتَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يَبْرَحُوا قَرِيباً فَابْعَثْ مَعِي نَفَراً فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَظْفَرَ بِهِمْ فَبَعَثَ مَعَهُ عَشَرَةً مِنْهُمْ أَبُو دُجَانَةَ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْحِصْنَ فَقَتَلُوهُمْ وَجَاءُوا بِرُءُوسِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم فَأَمَرَ بِطَرْحِهَا فِي بَعْضِ الْآبَارِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ فَتْحِ حُصُونِهِمْ وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قُتِلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَاصْطَفَى رَسُولُ اللهِ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ فَكَانَتْ أَوَّلَ صَافِيَةٍ قَسَمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَمَرَ عَلِيّاً فَحَازَ مَا لِرَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم مِنْهَا فَجَعَلَهُ صَدَقَةً وَكَانَ فِي يَدِهِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ ثُمَّ فِي يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام بَعْدَهُ وَهُوَ فِي يَدِ وُلْدِ فَاطِمَةَ علیهما السلام حَتَّى الْيَوْمِ وَفِيمَا كَانَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ

لِلَّهِ أَيُّ كَرِيهَةٍ أَبْلَيْتَهَا

بِبَنِي قُرَيْظَةَ وَالنُّفُوسُ تَطَّلِعُ (٣)

أَرْدَى رَئِيسَهُمْ وَآبَ بِتِسْعَةٍ

طَوْراً يَشَلُّهُمْ وَطَوْراً يَدْفَعُ (٤)

 فصل وَكَانَتْ غَزَاةُ الْأَحْزَابِ بَعْدَ غَزَاةِ بَنِي النَّضِيرِ وَهِيَ غَزَاةُ الْخَنْدَقِ وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النَّضْرِيُّ وَحَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَ

________________

(١) كذا في النسخ لكن عبارة الإرشاد هكذا «فصل : ولما توجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى بنى النضير عمد على حصارهم اه» ، وكذا في ما يأتي من القصة بين الكتاب والإرشاد اختلاف يسير ولعله من تصرف المؤلّف «ره» وتلخيصه كما صرّح في أوائل الكتاب بان عادته تلخيص الكلمات التي نقلها.

(٢) السفح : أصل الجبل وأسفله.

(٣) التطلع : الانتظار.

(٤) أرداه : أهلكه. وآب : رجع. والشل والشلل : الطرد.

٢٠١

غَيْرُهُمَا وَنَفَرٌ مِنْ بَنِي وَالِبَةَ خَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ وَصَارُوا إِلَى أَبِي سُفْيَانَ لِعِلْمِهِمْ بِعَدَاوَتِهِ لِلنَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَتَسَرُّعِهِ إِلَى قِتَالِهِ فَذَكَرُوا لَهُ مَا نَالَهُمْ مِنْهُ وَسَأَلُوهُ الْمَعُونَةَ عَلَى قِتَالِهِ فَقَالَ أَنَا لَكُمْ حَيْثُ تُحِبُّونَ فَاخْرُجُوا إِلَى قُرَيْشٍ فَادْعُوهُمْ إِلَى حَرْبِهِ وَاضْمَنُوا لَهُمُ النُّصْرَةَ وَالثُّبُوتَ مَعَهُمْ حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُ فَطَافُوا عَلَى وُجُوهِ قُرَيْشٍ وَدَعَوْهُمْ إِلَى حَرْبِ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم فَقَالُوا أَيْدِينَا مَعَ أَيْدِيكُمْ وَنَحْنُ مَعَكُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْعِلْمِ السَّابِقِ وَقَدْ عَرَفْتُمْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلی الله علیه وسلم وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ فَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ فَقَالُوا بَلْ دِينُكُمْ وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُ فَنَشَطَتْ قُرَيْشٌ إِلَى حَرْبِهِ صلی الله علیه وسلم وَقَالَ لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ مَكَّنَكُمُ اللهُ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْيَهُودُ تُقَاتِلُهُ مَعَكُمْ وَلَا تُفَارِقُكُمْ حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ فَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ وَعَزَائِمُهُمْ عَلَى الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ الْيَهُودُ غَطَفَانَ وَقَيْسَ غَيْلَانَ فَدَعَوْهُمْ إِلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَضَمِنُوا لَهُمُ النُّصْرَةَ وَالْمَعُونَةَ وَأَخْبَرُوهُمْ بِمُوَافَقَةِ قُرَيْشٍ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَاجْتَمَعُوا وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَقَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ وَخَرَجَتْ غَطَفَانُ وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي بَنِي فَزَارَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فِي بَنِي مُرَّةَ وَوَبَرَةُ بْنُ طَرِيفٍ فِي قَوْمِهِ مِنْ أَشْجَعَ.

فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم بِاجْتِمَاعِ الْأَحْزَابِ عَلَى قَصْدِ الْمَدِينَةِ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فَأَجْمَعُوا عَلَى الْمُقَامِ بِالْمَدِينَةِ وَحَرْبِهِمْ عَلَى أَنْقَابِهَا (١) وَأَشَارَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ فَحَفَرَهُ وَعَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ وَأَقْبَلَتِ الْأَحْزَابُ بِجُمُوعِهِمْ فَهَالَتِ الْمُسْلِمُونَ وَارْتَاعُوا مِنْ كَثْرَتِهِمْ وَنَزَلُوا نَاحِيَةً مِنَ الْخَنْدَقِ وَأَقَامُوا مَكَانَهُمْ بِضْعاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ إِلَّا الرَّمْيُ بِالنَّبْلِ وَالْحَصَاةِ.

فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم ضَعْفَ قُلُوبِ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حِصَارِهِمْ وَوَهْنِهِمْ فِي حَرْبِهِمْ بَعَثَ إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ قَائِدَيْ غَطَفَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى

________________

(١) النقب : الطريق في الجبل.

٢٠٢

الصُّلْحِ وَالْكَفِّ عَنْهُ وَالرُّجُوعِ بِقَوْمِهِمَا عَنْ حَرْبِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَشَارَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِيمَا بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِمَا فَقَالا إِنْ كَانَ هَذَا أَمْرٌ أَمَرَ اللهُ بِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ فَافْعَلْ وَإِنْ كُنْتَ تَفْعَلُهُ مِنْ أَجْلِنَا كَانَ لَنَا فِيهِ رَأْيٌ فَقَالَ علیهما السلام لَمْ يَأْتِنِي فِيهِ وَحْيٌ وَلَكِنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَاءُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَدْ كُنَّا وَنَحْنُ عَلَى الشِّرْكِ بِاللهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ لَا نَعْبُدُ اللهَ وَلَا نَعْرِفُهُ وَلَمْ نَكُنْ نُطْعِمُهُمْ مِنْ ثَمَرِنَا إِلَّا قِرًى (١) أَوْ بَيْعاً فَالْآنَ حِينَ أَكْرَمَنَا اللهُ بِالْإِسْلَامِ وَأَعَزَّنَا بِكَ نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا مَا لَنَا إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ وَاللهِ لَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم قَدْ عَرَفْتُ مَا عِنْدَكُمْ فَكُونُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَخْذُلَ نَبِيَّهُ وَلَنْ يُسْلِمَهُ حَتَّى يُنْجِزَ وَعْدَهُ.

ثُمَّ جَعَلَ صلی الله علیه وسلم يَدْعُو الْمُسْلِمِينَ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ يُشَجِّعُهُمْ وَيَعِدُهُمُ النَّصْرَ فَانْتَدَبَ فَوَارِسُ مِنْ قُرَيْشٍ لِلْبِرَازِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيَّانِ وَضِرَارُ بْنُ أَبِي الْخَطَّابِ وَمِرْدَاسٌ الْفِهْرِيُّ وَأَقْبَلُوا تُعْنِقُ بِهِمْ خُيُولُهُمْ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَقِ وَقَالُوا هَذِهِ مَكِيدَةٌ لَا تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ ثُمَّ يَمَّمُوا مَكَاناً ضَيِّقاً مِنَ الْخَنْدَقِ فَاقْتَحَمُوهُ وَصَارُوا فِي السَّبَخَةِ وَخَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذُوا عَلَيْهِمُ الثَّغْرَةَ الَّتِي اقْتَحَمُوهَا فَتَقَدَّمَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ وَقَدْ أَعْلَمَ لِيُرَى مَكَانُهُ وَقَالَ هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ فَبَرَزَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو ارْجِعْ يَا ابْنَ أَخِي فَمَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ قَدْ كُنْتَ يَا عَمْرُو عَاهَدْتَ اللهَ أَنْ لَا يَدْعُوَكَ رَجُلٌ إِلَى إِحْدَى خَلَّتَيْنِ إِلَّا اخْتَرْتَ إِحْدَاهُمَا مِنْهُ قَالَ أَجَلْ فَمَا ذَلِكَ قَالَ إِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْإِسْلَامِ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ قَالَ فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى النِّزَالِ قَالَ ارْجِعْ فَقَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِيكَ خُلَّةٌ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ مَا دُمْتَ آبِياً لِلْحَقِّ فَحَمِيَ عَمْرٌو وَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَضَرَبَ وَجْهَهُ حَتَّى نَفَرَ وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ مُصْلِتاً سَيْفَهُ وَبَدَرَهُ بِالسَّيْفِ فَنَشِبَ سَيْفُهُ فِي تُرْسِ عَلِيٍّ علیهما السلام وَضَرَبَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَتَلَهُ وَانْهَزَمَ مَنْ كَانَ

________________

(١) أي ضيافة.

٢٠٣

مَعَهُ وَعَادَ عَلِيٌّ علیهما السلام إِلَى مُقَامِهِ الْأَوَّلِ وَقَدْ كَانَتْ قُلُوبُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ تَطِيرُ جَزَعاً وأنشد الأبيات البائية التي ذكرتها آنفا.

وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْوَاقِدِيُّ مَرْفُوعاً إِلَى الزُّهْرِيِّ قَرِيباً مِنْهُ وَطَلَبَ عَمْرٌو الْمُبَارَزَةَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَأَنْشَدَ وَلَقَدْ بَحَحْتُ مِنَ النِّدَاءِ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَقُومُ عَلِيٌّ علیهما السلام فَيَأْمُرُهُ بِالْجُلُوسِ انْتِظَاراً لِحَرْكَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرَ لِخَوْفِهِمْ مِنْ عَمْرٍو وَمَنْ مَعَهُ وَطَالَ نِدَاءُ عَمْرٍو بِطَلَبِ الْبِرَازِ وَتَتَابَعَ قِيَامُ عَلِيٍّ علیهما السلام فَقَالَ لَهُ ادْنُ مِنِّي يَا عَلِيُّ فَدَنَا فَنَزَعَ عِمَامَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ وَعَمَّمَهُ بِهَا وَأَعْطَاهُ سَيْفَهُ وَقَالَ امْضِ لِشَأْنِكَ ثُمَّ قَالَ اللهُمَّ أَعِنْهُ فَسَعَى نَحْوَ عَمْرٍو وَمَعَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ لِيَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنْهُ وَمِنْ عَمْرٍو فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ قَالَ يَا عَمْرُو إِنَّكَ كُنْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَقُولُ لَا يَدْعُونِي رَجُلٌ إِلَى ثَلَاثٍ إِلَّا قَبِلْتُهَا أَوْ وَاحِدَةً مِنْهَا قَالَ أَجَلْ قَالَ فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ وَأَنْ تُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي أَخِّرْ هَذَا عَنِّي قَالَ علیهما السلام أَمَا إِنَّهَا خَيْرٌ لَكَ لَوْ أَخَذْتَهَا قَالَ فَهَاهُنَا أُخْرَى قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ تَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جِئْتَ قَالَ لَا تُحَدِّثُ عَنِّي نِسَاءُ قُرَيْشٍ بِهَذَا أَبَداً قَالَ فَهُنَا أُخْرَى قَالَ مَا هِيَ قَالَ تَنْزِلُ فَتُقَاتِلُنِي فَضَحِكَ عَمْرٌو وَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ أَحَداً مِنَ الْعَرَبِ يَرُومُنِي عَلَيْهَا إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَقْتُلَ الرَّجُلَ الْكَرِيمَ مِثْلَكَ وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ لِي نَدِيماً قَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام لَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ فَانْزِلْ إِنْ شِئْتَ فَأَسِفَ عَمْرٌو وَنَزَلَ فَضَرَبَ وَجْهَ فَرَسِهِ حَتَّى رَجَعَ.

قَالَ جَابِرٌ رَحِمَهُ اللهُ وَثَارَتْ بَيْنَهُمَا قَتَرَةٌ (١) فَمَا رَأَيْتُهُمَا وَسَمِعْتُ التَّكْبِيرَ فَعَلِمْتُ أَنَّ عَلِيّاً علیهما السلام قَتَلَهُ وَانْكَشَفَ أَصْحَابُهُ وَعَبَرُوا الْخَنْدَقَ وَتَبَادَرَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ سَمِعُوا التَّكْبِيرَ يَنْظُرُونَ مَا صَنَعَ الْقَوْمُ فَوَجَدُوا نَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فِي جَوْفِ الْخَنْدَقِ لَمْ يَنْهَضْ بِهِ فَرَسُهُ فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ فَقَالَ لَهُمْ قَتْلَةٌ أَجْمَلُ مِنْ هَذِهِ يَنْزِلُ بَعْضُكُمْ أُقَاتِلُهُ فَنَزَلَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَلَحِقَ هُبَيْرَةَ فَأَعْجَزَهُ فَضَرَبَ قَرَبُوسَ سَرْجِهِ وَسَقَطَتْ دِرْعُهُ وَفَرَّ عِكْرِمَةُ وَهَرَبَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ جَابِرٌ فَمَا

________________

(١) القترة : الغبار.

٢٠٤

شَبَّهْتُ قَتْلَ عَلِيٍّ عَمْراً إِلَّا بِمَا قَصَّ اللهُ مِنْ قِصَّةِ دَاوُدَ وَجَالُوتَ

وَعَنْ رَبِيعَةَ السَّعْدِيِّ قَالَ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ عَنْ عَلِيٍّ وَمَنَاقِبِهِ فَيَقُولُ لَنَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِنَّكُمْ تُفْرِطُونَ فِي عَلِيٍّ فَهَلْ أَنْتَ مُحَدِّثِي بِحَدِيثٍ فِيهِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ يَا رَبِيعَةُ وَمَا تَسْأَلُنِي عَنْ عَلِيٍّ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ وُضِعَ جَمِيعُ أَعْمَالِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وسلم فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ مُنْذُ بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوُضِعَ عَمَلُ عَلِيٍّ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى لَرَجَحَ عَمَلُ عَلِيٍّ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ فَقَالَ رَبِيعَةُ هَذَا الَّذِي لَا يُقَامُ لَهُ وَلَا يَقْعُدُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ يَا لُكَعُ (١) وَكَيْفَ لَا يُحْمَلُ وَأَيْنَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَحُذَيْفَةُ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم يَوْمَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ وَقَدْ دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ فَأَحْجَمَ النَّاسُ (٢) كُلُّهُمْ مَا خَلَا عَلِيّاً علیهما السلام فَإِنَّهُ بَرَزَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ اللهُ عَلَى يَدِهِ وَالَّذِي نَفْسُ حُذَيْفَةَ بِيَدِهِ لَعَمَلُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ عَمَلِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وسلم إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنْشَدَ الْأَبْيَاتَ وَفِيهَا بَعْدَ «الْيَوْمِ يَمْنَعُنِي الْفِرَارُ حَفِيظَتِي»

الْيَوْمِ يَمْنَعُنِي الْفِرَارُ حَفِيظَتِي

أَرْدَيْتَ عَمْراً إِذْ طَغَى بِمُهَنَّدٍ (٣)

صَافِي الْحَدِيدِ مُجَرَّبٌ قَضَّابٌ

وَلَمَّا قَتَلَ عَمْراً أَقْبَلَ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَلَّا سَلَبْتَهُ يَا عَلِيُّ دِرْعَهُ فَمَا لِأَحَدٍ دِرْعٌ مِثْلُهَا فَقَالَ إِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْ سَوْأَةِ ابْنِ عَمِّي.

وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ عَمْراً اجْتَزَّ رَأْسَهُ وَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَبَّلَا رَأْسَ عَلِيٍّ علیهما السلام وقال أبو بكر بن عياش لقد ضرب علي ضربة ما كان في الإسلام ضربة أعز منها يعني ضربة علي لعمرو بن عبد ود ولقد ضرب علي ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله.

وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَلَمْ يَحْضُرْنِي الْكِتَابِ عِنْدَ جَمْعِي هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم قَالَ حِينَ بَارَزَ عَلِيٌّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ خَرَجَ الْإِسْلَامُ كُلُّهُ إِلَى الشِّرْكِ كُلِّهِ وَفِي هَذِهِ

________________

(١) اللكع : اللئيم والعبد الأحمق.

(٢) أحجم فلان عن الشيء : كف أو نكص هيبة.

(٣) المهند : السيف المطبوع من حديد الهند. والقضاب بمعنى القطاع.

٢٠٥

الْغَزَاةِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) (١) الْآيَاتِ إِلَى آخِرِهَا وَلَمْ يَخْلُصْ مِنَ الْعَتْبِ إِلَّا عَلِيٌّ علیهما السلام وَلَمَّا قَتَلَ هَؤُلَاءِ النَّفْرَ قَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم الْآنَ يَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَنَا.

وروي أن عبد الله بن مسعود كان يقرأ وكفى الله المؤمنين القتال بعلي وكان الله قويا عزيزا وَفِي قَتْلِ عَمْرٍو يَقُولُ حَسَّانُ :

أَمْسَى الْفَتَى عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ يَبْتَغِي

بِجَنُوبِ يَثْرِبَ غَارَةً لَمْ تُنْظَرْ

فَلَقَدْ وَجَدْتَ سُيُوفَنَا مَشْهُورَةً

وَلَقَدْ وَجَدْتَ جِيَادَنَا لَمْ تَقْصُرْ

وَلَقَدْ رَأَيْتَ غَدَاةَ بَدْرٍ عُصْبَةً

ضَرَبُوكَ ضَرْباً غَيْرَ ضَرْبِ الْمَخْسَرِ

أَصْبَحْتَ لَا تُدْعَى لِيَوْمِ عَظِيمَةٍ

يَا عَمْرُو أَوْ لِجَسِيمِ أَمْرٍ مُنْكَرٍ

وَلَمَّا بَلَغَ شِعْرُ حَسَّانَ بَنِي عَامِرٍ أَجَابَهُ فَتًى مِنْهُمْ فَقَالَ يَرُدُّ عَلَيْهِ فَخْرَهُ

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ لَا تَقْتُلُونَنَا

وَلَكِنْ بِسَيْفِ الْهَاشِمِيِّينَ فَافْخَرُوا

بِسَيْفِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ فِي الْوَغَى

بِكَفِّ عَلِيٍّ نِلْتُمْ ذَاكَ فَاقْصُرُوا

فَلَمْ تَقْتُلُوا عَمْرَو بْنَ وُدٍّ وَلَا ابْنَهُ

وَلَكِنَّهُ الْكُفْؤُ الْجَسُورُ الْغَضَنْفَرُ

عَلِيٌّ الَّذِي فِي الْفَخْرِ طَالَ بِنَاؤُهُ

فَلَا تُكْثِرُوا الدَّعْوَى عَلَيْنَا فَتُحْقَرُوا

بِبَدْرٍ خَرَجْتُمْ لِلْبِرَازِ فَرَدَّكُمْ

شُيُوخُ قُرَيْشٍ جَهْرَةً وَتَأَخَّرُوا

فَلَمَّا أَتَاهُمْ حَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ

وَجَاءَ عَلِيٌّ بِالْمُهَنَّدِ يَخْطِرُ

فَقَالُوا نَعَمْ أَكْفَاءُ صِدْقٍ وَأَقْبَلُوا

إِلَيْهِمْ سِرَاعاً إِذْ بَغَوْا وَتَجَبَّرُوا

فَجَالَ عَلِيٌّ جَوْلَةً هَاشِمِيَّةً

فَدَمَّرَهُمْ لَمَّا عَتَوْا وَتَكَبَّرُوا

فَلَيْسَ لَكُمْ فَخْرٌ عَلَيْنَا بِغَيْرِنَا

وَلَيْسَ لَكُمْ فَخْرٌ يُعَدُّ فَيُذْكَرُ

وَقَالَتْ أُخْتُ عَمْرٍو وَقَدْ نُعِيَ إِلَيْهَا أَخُوهَا مَنْ ذَا الَّذِي اجْتَرَأَ عَلَيْهِ قَالُوا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ لَوْ لَمْ يَعْدُ يَوْمَهُ (٢) إِلَّا عَلَى يَدِ كُفْوٍ كَرِيمٍ لَأَرْقَأْتُ

________________

(١) الأحزاب : ١٠.

(٢) وفي الإرشاد «لم يعد موته» مكان «لو لم يعد يومه». وخلت نسخة من الكتاب أيضا عن لفظة «لو».

٢٠٦

دَمْعَتِي (١) عَلَيْهِ إِنْ هَرَقْتُهَا عَلَيْهِ قَتَلَ الْأَبْطَالَ وَبَارَزَ الْأَقْرَانَ وَكَانَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَى يَدِ كَرِيمِ قَوْمِهِ مَا سَمِعْتُ أَفْخَرَ مِنْ هَذَا يَا بَنِي عَامِرٍ وَأَنْشَدَتِ الْبَيْتَيْنِ لَوْ كَانَ قَاتِلُ عَمْرٍو غَيْرَ قَاتِلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتَا وَقَالَتْ أَيْضاً تَرْثِي أَخَاهَا وَتَذْكُرُهُ وَعَلِيّاً علیهما السلام :

أَسَدَانِ فِي ضِيقِ الْمَكَرِّ تَصَاوَلَا

فَكِلَاهُمَا كُفْوٌ كَرِيمٌ بَاسِلٌ (٢)

فَتَخَالَسَا مُهَجَ النُّفُوسِ كِلَاهُمَا

وَسَطَ الْمَدَارِ مُحَامِلٌ وَمُقَاتِلٌ (٣)

وَكِلَاهُمَا حَضَرَ الْقِرَاعَ حَفِيظَةٌ

لَمْ يَثْنِهِ عَنْ ذَاكَ شُغُلٌ شَاغِلٌ

فَاذْهَبْ عَلِيُّ فَمَا ظَفِرْتَ بِمِثْلِهِ

قَوْلٌ سَدِيدٌ لَيْسَ فِيهِ تَحَامُلٌ

فَالثَّارُ عِنْدِي يَا عَلِيُّ لَوْ أَنَّنِي

أَدْرَكْتُهُ وَالْعَقْلُ مِنِّي كَامِلٌ

ذَلَّتْ قُرَيْشٌ بَعْدَ مَقْتَلِ فَارِسٍ

وَالذُّلُّ مَهْلَكُهَا وَخِزْيٌ شَامِلٌ

ثُمَّ قَالَتْ وَاللهِ لَا ثَأَرَتْ قُرَيْشٌ بِأَخِي مَا حَنَّتِ النِّيبُ(٤)

فصل : وَلَمَّا انْهَزَمَ الْأَحْزَابُ وَوَلَّوْا عَنِ الْمُسْلِمِينَ عَمِلَ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم عَلَى قَصْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَنْفَذَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام فِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْخَزْرَجِ وَقَالَ لَهُ انْظُرْ بَنِي قُرَيْظَةَ هَلْ تَرَكُوا حُصُونَهُمْ فَلَمَّا شَارَفَهَا سَمِعَ مِنْهُمُ الْهَجَرَ (٥) فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ دَعْهُمْ فَإِنَّ اللهَ سَيُمْكِنُ مِنْهُمْ إِنَّ الَّذِي أَمْكَنَكَ مِنْ عَمْرٍو لَا يَخْذُلُكَ فَقِفْ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ إِلَيْكَ وَأَبْشِرْ بِنَصْرِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ قَدْ نَصَرَنِي بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ قَالَ عَلِيٌّ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيَّ وَسِرْتُ حَتَّى دَنَوْتُ مِنْ سَوْرِهِمْ فَأَشْرَفَ عَلَيَّ شَخْصٌ مِنْهُمْ وَنَادَى قَدْ جَاءَكُمْ قَاتِلُ عَمْرٍو وَقَالَ آخَرُ كَذَلِكَ وَتَصَايَحُوا بِهَا بَيْنَهُمْ وَأَلْقَى اللهَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ وَسَمِعْتُ رَاجِزاً يَرْجُزُ

قَتَلَ عَلِيٌّ عَمْراً

صَادَ عَلِيٌّ صَقْراً

________________

(١) رقا رقأ الدمع : سكن وجف.

(٢) تصاولا : تواثبا. والباسل : الشجاع البطل.

(٣) تخالسا القرنان : اي يروم كل منهما قتل صاحبه.

(٤) النيب جمع ناب وهي الناقة المسنة. يقال : لا افعله ما حنت النيب اي ابدا.

(٥) قال الجوهريّ : الهجر : الهذيان والهجر : الاسم من الاهجار وهو الافحاش في المنطق.

٢٠٧

قَصَمَ عَلِيٌّ ظَهْراً

أَبْرَمَ عَلِيٌّ أَمْراً

هَتَكَ عَلِيٌّ سِتْراً

فَقُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَقَمَعَ الشِّرْكَ.

وَكَانَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم قَالَ لِي سِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ قَدْ وَعَدَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ فَسِرْتُ مُتَيَقِّناً بِنَصْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى رَكَزْتُ الرَّايَةَ (١) فِي أَصْلِ الْحِصْنِ وَاسْتَقْبَلُونِي يَسُبُّونَ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَكَرِهْتُ أَنْ يَسْمَعَهُ رَسُولُ اللهِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْهِ فَإِذَا بِهِ قَدْ طَلَعَ فَنَادَاهُمْ يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا كُنْتَ جَهُولاً وَلَا سَبَّاباً فَاسْتَحْيَا صلی الله علیه وسلم وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى قَلِيلاً ثُمَّ أَمَرَ فَضُرِبَتْ خَيْمَتُهُ بِإِزَاءِ حُصُونِهِمْ وَأَقَامَ يُحَاصِرُهُمْ خَمْساً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً حَتَّى سَأَلُوهُ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ(٢) فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ بِقَتْلِ الرِّجَالِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ وَقِسْمَةِ الْأَمْوَالِ فَقَالَ صلی الله علیه وسلم لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ يَا سَعْدُ بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ (٣) وَأَمَرَ بِإِنْزَالِ الرِّجَالِ وَكَانُوا تِسْعَمِائَةٍ. (٤)

فَجِيءَ بِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَحُبِسُوا فِي دَارٍ مِنْ دُورِ بَنِي النَّجَّارِ وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ

________________

(١) ركز الرمح في الأرض اي ادخله فيها.

(٢) ووجه نزولهم على حكم سعد بن معاذ انهم كانوا حلفاء الأوس وكان سعد من أشراف هذه القبيلة وهو ذو فضل كثير وهو الذي ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلم في حقه : «اهتز له العرش» وقد أصيب سعد بن معاذ في غزوة أحد بسهم رماه رجل من بنى عامر فقطع اكحله فقال : اللّهمّ ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقنى لها فإنه لا قوم أحبّ إلى أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه ، وان كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتنى حتّى تقر عيني في بني قريظة فلما دعا بذلك انقطع الدم ثمّ لما حكم في بني قريظة انفجر عرقه ومات من يومه رحمه اللّه تعالى ورضى عنه

(٣) الرقيع : سماء الدنيا وكذلك ساير السماوات وجاء به على لفظ التذكير كأنه أراد به السقف (ه. م).

(٤) وفي بعض النسخ «سبعمائة». وقد اختلفت الكلمات في عددهم.

٢٠٨

ص إِلَى مَوْضِعِ السُّوقِ الْيَوْمَ وَحَضَرَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجُوا وَتَقَدَّمَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ فِي الْخَنْدَقِ فَأُخْرِجُوا أَرْسَالاً (١) وَفِيهِمْ حَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ وَهُمَا رَئِيسَا الْقَوْمِ فَقَالُوا لِكَعْبٍ وَهُمْ يَذْهَبُ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم مَا تَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَا فَقَالَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لَا تَعْقِلُونَ أَمَا تَرَوْنَ الدَّاعِيَ لَا يَنْزِعُ أَيْ لَا يَنْتَهِي مِنَ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ وَمَنْ ذَهَبَ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُ هُوَ وَاللهِ الْقَتْلُ وَجِيءَ بِحَيٍّ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم قَالَ أَمَا وَاللهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي عَلَى عَدَاوَتِكَ وَلَكِنْ مَنْ يَخْذُلُ اللهَ يُخْذَلُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرِ اللهِ كِتَابٌ وَقَدَرٌ وَمَلْحَمَةٌ كَتَبْتُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ أُقِيمَ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ يَقُولُ قَتْلَةٌ شَرِيفَةٌ بِيَدِ شَرِيفٍ فَقَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام إِنَّ الْأَخْيَارَ يَقْتُلُونَ الْأَشْرَارَ وَالْأَشْرَارَ يَقْتُلُونَ الْأَخْيَارَ فَوَيْلٌ لِمَنْ قَتَلَهُ الْأَخْيَارُ وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُ الْأَشْرَارُ وَالْكُفَّارُ فَقَالَ صَدَقْتَ لَا تَسْلُبْنِي حُلَّتِي قَالَ هِيَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ ذَاكَ قَالَ سَتَرْتَنِي سَتَرَكَ اللهُ وَمَدَّ عُنُقَهُ فَضَرَبَهَا عَلِيٌّ علیهما السلام وَلَمْ يَسْلُبْهُ مِنْ بَيْنِهِمْ.

وَسُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام الَّذِي جَاءَ بِهِ مَا كَانَ يَقُولُ حَيٌّ وَهُوَ يُقَادُ إِلَى الْمَوْتِ قَالَ كَانَ يَقُولُ :

لَعْمْرُكَ مَا لَامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ

وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلُ اللهَ يُخْذَلُ

فَجَاهِدْ حَتَّى بَلَغَ النَّفْسُ جُهْدَهَا

وَحَاوَلَ يَبْغِي الْعِزَّ كُلُّ مِغَلْغَلٍ

وَكَانَ الظَّفَرُ بِهِمْ وَالْفَتْحُ عَلَى يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام.

فصل : وَكَانَ مِنْ بَلَائِهِ علیهما السلام فِي بَنِي الْمُصْطَلَقِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَكَانَ الْفَتْحُ لَهُ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ وَأُصِيبَ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَتَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْقَوْمِ وَهُمَا مَالِكٌ وَابْنُهُ وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم شَيْئاً كَثِيراً فَقَسَمَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ يَا مَنْصُورُ أَمِتْ وَسَبَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ فَجَاءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ فَجَاءَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابْنَتِي لَا تُسْبَى إِنَّهَا امْرَأَةٌ كَرِيمَةٌ

________________

(١) أي قطيعا قطيعا (ه. م)

٢٠٩

قَالَ اذْهَبْ فَخَيِّرْهَا قَالَ لَقَدْ أَحْسَنْتَ وَأَجْمَلْتَ فَاخْتَارَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَعْتَقَهَا رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَجَعَلَهَا فِي جُمْلَةِ أَزْوَاجِهِ

فصل [في غزاة الحديبية] قَالَ وَتَلَا هَذِهِ الْغَزَاةَ غَزَاةُ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي كَتَبَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ ضَرَعَ إِلَى الصُّلْحِ (١) عِنْدَ مَا رَأَى تَوَجُّهَ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم اكْتُبْ يَا عَلِيُ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا كِتَابٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ فَافْتَتِحْهُ بِمَا نَعْرِفُهُ وَاكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهُمَّ فَقَالَ علیهما السلام امْحُ مَا كَتَبْتَ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ لَا طَاعَتُكَ لَمَا مَحَوْتُهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ بِاسْمِكَ اللهُمَّ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم اكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَقَالَ سُهَيْلٌ لَوْ أَجَبْتُكَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ إِلَى هَذَا لَأَقْرَرْتُ بِالنُّبُوَّةِ امْحُ هَذَا وَاكْتُبْ اسْمَكَ فَقَالَ عَلِيٌّ وَاللهِ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ عَلَى رَغْمِ أَنْفِكَ فَقَالَ سُهَيْلٌ اكْتُبْ اسْمَهُ يَمْضِي الشَّرْطُ فَقَالَ عَلِيٌّ وَيْلَكَ يَا سُهَيْلُ كُفَّ عَنْ عِنَادِكَ فَقَالَ علیهما السلام امْحُهَا يَا عَلِيُّ فَقَالَ إِنَّ يَدِي لَا تَنْطَلِقُ بِمَحْوِ اسْمِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ قَالَ فَضَعْ يَدِي عَلَيْهَا فَمَحَاهَا صلی الله علیه وسلم وَقَالَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ سَتُدْعَى إِلَى مِثْلِهَا فَتُجِيبُ عَلَى مَضَضٍ (٢) وَتَمَّمَ الْكِتَابَ وكان نظام تدبير هذه الغزاة بيد أمير المؤمنين علیهما السلام وحقن الله دماء المسلمين.

وَقَدْ رَوَى النَّاسُ لَهُ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ فَضِيلَتَيْنِ اقْتَرَنَتَا بِفَضَائِلِهِ الْعِظَامِ وَمَنَاقِبِهِ الْجِسَامِ عَنْ قَائِدِ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ نَزَلَ الْجُحْفَةَ فَلَمْ يَجِدْ بِهَا مَاءً فَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بِالرَّوَايَا فَغَابَ غَيْرَ بَعِيدٍ وَعَادَ وَقَالَ مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْضِيَ رُعْباً مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ اجْلِسْ ثُمَّ أَنْفَذَ رَجُلاً آخَرَ وَكَانَ حَالُهُ كَذَلِكَ فَدَعَا عَلِيّاً علیهما السلام وَأَرْسَلَهُ فَخَرَجَ وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي رُجُوعِهِ لِمَا شَاهَدُوا مِنْ صُعُوبَةِ الْحَالِ فَخَرَجَ بِالرَّوَايَا وَوَرَدَ وَاسْتَقَى وَعَادَ وَلَهَا زَجَلٌ (٣) فَكَبَّرَ

________________

(١) ضرع إلى الامر : خضع.

(٢) المضض ـ محركة ـ : وجع المصيبة.

(٣) الزجل : الصوت العالي.

٢١٠

النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ.

وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ أَقْبَلَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم فَقَالَ لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ أَرِقَّاءَنَا لَحِقُوا بِكَ فَارْدُدْهُمْ عَلَيْنَا فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم حَتَّى تَبَيَّنَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ لَتَنْتَهُنَّ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ لَيَبْعَثَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ رَجُلاً امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ بِالْإِيمَانِ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ عَلَى الدِّينِ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ يَا رَسُولَ اللهِ أَبُو بَكْرٍ قَالَ لَا قِيلَ عُمَرُ قَالَ لَا وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ فِي الْحُجْرَةِ فَتَبَادَرُوا إِلَيْهَا لِيَعْرِفُوا مَنْ هُوَ فَإِذَا هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام.

وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ أَنَّ عَلِيّاً قَصَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَقُولُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ علیهما السلام قَالَ انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ رَسُولِ اللهِ (١) صلی الله علیه وسلم فَدَفَعَهَا إِلَى عَلِيٍّ يُصْلِحُهَا ثُمَّ مَشَى فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ غَلْوَةً أَوْ نَحْوَهَا (٢) وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ كَمَا يُقَاتِلُ مَعِي عَلَى التَّنْزِيلِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ لَا فَقَالَ عُمَرُ فَأَنَا فَقَالَ لَا فَأَمْسَكُوا وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم لَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ وَأَوْمَأَ إِلَى عَلِيٍّ علیهما السلام فَإِنَّهُ يُقَاتِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ إِذَا تُرِكَتْ سُنَّتِي وَنُبِذَتْ وَحُرِّفَ كِتَابُ اللهِ وَتَكَلَّمَ فِي الدِّينِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَيُقَاتِلُهُمْ عَلَى إِحْيَاءِ دِينِ اللهِ.

قلت إن كان المفيد ره قد ذكر هذا فَقَدْ أَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ فِي صَحِيحِهِ مَا يُقَارِبُهُ وَهُوَ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالرَّحَبَةِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ خَرَجَ إِلَيْنَا نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأُنَاسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ خَرَجَ إِلَيْكَ نَاسٌ مِنْ أَبْنَائِنَا وَإِخْوَانِنَا وَأَرِقَّائِنَا لَيْسَ لَهُمْ فِقْهٌ فِي الدِّينِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم لَتَنْتَهُنَّ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ لَيَبْعَثَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ عَلَى الدِّينِ قَدِ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ عَلَى

________________

(١) الشسع : قبال النعل وهو زمام بين الإصبع الوسطى والتي تليها.

(٢) الغلوة : رمية السهم أو نحوها (ه. م)

٢١١

الْإِيمَانِ قَالُوا مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ وَقَالَ عُمَرُ مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ هُوَ خَاصِفُ النَّعْلِ وَكَانَ أَعْطَى عَلِيّاً نَعْلَهُ يَخْصِفُهَا قَالَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا عَلِيٌّ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم قَالَ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

غزوة خيبر

كانت في سنة سبع للهجرة قَالَ ابْنُ طَلْحَةَ وَتَلْخِيصُ الْمَقْصَدِ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ يَرْفَعُهُ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم أَبَا بَكْرٍ بِرَايَتِهِ وَكَانَتْ بَيْضَاءَ إِلَى بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ فَقَاتَلَ ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ وَقَدْ جَهَدَ ثُمَّ بَعَثَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَكَانَ كَذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَداً رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسَ بِفَرَّارٍ قَالَ سَلَمَةُ فَدَعَا عَلِيّاً وَهُوَ أَرْمَدُ فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ ثُمَّ قَالَ خُذْ هَذِهِ الرَّايَةَ فَامْضِ بِهَا حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ فَخَرَجَ يُهَرْوِلُ وَأَنَا خَلْفَهُ نَتَّبِعُ أَثَرَهُ حَتَّى رَكَزَ رَايَتَهُ فِي رَضْمٍ (١) مِنْ حِجَارَةٍ تَحْتَ الْحِصْنِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ يَهُودِيٌّ مِنَ الْحِصْنِ فَقَالَ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ عَلَوْتُمْ حِصْنَنَا وَمَا أَنْزَلَ عَلَى مُوسَى أَوْ كَمَا قَالَ فَمَا رَجَعَ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ.

وَرُوِيَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم قَالَ ـ خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ علیهما السلام حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم بِرَايَتِهِ فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحِصْنِ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ فَقَاتَلَهُمْ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَطَرَحَ تُرْسَهُ مِنْ يَدِهِ فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ علیهما السلام بَاباً كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَرَمَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ حِينَ فَرَغَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي نَفَرٍ سَبْعَةٍ أَنَا ثَامِنُهُمْ نَجْهَدُ عَلَى أَنْ نَقْلِبَ الْبَابَ فَلَمْ نَقْلِبْهُ ـ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ ـ.

________________

(١) الرضم والرضام : صخور عظام يرخم بعضها فوق بعض في الابنية. الواحدة رضمة (ه. م)

٢١٢

قال الشيخ المفيد ثم تلت الحديبية خيبر وكان الفتح فيها لأمير المؤمنين علیهما السلام بلا ارتياب فظهر من فضله علیهما السلام في هذه الغزاة ما أجمع عليه نقلة الرواة وتفرد فيها بمناقب لم يشركه فيها أحد من الناس فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَزْدِيُّ عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ الْيَسَعِ وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْآثَارِ قَالُوا لَمَّا دَنَا رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم مِنْ خَيْبَرَ قَالَ لِلنَّاسِ قِفُوا فَوَقَفُوا فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا ثُمَّ نَزَلَ علیهما السلام تَحْتَ شَجَرَةٍ وَأَقَمْنَا بَقِيَّةَ يَوْمِنَا وَمِنْ غَدِهِ فَلَمَّا كَانَ نِصْفُ النَّهَارِ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فَإِذَا عِنْدَهُ رَجُلٌ جَالِسٌ فَقَالَ إِنَّ هَذَا جَاءَنِي وَأَنَا نَائِمٌ فَسَلَّ سَيْفِي وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي الْيَوْمَ قُلْتُ اللهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ فَشَامَ السَّيْفَ وَهُوَ جَالِسٌ كَمَا تَرَوْنَ وَلَا حَرَاكَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ لَعَلَّ فِي عَقْلِهِ شَيْئاً قَالَ نَعَمْ دَعُوهُ ثُمَّ صَرَفَهُ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَحَاصَرَ خَيْبَرَ بِضْعاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَبِضْعٌ فِي الْعَدَدِ بِكِسْرِ الْبَاءِ وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَفْتَحُهَا وَهُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ وَكَانَتِ الرَّايَةُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَعَرَضَ لَهُ رَمَدٌ أَعْجَزَهُ عَنِ الْحَرْبِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُنَاوِشُونَ الْيَهُودَ بَيْنَ أَيْدِي حُصُونِهِمْ وَجَنَبَاتِهَا.

فَلَمَّا كَانَ ذَاتُ يَوْمٍ فَتَحُوا الْبَابَ وَكَانُوا خَنْدَقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَخَرَجَ مَرْحَبٌ بِرَجِلِهِ يَتَعَرَّضُ لِلْحَرْبِ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ خُذْ هَذِهِ الرَّايَةَ فَأَخَذَهَا فِي جَمْعٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَاجْتَهَدَ وَلَمْ يَغْنَ شَيْئاً وَعَادَ يُؤَنِّبُ الْقَوْمَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَيُؤَنِّبُونَهُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ تَعَرَّضَ لَهَا عُمَرُ فَسَارَ بِهَا غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ رَجَعَ يُجَبِّنُ أَصْحَابَهُ وَيُجَبِّنُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم لَيْسَتْ هَذِهِ الرَّايَةُ لِمَنْ حَمَلَهَا جِيئُونِي بِعَلِيِّ بْنِ

________________

(١) شامه : سله. وشامه : أغمده وهو من الاضداد (منه ره)

(٢) الحراك ـ بالفتح ـ : الحركة.

(٣) المناوشة : المناولة.

(٤) أنبه ـ بتشديد النون ـ : لامه.

٢١٣

أَبِي طَالِبٍ فَقِيلَ إِنَّهُ أَرْمَدُ فَقَالَ أَرُونِيهِ تُرُونِّي رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ يَأْخُذُهَا بِحَقِّهَا لَيْسَ بِفَرَّارٍ فَجَاءُوا بِعَلِيٍّ يَقُودُونَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ مَا تَشْتَكِي يَا عَلِيُّ قَالَ رَمَداً مَا أُبْصِرُ مَعَهُ وَصُدَاعاً بِرَأْسِي فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ وَضَعْ رَأْسَكَ عَلَى فَخِذِي فَفَعَلَ عَلِيٌّ ذَلِكَ فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم وَتَفَلَ فِي يَدِهِ فَمَسَحَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ وَرَأْسِهِ فَانْفَتَحَتْ عَيْنَاهُ وَسَكَنَ الصُّدَاعُ وَقَالَ فِي دُعَائِهِ لَهُ اللهُمَّ قِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدِ وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ وَكَانَتْ بَيْضَاءَ وَقَالَ امْضِ بِهَا وَجَبْرَئِيلُ مَعَكَ وَالنَّصْرُ أَمَامَكَ وَالرُّعْبُ مَبْثُوثٌ فِي صُدُورِ الْقَوْمِ وَاعْلَمْ يَا عَلِيُّ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي كِتَابِهِمْ أَنَّ الَّذِي يُدَمِّرُ عَلَيْهِمُ اسْمُهُ إِلْيَا فَإِذَا لَقِيتَهُمْ فَقُلْ أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُمْ يُخْذَلُونَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى قَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام فَمَضَيْتُ بِهَا حَتَّى أَتَيْتُ الْحِصْنَ فَخَرَجَ مَرْحَبٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ وَمِغْفَرٌ وَحَجَرٌ قَدْ نَقَبَهُ مِثْلَ الْبَيْضَةِ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ :

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبٌ

شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبٌ

فَقُلْتُ :

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَةَ

كَلَيْثِ غَابَاتٍ شَدِيدٌ قَسْوَرَةٌ (١)

أَكِيلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَةِ

قال أبو عمر الزاهدي في كتاب اليواقيت سمعت ثعلبا رواه الشعر من الكوفيين والبصريين فلم يزيدوا على عشرة أبيات صحيحة لعلي وأجمعوا أن ما زاد على العشرة فهو منحول وهذه الأبيات من الصحيحة ومنها تلكم قُرَيْشٍ تمناني لتقتلني وقال سمعت ثعلبا يقول اختلف الناس في قوله السندرة فقال ابن الأعرابي هو مكيال كبير مثل القنقل قال ثعلب فعلى هذا أي أقتلكم قتلا واسعا كثيرا وقال غيره هي امرأة كانت تبيع القمح وتوفي الكيل قال ثعلب فعلى هذا أي أكيلكم كيلا وافيا وقال غيرهم هي العجلة يقال رجل سندري إذا كان مستعجلا في أموره جادا قال ثعلب فعلى هذا أي أقاتلكم بسرعة وعجلة و

________________

(١) وفي بعض الروايات «ضرغام آجام وليث قسورة» وغابات جمع الغابة : مأوى الأسد. وقسورة : الرجل القوى. ومن أسامي الأسد أيضا.

٢١٤

أبادركم قبل الفرار.

فَاخْتَلَفَتَا ضَرْبَتَيْنِ فَبَدَرْتُهُ فَقَدَدْتُ الْحَجَرَ وَالْمِغْفَرَ وَرَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَ السَّيْفُ فِي أَضْرَاسِهِ وَخَرَّ صَرِيعاً.

وَوَرَدَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام لَمَّا قَالَ أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ حِبْرٌ مِنْهُمْ غُلِبْتُمْ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى فَخَامَرَهُمْ (١) رُعْبٌ شَدِيدٌ وَرَجَعَ مَنْ كَانَ مَعَ مَرْحَبٍ وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنَ فَصَارَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام وَعَالَجَهُ حَتَّى فَتَحَهُ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يَعْبُرُوا الْخَنْدَقَ فَأَخَذَ الْبَابَ وَجَعَلَهُ جِسْراً عَلَى الْخَنْدَقِ حَتَّى عَبَرُوا وَظَفِرُوا بِالْحِصْنِ وَأَخَذُوا الْغَنَائِمَ وَلَمَّا انْصَرَفُوا دَحَا بِهِ بِيُمْنَاهُ أَذْرُعاً وَكَانَ يُغْلِقُهُ عِشْرُونَ رَجُلاً وَقَالَ حَسَّانُ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ فِي أَنْ يَقُولَ فِي ذَلِكَ شِعْراً فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ :

وَكَانَ عَلِيٌّ أَرْمَدَ الْعَيْنِ يَبْتَغِي

دَوَاءً فَلَمَّا لَمْ يُحِسَّ مُدَاوِياً (وَقَدْ تَقَدَّمَتْ)

قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ ضَرْبَةً فَقَدَّهُ بِاثْنَتَيْنِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ لِعَلِيٍّ علیهما السلام ضَرْبَتَانِ إِذَا تَطَاوَلَ قَدَّ وَإِذَا تَقَاصَرَ قَطَّ وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ فَرَأَيْتُ أُمَّ مَرْحَبٍ تَنْدُبُهُ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهَا قُلْتُ مَنْ قَتَلَ مَرْحَباً قَالَتْ مَا كَانَ لِيَقْتُلَهُ إِلَّا أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ قُلْتُ فَمَنْ هُمَا قَالَتْ مُحَمَّدٌ أَوْ عَلِيٌّ قُلْتُ فَمَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمَا قَالَتْ عَلِيٌّ وَأَنْشَدَتْنِي أَبْيَاتاً فِي آخِرِهَا

لِلَّهِ دَرُّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ

وَدَرُّ شَيْخَيْهِ لَقَدْ أَنْجَبَا

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ علیهما السلام قَالَ لَمَّا عَالَجْتُ بَابَ خَيْبَرَ جَعَلْتُهُ مِجَنّاً لِي (٢) وَقَاتَلْتُ الْقَوْمَ فَلَمَّا أَخْزَاهُمُ اللهُ وَضَعْتُ الْبَابَ عَلَى حِصْنِهِمْ طَرِيقاً ثُمَّ رَمَيْتُ بِهِ فِي خَنْدَقِهِمْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لَقَدْ حَمَلْتَ مِنْهُ ثِقْلاً فَقَالَ مَا كَانَ إِلَّا مِثْلَ جُنَّتِيَ الَّتِي فِي يَدِي فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وقيل إن المسلمين راموا حمل ذلك الباب فلم يقله (٣) إلا

________________

(١) أي داخلهم

(٢) المجن : الترس.

(٣) أقل الشيء : حمله ورفعه.

٢١٥

سبعون رجلا.

فصل : ثم تلا غزاة خيبر مواقف لم تجر مجرى ما تقدمها وأكثرها كانت بعوثا لم يشهدها رسول الله صلی الله علیه وسلم ولا كان الاهتمام بها كغيرها لضعف العدو وغناء المسلمين فأضربنا عن تعدادها وكان لأمير المؤمنين علیهما السلام في جميعها حظ وافر من قول وعمل.

غزوة الفتح

وهي التي توطد أمر الإسلام بها وتمهد الدين بما من الله سبحانه على نبيه فيها وإنجاز وعده في قوله (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخرها وقوله تعالى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) (١) الآية وكانت الأعين إليها ممتدة والرقاب متطاولة وكتم النبي صلی الله علیه وسلم أمره حين أرادها وأخبر به عليا علیهما السلام وكان شريكه في الرأي وأمينه على السر ثم عرف أبا بكر وجماعة من أصحابه بعد ذلك وجرى الأمر في ذلك على حال ما زال أمير المؤمنين منفردا بالفضل فيها.

فمن ذلك أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَشَهِدَ بَدْراً كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ كِتَاباً يُطْلِعُهُمْ عَلَى سِرِّ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم مَسِيرِهِ إِلَيْهِمْ فَجَاءَ الْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم بِمَا فَعَلَ وَكَانَ أَعْطَى الْكِتَابَ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ وَرَدَتِ الْمَدِينَةَ مُسْتَمِيحَةً (٢) وَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ فَاسْتَدْعَى صلی الله علیه وسلم عَلِيّاً علیهما السلام وَقَالَ إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِي قَدْ كَاتَبَ أَهْلَ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِخَبْرِنَا وَقَدْ كُنْتُ سَأَلْتُ اللهَ أَنْ يُعْمِيَ أَخْبَارَنَا عَلَيْهِمْ وَالْكِتَابُ مَعَ امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ وَقَدْ أَخَذَتْ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ فَخُذْ سَيْفَكَ وَالْحَقْهَا وَانْتَزِعِ الْكِتَابَ مِنْهَا وَخَلِّهَا وَعُدْ إِلَيَّ وَأَنْفَذَ الزُّبَيْرَ مَعَهُ فَمَضَيَا وَأَدْرَكَا الِامْرَأَةَ وَسَبَقَ إِلَيْهَا الزُّبَيْرُ وَسَأَلَهَا عَنِ الْكِتَابِ فَأَنْكَرَتْهُ وَحَلَفَتْ فَقَالَ الزُّبَيْرُ مَا أَرَى مَعَهَا كِتَاباً يَا أَبَا الْحَسَنِ فَارْجِعْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ نُخْبِرُهُ بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهَا فَقَالَ أَمِيرُ

________________

(١) الفتح : ٢٧.

(٢) استماحه : سأله ان يشفع له.

٢١٦

الْمُؤْمِنِينَ يُخْبِرُنِي رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم أَنَّ مَعَهَا كِتَاباً وَيَأْمُرُنِي بِأَخْذِهِ وَتَقُولُ لَا كِتَابَ مَعَهَا ثُمَّ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ (١) وَقَالَ وَاللهِ لَئِنْ لَمْ تُخْرِجِي الْكِتَابَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكِ فَقَالَتْ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَعْرِضْ عَنِّي حَتَّى أُخْرِجَهُ فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ فَكَشَفَتْ وَجْهَهَا وَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عَقِيصَتِهَا (٢) فَأَخَذَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام وَصَارَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ص.

فَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى بِالصَّلَاةَ جَامِعَةً فَنُودِيَ وَاجْتَمَعُوا ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَأَخَذَ الْكِتَابَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي كُنْتُ سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ اسْمُهُ أَنْ يُخْفِيَ أَخْبَارَنَا عَنْ قُرَيْشٍ وَإِنَّ رَجُلاً كَتَبَ إِلَى أَهْلِهِ يُخْبِرُهُمْ خَبَرَنَا فَلْيَقُمْ صَاحِبُ الْكِتَابِ وَإِلَّا فَضَحَهُ الْوَحْيُ فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ فَأَعَادَ ثَانِيَةً فَقَامَ حَاطِبٌ وَهُوَ يَرْعُدُ كَالسَّعَفَةِ (٣) وَقَالَ أَنَا صَاحِبُ الْكِتَابِ وَمَا أَحْدَثْتُ نِفَاقاً بَعْدَ إِسْلَامِي وَلَا شَكّاً بَعْدَ يَقِينِي فَقَالَ لَهُ صلی الله علیه وسلم فَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّ لِي أَهْلاً بِمَكَّةَ وَلَا عَشِيرَةَ لِي بِهَا وَخِفْتُ أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ لَهُمْ عَلَيْنَا فَيَكُونُ الْكِتَابُ كَفّاً لَهُمْ عَنْ أَهْلِي وَيَداً لِي عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لِشَكٍّ مِنِّي فِي الدِّينِ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللهِ مُرْنِي بِقَتْلِهِ فَقَدْ نَافَقَ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَلَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَغَفَرَ لَهُمْ أَخْرِجُوهُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْفَعُونَهُ فِي ظَهْرِهِ وَيُخْرِجُونَهُ وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ لِيَرِقَّ لَهُ فَرَدَّهُ وَقَالَ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ وَلَا تَعُدْ لِمِثْلِ مَا جَنَيْتَ.

وهذه المنقبة لاحقة بمناقبه علیهما السلام وفيها من جده في إخراج الكتاب من الامرأة وعزيمته في ذلك وأن النبي صلی الله علیه وسلم لم يثق في ذلك إلا به وأنفذ الزبير معه لأنه في عداد بني هاشم من قبل أمه صفية بنت عبد المطلب فأراد أن يتولى سره أهله وكان للزبير شجاعة وفيه إقدام ونسبه متصل بنسب أمير المؤمنين علیهما السلام فعلم أنه يساعده على أمره وكان الزبير تابعا لعلي مع أنه خالف الصواب في تنزيهها من الكتاب فتدارك

________________

(١) اخترط السيف : أخرجه من غمده.

(٢) العقيصة : الشعر المقعوص اي المشدود في القفا ، وأصل العقص : اللى وادخال أطراف الشعر في أصوله.

(٣) السعفة : جريدة النخل.

٢١٧

ذلك علي علیهما السلام وفي ذلك من الفضيلة والمنقبة ما تفرد به ولم يشاركه فيه أحد وقد ذكر هذه القضية بقريب من هذه الألفاظ جماعة غير المفيد.

وَكَانَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم أَعْطَى الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا مَكَّةَ أَمَامَهُ فَأَخَذَهَا سَعْدٌ وَهُوَ يَقُولُ

الْيَوْمَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ

الْيَوْمَ تَسْتَحِلُّ الْحُرْمَةَ

فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ لِلنَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ سَعْدٌ وَاللهِ إِنَّا نَخَافُ أَنْ تَكُونَ لَهُ الْيَوْمَ صَوْلَةٌ فِي قُرَيْشٍ فَقَالَ صلی الله علیه وسلم أَدْرَكَ يَا عَلِيُّ سَعْداً فَخُذِ الرَّايَةَ مِنْهُ وَادْخُلْ بِهَا أَنْتَ.

قلت هكذا ذكره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه فاستدرك به صلی الله علیه وسلم ما كاد يفوت من صواب التدبير بتهجم سعد وإقدامه على أهل مكة وعلم أن الأنصار لا توافق على عزل سيدها وأخذ الراية منه إلا بمثل علي علیهما السلام ولأن حاله في ذلك كما لو أخذها النبي صلی الله علیه وسلم في جلالة قدره ورفيع مكانه وهذا عزل خير من ولاية فإن من كان بحيث لا يقوم مقامه ولا يسد مسده إلا علي علیهما السلام فله أن يطاول الأفلاك ويفاخر الأملاك ولو كان في الصحابة من يوافق الأنصار على عزل صاحبها به لاختاره لذلك وندبه إليه ولكنه أبو الحسن علیهما السلام القائم مقام نفسه المشارك له في نوعه وجنسه صلى الله عليهما وآلهما الطاهرين.

وَكَانَ عَهِدَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم أَنْ لَا يُقَاتِلُوا بِمَكَّةَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ سِوَى نَفَرٍ كَانُوا يُؤْذُونَهُ فَقَتَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام مِنْهُمْ الْحُوَيْرِثَ بْنَ نُفَيْلِ بْنِ كَعْبٍ وَكَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم بِمَكَّةَ وَبَلَغَهُ علیهما السلام أَنَّ أُخْتَهُ أُمَّ هَانِئٍ قَدْ آوَتْ نَاساً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فِيهِمُ الْحَرْثُ بْنُ هِشَامٍ وَقَيْسُ بْنُ السَّائِبِ فَقَصَدَ علیهما السلام دَارَهَا وَهُوَ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَنَادَى أَخْرِجُوا مَنْ آوَيْتُمْ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ أُمُّ هَانِئٍ وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ فَقَالَتْ يَا عَبْدَ اللهِ أَنَا أُمُّ هَانِئِ بِنْتِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَأُخْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ انْصَرِفْ عَنْ دَارِي فَقَالَ أَخْرِجُوهُمْ فَقَالَتْ وَاللهِ لَأَشْكُوَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَرَفَعَ الْمِغْفَرَ عَنْ رَأْسِهِ فَعَرَفَتْهُ فَجَاءَتْ تَشْتَدُّ حَتَّى الْتَزَمَتْهُ وَقَالَتْ فَدَيْتُكَ حَلَفْتُ لَأَشْكُوَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ اذْهَبِي فَبَرِّي قَسَمَكِ فَإِنَّهُ بِأَعْلَى الْوَادِي قَالَتْ فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ

٢١٨

فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم كَلَامِي قَالَ مَرْحَباً بِكِ يَا أُمَّ هَانِئٍ وَأَهْلاً قُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَشْكُو إِلَيْكَ مَا لَقِيتُ مِنْ عَلِيٍّ الْيَوْمَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم قَدْ أَجَرْتِ مَنْ أَجَرْتِ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ إِنَّمَا جِئْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ تَشْكِينَ عَلِيّاً فِي أَنَّهُ أَخَافُ أَعْدَاءَ اللهِ وَأَعْدَاءَ رَسُولِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم قَدْ شَكَرَ اللهُ سَعْيَ عَلِيٍّ وَأَجَرْتُ مَنْ أَجَارَتْ أُمُّ هَانِئٍ لِمَكَانِهَا مِنْ عَلِيٍّ.

وَلَمَّا دَخَلَ صلی الله علیه وسلم الْمَسْجِدَ وَجَدَ فِيهِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَماً بَعْضُهَا مَشْدُودٌ بِبَعْضٍ بِالرُّصَاصِ فَقَالَ أَعْطِنِي يَا عَلِيُّ كَفّاً مِنَ الْحَصَى فَنَاوَلَهُ كَفّاً فَرَمَاهَا بِهِ وَهُوَ يَقُولُ (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا صَنَمٌ إِلَّا خَرَّ لِوَجْهِهِ وَأَخْرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَكَسَرْتُ.

فصل لَمَّا أَنْفَذَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى جُذَيْمَةَ دَاعِياً لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَنْفُذْهُ مُحَارِباً فَخَالَفَ أَمْرَهُ وَنَبَذَ عَهْدَهُ فَقَتَلَ الْقَوْمَ وَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْفَرَ ذِمَّتَهُمْ وَعَمِلَ فِي ذَلِكَ عَلَى حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ فَشَانَ فَعَالَهُ الْإِسْلَامُ وَنَفَرَ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم مَنْ كَانَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَكَادَ أَنْ يَبْطُلَ بِفِعْلِهِ نِظَامُ التَّدْبِيرِ فِي الدِّينِ فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم فِي تَلَافِي الْفَارِطِ وَإِصْلَاحِ الْفَاسِدِ وَدَفْعِ الْمَعَرَّةِ عَنِ الدِّينِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْفَذَهُ لَعَطْفِ الْقَوْمِ وَسَلِّ سَخَائِمِهِمْ (١) وَالرِّفْقِ بِهِمْ وَتَثْبِيتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدِيَ الْقَتْلَى (٢) وَيُرْضِيَ أَوْلِيَاءَهُمْ فَبَلَغَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ مَبْلَغَ الرِّضَا وَزَادَ عَلَى الْوَاجِبِ فِيمَا تَبَرَّعَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ عَطِيَّةِ مَا كَانَ فَضَلَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَقَالَ قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ دِيَةَ مَا عَرَفْتُمْ وَزِدْتُكُمْ لِتَكُونَ دِيَةَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا نَحْنُ لِيَرْضَى اللهُ عَنْ رَسُولِهِ صلی الله علیه وسلم وَتَرْضَوْنَ بِفَضْلِهِ عَلَيْكُمْ وَقَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ فتم بأمير المؤمنين علیهما السلام الصلاح وانقطعت به مواد الفساد وشكر النبي فعله وهي معدودة من مناقبه

________________

(١) سل الشيء من الشيء : انتزعه وأخرجه في رفق والسخيمة : الحقد والضغينة.

(٢) أي يعطى دية القتلى إلى أوليائهم.

٢١٩

قلت هذه القصة من فعل خالد وبراءة النبي صلی الله علیه وسلم من فعله وإنفاذ أمير المؤمنين علیهما السلام لاستدراك الحال من الأمور المشهورة أوردها نقلة الأخبار من المخالف والمؤالف.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ إِنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم بَعَثَ خَالِداً حِينَ بَعَثَ إِلَى مَا حَوْلَ مَكَّةَ دَاعِياً وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلاً فَوَطِئَ بَنِي جُذَيْمَةَ وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَصَابُوا عَوْفَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَكَانَا أَقْبَلَا تَاجِرَيْنِ مِنَ الْيَمَنِ فَنَزَلَا بِهِمْ ثُمَّ قَتَلُوهُمَا وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمَا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَبَعَثَ النَّبِيُّ خَالِداً وَرَأَوْهُ حَمَلُوا السِّلَاحَ فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ ضَعُوا السِّلَاحَ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَيْلَكُمْ إِنَّهُ خَالِدٌ وَاللهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السِّلَاحِ إِلَّا الْإِسَارُ وَمَا بَعْدَهُ إِلَّا الْقَتْلُ وَلَا أَضَعُ سِلَاحِي فَقَالُوا إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْفِكَ دِمَاءَنَا إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا وَوَضَعَ الْحَرْبُ وَأَمِنَ النَّاسُ وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى وَضَعَ سِلَاحَهُ فَأَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ فَكَتَّفُوا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ فِعْلِ خَالِدٍ وَمِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثُمَّ دَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا عَلِيُّ انْطَلِقْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَانْظُرْ فِي أُمُورِهِمْ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ فَخَرَجَ حَتَّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم فَرَدَّ إِلَيْهِمُ الدِّمَاءَ وَمَا أُصِيبَ مِنَ الْأَمْوَالِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَدِي مِيلَغَةِ الْكَلْبِ (١) حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ إِلَّا أَدَّاهُ بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَالِ فَقَالَ لَهُمْ هَلْ بَقِيَ لَكُمْ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ قَالُوا لَا قَالَ فَإِنِّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ احْتِيَاطاً لِرَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم مِمَّا لَا نَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُونَ فَفَعَلَ وَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِماً شَاهِراً يَدَيْهِ حَتَّى إِنَّهُ

________________

(١) قال الجزريّ وفي حديث على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعثه ليدى قوما قتلهم خالد بن الوليد فأعطاهم ميلغة الكلب : هي الاناء الذي يلغ فيه الكلب ، يعنى أعطاهم قيمة كل ما ذهب لهم حتّى قيمة الميلغة.

٢٢٠