كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

جِئْنَاكَ نَطْلُبُ حَاجَةً قَالَ هِيَ مَقْضِيَّةٌ فَأَخَذُوا مِنْهُ مَوْعِداً وَجَاءُوا إِلَى أَحْمَدَ وَقَالُوا قَدْ كَفَيْنَاكَ قُمْ مَعَنَا فَقَامَ فَدَخَلُوا عَلَى الشَّيْخِ فَرَحَّبَ بِأَحْمَدَ وَرَفَعَ مَجْلِسَهُ وَحَدَّثَهُ مَا سَأَلَ فِيهِ أَحْمَدُ مِنَ الْحَدِيثِ فَلَمَّا فَرَغَ أَحْمَدُ مَسَحَ الْقَلَمَ وَتَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ قَالَ لَهُ أَحْمَدُ مَقْضِيَّةٌ قَالَ لَيْسَ أُحِبُّ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِي حَتَّى أُعَلِّمَكَ مَذْهَبِي فَقَالَ أَحْمَدُ هَاتِهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ إِنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صلی الله علیه وسلم كَانَ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَإِنِّي أَقُولُ إِنَّهُ كَانَ خَيْرَهُمْ وَإِنَّهُ كَانَ أَفْضَلَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ وَإِنَّهُ كَانَ الْإِمَامَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم قَالَ فَمَا تَمَّ كَلَامُهُ حَتَّى أَجَابَهُ أَحْمَدُ فَقَالَ يَا هَذَا وَمَا عَلَيْكَ فِي هَذَا الْقَوْلِ قَدْ تَقَدَّمَكَ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم جَابِرٌ وَأَبُو ذَرٍّ وَالْمِقْدَادُ وَسَلْمَانُ فَكَادَ الشَّيْخُ يَطِيرُ فَرَحاً بِقَوْلِ أَحْمَدَ فَلَمَّا خَرَجْنَا شَكَرْنَا أَحْمَدَ وَدَعَوْنَا لَهُ.

وَمِنْ كِتَابِ كِفَايَةِ الطَّالِبِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا تَسْتَخْلِفُ عَلِيّاً قَالَ إِنْ تَوَلَّوْا عَلِيّاً تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيّاً يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَالٍ.

" وَمِنْهُ عَنِ ابْنِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فَضْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم بِمِائَةِ مَنْقَبَةٍ وَشَارَكَهُمْ فِي مَنَاقِبِهِمْ.

قال وابن التيمي هو موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ثقة ابن ثقة أسند عنه العلماء والأثبات ورواه غيره مرفوعا لكن لم يعتمد عليه.

وَنَقَلْتُ مِنْ كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ لِلْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ اللَّفْتُوَانِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم أَنَا وَعَلِيٌّ حُجَّةُ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ.

قُلْتُ وَقَدْ أَوْرَدَهُ صَدِيقَنَا الْعِزُّ الْمُحَدِّثُ الْحَنْبَلِيُّ الْمَوْصِلِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم إِذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا أَنَسُ أَنَا وَهَذَا حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ.

قلت هذا الحديث دليل على أن مكانة أمير المؤمنين علیهما السلام لا

١٦١

يدانيها أحد من الناس وأن محله من رسول الله صلی الله علیه وسلم عالي البناء محكم الأساس وأن شرفه قد بلغ الغاية التي تحير صفتها الألباب ويعجز إدراكها الأصحاب ويجب على العقلاء أن يلقوا إليها بالمقاليد إذعانا لشأوها البعيد (١) فإنه جعل حاله مثل حاله ونزله منزلته في هذا وفي كثير من أقواله ومن كان حجة على العباد فمن ينسج على منواله أو يحذو على مثاله أم كيف يمنع عن أفعاله وهو حجة على الناس وهم من عياله ص.

ونزيده إيضاحا وهو أن هذا يدل على أن كلما كان للنبي صلی الله علیه وسلم فلعلي مثله لاشتراكهما في أنهما حجة الله على عباده فأما النبوة فإنها خرجت بدليل آخر فبقي ما عداها من الولاية عليهم وجباية خراجهم وقسمته بينهم وإقامة حدودهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا واضح لمن تأمله وأنصف.

في وصف زهده في الدنيا

وسنته في رفضها وقناعته باليسير منها وعبادته

قَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ وَنَقَلْتُهُ مِنْ مَنَاقِبِهِ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ سَمِعْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَقُولُ يَا عَلِيُّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى زَيَّنَكَ بِزِينَةٍ لَمْ يُزَيِّنِ الْعِبَادَ بِزِينَةٍ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهَا زَهَّدَكَ فِيهَا وَبَغَّضَهَا إِلَيْكَ وَحَبَّبَ إِلَيْكَ الْفُقَرَاءَ فَرَضِيتَ بِهِمْ أَتْبَاعاً وَرَضُوا بِكَ إِمَاماً يَا عَلِيُّ طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّكَ وَصَدَّقَ عَلَيْكَ وَالْوَيْلُ لِمَنْ أَبْغَضَكَ وَكَذَّبَ عَلَيْكَ أَمَّا مَنْ أَحَبَّكَ وَصَدَّقَ عَلَيْكَ فَإِخْوَانُكَ فِي دِينِكَ وَشُرَكَاؤُكَ فِي جَنَّتِكَ وَأَمَّا مَنْ أَبْغَضَكَ وَكَذَّبَ عَلَيْكَ فَحَقِيقٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقِيمَهُ مَقَامَ الْكَذَّابِينَ.

وَمِنْهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ قَالَ رَأَيْتُ عَلَى عَلِيٍّ علیهما السلام قَمِيصاً زَرِيّاً (٢) إِذَا مَدَّهُ بَلَغَ الظُّفُرَ وَإِذَا أَرْسَلَهُ كَانَ مَعَ نِصْفِ الذِّرَاعِ.

" وَمِنْهُ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا عَلِمْنَا أَنَّ أَحَداً كَانَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ

________________

(١) الشأو : الأمد والغاية يقال : [فلان بعيد الشأو].

(٢) الزرى بتشديد الياء ـ الحقير الذي لا يعد شيئا.

١٦٢

النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم أَزْهَدَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ " قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّجِيبِ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْهَمْدَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَالِياً الْإِمَامُ الْحَافِظُ سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَصْفَهَانِيُ.

وَمِنْهُ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْقَصْرَ فَوَجَدْتُهُ جَالِساً وَبَيْنَ يَدَيْهِ صَحِيفَةٌ فِيهَا لَبَنٌ حَازِرٌ أَجِدُ رِيحَهُ مِنْ شِدَّةِ حُمُوضَتِهِ وَفِي يَدِهِ رَغِيفٌ أَرَى قُشَارَ الشَّعِيرِ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ يَكْسِرُ بِيَدِهِ أَحْيَاناً فَإِذَا غَلَبَهُ كَسَرَهُ بِرُكْبَتِهِ وَطَرَحَهُ فِيهِ فَقَالَ ادْنُ وَأَصِبْ مِنْ طَعَامِنَا هَذَا فَقُلْتُ إِنِّي صَائِمٌ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَقُولُ مَنْ مَنَعَهُ الصَّوْمُ مِنْ طَعَامٍ يَشْتَهِيهِ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُطْعِمَهُ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ وَيَسْقِيَهُ مِنْ شَرَابِهَا قَالَ فَقُلْتُ لِجَارِيَتِهِ وَهِيَ قَائِمَةٌ بِقَرِيبٍ مِنْهُ وَيْحَكِ يَا فِضَّةُ أَلَا تَتَّقِينَ اللهَ فِي هَذَا الشَّيْخِ أَلَا تَنْخُلُونَ (١) لَهُ طَعَاماً مِمَّا أَرَى فِيهِ مِنَ النُّخَالَةِ فَقَالَتْ لَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْنَا أَنْ لَا نَنْخُلَ لَهُ طَعَاماً قَالَ علیهما السلام مَا قُلْتَ لَهَا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ بِأَبِي وَأُمِّي مَنْ لَمْ يُنْخَلْ لَهُ طَعَامٌ وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَ.

الحازر اللبن الحامض انظر هداك الله وإيانا إلى شدة زهده وقناعته فإن إيراده الحديث وقوله علیهما السلام من منع نفسه من طعام يشتهيه دليل على رضاه بطعامه وكونه عنده طعاما مشتهى يرغب فيه من يراه وما ذاك لأنه صلی الله علیه وسلم لا يهتدي إلى الأطعمة المتخيرة والألوان المعجبة ولكنه اقتدى برسول الله ووطن نفسه الشريفة على الصبر على جشوبة المأكل وخشونة الملبس رجاء ما عند الله وتأسيا برسول الله صلی الله علیه وسلم فصار ذلك له ملكة وطبيعة ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.

وَمِنْهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْتُهُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ أُتِيَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ علیهما السلام بِفَالُوذَجٍ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَقَالَ شَيْءٌ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم لَا أُحِبُّ أَنْ آكُلَ مِنْهُ.

وَمِنْهُ عَنْ أَبِي مَطَرٍ قَالَ خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِذَا رَجُلٌ يُنَادِي مِنْ خَلْفِي ارْفَعْ إِزَارَكَ فَإِنَّهُ أَتْقَى لِثَوْبِكَ وَأَبْقَى لَكَ وَخُذْ مِنْ رَأْسِكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِماً فَمَشَيْتُ خَلْفَهُ

________________

(١) نخل الدقيق : غربله وأزال نخالته.

١٦٣

وَهُوَ مُؤْتَزِرٌ بِإِزَارٍ وَمُرْتَدٍ بِرِدَاءٍ وَمَعَهُ الدِّرَّةُ كَأَنَّهُ أَعأْرَابِيٌّ بَدَوِيٌّ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالَ لِي رَجُلٌ أَرَاكَ غَرِيباً بِهَذَا الْبَلَدِ قُلْتُ أَجَلْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَالَ هَذَا عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ وَهُوَ سُوقُ الْإِبِلِ فَقَالَ بِيعُوا وَلَا تَحْلِفُوا فَإِنَّ الْيَمِينَ تُنْفِقُ السِّلْعَةَ وَتَمْحَقُ الْبَرَكَةَ ثُمَّ أَتَى أَصْحَابَ التَّمْرِ فَإِذَا خَادِمٌ (١) تَبْكِي فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ قَالَتْ بَاعَنِي هَذَا الرَّجُلُ تَمْراً بِدِرْهَمٍ فَرَدُّوهُ مَوَالِيَّ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ فَقَالَ خُذْ تَمْرَكَ وَأَعْطِهَا دِرْهَمَهَا فَإِنَّهَا خَادِمٌ لَيْسَ لَهَا أَمْرٌ فَدَفَعَهُ فَقُلْتُ أَتَدْرِي مَنْ هَذَا قَالَ لَا قُلْتُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَصَبَّ تَمْرَهُ وَأَعْطَاهَا دِرْهَمَهَا وَقَالَ أُحِبُّ أَنْ تَرْضَى عَنِّي فَقَالَ مَا أَرْضَانِي عَنْكَ إِذَا وَفَيْتَهُمْ حُقُوقَهُمْ ثُمَّ مَرَّ مُجْتَازاً بِأَصْحَابِ التَّمْرِ فَقَالَ يَا أَصْحَابَ التَّمْرِ أَطْعِمُوا الْمَسَاكِينَ يَرْبُو كَسْبَكُمْ ثُمَّ مَرَّ مُجْتَازاً وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى أَتَى أَصْحَابَ السَّمَكِ فَقَالَ لَا يُبَاعُ فِي سُوقِنَا طَافٌ ثُمَّ أَتَى دَارَ فُرَاتٍ وَهُوَ سُوقُ الْكَرَابِيسِ (٢) فَقَالَ يَا شَيْخُ أَحْسِنْ بَيْعِي فِي قَمِيصِي بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَلَمَّا عَرَفَهُ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ شَيْئاً ثُمَّ أَتَى آخَرَ فَلَمَّا عَرَفَهُ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ شَيْئاً فَأَتَى غُلَاماً حَدَثاً فَاشْتَرَى مِنْهُ قَمِيصاً بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَلَبِسَهُ مَا بَيْنَ الرُّسْغَيْنِ (٣) إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَقَالَ حِينَ لَبِسَهُ ـ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي مِنَ الرِّيَاشِ (٤) مَا أَتَجَمَّلُ بِهِ فِي النَّاسِ وَأُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي فَقِيلَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا شَيْءٌ تَرْوِيهِ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ شَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ قَالَ بَلْ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَقُولُهُ عِنْدَ الْكِسْوَةِ فَجَاءَ أَبُو الْغُلَامِ صَاحِبُ الثَّوْبِ فَقِيلَ يَا فُلَانُ قَدْ بَاعَ ابْنُكَ الْيَوْمَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام قَمِيصاً بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ قَالَ أَفَلَا أَخَذْتَ مِنْهُ دِرْهَمَيْنِ فَأَخَذَ أَبُوهُ دِرْهَماً وَجَاءَ بِهِ

________________

(١) الخادم يطلق على المذكر والمؤنث فعن المطرزي أنه قال الخادم واحد الخدم غلاما كان أم جارية والمراد هنا هو الثاني وفي بعض النسخ «خادمة».

(٢) جمع الكرباس.

(٣) الرسغ : مفصل ما بين الساعد والكف والساق والقدم.

(٤) الرياش : اللباس الفاخر.

١٦٤

إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى بَابِ الرَّحْبَةِ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ أَمْسِكْ هَذَا الدِّرْهَمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مَا شَأْنُ هَذَا الدِّرْهَمِ قَالَ كَانَ ثَمَنُ قَمِيصِكَ دِرْهَمَيْنِ فَقَالَ بَاعَنِي رِضَايَ وَأَخَذَ رِضَاهُ.

" وَمِنْهُ عَنْ قَمِيصَةِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

وَنَقَلْتُ مِنْ كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ لِأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام وَقَدْ أَمَرَ بِكَنْسِ بَيْتِ الْمَالِ وَرَشِّهِ فَقَالَ يَا صَفْرَاءُ غُرِّي غَيْرِي يَا بَيْضَاءُ غُرِّي غَيْرِي ثُمَّ تَمَثَّلَ شِعْراً

هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ

إِذْ كُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ

وَمِنْهُ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِ إِنَّ عَلِيّاً دَخَلَ السُّوقَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَاشْتَرَى قَمِيصاً بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ فَلَبِسَهُ فِي السُّوقِ فَطَالَ أَصَابِعَهُ فَقَالَ لِلْخَيَّاطِ قُصَّهُ (٢) قَالَ فَقَصَّهُ وَقَالَ الْخَيَّاطُ أَحُوصُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لَا وَمَشَى وَالدِّرَّةُ عَلَى

________________

(١) الجنى : المجنى ويروى [هذا جناي وهجانه فيه] والهجان البيض وهو أحسن البياض واعتقه ، وأول من تكلم بهذا المثل عمرو بن عدي بن أخت جذيمة ، وذلك ان جذيمة خرج مبتديا بأهله وولده في سنة مكلئة وضربت أبنية في زهر وروضة فأقبل ولده يجتنون الكماة فإذا أصاب كماة جيدة أكلها وإذا أصابها عمر وخبأها في حجزته ، فأقبلوا يتعادون إلى جذيمة وعمرو يقول ـ وهو صغير ـ :

هذا جناي وخياره فيه

إذ كل جان يده إلى فيه

فضمه جذيمة إليه والتزمه وسر بقوله وفعله وأمر ان يصاغ له طوق فكان أول عربى طوق ، وكان يقال له عمرو ذو الطوق وهو الذي قيل فيه المثل المشهور : [كبر عمرو عن الطوق].

وتقدير المثل : هذا ما أجتنيه ولم آخذ لنفسي خير ما فيه إذ كل جان يده مائلة إلى فيه يأكله. (كذا في مجمع الأمثال).

(٢) قص الشيء : قطعته.

١٦٥

كَتِفِهِ وَهُوَ يَقُولُ شَرْعُكَ مَا بَلَغَكَ الْمَحَلَّ شَرْعُكَ مَا بَلَغَكَ الْمَحَلَ

[الحوص الخياطة وشرعك حسبك أي كفاك].

قال ابن طلحة حقيقة العبادة هي الطاعة وكل من أطاع الله بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فهو عابد ولما كانت متعلقات الأوامر الصادرة من الله تعالى على لسان رسوله صلی الله علیه وسلم متنوعة كانت العبادة متنوعة فمنها الصلاة ومنها الصدقة ومنها الصيام إلى غيرها من الأنواع وفي كل ذلك كان علي علیهما السلام غاية لا تدرك وكان متحليا بها مقبلا عليها حتى أدرك بمسارعته إلى طاعة الله ورسوله ما فات غيره وقصر عنه سواه فإنه جمع بين الصلاة والصدقة فتصدق وهو راكع في صلاته فجمع بينهما في وقت واحد فأنزل الله تعالى فيه قرآنا تتلى آياته وتجلى بيناته.

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ يَرْفَعُهُ بِسَنَدِهِ قَالَ بَيْنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ زَمْزَمَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مُتَعَمِّمٌ بِعِمَامَةٍ فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم إِلَّا قَالَ الرَّجُلُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَأَلْتُكَ بِاللهِ مَنْ أَنْتَ فَكَشَفَ الْعِمَامَةَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي أَنَا جُنْدَبُ بْنُ جُنَادَةَ الْبَدْرِيُّ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم بِهَاتَيْنِ وَإِلَّا فَصَمَّتَا وَرَأَيْتُهُ بِهَاتَيْنِ وَإِلَّا فَعَمِيَتَا يَقُولُ عَنْ عَلِيٍّ إِنَّهُ قَائِدُ الْبَرَرَةِ وَقَاتِلُ الْكَفَرَةِ مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ أَمَا إِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَوْماً مِنَ الْأَيَّامِ الظُّهْرَ فَسَأَلَ سَائِلٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ شَيْئاً فَرَفَعَ السَّائِلُ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ اللهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي سَأَلْتُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَلَمْ يُعْطِنِي أَحَدٌ شَيْئاً وَكَانَ عَلِيٌّ فِي الصَّلَاةِ رَاكِعاً فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِخِنْصِرِهِ الْيُمْنَى وَكَانَ مُتَخَتِّماً فِيهَا فَأَقْبَلَ السَّائِلُ فَأَخَذَ الْخَاتَمَ مِنْ خِنْصِرِهِ وَذَلِكَ بِمَرْأًى مِنَ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم مِنْ صَلَاتِهِ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ اللهُمَّ إِنَّ أَخِي مُوسَى علیهما السلام سَأَلَكَ فَقَالَ (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ

١٦٦

أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (١) فَأَنْزَلْتَ فِيهِ (٢) قُرْآناً نَاطِقاً (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا) (٣) اللهُمَّ أَنَا مُحَمَّدٌ نَبِيُّكَ وَصَفِيُّكَ فَ (اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) ... (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) عَلِيّاً (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (٤) قَالَ أَبُو ذَرٍّ فَمَا اسْتَتَمَّ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم كَلَامَهُ حَتَّى نَزَلَ جَبْرَئِيلُ علیهما السلام مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اقْرَأْ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٥)

" وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ عَقِيبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ سَمِعْتُ أَبَا مَنْصُورٍ الْحَمْشَادِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْحَافِظَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا حَامِدٍ مُحَمَّدَ بْنَ هَارُونَ الْحَضْرَمِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَنْصُورٍ الطُّوسِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ مَا جَاءَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا جَاءَ لِعَلِيٍ وفي إيراده قول أحمد عقيب هذه القصة إشارة إلى أن هذه المنقبة العلية وهي الجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين البدنية والمالية في وقت واحد حتى نزل القرآن الكريم بمدح القائم بهما المسارع إليهما قد اختص بها علي علیهما السلام وانفرد بشرفها ولم يشاركه فيها أحد من الصحابة قبله ولا بعده.

أقول صدقته بالخاتم في الصلاة أمر مجمع عليه لم يتفرد به الثعلبي رحمه‌الله ورحم الله ابن طلحة فإنه قد جعل ذكر الثعلبي ما ذكره من قول أحمد بن حنبل بعد هذه القصة دليلا على علو مقدارها وشاهدا بارتفاع منارها وغفل عما أورده فيها من فرح النبي صلی الله علیه وسلم بها وشدة أثرها في نفسه وتحريكها أريحيته

________________

(١) طه : ٢٥ ـ ٣٢.

(٢) وفي نسخة «فأنزلت عليه».

(٣) القصص : ٣٥.

(٤) وفي بعض النسخ «ظهري» بدل «ازرى».

(٥) المائدة : ٥٥.

١٦٧

ص حتى استدعت دعاءه لعلي علیهما السلام لفرط سروره به وانفعال نفسه لفعله فإنها تشهد بعظم شأن هذه الفضيلة والقائم بها

وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ أَكْثَرُوا مُنَاجَاةَ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم وَغَلَبُوا الْفُقَرَاءَ عَلَى الْمَجَالِسِ عِنْدَهُ حَتَّى كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم ذَلِكَ وَاسْتَطَالَ جُلُوسُهُمْ وَكَثْرَةُ مُنَاجَاتِهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) (١) فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ أَمَامَ النَّجْوَى فَأَمَّا أَهْلُ الْعُسْرَةِ فَلَمْ يَجِدُوا وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَبَخِلُوا وَخَفَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَخَفَّ ذَلِكَ الزِّحَامُ وَغَلَبُوا عَلَى حُبِّهِ وَالرَّغْبَةِ فِي مُنَاجَاتِهِ حُبَّ الْحُطَامِ وَاشْتَدَّ عَلَى أَصْحَابِهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا رَاشِقَةً لَهُمْ بِسِهَامِ الْمَلَامِ نَاسِخَةً بِحُكْمِهَا حَيْثُ أَحْجَمَ مَنْ كَانَ دَأْبُهُ الْإِقْدَامَ وَقَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام إِنَّ فِي كِتَابِ اللهِ لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي وَهِيَ آيَةُ الْمُنَاجَاةِ فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ كَانَ لِي دِينَارٌ فَبِعْتُهُ بِدَرَاهِمَ وَكُنْتُ إِذَا نَاجَيْتُ الرَّسُولَ تَصَدَّقْتُ حَتَّى فَنِيَتْ فَنُسِخَتْ بِقَوْلِهِ (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) (٣) الْآيَةَ وَنَقَلَ الثَّعْلَبِيُّ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام لَمَّا نَزَلَتْ دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَقَالَ مَا تَرَى تَرَى دِينَاراً فَقُلْتُ لَا يُطِيقُونَهُ قَالَ فَكَمْ قُلْتُ حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً فَقَالَ إِنَّكَ لَزَهِيدٌ فَنَزَلَتْ (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الْآيَةَ

[الزهيد القليل وكأنه يريد مقلل]

(شعر)

إذا اشتبهت دموع في خدود

تبين من بكى ممن تباكى

" وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ ثَلَاثٌ كُنَّ لِعَلِيٍّ لَوْ أَنَّ لِي وَاحِدَةً مِنْهُنَّ كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ تَزْوِيجُهُ بِفَاطِمَةَ وَإِعْطَاؤُهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَآيَةُ النَّجْوَى

________________

(١) المجادلة : ١٢.

(٢) المجادلة : ١٣.

١٦٨

قلت لو أن ابن عمر نظر في حقيقة أمره وعرف كنه قدره وراقب الله والعربية في سره وجهره لم يجعل فاطمة علیهما السلام من أمانيه ولكان يوجه أمله إلى غير ذلك من المناقب التي جمعها الله فيه ولكن عبد الله يرث الفظاظة ويقتضي طبعه الغلاظة فإنه غسل باطن عينيه في الوضوء حتى عمي وشك في قتال علي علیهما السلام فقعد عنه وتخلف وندم عند موته قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبِرِّ صَاحِبُ كِتَابِ الْإِسْتِيعَابِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ مَوْتِهِ مَا أَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا شَيْئاً إِلَّا أَنِّي لَمْ أُقَاتِلِ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فأشكل عليه أمر علي علیهما السلام وبايع معاوية ويزيد ابنه وحث ولده وأهله على لزوم طاعة يزيد والاستمرار على بيعته وقال لا يكون أصعب من نقضها إلا الإشراك ومن نقضها كانت صيلم بيني وبينه وذلك حين قام الناس مع ابن الزبير وقد تقدم ذكر هذا وحاله حين جاء إلى الحجاج ليأخذ بيعته لعبد الملك معلوم والحجاج قتله في آخر الأمر بأن دس عليه في رخام من جرح رجله بحربة مسمومة والغرض في جمع هذا الكتاب غير هذا.

وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ عَلِيّاً علیهما السلام آجَرَ نَفْسَهُ لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ يَسْقِي نَخْلاً بِشَيْءٍ مِنْ شَعِيرٍ فَلَمَّا قَبَضَهُ طَحَنَ ثُلُثَهُ وَاتَّخَذُوا مِنْهُ طَعَاماً فَلَمَّا تَمَّ أَتَى مِسْكِينٌ فَأَخْرَجُوا إِلَيْهِ الطَّعَامَ وَعَمِلُوا الثُّلُثَ الثَّانِيَ فَأَتَاهُمْ يَتِيمٌ فَأَخْرَجُوهُ إِلَيْهِ وَعَمِلُوا الثُّلُثَ الثَّالِثَ فَأَتَاهُمْ أَسِيرٌ فَأَخْرَجُوا الطَّعَامَ إِلَيْهِ وَطَوَى (١) عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ علیهما السلام وَعَلِمَ اللهُ حُسْنَ مَقْصَدِهِمْ وَصِدْقَ نِيَّاتِهِمْ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا بِمَا فَعَلُوهُ وَجْهَهُ وَطَلَبُوا بِمَا أَتَوْهُ مَا عِنْدَهُ وَالْتَمَسُوا الْجَزَاءَ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ قُرْآناً وَأَوْلَاهُمْ مِنْ لَدُنْهُ إِحْسَاناً وَنَشَرَ لَهُمْ بَيْنَ الْعَالَمِينَ دِيوَاناً وَعَوَّضَهُمْ عَمَّا بَذَلُوا جِنَاناً وَحُوراً وَوِلْدَاناً فَقَالَ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (٢)إِلَى آخِرِهَا وهذه منقبة لها عند الله محل كريم وجودهم بالطعام مع شدة الحاجة إليه أمر عظيم ولهذا تتابع فيها وعده سبحانه بفنون

________________

(١) طوى : جاع ولم يأكل شيئا.

(٢) الإنسان : ٨.

١٦٩

الألطاف وضروب الإنعام والإسعاف وقيل إن الضمير في حبه يعود إلى الله تعالى وهو الظاهر وقيل إلى الطعام.

واعلم أن أنواع العبادة كثيرة وهي متوقفة على قوة اليقين بالله تعالى وما عنده وما أعده لأوليائه في دار الجزاء وعلى شدة الخوف من الله تعالى وأليم عقابه نعوذ بالله منه.

وَعَلِيٌّ علیهما السلام الْقَائِلُ لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً فشدة يقينه دالة على قوة دينه ورجاحة موازينه وقد تظاهرت الروايات أنه لم يكن نوع من أنواع العبادة والزهد والورع إلا وحظه منه وافر الأقسام ونصيبه منه تام بل زائد على التمام وما اجتمع الأصحاب على خير إلا كانت له رتبة الأمام ولا ارتقوا قبة مجد إلا وله ذروة الغارب (١) وقلة السنام ولا احتكموا في قصة شرف إلا وألقوا إليه أزمة الأحكام.

وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ فِي حِلْيَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم قَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ اللهَ قَدْ زَيَّنَكَ بِزِينَةٍ لَمْ يُزَيِّنِ الْعِبَادَ بِزِينَةٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْهَا هِيَ زِينَةُ الْأَبْرَارِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا فَجَعَلَكَ لَا تَرْزَأُ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئاً وَلَا تَرْزَأُ مِنْكَ الدُّنْيَا شَيْئاً.

أي لا تنقص منها ولا تنقص منك وارتزأ الشيء نقص.

وَقَدْ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ كِفَايَةِ الطَّالِبِ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مَرْيَمَ السَّلُولِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَقُولُ يَا عَلِيُّ إِنَّ اللهَ قَدْ زَيَّنَكَ بِزِينَةٍ لَمْ يُزَيِّنِ الْعِبَادَ بِزِينَةٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْهَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَجَعَلَكَ لَا تَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئاً وَلَا تَنَالُ الدُّنْيَا مِنْكَ شَيْئاً وَوَهَبَ لَكَ حُبَّ الْمَسَاكِينِ فَرَضُوا بِكَ إِمَاماً وَرَضِيتَ بِهِمْ أَتْبَاعاً فَطُوبَى لِمَنْ أَحَبَّكَ وَصَدَّقَ فِيكَ وَوَيْلٌ لِمَنْ أَبْغَضَكَ وَكَذَّبَ عَلَيْكَ فَأَمَّا الَّذِينَ أَحَبُّوكَ وَصَدَّقُوا فِيكَ فَهُمْ جِيرَانُكَ فِي دَارِكَ وَرُفَقَاؤُكَ فِي قَصْرِكَ وَأَمَّا الَّذِينَ أَبْغَضُوكَ وَكَذَّبُوا عَلَيْكَ فَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يُوقِفَهُمْ مَوْقِفَ الْكَذَّابِينَ (٢) يَوْمَ

________________

(١) الغارب : أعلى كل شيء.

(٢) وفي نسخة «ان يدخلهم جهنم».

١٧٠

الْقِيَامَةِ وَذَكَرَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي مَنَاقِبِهِ

فقد ثبت لعلي الزهد في الدنيا بشهادة النبي صلی الله علیه وسلم له بذلك ولا يصح الزهد في الشيء إلا بعد معرفته والعلم به وعلي علیهما السلام عرف الدنيا بعينها وتبرجت له فلم يحفل بزينتها لشينها وتحقق زوالها فعاف وصالها (١) وتبين انتقالها فصرم حبالها (٢) واستبان قبح عواقبها وكدر مشاربها فألقى حبلها على غاربها (٣) وتركها لطالبها وتيقن بؤسها وضررها فطلقها ثلاثا وهجرها وعصاها إذ أمرته فعصته إذ أمرها وعلمت أنه ليس من رجالها ولا من ذوي الرغبة في جاهها ومالها ولا ممن تقوده في حبالها وتورده موارد وبالها فصاحبته هدنة على دخن (٤) وابتلته بأنواع المحن وجرت في معاداته على سنن وغالته بعده في ابنيه الحسين والحسن وهو صلی الله علیه وسلم لا يزداد على شدة اللأواء (٥) إلا صبرا وعلى تظاهر الأعداء إلا حمدا لله وشكرا مستمرا في ذات الله شديدا على أعداء الله وأوفى بأولياء الله شاكرا لآلاء الله مستمرا على طريقة لا يغيرها جاريا على وتيرة لا يبدلها آخذا بسنة رسول الله صلی الله علیه وسلم لا يحول عنها مقتفيا لآثاره لا يفارقها واطيا لعقبه صلی الله علیه وسلم لا يجاوزها حتى نقله الله إلى جواره واختار له دارا خيرا من داره فمضى صلی الله علیه وسلم محمود الأثر مشكور الورد والصدر مستبدلا بدار الصفا من دار الكدر قد لقي محمدا صلی الله علیه وسلم بوجه لم يشوهه التبديل وقلب لم تزدهه الأباطيل قَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام

________________

(١) عاف الشيء : كرهه.

(٢) صرم الحبل : انقطع.

(٣) الغارب : ما بين السنام والعنق وهو الذي يلقى عليه خطام البعير إذا ارسل ليرعى حيث شاء ، ثمّ استعير للمرأة وجعل كناية عن طلاقها ، فقيل لها : حبلك على غاربك اي اذهبي حيث شئت اي أنت مرسلة مطلقة غير مشدودة ولا ممسكة بعقد الزواج.

(٤) الهدنة ـ بالضم ـ : السكون والمصالحة ، والدخن ـ محركة ـ : الحقد ـ وقولهم «هدنة على دخن» أي صلح على فساد وسكون لعلة لا لصلح.

(٥) اللأواء : الشدة والمحنة.

١٧١

يَوْماً وَقَدْ أَحْدَقَ بِهِ النَّاسُ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ (١) هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا فَخَلَطَ شَرَّهَا بِخَيْرِهَا وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا لَمْ يَصْفُهَا لِأَوْلِيَائِهِ وَلَمْ يَضَنَّ بِهَا (٢) عَلَى أَعْدَائِهِ وَهِيَ دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مُسْتَقَرٍّ وَالنَّاسُ فِيهَا رَجُلَانِ رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا وَرَجُلٌ ابْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا إِنِ اعْذَوْذَبَ (٣) مِنْهَا جَانِبٌ فَحَلَا أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى (٤) أَوَّلُهَا عَنَاءٌ وَآخِرُهَا فَنَاءٌ مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حُزِنَ وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا أَتَتْهُ وَمَنْ أَبْصَرَهَا بَصَّرَتْهُ وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ فَالْإِنْسَانُ فِيهَا غَرَضُ الْمَنَايَا مَعَ كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقٌ وَمَعَ كُلِّ أُكْلَةٍ غَصَصٌ لَا يُنَالُ مِنْهَا نِعْمَةٌ إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى.

وكلامه علیهما السلام في الدنيا وصفتها والتنبيه على أحوالها ومعرفتها وكثرة خدعها ومكرها وتنوع إفسادها وغرها وإيلامها بنيها وضرها كثير جدا وهو موجود في تضاعيف الكتب وفي نهج البلاغة فيستغنى بما هناك عن ذكرها هنا لئلا

________________

(١) قال ابن أبي الحديد : قوله عليه السلام «فإنها منزل قلعة» بضم القاف وسكون اللام اي ليست بمستوطنة ، ويقال : هذا مجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة ويقال هم على قلعة اي على رحلة ، ومن هذا الباب قولهم فلان قلعة إذا كان ينقلع عن سرجه ولا يثبت في البطش والصراع. والقلعة أيضا : المال العارية.

والنجعة : طلب الكلاء في موضعه ، وفلان ينتجع الكلا والمنتجع : المنزل في طلب الكلاء ومنه انتجعت فلانا إذا اتيته تطلب معروفه.

(٢) ضن بالشيء : بخل به.

(٣) اعذوذب اي صار عذبا.

(٤) امر الشيء : صار مرا. وأوبى اي صار وبيا ولين الهمز لأجل السجع وفي تهج البلاغة هكذا : «ان جانب منها اعذوذب واحلولى ، امر منها جانب فأوبى».

(٥) الشرق : دخول الماء في الحلق حتّى يغص به والشرق بالماء والريق ونحوهما كالغصص بالطعام.

١٧٢

يخرج من غرض الكتاب ولما علمه من حال الدنيا رفضها وتركها وترفع عنها وفركها وعاملها معاملة من لم يدركها حين أدركها وخاف على نفسه التورط في مهاويها فما انتهجها ولا سلكها وخشي أن تملكه بزخارفها فلم يحفل بها لما ملكها واحترز من آلامها وآثامها وخلص من أمراضها وأسقامها وعرفها تعريف خبير بحدها ورسمها وأنزلها على حكمه ولم ينزل على حكمها (١) فصار زهده مسألة إجماع لا شك فيه ولا إنكار وورعه مما اشتهر في النواحي والأقطار وعبادته ونزاهته مما أطبق عليه علماء الأمصار وهو الذي فرق بيت المال على مستحقيه وَقَالَ :

هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ

إِذْ كُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ (٢)

وكان يرشه ويصلي فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة قَالَ هَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ علیهما السلام بِالْخَوَرْنَقِ (٣) وَهُوَ يَرْعُدُ تَحْتَ سَمَلِ قَطِيفَةٍ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ فِي هَذَا الْمَالِ مَا يَعُمُّ وَأَنْتَ تَصْنَعُ بِنَفْسِكَ مَا تَصْنَعُ فَقَالَ وَاللهِ مَا أَرْزَأُكُمْ (٤) مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئاً وَإِنَّ هَذِهِ لَقَطِيفَتِيَ الَّتِي خَرَجْتُ بِهَا مِنْ مَنْزِلِي [مَنْزِلِنَا] مِنَ الْمَدِينَةِ مَا عِنْدِي غَيْرُهَا.

السمل الخلق من الثياب يقال ثوب أسمال كما قالوا رمح أقصاد والقطيفة ما له خمل.

وَمِنْ هَذَا أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ عُمَارَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ دَخَلَتْ عَلَى مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ فَجَعَلَ يُؤَنِّبُهَا عَلَى تَحْرِيضِهَا عَلَيْهِ أَيَّامَ صِفِّينَ وَآلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ قَالَ مَا حَاجَتُكِ قَالَتْ إِنَّ اللهَ مُسَائِلُكَ عَنْ أَمْرِنَا وَمَا افْتَرَضَ عَلَيْكَ مِنْ حَقِّنَا وَلَا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا مِنْ قِبَلِكَ مَنْ يَسْمُو بِمَكَانِكَ وَيَبْطِشُ بِقُوَّةِ سُلْطَانِكَ فَيَحْصِدُنَا حَصِيدَ السُّنْبُلِ وَ

________________

(١) يعني جعل عليه السلام الدنيا محكوما لحكمه ولم يجعل نفسه محكوما لحكمها

(٢) مر معناه آنفا فراجع.

(٣) موضع بالكوفة.

(٤) رزأه ماله : نقصه.

١٧٣

يَدُوسُنَا دَوْسَ الْحَرْمَلِ يَسُومُنَا الْخَسْفَ وَيُذِيقُنَا الْحَتْفَ هَذَا بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ قَدِمَ عَلَيْنَا فَقَتَلَ رِجَالَنَا وَأَخَذَ أَمْوَالَنَا وَلَوْ لَا الطَّاعَةُ لَكَانَ فِينَا عِزٌّ وَمَنَعَةٌ فَإِنْ عَزَلْتَهُ عَنَّا شَكَرْنَاكَ وَإِلَّا كَفَرْنَاكَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ إِيَّايَ تُهَدِّدِينَ بِقَوْمِكِ يَا سَوْدَةُ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَحْمِلَكِ عَلَى قَتَبٍ أَشْوَسَ (١) فَأَرُدَّكِ إِلَيْهِ فَيُنْفِذَ فِيكِ حُكْمَهُ فَأَطْرَقَتْ سَوْدَةُ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ

صَلَّى الْإِلَهُ عَلَى رُوحٍ تَضَمَّنَهَا

قَبْرٌ فَأَصْبَحَ فِيهِ الْعَدْلُ مَدْفُوناً

قَدْ حَالَفَ الْحَقَّ لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلاً

فَصَارَ بِالْحَقِّ وَالْإِيمَانِ مَقْرُوناً

فَقَالَ مُعَاوِيَةُ مَنْ هَذَا يَا سَوْدَةُ قَالَتْ وَاللهِ هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ علیهما السلام ـ : وَاللهِ لَقَدْ جِئْتُهُ فِي رَجُلٍ كَانَ قَدْ وَلَّاهُ صَدَقَاتِنَا فَجَارَ عَلَيْنَا فَصَادَفْتُهُ قَائِماً يُصَلِّي فَلَمَّا رَآنِي انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ (٢) ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِرَحْمَةٍ وَرِفْقٍ وَرَأْفَةٍ وَتَعَطُّفٍ وَقَالَ أَلَكِ حَاجَةٌ قُلْتُ نَعَمْ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَبَكَى ثُمَّ قَالَ اللهُمَّ أَنْتَ الشَّاهِدُ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ وَأَنِّي لَمْ آمُرْهُمْ بِظُلْمِ خَلْقِكَ وَلَا بِتَرْكِ حَقِّكَ ثُمَّ أَخْرَجَ قِطْعَةَ جِلْدٍ فَكَتَبَ فِيهَا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَاحْتَفِظْ بِمَا فِي يَدِكَ مِنْ عَمَلِنَا حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْكَ مَنْ يَقْبِضُهُ مِنْكَ وَالسَّلَامُ ثُمَّ دَفَعَ الرُّقْعَةَ إِلَيَّ فَوَ اللهِ مَا خَتَمَهَا بِطِينٍ وَلَا خَذَمَهَا (٣) فَجِئْتُ بِالرُّقْعَةِ إِلَى صَاحِبِهِ فَانْصَرَفَ عَنَّا مَعْزُولاً فَقَالَ مُعَاوِيَةُ اكْتُبُوا لَهَا كَمَا تُرِيدُ وَاصْرِفُوهَا إِلَى بَلَدِهَا غَيْرَ شَاكِيَةٍ.

وكم له صلی الله علیه وسلم من الآثار والأخبار والمناقب التي لا تستر أو يستر وجه النهار والسيرة التي هي عنوان السير والمفاخر التي يتعلم منها من فخر والمآثر التي

________________

(١) القتب ـ محركة ـ : الرحل. والاشوس : الطويل.

(٢) أي انصرف عنها.

(٣) حذم الشيء : قطعه.

١٧٤

تعجز من بقي كما أعجزت من غبر. (١)

وَخَرَجَ علیهما السلام يَوْماً وَعَلَيْهِ إِزَارٌ مَرْقُوعٌ فَعُوتِبَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَخْشَعُ الْقَلْبُ بِلُبْسِهِ وَيَقْتَدِي بِيَ الْمُؤْمِنُ إِذَا رَآهُ عَلَيَّ.

وَاشْتَرَى علیهما السلام يَوْماً ثَوْبَيْنِ غَلِيظَيْنِ فَخَيَّرَ قَنْبَراً فِيهِمَا فَأَخَذَ وَاحِداً فَلَبِسَ هُوَ الْآخَرَ وَرَأَى فِي كُمِّهِ طُولاً عَنْ أَصَابِعِهِ فَقَطَعَهُ.

وَخَرَجَ يَوْماً إِلَى السُّوقِ وَمَعَهُ سَيْفُهُ لِيَبِيعَهُ فَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي هَذَا السَّيْفَ فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ لَطَالَ مَا كَشَفْتُ بِهِ الْكَرْبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَلَوْ كَانَ عِنْدِي ثَمَنُ إِزَارٍ لَمَا بِعْتُهُ.

وَكَانَ علیهما السلام قَدْ وَلَّى عَلَى عُكْبَرَا (٢) رَجُلاً مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ قَالَ لِي عَلِيٌّ علیهما السلام إِذَا صَلَّيْتَ الظُّهْرَ غَداً فَعُدْ إِلَيَّ فَعُدْتُ إِلَيْهِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُ حَاجِباً يَحْبِسُنِي دُونَهُ فَوَجَدْتُهُ جَالِساً وَعِنْدَهُ قَدَحٌ وَكُوزُ مَاءٍ فَدَعَا بِوِعَاءٍ مَشْدُودٍ مَخْتُومٍ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي قَدْ أَمَنَنِي حَتَّى يُخْرِجَ إِلَيَّ جَوْهَراً فَكَسَرَ الْخَتْمَ وَحَلَّهُ فَإِذَا فِيهِ سَوِيقٌ فَأَخْرَجَ مِنْهُ فَصَبَّهُ فِي الْقَدَحِ وَصَبَّ عَلَيْهِ مَاءً فَشَرِبَ وَسَقَانِي فَلَمْ أَصْبِرْ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَصْنَعُ هَذَا فِي الْعِرَاقِ وَطَعَامُهُ كَمَا تَرَى فِي كَثْرَتِهِ فَقَالَ أَمَا وَاللهِ مَا أَخْتِمُ عَلَيْهِ بُخْلاً بِهِ وَلَكِنِّي أَبْتَاعُ قَدْرَ مَا يَكْفِينِي فَأَخَافُ أَنْ يَنْقُصَ فَيُوضَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أُدْخِلَ بَطْنِي إِلَّا طَيِّباً فَلِذَلِكَ أَحْتَرِزُ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى فَإِيَّاكَ وَتَنَاوُلَ مَا لَا تَعْلَمُ حِلَّهُ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ عَنْهُ مُجَاهِدٌ قَالَ قَالَ لِي عَلِيٌ جُعْتُ يَوْماً بِالْمَدِينَةِ جُوعاً شَدِيداً فَخَرَجْتُ أَطْلُبُ الْعَمَلَ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ (٣) فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ قَدْ جَمَعَتْ مَدَراً فَظَنَنْتُهَا تُرِيدُ بَلَّهُ فَأَتَيْتُهَا فَقَاطَعْتُهَا عَلَيْهِ كُلُّ ذَنُوبٍ عَلَى تَمْرَةٍ فَمَدَدْتُ سِتَّةَ عَشَرَ ذَنُوباً حَتَّى مَجِلَتْ يَدَايَ ثُمَّ أَتَيْتُ الْمَاءَ فَأَصَبْتُ مِنْهُ ثُمَّ أَتَيْتُهَا فَقُلْتُ بِكَفِّي هَكَذَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَبَسَطَ

________________

(١) غبر : ذهب وبقي.

(٢) قال ياقوت : عكبرا اسم بليدة من نواحي دجيل قرب صريفين ، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ والنسبة إليها عكبرى.

(٣) العوالي : قرى بظاهر المدنية بينها وبين المدينة أربعة أميال وقيل ثلاثة.

١٧٥

الرَّاوِي كَفَّيْهِ وَجَمَعَهَا فَعَدَّتْ لِي سِتَّ عَشْرَةَ تَمْرَةً فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَأَكَلَ مَعِي مِنْهَا.

الذنوب الدلو الملأى ماء ومجلت يده تمجل مجلا إذا تنفطت من العمل ومجلت بالكسر مجلا وأمجل العمل يده.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أُتِيَ بِزِقَاقٍ (١) فِيهَا عَسَلٌ مِنَ الْيَمَنِ وَنَزَلَ بِالْحَسَنِ علیهما السلام ضَيْفٌ فَاشْتَرَى خُبْزاً وَطَلَبَ مِنْ قَنْبَرَ أُدْماً فَفَتَحَ زِقّاً وَأَعْطَاهُ مِنْهُ رِطْلاً فَلَمَّا قَعَدَ علیهما السلام لِيَقْسِمَهَا قَالَ يَا قَنْبَرُ قَدْ حَدَثَ فِي هَذَا الزِّقِّ حَدَثٌ قَالَ صَدَقْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَخْبَرَهُ فَغَضِبَ وَقَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا حَضَرَ هَمَّ بِضَرْبِهِ فَأَقْسَمَ عَلَيْهِ بِعَمِّهِ جَعْفَرٍ وَكَانَ علیهما السلام إِذَا أَقْسَمَ بِهِ عَلَيْهِ سَكَنَ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخَذْتَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ قَالَ إِنَّ لَنَا فِيهِ حَقّاً فَإِذَا أَعْطَيْتَنَا رَدَدْنَاهُ قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَفِعَ بِحَقِّكَ قَبْلَ انْتِفَاعِ النَّاسِ لَوْ لَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلی الله علیه وسلم يُقَبِّلُ ثَنِيَّتَكَ لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْباً ثُمَّ دَفَعَ إِلَى قَنْبَرَ دِرْهَماً وَقَالَ اشْتَرِ بِهِ مِنْ أَجْوَدِ عَسَلٍ يُوجَدُ قَالَ الرَّاوِي فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يَدِ عَلِيٍّ عَلَى فَمِ الزِّقِّ وَقَنْبَرُ يَقْلِبُ الْعَسَلَ فِيهِ ثُمَّ شَدَّهُ بِيَدِهِ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ اللهُمَّ اغْفِرْهَا لِلْحَسَنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فأعجب بهذه المكارم والأفعال والقضايا التي هي غرر في جبهات الأيام والزهادة التي فاق بها جميع الأنام والورع الذي حمله على ترك الحلال فضلا عن الحرام والعبادة التي أوصلته إلى مقام وقف دونه كل الأقوام.

مناقب لجت في علو كأنها

تحاول نارا عند بعض الكواكب

محاسن من مجد متى يقرنوا بها

محاسن أقوام تعد كالمعايب.

 ولما ألزم نفسه الشريفة تحمل هذه المتاعب وقادها إلى أتباعه فانقادت انقياد الجنائب وملكها حتى صاحب منها أكرم عشير وخير مصاحب واستشارها ليختبرها فلم تنه إلا عن منكر ولا أمرت إلا بواجب صار له ذلك طبعا وسجية وانضم عليه ظاهرا ونية وأعمل فيه عزيمة كهمته قوية واستوى في السعي لبلوغ غاياته علانية وطوية فما تحرك حركته إلا بفكر وفي تحصيل أجر وفي تخليد

________________

(١) الزقاق جمع الزق ـ بالكسر ـ : جلد يجز ولا ينتف للشراب وغيره.

١٧٦

ذكر لا لطلب فخر وإعلاء قدر بل لامتثال أمر وطاعة في سر وجهر فلذلك شكر الله سعيه حين سعى وعمه بألطافه العميمة ورعى وأجاب دعاءه لما دعا وجعل أذنه السميعة الواعية فسمع ووعى فأسأل الله بكرمه أن يحشرني ومحبيه وإياه معا.

" قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ يَرْفَعُهُ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَمْلِكُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلاً وَبِدِرْهَمٍ نَهَاراً وَبِدِرْهَمٍ سِرّاً وَبِدِرْهَمٍ عَلَانِيَةً فَأَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١)

أنشدني بعض العلويين لبعض الأصحاب

عتبت إلى الدنيا وقلت إلى متى

أكابد عسرا ضره ليس ينجلي

أكل شريف من علي جدوده

حرام عليه الرزق غير محللي

فقالت نعم يا ابن الحسين رميتكم

بسهمي عنادا حين طلقني علي

في شجاعته ونجدته

وتورطه المهالك في الله ورسوله وشراء نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى

قَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ يَرْفَعُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ جَالِساً إِذْ أَتَاهُ تِسْعَةُ رَهْطٍ فَقَالُوا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِمَّا أَنْ تَقُومَ مَعَنَا أَوْ تَخْلُوَ بِنَا فَقَالَ بَلْ أَقُومُ مَعَكُمْ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ صَحِيحاً قَبْلَ أَنْ يَعْمَى فَتَحَدَّثُوا فَلَا نَدْرِي مَا قَالُوا فَجَاءَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ وَيَقُولُ أُفٍّ وَتُفٍّ وَقَعُوا فِي رَجُلٍ لَهُ بِضْعَ عَشْرَةَ فَضِيلَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ وَقَعُوا فِي رَجُلٍ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم لَأَبْعَثَنَّ رَجُلاً لَا يُخْزِيهِ اللهُ أَبَداً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ فَاسْتَشْرَفَ لَهَا مُسْتَشْرِفٌ فَقَالَ صلی الله علیه وسلم أَيْنَ عَلِيٌ الحديث إلى آخره وقد تقدم وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ بِسُورَةِ التَّوْبَةِ فَبَعَثَ عَلِيّاً خَلْفَهُ فَأَخَذَهَا مِنْهُ وَقَالَ لَا

________________

(١) البقرة : ٢٧٤.

(٢) كابده : قاساه وتحمل المشاق في فعله.

١٧٧

يَذْهَبُ بِهَا إِلَّا رَجُلٌ هُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وقد تقدم وَقَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم لِبَنِي عَمِّهِ أَيُّكُمْ يُوَالِينِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَقُولُهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً وَهُمْ سُكُوتٌ وَعَلِيٌّ يَقُولُ أَنَا فَقَالَ لِعَلِيٍ (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) وقد تقدم أيضا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ عَلِيٌّ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ خَدِيجَةَ علیهما السلام وَقَدْ ذَكَرَ قَالَ وَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَقَالَ (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشَرَى عَلِيٌّ علیهما السلام نَفْسَهُ فَلَبِسَ ثَوْبَ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم ثُمَّ نَامَ مَكَانَهُ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ يَظُنُّهُ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَقَالَ لَهُ إِنَّ نَبِيَّ اللهِ قَدِ انْطَلَقَ نَحْوَ بِئْرِ مَيْمُونٍ فَأَدْرَكَهُ فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ فَدَخَلَ مَعَهُ الْغَارَ قَالَ وَبَاتَ عَلِيٌّ يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ كَمَا كَانَ يُرْمَى نَبِيُّ اللهِ وَهُوَ يَتَضَوَّرُ وَقَدْ لَفَّ رَأْسَهُ بِالثَّوْبِ لَا يُخْرِجُهُ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ كَشَفَ رَأْسَهُ فَقَالُوا إِنَّكَ لَئِيمٌ كَانَ صَاحِبُكَ لَا يَتَضَوَّرُ (١) وَنَحْنُ نَرْمِيهِ وَأَنْتَ تَتَضَوَّرُ وَقَدِ اسْتَنْكَرْنَا ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ عَلِيٌّ أَخْرُجُ مَعَكَ فَقَالَ صلی الله علیه وسلم لَا فَبَكَى عَلِيٌّ فَقَالَ لَهُ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَّا وَأَنْتَ خَلِيفَتِي قَالَ وَقَالَ لَهُ أَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي وَمُؤْمِنَةٍ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَدَّ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ وَكَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ جُنُباً وَهُوَ طَرِيقُهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ

قَالَ وَقَالَ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَإِنَّ مَوْلَاهُ عَلِيٌ وهذا الحديث بطوله ذكر آنفا وذكره في غير هذا الباب أنسب ولكن جرى القلم.

وأما شجاعة أمير المؤمنين وبأسه ومصادمته الأقران ومراسه وثبات جأشه حيث تزلزل الأقدام وشدة صبره حين تطير فراخ الهام وسطوته وقلوب الشجعان

________________

(١) التضور : صياح وتلو عند الضرب من الوجع. وقيل : التضور : التضعف.

(٢) المراس : الشدة.

١٧٨

واجفة واستقراره وأقدام الأبطال راجفة ونجدته عند انخلاع القلوب من الصدر وبسالته (١) ورحى الحرب تدور والدماء تفور ونجوم الأسنة تطلع وتغور وحماسته والموت قد كسر عن نابه وسماحته بنفسه والجبان قد انقلب على أعقابه وكشفه الكرب عن وجه رسول الله صلی الله علیه وسلم وقد فر من فر من أصحابه وبذله روحه العزيزة رجاء ما أعد الله من ثوابه فهي أمر قد اشتهر وحال قد بان وظهر وشاع فعرفه من بقي ومن غبر وتضمنته الأخبار والسير فاستوى في العلم به البعيد والقريب واتفق على الإقرار به البغيض والحبيب وصدق به عند ذكره الأجنبي والنسيب فارس الإسلام وأسده وباني ركن الإيمان ومشيده طلاع الأنجد والأغوار مفرق جموع الكفار حاصد خضرائهم بذي الفقار ومخرجهم من ديارهم إلى المفاوز والقفار مضيف الطير والسباع يوم الملحمة والقراع سيف الله الماضي ونائبه المتقاضي وآيته الواضحة وبينته اللائحة وحجته الصادعة ورحمته الجامعة ونعمته الواسعة ونقمته الوازعة قد شهدت بدر بمقامه وكانت حنين من بعض أيامه وسل أحدا عن فعل قناته وحسامه ويوم خيبر إذ فتح الله على يديه والخندق إذ خر عمرو لفمه ويديه وهذه جمل لها تفصيل وبيان ومقامات رضي بها الرحمن ومواطن هدت الشرك وزلزلته وحملته على حكم الصغار وأنزلته ومواقف كان فيها جبرئيل يساعده وميكائيل يوازره ويعاضده والله يمده بعناياته والرسول يتبعه بصالح دعواته وقلب الإسلام يرجف عليه وأمداد التأييد تصل إليه.

نَقَلْتُ مِنْ مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ره عَنْ هُبَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ علیهما السلام فَقَالَ لَقَدْ فَارَقَكُمْ رَجُلٌ بِالْأَمْسِ لَمْ يَسْبِقْهُ الْأَوَّلُونَ بِعِلْمٍ وَلَمْ يُدْرِكْهُ الْآخَرُونَ بِعَمَلٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَبْعَثُهُ بِالرَّايَةِ ـ جَبْرَئِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ شِمَالِهِ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ : وَمِنْ حَدِيثٍ آخَرَ مِنَ الْمُسْنَدِ بِمَعْنَاهُ وَفِي آخِرِهِ وَمَا تَرَكَ مِنْ صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عَطَائِهِ كَانَ يَرْصُدُهَا لِخَادِمٍ لِأَهْلِهِ وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ غَيْرِ الْمُسْنَدِ إِلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ بِمَعْنَاهُ

________________

(١) البسالة : الشجاعة.

١٧٩

وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) (١) أَنَّ مَوْلَاةً لِعَمْرِو بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ قَدِمَتْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَرَسُولُ اللهِ يَتَجَهَّزُ لِقَصْدِ فَتْحِ مَكَّةَ فَلَمَّا حَضَرَتْ عِنْدَهُ قَالَ أَجِئْتِ مُسْلِمَةً قَالَتْ لَا قَالَ فَمَا جَاءَ بِكِ قَالَتْ أَنْتُمُ الْأَهْلُ وَالْعَشِيرَةُ وَالْمَوَالِي وَقَدِ احْتَجْتُ حَاجَةً عَظِيمَةً فَحَثَّ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم عَلَى صِلَتِهَا وَكِسْوَتِهَا فَأَعْطَوْهَا وَكَسَوْهَا وَانْصَرَفَتْ فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُحَذِّرُهُمْ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَأَنَّهُ دَفَعَ الْكِتَابَ إِلَى الْمَذْكُورَةِ وَأَعْطَاهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ لِتُوصِلَ الْكِتَابَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَاخْتَارَ عَلِيّاً وَبَعَثَ مَعَهُ الزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ وَقَالَ انْطَلِقُوا إِلَى رَوْضَةِ خَاخٍ (٢) فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَخُذُوهُ مِنْهَا وَخَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنْ لَمْ تَدْفَعْهُ إِلَيْكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهَا فَخَرَجُوا وَأَدْرَكُوهَا فِي الْمَكَانِ فَطَلَبُوا الْكِتَابَ فَأَنْكَرَتْهُ وَحَلَفَتْ فَفَتَّشُوا مَتَاعَهَا فَلَمْ يَجِدُوا كِتَاباً فَهَمُّوا بِتَرْكِهَا وَالرُّجُوعِ فَقَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام وَاللهِ مَا كُذِبْنَا وَسَلَّ سَيْفَهُ وَجَزَمَ عَلَيْهَا وَقَالَ أَخْرِجِي الْكِتَابَ وَإِلَّا جَرَّدْتُكِ وَضَرَبْتُ عُنُقَكِ وَصَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَخْرَجَتْهُ مِنْ ذُؤَابَتِهَا فَأَخَذَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهَا وَعَادُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَاسْتَخْرَجَهُ عَلِيٌّ بِقُوَّةِ عَزْمِهِ وَتَصْمِيمِ إِقْدَامِهِ وَجَزْمِهِ.

وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِهِ هَذَا أَنَّ عَلِيّاً وَالْعَبَّاسَ وَطَلْحَةَ بْنَ شَيْبَةَ افْتَخَرُوا فَقَالَ طَلْحَةُ أَنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ بِيَدِي مِفْتَاحُهُ وَقَالَ الْعَبَّاسُ أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا وَقَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ لَقَدْ صَلَّيْتُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ النَّاسِ وَأَنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) إِلَى أَنْ

________________

(١) الممتحنة : ١.

(٢) موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة.

١٨٠