نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٩

فعلمنا من كلام الأئمة عليهم رضوان الله معنى التمسك بهم بما لا ريبة فيه الا لمن ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون.

ومع هذا كله قلنا : وهل يدخل في أهل بيته نساؤه أو يتمحض ذلك بالصدق على ولده صلّى الله عليه وسلّم ، ففتشنا عن ذلك فوجدنا في صحيح مسلم برواية يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم رضي‌الله‌عنه فقلنا : من أهل بيته نساؤه؟ قال : لا وايم الله ان المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع الى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.

وهذه الرواية عن زيد بن أرقم رضي‌الله‌عنه تفسير رواية أخرى عنه في مسلم أيضا ، فقيل لزيد : من أهل بيته ، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : بلى ان نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم عليهم الصدقة بعده ـ الحديث.

وتبين أن معنى قوله : « بلى ان نساءه من أهل بيته » ان نساءه من أهل بيت سكناه الذين امتازوا بكرامات وخصوصيات كثيرة ، لا من اهل بيت نسبه وانما أولئك من حرمت عليهم الصدقة ، صرح بذلك الابي في شرح مسلم جمعا بين الروايات ، بل تصحيحا للاستدراك في الرواية الواحدة بقوله : « ولكن أهل بيته » إلخ.

وهذا التحقيق في تفسير أهل البيت بالحديث الصحيح يعين المراد منهم في آية التطهير ، مع نصوص كثيرة من الأحاديث الصحاح المنادية على أن المراد منهم الخمسة الطاهرة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ولنا وريقات في تحقيق ذلك مجلد في دفترنا يجب على طالب الحق الرجوع اليه.

ولما وجدنا هذا في صحيح مسلم علمنا أنهم أبناؤه صلّى الله عليه وسلّم ، فإذا انضم الى ذلك ما ورد من الاخبار في الأئمة الاثني عشر مما بسطنا أكثرها في المقامات الأربعة من كتابنا المسمى بـ « مواهب سيد البشر في حديث الأئمة الاثني عشر » بالترتيب بسطناها.

٦١

وما اجتمع عليه السلف والخلف من غزارة علوم هذا العدد المبارك وخرقهم العوائد ، وما اختصوا به من المزايا الباهرة من بين سائر الرجال الابطال من هذه الفئة الفائقة على معاصريها في كل عصر ، تيقن بأنهم الاولى بصدق أحاديث التمسك عليهم من غيرهم ، وان كانت فيها الاشارة الى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به الى القيامة ، كما أن الكتاب العزيز ـ وهو الثقل الآخر القرين بهم ـ كذلك قاله ابن حجر. وقال : ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما جاء به الحديث ، ويشهد لذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم : في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي. وقال : ثم أحق من يتمسك به منهم امامهم وعالمهم علي بن ابى طالب رضي الله تعالى عنه ، ومن ثم قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : علي عترة رسول الله أي الذي حث على التمسك بهم ، فخصه لما قلناه ـ انتهى كلامه.

ثم لما فرغنا من تخريج الحديث وما دل عليه ، وما تعين فيه ممن هو المراد من أهل البيت ، نظرنا في تعدد طرقه فوجدنا له طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا ، وفحصنا أيضا عن أنه أين ورد ، فوجدنا في بعض طرقه قال ذلك بحجة الوداع وبعرفة ، وفي آخر أنه قال بغدير خم ، وفي آخر أنه قال بالمدينة في مرضه صلّى الله عليه وسلّم وقد امتلأت الحجرة بأصحابه ، وفي آخر أنه قال لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف. فعلمنا أن لهذا الحديث شأنا عظيما ، فانه لم يذكر وروده أحد من الرواة الاّ في مشهد معتنى به غاية الاعتناء.

ولكنا طلبنا لهذه الروايات المتضادة في الورد جمعا ، فوجدنا قد سبق اهل الخبر بالهام الجمع فقال : ولا تنافى في ذلك ، إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن كلها ، اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة ، وفي رواية عند الطبراني عن ابن عمر رضي‌الله‌عنه ان آخر ما تكلّم به النبي صلّى الله عليه وسلّم : « اخلفوني في أهل بيتي » انتهى. فازداد بعد الجمع شأنا على شأن لترداده في هذه المشاهد بأجمعها ـ كما لا يخفى على من له

٦٢

حس.

وإذ قد ثبت صحة هذا الحديث وما مرّ عليك ممّا ينوط به لفظا ومعنى ودلالة ، وانضمت اليه آية التطهير بتفسيرها التي يدل عليها الأحاديث الصحيحة فلا وجه لان يمتري من له أدنى انصاف في أن من صدق عليهم هذا الحديث والآية من غير شائبة ، وهم الأئمة الاثنا عشر من أهل البيت وسيدة نساء العالمين بضعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم الأئمة الزهراء الطاهرة ، على أبيها وعليها الصلاة والسلام ، لا شائبة في كونهم معصومين ، كالمهدي منهم عليه‌السلام بما يخصه من حديث قفاء الأثر وعدم الخطأ على ما تمسك به الشيخ الأكبر رضي‌الله‌عنه » (١) ...

٢ ـ تحريف زيد بن أرقم الحديث

وبعد الاطلاع على هذا الكلام المتين ، لا بد من التنبيه على أن ما جاء في صحيح مسلم من لفظ حديث الثقلين الذي اغتر به ابن تيمية ، انما كان تصرفا وتحريفا من زيد بن أرقم عند إلقاء الحديث الى يزيد بن حيان والحصين بن سبرة وعمرو بن مسلم ، وهذا غير مستبعد من مثل زيد بن أرقم الذي كتم حديث : « من كنت مولاه » عند ما استشهد به أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، كما أسلفنا ذلك في مجلد حديث الغدير ، حتى ابتلاه الله بما دعا (ع) عليه به في دار الدنيا ، والآخرة أدهى وأمر. بل عدم وجود « من كنت مولاه » في حديث الثقلين برواية مسلم ـ رغم كون سياقه شارحا لقضية الغدير ـ يؤيد ذلك ، مع ان تفسيره لفظ « اهل البيت » في هذا الحديث بـ « كل من حرم عليه الصدقة » انما هو تفسير من عنده ، ولذلك قال الحافظ الكنجي الشافعي بعد حديث زيد ابن أرقم ما نصه :

« قلت : ان تفسير زيد « أهل البيت » غير مرضى ، لأنه قال :

__________________

(١) دراسات اللبيب في الاسوة الحسنة بالحبيب ٢٣١ ـ ٢٢٧.

٦٣

أهل البيت من حرم الصدقة. وهم لا ينحصرون في المذكورين ، فان بني المطلب يشاركونهم في الحرمان ، ولان آل الرجل غيره على الصحيح ، فعلى قول زيد يخرج امير المؤمنين رضي‌الله‌عنه عن أن يكون من أهل البيت ، بل الصحيح أن أهل البيت علي وفاطمة والحسنان رضي الله عنهم ، كما رواه مسلم بأسناده عن عائشة ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج ذات غدوة وعليه مرط مرحل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين بن علي فأدخله ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.

وهذا دليل على أن أهل البيت هم الذين ناداهم الله تعالى بقوله : « أهل البيت » وأدخلهم الرسول في المرط.

وأيضا روى مسلم بأسناده أنه لمّا نزلت آية المباهلة دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال : « اللهم هؤلاء أهل بيتي » (١).

هذا الى غيره من شواهد تحريفه في هذه الرواية ، كما لا يخفى على الناظر البصير.

ومع ذلك فان الحق لا بدّ أن يعلو ويظهر ، ولذلك فان زيدا نفسه قد روى حديث الثقلين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وفيه الأمر بالتمسك بأهل بيته عليهم‌السلام واتباعهم ، والنهي عن التقدم عليهم والتخلف عنهم ، كما لا يخفى على ناظر ( صحيح الترمذي ) و ( كتاب المصاحف ) لابن الأنباري و ( المعجم الكبير ) للطبراني و ( المستدرك ) للحاكم و ( المناقب ) لابن المغازلي وغيرها.

٣ ـ الحديث عن جابر عند مسلم محرف

وأما تمسكه بحديث جابر الذي جاء في ( صحيح مسلم ) مدعيا بأن

__________________

(١) كفاية الطالب ٥٤.

٦٤

النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر الاّ بالتمسك بالكتاب ، فهو أيضا باطل واضح.

لان حديث جابر ـ وان جاء في مسلم محرفا كما ذكر ـ جاء في رواية الترمذي ، وفيه الأمر الصريح بالتمسك بأهل البيت عليهم‌السلام. وهذا نصه :

« حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، نا زيد بن الحسن ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : يا أيها الناس انّي تركت فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي » (١).

ولقد كان الأحرى به ألا يتطرق الى هذا الحديث بلفظه الذي جاء في مسلم فضلا عن الاحتجاج به ، ولكن « إذا لم تستح فاصنع ما شئت ».

٤ ـ دعوى ضعف « وعترتي فإنهما لن يفترقا ... »

وأما قوله : « وأما قوله وعترتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فهذا رواه الترمذي ، وقد سئل عنه أحمد ، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا : انه لا يصح » ، فيشتمل على غرائب وأباطيل :

الاول : يفيد كلامه أن أمره صلّى الله عليه وسلّم باتباع عترته جاء في رواية الترمذي خاصة ، ومفهومه أنه لم يروه غيره ، وقد علمت سابقا رواية جمهور علمائهم حديث الثقلين الأمر بتمسك واتباع الكتاب وعترته.

الثاني : يفيد كلامه أن رواية قوله صلّى الله عليه وسلّم : « فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » خاصة بالترمذي ، لكن قد علمت رواية أكثر علمائهم الكبار حديث الثقلين مشتملا على هذه العبارة ، ومنهم : ركين الفزاري ، وعبد الملك العزرمي ، والأعمش ، وابن إسحاق ، وإسرائيل بن يونس

__________________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٢١٩.

٦٥

السبيعي ، وعبد الرحمن المسعودي ، ومحمد بن طلحة اليامي ، واليشكري ، وشريك ، والضبي جرير بن عبد الحميد ، ومحمد بن الفضيل الضبي ، وعبد الله ابن زهير الهمداني ، وأبو أحمد الزبيري ، وأبو عامر العقدي ، وأسود بن عامر الشامي ، ويحيى بن حماد الشيباني ، وابن سعد ، والمخرمي ، وابن بقية الواسطي ، وأحمد بن حنبل ، وعبد بن حميد الكشي ، وعباد بن يعقوب الأسدي ، والجهضمي ، والعنزي ، والطريقي ، والرقاشي ، ومحمد بن أبي العوام الرياحي ، والحكيم الترمذي ، وعبد الله بن أحمد ، والبزار ، والقباني ، والنسائي ، وأبو يعلي ، والطبري ، والباغندي ، والأسفراييني ، والبغوي ، وابن الأنباري ، وابن عقدة والجعابي ، والطبراني ، والقطيعي ، والأزهري ، والذهبي ، والحاكم والثعلبي ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ، والضياء المقدسي ...

الثالث : قوله « سئل عنه أحمد » لم نفهم معناه ، وهل السؤال عن حديث يفيد القدح فيه؟ ألم يخرجه أحمد في مسنده كما تقدم؟ الم يخرجه في كتاب مناقب علي كما تقدم؟ ومن كان السائل؟ وما كان جواب أحمد عن هذا السؤال؟ وما المقتضى للاعراض عن إيراد جوابه؟

هذه أسئلة تتوجه الى كلامه.

وهنا نقول : ان جواب أحمد لا يخلو اما أنه كان تضعيفا للحديث أو تصحيحا له ، وعلى كلا الحالين كان يجب عليه ذكر الجواب ، لأنه ان كان تضعيفا فلم لم يذكره وهو يؤيد زعمه؟ وان كان تصحيحا فلم أعرض عنه وأسقطه وهو خيانة؟ ...

وعلي أي حال فان كلامه هذا عجيب جدا ، ويكفي في الجواب عنه رواية الامام أحمد حديث الثقلين مصححا إياه في ( المسند ) و ( المناقب ).

الرابع : وأما قوله « فضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا انه لا يصح » فكذب وزور ، يأباه أقل الناس فضلا عن شيخ الإسلام!

وباختصار : انه لا يجد أحد ـ بعد الفحص والتتبع التام ـ أحدا ينكر هذا القسم من حديث الثقلين ، وقد علمت سابقا نسبة البخاري انكار أصل

٦٦

الحديث وتمامه الى أحمد ، وكذلك طعن ابن الجوزي في الحديث من أصله .. الا أنه لم ينكر أحد منهم هذه الفقرة من الحديث ، التي زعم ابن تيمية ان جماعة من أهل العلم قالوا انه لا يصح.

ولم لم يذكر ابن تيمية ـ رغم اطنابه في جميع المقامات وكثرة تكلمه في كل شيء ـ أهل العلم المضعفين لهذه الجملة من الحديث؟ وليته ذكر واحدا منهم ـ ان كان يطلب الاختصار .. ان هذا لعجيب.

ولقد علمت ـ والحمد لله ـ صحة هذا القسم من الحديث ـ ضمن حديث الثقلين ـ فيما تقدم من الكتاب ، بل ثبت إجماعهم على صحته ، بالاضافة الى تصريح جملة منهم بذلك ، فراجع.

كلام آخر لابن تيمية

ومما هو جدير بالذكر هنا ان ابن تيمية قال في الجواب عن حديث الغدير بعد كلام له :

« ولما لم يذكر في حجة الوداع امامة علي ولا ما يتعلق بالامامة أصلا ، ولم ينقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه في حجة الوداع ذكر امامة علي بل ولا ذكر عليا في شيء من خطبه ، وهو المجمع العام الذي أمر فيه بالتبليغ العام ، علم ان امامة علي لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه ، بل ولا حديث الموالاة وحديث الثقلين ونحو ذلك مما يذكر في إمامته ، والذي رواه مسلم ( في صحيحه ) انه بغدير خم قال : اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله. فذكر كتاب الله وحض عليه ثم قال : وعترتي أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي ـ ثلاثا ـ وهذا مما انفرد به مسلم ولم يروه البخاري ، وقد رواه الترمذي وزاد فيه : وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.

وقد طعن غير واحد من الحفاظ في هذه الزيادة ، وقالوا انها ليست من الحديث ، والذين اعتقدوا صحتها قالوا انما تدل على ان مجموع العترة الذين هم بنو هاشم كلهم لا يتفقون على ضلالة ، وهذا قد قاله طائفة من أهل

٦٧

السنة ، وهو من أجوبة القاضي أبي يعلى وغيره.

والحديث الذي في صحيح مسلم إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قاله فليس فيه الا الوصية باتباع كتاب الله ، وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك ، وهو لم يأمر باتباع العترة ولكن قال : « أذكركم الله في أهل بيتي » ، فتذكير الامة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدم الأمر به قبل ذلك من اعطائهم حقوقهم والامتناع من ظلمهم ، وهذا أمر تقدم بيانه قبل غدير خم فعلم انه لم يكن في إمامته [ فعلم أنه لم يكن في غدير خم أمر بشرع نزل إذ ذاك ، لا في حق علي ولا في حق غيره لا إمامته ولا غيرها ] » (١).

الرد عليه من وجوه

والجواب عنه بوجوه :

الاول : قوله « لم يذكر في حجة الوداع امامة عليّ ولا ما يتعلق بالامامة أصلا ، ولم ينقل أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه في حجة الوداع ذكر امامة عليّ » مردود ، إذ لا يخفى على المتتبع ان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كرر حديث الثقلين ـ بغض النظر عن غيره من النصوص ـ في حجة الوداع مرارا ، وهذا يثبت امامة عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ....

الثاني : قوله « ولا ذكر عليا في شيء من خطبه وهو المجمع العام الذي أمر فيه بالتبليغ العام » يكذبه ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياه في خطبه في هذه الحجة ضمن أهل البيت.

هذا بالاضافة الى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب في حجة الوداع خطبة خاصة ذكر فيها عليا وأثبت عصمته وأفضليته بها.

قال ابن الأثير ما نصه : « وبعث علي بن أبي طالب الى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويعود ، ففعل وعاد ولقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة في

__________________

(١) منهاج السنة ٤ / ٨٥.

٦٨

حجة الوداع ، واستخلف على الجيش الذين معه رجلا من أصحابه وسبقهم الى النبي فلقيه بمكة ، فعمد الرجل الى الجيش فكساهم كل رجل حلة من البز الذي مع علي ، فلما دنا الجيش خرج علي ليتلقاهم فرأى عليهم الحلل فنزعها عنهم ، فشكاه الجيش الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقام النبي خطيبا فقال : أيها الناس لا تشكوا عليا فهو لا خشن في ذات الله وفي سبيل الله » (١).

ورواه أيضا ابن هشام (٢).

وأبو جرير الطبري (٣).

الثالث : قوله « ان امامة علي لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه بل ولا حديث الموالاة وحديث الثقلين ونحو ذلك مما يذكر في إمامته » مردود بما يأتي :

أولا ـ دعوى عدم ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم امامة امير المؤمنين عليه‌السلام في حجة الوداع باطلة كما مر.

ثانيا ـ دعوى عدم ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا في شيء من خطبه فيها باطلة أيضا كما مر.

ثالثا ـ دعوى كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمورا بالتبليغ العام ـ بمعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امر بتبليغ كافة الأوامر الشرعية في حجة الوداع ـ ممنوعة ، وذلك لعدم اشتمال خطبته على جميع الاحكام النازلة من اول بعثته الى حين حجته كما لا يخفى ذلك على من راجعها. سلمنا لكن لا دليل على ان ما بلغه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك بأمر الله لم يكن من الدين في شيء ، إذ لا يتفوه بهذا الكلام ذو مسكة وشعور ، لكن ابن تيمية لا يهمه إخراج حديث الغدير وحديث الثقلين من الدين المأمور بالتبليغ به ، بل من الدين الإسلامي

__________________

(١) الكامل ٢ / ١٢٦.

(٢) السيرة النبوية ٢ / ٦٠٢ ـ ٦٠٣.

(٣) تاريخ الطبري ٢ / ٤٠١ ـ ٤٠٢.

٦٩

مطلقا ، وذلك لفرط بغضه وعداوته لأهل البيت وسيدهم امير المؤمنين عليه‌السلام.

رابعا ـ دعوى عدم ذكر حديث الغدير في حجة الوداع من الأكاذيب الواضحة ، يدل على ذلك مراجعة روايات أئمة مذهبه ، وقد فصلنا ذلك في مجلد حديث الغدير.

خامسا ـ دعوى عدم ذكر حديث الثقلين في حجة الوداع جهل أو تجاهل ، لما قد علمت سابقا ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك يوم عرفة من حجة الوداع ، وكذا يوم غدير خم ضمن خطبته ، وبرغم أنك سمعت إيراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له يوم عرفة نقلا عن ( صحيح ) الترمذي فان من المناسب نقل خطبته تلك بكاملها.

خطبة الغدير في العقد الفريد

قال ابن عبد ربه : « خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع :

« ان الحمد لله ، نحمده ونستغفره ونتوب اليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهدي الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، واشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحثكم على طاعة الله ، واستفتح بالذي هو خير.

أما بعد ، يا أيها الناس! اسمعوا مني أبين لكم ، فاني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقعى هذا.

أيها الناس! ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام الى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد ، فمن كان عنده امانة فليؤدها الى الذي ائتمنه عليها. وان ربى الجاهلية موضوع ، وان أول ربى أبدأ به ربى عمي العباس بن عبد المطلب. وان دماء الجاهلية موضوعة ، وان أول دم أبدا به دم عامر بن ربيعة بن الحرث بن

٧٠

عبد المطلب. وان مآثر الجاهلية موضوعة ، غير السدانة والسقاية ، والعمد قود ، وشبه العمد قود ، ما قتل بالعصا والحجر ففيه مائة بعير ، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.

أيها الناس! ان الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.

أيها الناس! إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ ، وانما الزمان قد استدار كهيئته في خلق الله السماوات والأرض ، إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثلاثة متواليات وواحد فرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان ، الأهل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس! ان لنسائكم عليكم حقا وان لكم عليهن حقا ، لكم عليهن الا يوطئن فرشكم غيركم ، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم الا باذنكم ، ولا يأتين بفاحشة ، فان فعلن فان الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فان انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وان النساء عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن شيئا ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا.

أيها الناس! انما المؤمنون أخوة ، فلا يحل لامرئ مال أخيه الا عن طيب نفسه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض ، فاني قد تركت فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وأهل بيتي. الأهل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس! ان ربكم واحد ، وان أباكم واحد ، كلكم لادم وآدم من تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى. الأهل بلغت؟ قالوا : نعم. قال : فليبلغ الشاهد منكم الغائب.

٧١

أيها الناس؟ ان الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث ، والولد للفراش وللعاهر الحجر ، من دعا الى غير أبيه أو تولى الى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » (١).

هذا بالاضافة الى ظهور ذلك من روايات عديدة ، فقد قال السمهودي بعد ذكر طرق حديث الثقلين : « وأخرجه الحافظ ابو محمد عبد العزيز بن الأخضر في ( معالم العترة النبوية ) وفيه ان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك في حجة الوداع ». (٢)

وقال الحافظ الزرندي بعد أن روى الحديث : « روى زيد بن أرقم رضي‌الله‌عنه قال : أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حجة الوداع » (٣).

ولقد أورد السمهودي في ( جواهر العقدين ) والشيخاني القادري في [ الصراط السوى ] رواية الزرندي المشار إليها.

وذكر الأئمة الاعلام من محققي أهل السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك في حجة الوداع ، وبذلك تنطق الروايات الماضية. فقد قال السمهودي (٤) في التنبيهات التي ذكرها بعد سياق حديث الثقلين : « خامسها ـ قد تضمنت الأحاديث المتقدمة الحث البليغ على التمسك بأهل البيت النبوي وحفظهم واحترامهم والوصية بهم ، لقيامه صلّى الله عليه وسلّم بذلك خطيبا يوم غدير خم كما في اكثر الروايات المتقدمة ، مع ذكره لذلك في خطبته يوم عرفة على ناقته كما في رواية الترمذي عن جابر ، وفي خطبته لما قام خطيبا بعد انصرافه من حصار الطائف كما في رواية عبد الرحمن بن عوف رضي‌الله‌عنه ، وفي مرضه الذي قبض فيه وقد امتلأت الحجرة من أصحابه كما

__________________

(١) العقد الفريد ٢ / ١١٠ ـ ١١١.

(٢) جواهر العقدين ـ مخطوط.

(٣) نظم درر السمطين ٢٢٣.

(٤) جواهر العقدين ـ مخطوط.

٧٢

سبق في رواية أم سلمة ».

وقال ابن حجر في ( الصواعق ) بعد نقل حديث الثقلين والتمسك بهما بطرق كثيرة ، ثم ذكر أنها وردت عن نيف وعشرين صحابيا ، قال : « وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة ».

وقال فيه بعد أن نقله عن أحمد : « وفي رواية ان ذلك كان في حجة الوداع ».

وقال الشيخاني القادري في ( الصراط السوي ) بعد ذكر حديث الثقلين برواية أبي سعيد : « قالوا أنه قال ذلك في حجة الوداع ».

وقد أثبت السندي في ( دراسات اللبيب ) ـ كما عرفت ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ذكر حديث الثقلين في حجة الوداع.

الرابع : لقد ذكر ابن تيمية في كلامه هذا حديث الثقلين الذي جاء في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم ، وقد علم أن زيدا قد حرف الحديث وتصرف فيه ، لكن ابن تيمية لم تعط نفسه أن يكتفي بذلك فأكثر من تحريفه وبتره.

الخامس : يحسب ابن تيمية أن تفرد مسلم في إخراج حديث الثقلين واعراض البخاري عنه يحدث ضعفا في الحديث ، ولكنه لا يعلم أن عدم تخريج الحديث يعد من معايب البخاري وصحيحه ، لا أنه يفيد ما تخيله.

على أنه لو أعراض البخاري ومسلم كلاهما عن حديث الثقلين ولم يخرجاه بل حتى لو طعناه فيه وضعفاه ، فان ذلك لا يصغى اليه ولا يعتنى به ، إذ لا قيمة له في مقابل رواية أولئك الاعلام الأعاظم هذا الحديث الشريف المتواتر.

ولقد علمت سابقا ـ ولله الحمد ـ من ( المستدرك ) للحاكم أن لحديث الثقلين ـ بعض النظر عن سياق صحيح مسلم ـ ألفاظا عديدة وطرقا سديدة جاء كل منها صحيحا على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وبالجملة فان اعراض البخاري عن إخراج حديث الثقلين على

٧٣

العلوم وسياق مسلم على الخصوص جناية كبيرة ، اللهم الا أن يوجه اعراضه عن سياق مسلم بالخصوص ، لأنه جاء محرفا من زيد بن أرقم ، ويدل عليه قول زيد نفسه في أول الحديث : « والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي .. » فلعل البخاري التزم جانب الاحتياط فلم يروه ، لكن من المستبعد أن يستند أهل السنة ـ المعدلين لزيد بن أرقم وغيره من الصحابة ـ الى هذا التوجيه في مقابلة أهل الحق ، ولو سلمنا ذلك فلا يبقى وجه يعتذر به لاعراضه عن الألفاظ والطرق التي رواها الحاكم في ( المستدرك ) وصححها على شرط الشيخين.

ومن هذا وأمثاله يعلم أن مسلما قد يظهر طرفا من الحق ولا يعرض عنه كالبخاري تماما ، وهذا هو السبب في تأخر رتبة كتابه عن رتبة كتاب البخاري عند أولئك المتعصبين المتعندين ، الذين لا يروق لهم ذكر أى فضيلة لأهل البيت عليهم‌السلام ولأمير المؤمنين عليه‌السلام خاصة.

السادس : لقد نسب مرة أخرى رواية جملة : « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » الى الترمذي فقط ، وقد علمت بطلانها قريبا ، وأحرزت أنه قد رواها قبل الترمذي وبعده كثير من الحفاظ والمحدثين العظام ، واصحاب الصحاح والآثار وشيوخ الحديث والرواية.

السابع : لقد طعن في جملة : « وانهما لن يفترقا .. » زاعما طعن غير واحد فيها ، رغم أنه لم يذكر أحد أولئك العلماء الذين طعنوا فيها ، لكن قد أثبتنا سابقا صحة هذه الفقرة من حديث الثقلين ايضا ، وبينا بطلان طعنه هذا وكذبه في دعواه هذه ، عند رد كلام ابن الجوزي سابقا ، وكذا في دفع كلام ابن تيمية نفسه المتقدم قريبا.

ومع ذلك نقول : انه قد أخرج ابو عوانة هذه العبارة الكريمة ضمن حديث الثقلين برواية زيد بن أرقم في كتابه ( المسند الصحيح ) كما تقدم ، وبالاضافة الى أن مجرد إخراج أبي عوانة دليل على صحتها ـ كما عرفت ـ لكون كتابه مستخرجا على صحيح مسلم ، فانه لا شك في صحتها ، لاقتصار

٧٤

اصحاب المستخرجات على الروايات الصحيحة في زياداتهم على الصحيحين كما مر سابقا عن كتاب ( تدريب الراوي ) للسيوطي.

وقال ابن الصلاح : « ثم ان الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة المشتهرة لائمة الحديث ، كأبي داود السجستاني وأبي عيسى الترمذي ، وأبي عبد الرحمن النسائي ، وأبي بكر ابن خزيمة ، وأبي الحسن الدارقطني وغيرهم منصوصا على صحته فيها ، ولا يكفي في ذلك مجرد كونه موجودا في كتاب أبي داود وكتاب الترمذي وكتاب النسائي ، وسائر من جمع في كتابه بين الصحيح وغيره ، ويكفي مجرد كونه موجودا في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه ككتاب ابن خزيمة ، وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة على كتاب البخاري وكتاب مسلم ككتاب أبي عوانة الأسفراييني ، وكتاب أبي بكر الاسماعيلي ، وكتاب أبي بكر البرقاني ، وغيرها ، من تتمة لمحذوف أو زيادة شرح في كثير من أحاديث الصحيحين ، وكثير من هذا موجود في الجمع بين الصحيحين لابي عبد الله الحميدي » (١).

وقال : « ثم ان التخاريج المذكورة على الكتابين يستفاد منها فائدتان : إحداهما علو الاسناد ، والثانية الزيادة في قدر الصحيح لما يقع منها من ألفاظ زائدة وتتمات في بعض الأحاديث تثبت صحتها بهذه التخاريج ، لأنها واردة بالأسانيد الثابة في الصحيحين أو أحدهما ، وخارجة من ذلك المخرج الثابت. والله أعلم » (٢).

وقال الزين العراقي : « ويؤخذ الصحيح أيضا من المصنفات المختصة بجمع الصحيح فقط ، كصحيح أبي بكر محمد ابن إسحاق بن خزيمة ، وصحيح أبي حاتم محمد بن حيان البستي المسمى بالتقاسيم والأنواع ، وكتاب

__________________

(١) علوم الحديث بشرح العراقي ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) علوم الحديث ٣١.

٧٥

المستدرك على الصحيحين لابي عبد الله الحاكم ، وكذلك ما يوجد في المستخرجات على الصحيحين من زيادة أو تتمة ، فهو محكوم بصحته كما سيأتي في بابه » (١).

وتعطينا هذه الكلمات والنصوص : أن الزيادات في المستخرجات صحيحة ، وعلى هذا فلما كان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » موجودا في كتاب أبي عوانة الأسفراييني مع حديث الثقلين فهو صحيح بلا ريب ، ومعدود من كتاب صحيح مسلم ، فإذا سلم ابن تيمية صحة حديث الثقلين الموجود في صحيح مسلم كان عليه الاعتراف بصحة تلك الجملة المذكورة لا إنكارها.

وأخرج امام المحدثين ابو عبد الله الحاكم حديث الثقلين في ( المستدرك على الصحيحين ) بروايات اشتملت على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » وقال بعد كل واحدة منها : « صحيح الاسناد على شرط الشيخين ».

وقد بان لك من قول الزين العراقي المتقدم ان ( المستدرك ) من الكتب التي يؤخذ منها الزيادات الصحيحة على الصحيحين ، فلا يبقى أي شك ـ عند أي منصف ـ في صحة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المذكور ، وظهر أنه صحيح كسائر الأحاديث التي اتفق الشيخان على صحتها ، سواء أخرجاها أو لم يخرجاها. هذا بالاضافة الى حكم محمد بن طاهر المقدسي ، كما في ( تدريب الراوي ) للسيوطي بقطعية صدور ما كان على شرط الشيخين وان لم يخرجاه.

فبالنظر الى ما تقدم وغيره لا مانع من دعوى التواتر في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » ، ويدل على ذلك ما مر في رواية استشهاد امير المؤمنين عليه‌السلام عن ابن عقدة والسخاوي والسمهودي

__________________

(١) شرح ألفية الحديث ١ / ٥٤.

٧٦

وغيرهم عن سبعة عشر رجلا من الصحابة في حديث الثقلين المشتمل على هذه الكلمة ، ثم تصديق امير المؤمنين عليه‌السلام لهم وشهادته بصحة ما شهدوا عليه.

ومما لا ريب فيه أن هذا العدد كاف لدعوى تواتر الحديث ، بل هذا العدد اكثر بكثير من عدد التواتر ، لان ابن حجر المكي ادعى في ( الصواعق ) التواتر في صلاة أبي بكر في مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بزعم وروده عن ثمانية من الصحابة ، بل ادعى ابن حزم في ( المحلى ) في حرمة بيع الماء تواتر حديث الحرمة ، وقد رواه أربعة من الصحابة.

فرواية سبعة عشر رجلا من الصحابة حديث : « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » يفيد تواتره قطعا ، ولهذا صرح المقبلي في ( ملحقات الأبحاث المسددة ) بعد أن ذكر حديث الثقلين باللفظ المشتمل على هذه الجملة ، صرح بتواتره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثامن : قوله « والحديث الذي في صحيح مسلم إذا كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قاله فليس فيه الا الوصية باتباع كتاب الله ، وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك » ، يفيد عدم جزمه بصحة ما في صحيح مسلم من حديث الثقلين ، لان قوله « إذا كان النبي قد قاله » ظاهر في التشكيك بثبوت هذا أيضا.

ان ابن تيمية يحاول كتم الحق وانكار الحقائق ، ولكن سعيه يذهب ادراج الرياح. قال الله تعالى : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ).

التاسع : قوله « فليس فيه الا الوصية باتباع كتاب الله » خطأ واضح ، لان عبارات العلماء الاعلام ومحدثيهم العظام صريحة في وصيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتباع الكتاب وأهل البيت معا ، راجع منها ما تقدم من تحقيق السندي في ( دراسات اللبيب ).

وأما قوله « وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك »

٧٧

فلقد علمت من البيانات السابقة ـ والحمد لله ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوص باتباع كتاب الله فحسب ، بل انه امر يوم عرفة وغيره باتباع أهل بيته الطاهرين مع كتاب الله ، وكيف يأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتباع كتاب الله تعالى فحسب وقد تحقق عدم افتراق الثقلين بنصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يردا عليه الحوض ، وذلك ظاهر لا يحتاج الى مزيد بيان.

العاشر : قوله بعد ذلك : « وهو لم يأمر باتباع العترة ولكن قال أذكركم الله في أهل بيتي ».

والجواب عنه بوجوه :

أولا ـ ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر باتباع عترته في مواضع وخطب ووصايا لا تحصى كثرة ، وفي حديث الثقلين أمر باتباعهم على وجه الخصوص ، كما تقدم ذلك مرارا عديدة ، وهو ثابت أيضا في حديث صحيح مسلم ـ وان لم يكن يسلم من التحريف والاسقاط كما تقدم ـ وهذا بوحده كاف لاستيصال أصل الشبهة.

بل نقول : انه لو لم يكن في صحيح مسلم سوى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انّي تارك فيكم الثقلين » لكفى دليلا على وجوب التمسك بأهل البيت عليهم‌السلام كوجوب التمسك بكتاب الله ، ويؤيد ذلك ما ذكره محققوهم في بيان وجه تسميه الكتاب والعترة بالثقلين : قال الأزهري في ( تهذيب اللغة ) على ما نقل عنه ابن منظور في ( لسان العرب ) : « قال ثعلب : سيما ثقلين لان الأخذ بهما ثقيل ، والعمل بهما ثقيل ».

وقال ابن الأثير في ( النهاية ) : « سماها ثقلين لان الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل ».

وقال السخاوي في ( استجلاب ارتقاء الغرف ) : « انما سماهما بذلك إعظاما لقدرهما وتفخيما لشأنهما ، فانه يقال لكل شيء خطير نفيس ثقل ، وأيضا فلان الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل ، ومنه قوله تعالى : ( سَنُلْقِي عَلَيْكَ

٧٨

قَوْلاً ثَقِيلاً ) أى له وزن وقدر ، أو لأنه لا يؤدى الا بتكلف ما يثقل ».

وقال القاري في ( المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٩٣ ) : « وفي ( شرح السنة ) سماهما ثقلين لان الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل ».

الى غيرها من كلمات العلماء العظام من أهل السنة ، فيكون معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انّي تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما » انّي تارك فيكم أمرين الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل. وذلك ظاهر ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر إذا باتباع العترة كذلك.

ثانيا ـ لم يكن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أذكركم الله في اهل بيتي » مجرد تذكير للامة ، بل امر باتباع العترة مع التأكيد عليه ، وقد كرر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا التأكيد لمزيد الاهتمام بوجوب اتباعهم ، وقد اعترف بهذا المعنى علماء أهل السنة الأكابر :

قال الزرقاني في ( شرح المواهب اللدنية ) بشرح حديث مسلم في شرح هذه الجملة : « قال الحكيم الترمذي حض على التمسك بهم ، لان الأمر لهم معاينة ، فهم أبعد عن المحنة ».

وقال المولوي مبين في ( وسيلة النجاة ) في شرحها : « أي اخشوا الله واحفظوا حقوقهم ، واتخذوا طاعتهم ومحبتهم شعارا لكم ، فكما ان امتثال أحكام كتاب الله فرض فكذلك إطاعة اهل البيت والانقياد لأوامرهم بالجوارح والأركان ، ومحبتهم والاعتقاد بهم بالقلب والجنان فرض ».

وقال القنوجي في ( السراج الوهاج ) : « والأخذ بكتاب الله أن يتلوه آناء الليل والنهار ، ويعمل بما فيه من الحلال والحرام وغيرهما مما اشتمل عليه ، ولا يتخذه مهجورا ، والذكرى في أهل البيت أن يعرف فضلهم ويحترمهم بما يصل اليه يده ويجتنب أذاهم وحطهم ، ويقتدى بهم فيما يوافق الكتاب السنة ويؤقرهم ويعززهم ، لا سيما العلماء الصلحاء منهم ، فإنهم بضعة الرسول ومضغة البتول وأحباء الله وأبناء رسوله ».

وقال فيه أيضا : « تحريم الزكاة على اهل البيت لها موضع غير هذا

٧٩

الموضوع ، والمقصود هنا بيان فضيلتهم وانهم قسيم كتاب الله في التعظيم والإكرام ، وفي التسمية بالثقل وانه لا بد من الأخذ بهما ، فإنهما لا يفترقان حتى يردا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحوض ».

وقال محمد أمين السندي في ( دراسات اللبيب ) : « فحملنا قوله « أذكركم الله » على مبالغة التثليث فيه على التذكير بالتمسك بهم والردع من عدم الاعتداد بأقوالهم وأعمالهم وأحوالهم وفتياهم وعدم الأخذ بمذهبهم ».

ثالثا ـ لقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الامة باتباع اهل بيته والتمسك بهم قبل يوم غدير خم وقبل حجة الوداع وبعدها ، فزعم عدم تقدم ذلك ـ كما هو فحوى كلامه ـ من أبين الأباطيل.

رابعا ـ قوله « وتذكير الامة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدم الأمر به قبل ذلك من اعطائهم حقوقهم والامتناع من ظلمهم » يفيد أن اتباع اهل البيت عليهم‌السلام ليس داخلا في حقوقهم التي أمرت الامة باعطائهم إياها. وان مخالفتهم ليست داخلة في ظلمهم الذي أمروا بالامتناع منها ، وهذا جور عظيم وظلم كبير ..

خامسا ـ قوله « وهذا أمر قد تقدم بيانه قبل غدير خم فعلم انه لم يكن في إمامته » لا ربط له بكون التذكير المذكور في حديث مسلم او في مطلق حديث الثقلين لم يكن في امامة أمير المؤمنين عليه‌السلام كما تفوه به هذا الناصب ، وبما انه قد ثبت أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المواقع الجليلة والمواقف العظيمة قبل يوم الغدير وبعده ، فان ما في صحيح مسلم المشتمل على بيان واقعة يوم غدير خم بالنسبة لأهل البيت عليهم‌السلام يلزم أن يكون في إيجاب طاعة أمير المؤمنين عليه‌السلام ولزوم الانقياد له وفرض إمامته على الامة ، وهذا واضح.

كلام للجاحظ في مدح أهل البيت

وإذ رأيت بطلان كلمات ابن تيمية ظهر لك انه لا ينبغي لمؤمن أن

٨٠