مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

ما زال كما كان مستعملا فى جميع الأزمان نصا ؛ بدليل قوله : «أبدا» ، غير أن العمل بهذا النص الشامل لجميع الأزمان لفظا قد أبطله الناسخ ؛ لأن استمرار العمل بالنص مشروط بعدم ورود ناسخ ينسخه. أيا كان ذلك النص وأيا كان ناسخه.

فإن سأل سائل : ما حكمة تأييد النص لفظا ، بينما هو مؤقت فى علم الله أزلا؟ أجبناه بأن حكمته ابتلاء الله لعباده : أيرضخون لحكمه مع تأبيده عليهم هذا التأبيد الظاهرى أم لا؟ فإذا ماز الله الخبيث من الطيب ، والمطمئن إلى حكمه من المتمرد عليه ، جاء النسخ لحكمة أخرى من التخفيف ونحوه.

(ثانيها) أن حكم ما خرج بالتخصيص لم يك مرادا من العامّ أصلا ، بخلاف ما خرج بالنسخ ، فإنه كان مرادا من المنسوخ لفظا.

(ثالثها) أن التخصيص لا يتأتى أن يأتى على الأمر لمأمور واحد ولا على النهى لمنهى واحد ، أما النسخ فيمكن أن يعرض لهذا كما يعرض لغيره ، ومن ذلك نسخ بعض الأحكام الخاصة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(رابعها) أن النسخ يبطل حجية المنسوخ إذا كان رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام ، ويبقى على شىء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض. أما التخصيص فلا يبطل حجية العام أبدا ، بل العمل به قائم فيما بقى من أفراده بعد تخصيصه :

(خامسها) أن النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة ، بخلاف التخصيص فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل. هذا قول الله سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) قد خصصه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا قطع إلا فى ربع دينار». وهذا قوله سبحانه : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) قد خصصه ما شهد به الحس من سلامة السماء والأرض ،

(٦ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

٨١

وعدم تدمير الريح لهما. وهذا قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قد خصصه ما حكم به العقل من استحالة تعلق القدرة الإلهية بالواجب والمستحيل العقليين.

(سادسها) أن النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ عن المنسوخ أما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن. وقال قوم : لا يكون التخصيص إلا بمقارن ، فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه. كما إذا قال الشارع : «اقتلوا المشركين» وبعد وقت العمل به قال : «ولا تقتلوا أهل الذمة» ووجهة نظر هؤلاء أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام ، فلو تأخر وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وذلك لا يجوز ، فلم يبق إلا اعتباره ناسخا.

(سابعها) أن النسخ لا يقع فى الأخبار ، بخلاف التخصيص فإنه يكون فى الأخبار وفى غيرها.

النسخ بين مثبتيه ومنكريه

يذهب أهل الأديان مذاهب ثلاثة فى النسخ :

(أولها) : أنه جائز عقلا وواقع سمعا. وعليه إجماع المسلمين ، من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهانى ومن شايعه. وعليه أيضا إجماع النصارى ، ولكن من قبل هذا العصر الذى خرقوا فيه إجماعهم ، وركموا فيه رءوسهم وهو كذلك رأى العيسوية ، وهم طائفة من طوائف اليهود الثلاث.

(ثانيها) أن النسخ ممتنع عقلا وسمعا. وإليه جنح النصارى جميعا فى هذا العصر ، وتشيعوا له تشيعا ظهر فى حملاتهم المتكررة على الإسلام ؛ وفى طعنهم على هذا الدين القويم من هذا الطريق طريق النسخ. وبهذه الفرية أيضا يقول الشمعونية ، وهم طائفة ثانية من اليهود.

٨٢

(ثالثها) أن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا. وبه تقول العنانية وهى الطائفة الثالثة من طوائف اليهود. ويعزى هذا الرأى إلى أبى مسلم الأصفهانى من المسلمين ، ولكن على اضطراب فى النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهرة المسلمين شبيها بالخلاف اللفظى إلا بكنه.

ذلك إجمال لآراء المتدينين فى النسخ ، وسنفصل القول فيها بما نعرضه عليك ، ففرغ له بالك ، ووجه إليه انتباهك. ولنبدأ بتأييد المذهب الحق وعرض أدلته ، ثم لنبين حكمة الله فيه. وبعد ذلك نستعرض المذاهب الأخرى وما استندت إليه على أنها شبهات ندفعها عن عربن الحق ، وأغشية نرفعها عن وجه الصواب

أدلة ثبوت النسخ عقلا وسمعا

لأجل أن نثبت النسخ فى مواجهة منكر به جميعا ، نقيم أدلة على جوازه العقلى ، وأدلة أخرى على وقوعه السمعى.

أدلة جواز النسخ عقلا.

أما أدلة جوازه العقلى. فأربعة إجمالا ، ولا يضير بعضها أن يكون دليلا على الجواز والوقوع معا.

(الدليل الأول) أن النسخ لا محظور فيه عقلا ، وكل ما كان كذلك جائز عقلا. أما الكبرى فمسلمة. وأما الصغرى فيختلف دليلها عند أهل السنة عن دليلها عند المعتزلة ، تبعا لاختلاف الفرقتين فى أن أحكام الله تعالى يجب أن تتبع المصلحة لعباده أو لا يجب أن تتبعها.

فأهل السنة يقولون : إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شىء ، بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال ، وله بناء على اختياره ومشيئته ، وكبريائه وعظمته ، أن يأمر عباده بما شاء ، وينهاهم عما شاء وأن يبقى من أحكامه على ما شاء ، وأن ينسخ منها ما شاء

٨٣

لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده. ولكن ليس معنى هذا أنه عابث أو مستبد أو ظالم ، بل إن أحكامه وأفعاله كلها ـ جل جلاله ـ لا تخلو عن حكمة بالغة ، وعلم واسع ، وتنزه عن البغى والظلم ؛ (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً). (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

والمعتزلة يقولون : إنه تعالى يجب أن يتبع فى أحكامه مصالح عباده ، فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به ، وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه ، وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة أخرى ، أمرهم به تارة ونهاهم عنه أخرى.

إذا تقرر هذا. فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا : النسخ تصرف فى التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال ، الذى لا يجب عليه رعاية مصالح عباده فى تشريعه ، وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمة. وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا.

وأما على مذهب أهل الاعتزال فننظم الدليل هكذا : النسخ مبنى على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده فى نوع من أفعالهم وقتا ما فيأمرهم به فى ذلك الوقت ، ويعلم ضرر عباده فى هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن فى وقت آخر ، فينهاهم عنه فى ذلك الوقت الآخر. وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا.

وكيف يكون محظورا عقلا؟ ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص. والأزمان والأحوال فالطبيب يأمر مريضه يتناول الدواء ما دام مريضا ، ثم ينهاه عنه إذا أبل من مرضه وعاد سليما. والمربية تقدم إلى طفلها أخف الأغذية من لبن ونحوه دون غيره ، فإذا ترعرع ودرج حرمت عليه المراضع ثم انتقلت به إلى غذاء غير اللبن ونحوه وهكذا تنتقل به من الخفيف إلى الثقيل ، ومن الثقيل إلى الأثقل ، تبعا لتدرجه فى مدارج القوة والضج.

٨٤

والمعلم يتعهد تلاميذه البادئين بأسهل المعلومات ، ثم يتدرج بهم من الأسهل إلى السهل ، ومن السهل إلى الصعب ، ومن الصعب إلى الأصعب ، حتى يصل بهم إلى أدق النظريات ، مقتضيا فى ذلك آثار خطاهم إلى السمو الفكرى. والكمال العقلى.

كذلك الأمم تتقلب كما يتقلب الأفراد فى أطوار شتى. فمن الحكمة فى سياستها وهدايتها أن يصاغ لها من التشريعات ما يناسب حالها فى الطور الذى تكون فيه ، حتى إذا انتقلت منه إلى طور آخر لا يناسبه ذلك التشريع الأول ، حق أن يصاغ لها تشريع آخر يتفق وهذا الطور الجديد. وإلا لاختل ما بين الحكمة والأحكام من الارتباط والإحكام ، ولم يجر تدبير الخلق على ما نشهده من الإبداع ودقة النظام!.

وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها). فإنه يفهم منها أن كل آية يذهب بها الله تعالى على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا ، إلى بدل أو إلى غير بدل ، فإنه ـ جلت حكمته ـ يأتى عباده بنوع آخر هو خير لهم من الآية الذاهبة أو مثلها. والخيرية قد تكون فى النفع وقد تكون فى الثواب ، وقد تكون فى كليهما. أما المثلية فلا تكون إلا فى الثواب فقط. وذلك لأن المماثلة فى النفع لا تتصور ، لأنه على تقدير ارتفاع الحكم الأول فإن المصلحة المنوط بها ذلك الحكم ترتفع ، ولا تبقى إلا مصلحة الآية المأتى بها ، فتكون خيرا من الذاهبة فى نفعها لا محالة. وإذا قدر بقاء الحكم الأول وكان النسخ للتلاوة وحدها ، فالمصلحة الأولى باقية على حالها ، لم يجد غيرها حتى يكون خيرا منها أو مثلها (الدليل الثانى) ـ وهو دليل إلزامى للمنكرين ـ أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا ، لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهى بانتهاء وقته ، لكنهم يجوزون هذا عقلا ويقولون بوقوعه سمعا ، فليجوزوا هذا ، لأنه لا معنى

٨٥

للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله ، بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ، ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ. وهذا ليس بفارق مؤثر :

فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان ، «صوموا إلى نهاية هذا الشهر» مساو لأن يقول أول يوم من رمضان : «صوموا» من غير تقييد بغاية ، حتى إذا ما انتهى شهر رمضان قال أول يوم من شوال : «أفطروا». وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه. وقد جوز منكروه المثال الأول ، فليجوزوا هذا المثال الثانى ؛ لأنه مساويه ، والمتساويان يجب أن يتحد حكمهما. وإلا لما كانا متساويين.

(الدليل الثالث) أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا ، لما ثبتت رسالة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة ، لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التى يطول شرحها ، إذن فالشرائع السابقة ليست باقية ، بل هى منسوخة بهذه الشريعة الختامية. وإذن فالنسخ جائز وواقع. أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخ لو لم يكن جائزا وواقعا ، لكانت الشرائع الأولى باقية ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة.

(الدليل الرابع) ما يأتى من أدلة الوقوع السمعى ، لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة.

ب. أدلة وقوع النسخ سمعا :

الأدلة السمعية على وقوع النسخ نوعان : أحدهما تقوم به الحجة على منكرى النسخ من اليهود والنصارى ، من غير توقف على إثبات نبوة الرسول لهم. والآخر تقوم به الحجة على من آمن بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأبى مسلم الأصفهانى من المسلمين ، وكالعيسوية من اليهود ، فإنهم يعترفون برسالته عليه الصلاة والسلام ، ولكن يقولون : إلى العرب خاصة. وهؤلاء

٨٦

نلزمهم بأنهم متى سلموا برسالته وجب أن يصدقوه فى كل ما جاء به ، ومن ذلك عموم دعوته ، والنسخ الوارد فى الكتاب والسنة.

النوع الأول :

أما النوع الأول فآحاده كثيرة ، تفيض بها كتبهم الدينية ، ونحن نجتزئ منها بما بلى ، إلزاما لهم ، وإن كنا لا نؤمن بكل ما آمنوا به.

(أولا) جاء فى السفر الأول من التوراة أن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من السفينة : «إنى جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ، ما خلا الدم فلا تأكلوه» ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا من الدواب على أصحاب الشرائع من بعد نوح ، ومنهم موسى نفسه ، كما جاء فى السفر الثالث من توراتهم.

(ثانيا) جاء فى التوراة أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وورد أنه كان يولد له فى كل بطن من البطون ذكر وأنثى ، فكان يزوج توأمة هذا للآخر ، ويزوج توأمة الآخر لهذا ، وهكذا ، إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب ، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم.

(ثالثا) أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده ـ عليهما‌السلام ـ ثم قال الله له : لا تذبحه ، وقد اعترف منكر والنسخ بذلك.

(رابعها) أن عمل الدنيا كان مباحا يوم السبت ، ومنه الاصطياد ، ثم حرم الله الاصطياد على اليهود باعترافهم.

(خامسا) أن الله أمر بنى إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم.

٨٧

(سادسا) أن الجمع بين الأختين كان مباحا فى شريعة يعقوب ، ثم حرم فى شريعة موسى ، عليهما الصلاة والسلام.

(سابعا) أن الطلاق كان مشروعا فى شريعة موسى ، ثم جاءت شريعة عيسى فحرمته إلا إذا ثبت الزنى على الزوجة.

(ثامنا) أنهم نقلوا عن عيسى فى إنجيل متى أنه قال : «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» فهذا يدل على أن رسالة عيسى رسالة محلية خاصة بالإسرائيليين. ثم نقلوا عن عيسى نفسه فى إنجيل مرقس أنه قال : «اذهبوا إلى العالم أجمع ، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» فإذا أحسنا النية بالإنجيلين كان لا مناص لنا من القول بنسخ النص الأول بالثانى ، وإلا فإن النصين يتناقضان ويتساقطان ، ويسقط بسقوطهما الإنجيلان ، بل تسقط الأناجيل كلها ، لأنها متماثلة ، وما جاز على أحد الأمثال يجوز على الآخر.

(تاسعا) أن الختان كان فريضة فى دين إبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم. ولكن الحواريين جاءوا بعد رفع عيسى فنهوا عن الختان ، كما ثبت ذلك فى رسائل الحواريين. فإما أن يكون هذا نسخا ، وإما أن يكون افتراء وكذبا ، لأنه لم يؤثر عن عيسى كلمة واحدة تدل على نسخ الختان.

(عاشرا) أن أكل لحم الخنزير محرم فى اليهودية ، ومضى عهد عيسى دون أن يعرف عنه ما يدل على إباحته ، ولكن الحواريين جاءوا بعد عروج عيسى أيضا فأباحوا لحم الخنزير على زعم المسيحيين. فإما أن يكون هذا نسخا ، وإما أن يكون افتراء وكذبا نحو ما سبق.

النوع الثانى :

ذلك هو النوع الأول من أدلة النسخ السمعية ، أما النوع الثانى فمنه ما يأتى :

٨٨

(أولا) قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).

(ثانيا) قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) وقد أسلفنا الكلام على هاتين الآيتين. ونزيدك أن دلالتهما على وقوع النسخ ملحوظ فيهما أنهما نزلتا ردا على طعن الطاعنين على الإسلام ونبى الإسلام بوقوع النسخ فى الشريعة المطهرة.

(ثالثا) قوله تعالى (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ـ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ـ قالُوا : إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

ووجه الدلالة فى هذه الآية أن التبديل يتألف من رفع لأصل وإثبات لبدل ، وذلك هو النسخ ؛ سواء أكان المرفوع تلاوة أم حكما.

(رابعا) قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ). ووجه الدلالة فيها أنها تفيد تحريم ما أحل من قبل وما ذلك إلا نسخ. وكلمة «أحلت لهم» يفهم منها أن الحكم الأول كان حكما شرعيا لا براءة أصلية.

(خامسا) أن سلف الأمة أجمعوا على أن النسخ وقع فى الشريعة الإسلامية كما وقع بها.

(سادسا) أن فى القرآن آيات كثيرة نسخت أحكامها.

وهذا دليل فى طيه أدلة متعددة ، لأن كل آية من هذه الآيات المنسوخة ، تعتبر مع ناسخها دليلا كاملا على وقوع النسخ. إذ الوقوع يكفى فى إثباته وجود فرد واحد. وسنتحدث فيما بعد إن شاء الله عن هذه الآيات المنسوخة وما نسخها.

٨٩

حكمة الله فى النسخ

الآن وقد عرفنا النسخ ، وفرقنا بينه وبين ما يلتبس به ، وأيدناه بالأدلة ، يجد ربنا أن نبين حكمة الله تعالى فيه ، لأن معرفة الحكمة تريح النفس ، وتزيل اللبس ، وتعصم من الوسوسة والدس. خصوصا فى مثل موضوعنا الذى كثر منكروه ، وتصيدوا لإنكاره الشبهات من هنا وهناك.

ولأجل تفصيل القول فى الحكمة نذكر أن النسخ وقع بالشريعة الإسلامية ووقع فيها. على معنى أن الله نسخ بالإسلام كل دين سبقه ، ونسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض.

أما حكمته سبحانه فى أنه نسخ به الأديان كلها ، فترجع إلى أن تشريعه أكمل تشريع يفى بحاجات الإنسانية فى مرحلتها التى انتهت إليها ، بعد أن بلغت أشدها واستوت. وبيان ذلك أن النوع الإنسانى تقلب كما يتقلب الطفل فى أدوار مختلفة. ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه ، غير الحال التى تناسب دورا غيره. فالبشر أول عهدهم بالوجود ، كانوا كالوليد أول عهده بالوجود ، سذاجة وبساطة ، وضعفا وجهالة ، ثم أخذوا يتحولون من هذا العهد رويدا رويدا ، ومروا فى هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متبايسة ، من ضالة العقل ، وعماية الجهل ، وطيش الشباب ، وغشم القوة. على تفاوت فى ذلك بينهم ، اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم ، تبعا لهذا التفاوت. حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه ، وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه ، جاء هذا الدين الحنيف ختاما للأديان ، ومتمما للشرائع ، وجامعا لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية ومرونة القواعد ، جمعا وفق بين مطالب الروح والجسد ، وآخى بين العلم والدين ، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد وأسر وجماعات وأمم

٩٠

وشعوب وحيوان ونبات وجماد. مما جعله بحق دينا عاما خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!.

هذا إجمال له تفاصيله التى ألمعنا إليها فى مناسبات سابقة. وسنعرض لها إن شاء الله فى مناسبات آتية.

وأما حكمة الله فى أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض ، فترجع إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقيها ويمحصها ـ وبيان ذلك أن الأمة الإسلامية فى بدايتها حين صدعها الرسول بدعوته ، كانت تعالى فترة انتقال شاق ، بل كان أشق ما يكون عليها فى ترك عقائدها وموروثاتها وعاداتها خصوصا مع ما هو معروف عن العرب الذى شوفهوا بالإسلام ، من التحمس لما يعتقدون أنه من مفاخرهم وأمجادهم ، فلو أخذوا بهذا الدين الجديد مرة واحدة ، لأدى ذلك إلى نقيض المقصود ، ومات الإسلام فى مهده ، ولم يجد أنصارا يعتقونه ويدافعون عنه ، لأن الطفرة من نوع المستحيل الذى لا يطيقه الإنسان. من هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشى على مهل ، متألفة لهم ، متلطفة فى دعوتهم متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا ، صاعدة بهم فى مدارج الرقى شيئا فشيئا. منتهزة فرصة الألف والمران والأحداث الجادة عليهم ، لتسير بهم من الأسهل إلى السهل ، ومن السهل إلى الصعب ، ومن الصعب إلى الأصعب ، حتى تم الأمر ونجح الاسلام نجاحا لم يعرف مثله فى سرعته وامتزاج النفوس به ، ونهضة البشرية بسببه!.

تلك الحكمة على هذا الوجه ، تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من المنسوج ، كموقف الإسلام فى سموه ونبله من مشكلة الخمر فى عرب الجاهلية بالأمس ، وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد ، يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية ، ويأتونها لا على أنها عادة مجردة. بل على أنها أمارة القوة ، ومظهر الفتوة ، وعنوان الشهامة!. فقل لى

٩١

ـ بربك ـ هل كان معقولا أن ينجح الإسلام فى فطامهم عنها ، لو لم يتألفهم ويتلطف بهم ، إلى درجة أن يمتن عليهم بها أول الأمر ، كأنه يشاركهم فى شعورهم. وإلى حد أنه أبى أن يحرمها عليهم فى وقت استعدت فيه بعض الأفكار لتسمع كلمة تحريمه ، حين سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)؟.

أما الحكمة فى نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه ، فالتخفيف على الناس ؛ ترفيها عنهم ، وإظهار الفضل الله عليهم ورحمته بهم ، وفى ذلك إغراء لهم على المبالغة فى شكره وتمجيده ، وتحبيب لهم فيه وفى دينه.

وأما الحكمة فى نسخ الحكم بمساويه فى صعوبته أو سهولته ، فالابتلاء والاختيار ، ليظهر المؤمن فيفوز ، والمنافق فيهلك ليميز الله الخبيث من الطيب.

يبقى الكلام فى حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم ، وفى حكمة نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.

أما حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم ؛ فتسجيل تلك الظاهرة الحكيمة ظاهرة سياسة الإسلام للناس ، حتى يشهدوا أنه هو الدين الحق ؛ وأن نبيه نبى الصدق ، وأن الله هو الحق المبين ، العليم الحكيم ، الرحمن الرحيم. يضاف إلى ذلك ما يكتسبونه من الثواب على هذه التلاوة ، ومن الاستمتاع بما حوته تلك الآيات المنسوخة من بلاغة ، ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية بها.

وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ، فحكمته تظهر فى كل آية بما يناسبها. وإنه لتبدو لنا حكمة رائعة فى مثال مشهور من هذا النوع.

ذلك أنه صح فى الرواية عن عمر بن الخطاب وأبى بن كعب أنهما قالا : كان فيما أنزل من القرآن. «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة». أى كان هذا النص آية تتلى ثم نسخت تلاوتها وبقى حكمها معمولا به إلى اليوم. والسر فى ذلك أنها كانت تتلى

٩٢

أولا لتقرير حكمها ، ردعا لمن تحدثه نفسه أن يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات. حتى إذا ما تقرر هذا الحكم فى النفوس ، نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى ، هى الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة ، وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة ، حيث سلكها مسلك ما لا يليق أن يذكر فضلا عن أن يفعل ، وسار بها فى طريق يشبه طريق المستحيل الذى لا يقع ، كأنه قال : نزهوا الأسماع عن سماعها ، والألسنة عن ذكرها ، فضلا عن الفرار منها ومن التلوث برجسها. «كتب الله لنا الحفظ والعصمة» إنه ولى كل نعمة وتوفيق.

شبهات المنكرين للنسخ ودفعها

نستطيع أن ننوع المنكرين للنسخ أنواعا : فنوع بنكر جوازه عقلا ووقوعه سمعا ، وهم نصارى هذا العصر ، وفرقة الشمعونية من اليهود. ونوع ينكره سمعا ويجوزه عقلا ، وهم العنانية من اليهود أيضا. ونوع يجوزه عقلا ويقول بوقوعه سمعا ، بيد أنه ينكر أن الشريعة الإسلامية ناسخة لليهودية ، وهم العيسوية تمام فرق اليهود الثلاث. ونوع يجوزه عقلا وينكره سمعا ، ولكن إنكاره صورى يتأول فيه بما يجعل خلافه لجمهرة المسلمين خلافا لفظيا أو شبيها باللفظى وهو أبو مسلم الأصفهانى ومن تبعه.

فبين أيدينا إذن ـ من انفردوا بإنكار النسخ عقلا ، وهم نصارى هذا العصر وشمعونية اليهود. ومن توافقوا على إنكاره سمعا ، وإن اختلفوا فى مدى هذا الإنكار وفى كيفيته ، وهم نصارى هذا العصر ، وعنانية اليهود ، والعيسيون منهم ، وأبو مسلم الأصفهانى وأتباعه من المسلمين.

ولكل من هؤلاء جميعا شبهات حسبوها أدلة وليست أدلة. كما يتبين لك ذلك فى هذا الاستعراض الجامع.

٩٣

ا ـ شبهات المنكرين لجوازه عقلا

لا ريب أن مذهب المنكرين لجواز النسخ عقلا ، هو أخطر المذاهب وأشنعها ، وأبعدها عن الحق وأوغلها فى الباطل. ومجرد إنكار الجواز العقلى يستلزم إنكار الوقوع الشرعى ، وهل يقع فى الوجود ما أحاله العقل؟ لهذا نبدأ بتفنيد هذا المذهب ودفع شبهاته.

الشبهة الأولى ودفعها :

يقولون : لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما من أحكامه ، لكان ذلك إما لحكمة ظهرت له كانت خافية عليه ، وإما لغير حكمة. وكل هذين باطل. أما الأول فلأنه يستلزم تجويز البداء والجهل بالعواقب على علام الغيوب ، وأما الثانى فلأنه يستلزم تجويز العبث على الحكيم العليم اللطيف الخبير. والبداء والعبث مستحيلان عليه سبحانه بالأدلة العقلية والنقلية. فما أدى إليهما وهو جواز النسخ محال.

وندفع هذه الشبهة بأن نسخ الله تعالى ما شاء من أحكامه ، مبنى على حكمة كانت معلومة له أولا ، ظاهرة لم تخف عليه ولن تخفى عليه أبدا ، غاية الأمر أن مصالح العباد تتجدد بتجدد الأزمان ، وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، وأسراره وحكمه سبحانه لا تتناهى ، ولا يحيط بها سواه. فإذا نسخ حكما بحكم ، لم يخل هذا الحكم الثانى من حكمة جديدة غير حكمة الحكم الأول ، هى مصلحة جديدة للعباد فى الحكم الجديد ، أو هى غير تلك. وسبحان من أحاط بكل شىء علما. وإذن فلا يستلزم نسخ الله لأحكامه بداء ولا عبثا ولكن هؤلاء الجاحدين غفلوا أو تغافلوا عن هذا ، حتى جاء الترديد فى شبهتهم ناقصا لم يستوف وجوه الاحتمالات كما ترى. ولو استوفوه لقالوا : النسخ إما أن يكون لحكمة ظهرت لله كانت خافية عليه ، أو لحكمة كانت معلومة له لم تكن خافية عليه ، أو لغير

٩٤

حكمة وأكبر الظن أنهم لم يفطنوا إلى هذا ، ولو فطنوا له ما اشتبهوا ولو اشتبهوا بعد فطنتهم له لاخترنا الشق الثانى من هذا الترديد ، ثم أيدناه بتوافر أدلة العقل والنقل عليه كما قررنا.

الشبهة الثانية ودفعها :

يقولون : لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم ، للزم على ذلك أحد باطلين : جهله جل وعلا ، وتحصيل الحاصل. وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد ، وإما أن يكون قد علمه على أنه مؤقت. فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر ، انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال. وإن كان قد علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت ، ورد عليه أن المؤقت ينتهى بمجرد انتهاء وقته ، فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل ، وهو باطل.

وندفع هذه الشبهة : بأن الله تعالى قد سبق فى علمه أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد ، ولكنه علم بجانب ذلك أن تأقيته إنما هو بورود الناسخ لا بشيء آخر كالتقييد بغاية فى دليل الحكم الأول ، وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه ، وورود الناسخ محقق لما فى علمه لا مخالف له. شأنه تعالى فى الأسباب ومسبباتها ، وقد تعلق علمه بها كلها. ولا تنس ما قررناه ثمة من أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله ، رفع بالنسبة إلينا.

الشبهة الثالثة ودفعها :

يقولون : لو جاز النسخ للزم أحد باطلين : تحصيل الحاصل ، وما هو فى معناه. وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهى عندها ، أو يكون قد أبده نصا : فإن كان قد غياه بغاية فإنه ينتهى بمجرد وجود هذه الغاية ، وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ ، وإلا لزم تحصيل الحاصل. وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد ، لزم المحال من وجوه ثلاثة :

٩٥

(أولها) التناقض ، لأن التأبيد يقتضى بقاء الحكم. ولا ريب أن النسخ ينافيه :

(ثانيها) تعذر إفادة التأبيد من الله للناس ، لأن كل نص يمكن أن يفيده تبطل إفادته باحتمال نسخه ، وذلك يفضى إلى القول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم. تعالى الله عن ذلك.

(ثالثها) استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ.

وندفع هذه الشبهة (أولا) بأن حصر الحكم المنسوخ فى هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع ، غير صحيح ، لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا ، بل يجيء مطلقا عن التأقيت وعن التأبيد كليهما. وعليه فلا يستلزم طرو النسخ عليه شيئا من المحالات التى ذكروها. وإطلاق هذا الحكم كاف فى صحة نسخة ، لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر ، وإن لم يعرض له النص.

(ثانيا) أن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا ، وما استندوا إليه منقوض بوجوه ثلاثة :

(أولها) أن استدلالهم بأنه يؤدى إلى التناقض ، مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ ، كما أنها مقيدة بأهلية المكلف للتكليف وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت. وإذن فمجيء الناسخ لا يفضى إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال.

(ثانيها) أن استدلالهم بأنه يؤدى إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده ، مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد ، وهو ما يشعر به كل واحد منا ، وذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما انصل به من تأقيت

٩٦

أو تأبيد ، وطرو الناسخ احتمال مرجوح : واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع ، كما يؤيده العقل والشرع.

(ثالثها) أن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ ـ فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلى لا شرعى ، بدليل أننا نتكلم فى الجواز العقلى لا الشرعى. أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الناحية الشرعية فهو من المحالات الظاهرة ، لتضافر الأدلة على أن الإسلام دين عام خالد. ولا يضير المحال فى حكم الشرع ، أن يكون من قبيل الجائز فى حكم العقل.

الشبهة الرابعة ودفعها :

يقولون : إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين ، واجتماعهما محال. وبيان ذلك أن الأمر بالشىء يقتضى أنه حسن وطاعة ومحبوب لله ، والنهى عنه يقتضى أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى. فلو أمر الله بالشىء ثم نهى عنه ، أو نهى عن الشيء ثم أمر به ، لاجتمعت هذه الصفات المتضادة فى الفعل الواحد الذى تعلق به الأمر والنهى.

وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ، ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير : بل هى تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل. وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله ، ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه تعالى. والقائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة ، يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال. وبهذا التوجيه ينتفى اجتماع الضدين ، لأن الوقت الذى يكون فيه الفعل حسنا ، غير الوقت الذى يكون فيه ذلك الفعل قبيحا ، فلم يجتمع الحسن والقبح فى وقت واحد على فعل واحد.

(٧ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

٩٧

ب ـ شبهات المنكرين للنسخ سمعا

لقد نوعنا هؤلاء فيما سبق إلى أنواع. وقلنا : إن لكل منهم طريقة خاصة فى تكييف دعواه وفى صياغة شبهته. وها هي ذى دعاويهم وشبهاتهم تلقى حتفها بين يديك ، فيما نسوقه إليك.

١ ـ شبهة العنانية والشمعونية :

يقولون : إن التوراة التى أنزلها الله على موسى ، لم تزل محفوظة لدينا ، منقولة بالتواتر فيما بيننا ، وقد جاء فيها : «هذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض» وجاء فيها أيضا : «الزموا يوم السبت أبدا». وذلك يفيد امتناع النسخ ، لأن نسخ شىء من أحكام التوراة لا سيما تعظيم يوم السبت ، إبطال لما هو من عنده تعالى.

وندفع هذه الشبهة بوجوه خمسة :

(أولها) أن شهتهم هذه أقصر من مدعاهم قصورا بينا ، لأن قصارى ما تقتضيه ـ إن سلمت ـ هو امتناع نسخ شريعة موسى عليه‌السلام بشريعة أخرى : أما تناسخ شرائع سواها ، فلا تدل هذه الشبهة على امتناعه. بل يبعد أن ينكر اليهود انتساخ شرائع الإسرائيليين قبل اليهودية بشريعة موسى. فكان المنظور أن تجىء دعواهم أقصر مما هو محكى عنهم بحيث تتكافأ ودليلهم الذى زعموه أو أن يجيء دليلهم الذى زعموه أعم من هذا حتى يتكافأ ودعواهم التى ادعوها.

(ثانيها) أنا لا نسلم لهم ما زعموه من أن التوراة لم تزل محفوظة فى أيديهم حتى يصح

٩٨

استدلالهم بها. بل الأدلة متضافرة على أن التوراة الصحيحة لم يعد لها وجود ، وأنه أصابها من التغيير والتبديل ما جعلها فى خبر كان.

من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التى بأيدى السامريين. تزيد فى عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء فى نسخة العنانيين. وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة.

ومنها أنه جاء فى بعض نسخ التوراة ما يفيد أن نوحا أدرك جميع آبائه إلى آدم. وأنه أدرك من عهد آدم نحوا من مائتى سنة. وجاء فى بعض نسخ أخرى ما يفيد أن نوحا أدرك من عمر إبراهيم ثمانيا وخمسين سنة. وكل هذا باطل تاريخيا ..

ومنها أن نسخ التوراة التى بأيديهم تحكى عن الله وعن أنبيائه وملائكته. أمورا ينكرها العقل. ويمجها الطبع. ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه أن يكون هذا الكتاب صادرا عن نفس بشرية مؤمنة طاهرة فضلا عن أن ينسب إلى ولى ، فضلا عن أن ينسب إلى نبى ، فضلا عن أن ينسب إلى الله رب العالمين.

من ذلك أن الله ندم على إرسال الطوفان إلى العالم ، وأنه بكى حتى رمدت عيناه ، وأن يعقوب صارعه! جل الله عن ذلك كله.

ومن ذلك أن لوطا شرب الخمر حتى ثمل وزنى بابنتيه!.

ومنه أن هارون هو الذى اتخذ العجل لبنى إسرائيل ودعاهم إلى عبادته من دون الله.

ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ، ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين بل عند اليهود أنفسهم ، من أن بنى إسرائيل. وهم حملة التوراة وحفاظها. قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة ، وعبدوا الأصنام ، وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل. ولا ريب أن هذه

٩٩

مطاعن شنيعة جارحة ، لا تبقى لأى واحد منهم أى نصيب من عدالة أو ثقة ، ولا تجعل لهذه النسخ التى زعموا أنها التوراة أقل شىء من القيمة أو الصحة ، ما داموا هم رواتها وحفاظها ، وما دامت هى لم تعرف إلا عن طريقهم وبروايتهم.

(ثالثها) أن هذا التواتر الذى خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التى يؤمن بها ولا يجحدها ، بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها ؛ ويدعو المسلمين أنفسهم إلى الإيمان بها. ولكن ذلك لم يكن. ولو كان لنقل واشتهر. بل الذى نقل واشتهر هو أن كثيرا من أحبار اليهود وعلمائهم كعبد الله بن سلام وأضرابه ، قد ألقوا القياد لرسول الله مؤمنين ودانوا لشريعته مسلمين واعترفوا بأنه الرسول الذى بشرت به التوراة والانجيل.

(رابعها) أن لفظ التأبيد الذى اعتمدوا عليه فيما نقلوه ، لا يصلح حجة لهم ، لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقته. من ذلك ما جاء فى البقرة التى أمروا بذبحها : «هذه سنة لكم أبدا» وما جاء فى القربان : «قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما» مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم ، على رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد كما ترى.

(خامسها) أن نسخ الحكم المؤبد لفظا جائز على الصحيح ، كما أشرنا إلى ذلك قبلا. فلتكن هاتان العبارتان اللتان اعتمدوا عليهما منسوختين أيضا. وشبهة التناقض تندفع بأن التأبيد مشروط بعدم ورود ناسخ ، فإذا ورد الناسخ انتفى ذلك التأبيد ، وتبين أنه كان مجرد تأبيد لفظى للابتلاء والاختبار فتأمل.

٢ ـ شبهة النصارى :

يقولون : إن المسيح عليه‌السلام قال : «السماء والأرض تزولان وكلامى لا يزول». وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا.

١٠٠