مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

ونقول توجيها لكلام الشافعى ، وتأييدا لما ذهبنا إليه : قد أسلفنا الكلام فى مذهب الحنفية ، فلا نعيده. أما الذى ذكروه من أن هذا هو مراد الشافعى ـ رحمه‌الله ـ فمسلم ، بيد أنه يحتاج إلى تكملة لا بد منها ، وهى أن عدم بطلان الصلاة فى هذه الصورة ، مشروط بأن تقصد القراءة ، أما إذا كان المقصود كلاما غير القراءة فإنها تبطل. ثم إن منشأ عدم البطلان ليس هو جواز قراءة غير الفاتحة بالأعجمية كما فهموا ، إنما منشؤه أن هذه القراءة بالأعجمية وقعت فى غير ركن وفى غير واجب للصلاة ، لما هو مقرر فى مذهب الشافعية من أن قراءة ما زاد على الفاتحة ليس واجبا فى الصلاة محال. وهذا لا ينافى أن القراءة بالأعجمية محرمة كما سبق فى نصوص الشافعية بين يديك ، وكما عرف من كلام الشافعى نفسه وقد أسلفناه قريبا ، ولهذه المسألة نظائر ، منها الصلاة فى الأرض المغصوبة ، فإنها محرمة ، ومع حرمتها فإنها صحيحة ، ويؤيد حرمة القراءة بالأعجمية أن الشافعى فى كلامه هنا ، قد سوى بين اللحن والقراءة بالأعجمية ونظمهما فى سلك واحد مع ما هو معلوم من أن اللحن فى القرآن حرام بإجماع المسلمين.

٢ ـ كلمة للمحقق الشاطبى

قال الشاطبى ـ وهو من أعلام المالكية ـ (فى ص ٤٤ ، ٤٥ ج ٢) من كتابه الموافقات تحت عنوان (منع ترجمة القرآن) ما نصه : «للغة العرب من حيث هى ألفاظ دالة على معان نظران : أحدهما من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة دالة على معان مطلقة ، وهى الدلالة الأصلية ، والثانى من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة ، وهى الدلالة التابعة فالجهة الأولى هى التى تشترك فيها الألسنة وإليها تنتهى مقاصد المتكلمين ، ولا تختص بأمة دون أخرى. فإنه إذا حصل فى الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام ، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام ؛ تأتى له ما أراد من غير كلفة. ومن هذه الجهة يمكن فى لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين ممن ليسوا من أهل اللغة العربية ، وحكاية كلامهم. ويتأتى فى لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها. وهذا لا اشكال

٦١

فيه. وأما الجهة الثانية فهى التى يختص بها لسان العرب فى تلك الحكاية وذلك الإخبار ، فإن كل خبر يقتضى فى هذه الحالة أمورا خادمة لذلك الإخبار ، بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به ، ونفس الإخبار فى الحال والمساق ، ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك» وبعد أن مثل الشاطبى لهذا بنحو ما مثلنا سابقا قال : «وبهذا النوع الثانى اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن ، لأنه يأتى مساق القصة فى بعض السور على وجه ، وفى بعضها على وجه آخر ، وفى ثالثة على وجه ثالث ، وهكذا ما تقرر فيه من الإخبار ، لا بحسب النوع الأول ، إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل فى بعض ، ونص عليه فى بعض. وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).

ثم قال : «إذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير (أى الدلالة التابعة) أن يترجم كلاما من الكلام العربى بكلام العجم فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربى ، إلا مع فرض استواء اللسانين فى استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه.

فإذا ثبت ذلك فى اللسان المنقول إليه مع لسان العرب ؛ أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر. وإثبات مثل هذا بوجه بين عسير».

«وقد نفى ابن قتيبة إمكان الترجمة فى القرآن ، يعنى على هذا الوجه الثانى. فأما على الوجه الأول فهو ممكن ، ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معناه. وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام. فصار هذا الاتفاق حجة فى صحة الترجمة على المعنى الأصلى» اه ما أردنا نقله بتصرف طفيف.

قالوا : هذا كلام مدلل ، وبحث موجه ، من عالم جليل محقق ، وأصولى نظار مدقق ، وهو ينطق بجواز ترجمة القرآن ، مع الدليل والبرهان.

٦٢

ونحن نقول : إن كلام الشاطى صريح فى أن الممكن هو نقل المعانى الأصلية للقرآن دون التابعة وعلى هذا فاطلاقه لفظ ترجمة القرآن على ما أدى تلك المعانى الأصلية وحدها ، إطلاق لغوى محض لا يخالف فيه ، بل ندعو إليه ونشجع عليه ، مع التحفظات التى بسطناها فيما سلف.

أما الترجمة العرفية ـ وفيها يساق الحديث ـ فإن الشاطبى لا يريدها قطعا ، ولا يذهب إلى القول بها لا فى القرآن ولا فى غير القرآن من النصوص الأدبية. ولنا على ذلك أدلة خمسة نسوقها إليك.

(أولها) أنه قال فى لغة الواثق تلك الكلمة الصريحة : «إذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربى بكلام العجم ، فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربى».

(ثانيها) أنه نقل فى كلمته المذكورة عن ابن قتيبة أنه نفى إمكان الترجمة فى القرآن على هذا الوجه الثانى. ثم أقره على هذا النفى بهذا التوجيه.

(ثالثها) أنه مالكى المذهب. والمالكية من أشد الناس تحرجا من الترجمة ، على ما علمت من نصوصهم السابقة.

(رابعها) أنه تردد أثناء بحثه فى الترجمة ترددا يدل على أنه لم يقطع برأى يخالف مذهبه. إنما هو مجرد بحث فحسب ، أما الحكم فمسلم ، على حد قولهم : البحث وارد والحكم مسلم والدليل على تردده ما جاء فى الجزء الثانى من كتابه الموافقات (ص ٦٣) إذ يقول : «إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى جهتين ، كان من الواجب أن ينظر فى الوجه الذى تستفاد منه الأحكام : هل يختص بجهة المعنى الأصلى أو يعم الجهتين ـ أما استفادتها من الجهة الأولى فلا خلاف فيه. وأما استفادتها من الجهة الثانية فهو محل تردد. ولكل واحد من الطرفين وجهة من النظر» ثم قال : «قد تبين تعارض الأدلة فى المسألة ، وظهر

٦٣

أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين استفادة الأحكام منها. لكن بقى فيها نظر آخر :

ربما إخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلى ، هى آداب شرعية ، وتخلفات حسنة ، فيكون لها اعتبار فى الشريعة ، فلا تكون الجهة الثانية خالية من الدلالة جملة. وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا» اه مختصر.

أرأيت هذا التردد كله؟ ثم أرأيت كيف أخطأه التوفيق فى أن يحزم كما جزمنا باستفادة أنواع الهدايات الإسلامية ، من جهة المعانى الثانوية للقرآن الكريم ، على نحو ما فصلناه تفصيلا ، ومثلنا له تمثيلا؟. والكمال لله وحده.

(خامسها) أنه قال فى الجزء الثانى من كتابه الموافقات أيضا (ص ٤٢) : «إن القرآن أنزل بلسان العرب ، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة ... ثم قال :

«فمن أراد نفهمه فمن جهة لسان العرب يفهمه. ولا سبيل إلى تفهمه من غير هذه الجهة». وذلك برهان يدل على أن ترجمة القرآن فى نظره ، لا يمكن أن تفى بهداياته ومقاصده. وأن طالب فهمه لا طريق له إلا أن ينتقل هو إلى القرآن ولغته ، فيدرسه على ضوء ما تقرر من قواعد هذه اللغة وأساليبها. ولا سبيل إلى هذه الدراسة طبعا إلا بحذق هذه اللغة وعلومها.

٣ ـ كلمة لحجة الإسلام الغزالى

جاء فى كتاب المستصفى للغزالى (١٦٩ ج ١) ما نصه : «ويدل على جوازه (أى جواز رواية الحديث بالمعنى للعالم) الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم. فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها ، فلأن يجوز إبدال عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى. وكذلك كان سفراء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى البلاد يبلغونهم أوامره بلغتهم. وهذا لأنا نعلم ألا تعبد فى اللفظ ، وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق ، وليس ذلك كالتشهد والتكبير وما تعبد فيه باللفظ).

٦٤

قالوا : إن هذه العبارة بعمومها تتناول القرآن والسنة ، لأنهما أساس الشرع ، فترجمتهما إذن جائزة. والكتاب كالسنة فى هذا الجواز.

ونحن نقول : إن عبارة الغزالى هذه تأبى هذا الاستنتاج من وجوه (أولها) ما حكاه من الإجماع فى هذا المقام ، ومعلوم أن الإجماع لم ينعقد أبدا على جواز ترجمة القرآن ، بل كاد ينعقد على عدم الجواز كما مر بك قريبا.

(ثانيها) أن سفراء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم الذين ساقهم الغزالى هنا مساق الاستدلال ، لم يترجموا القرآن للأعاجم. ولو ترجموه لنقل تواترا ، لأنه مما تتوافر الدواعى على نقله وتواتره.

إنما كانوا يترجمون تعاليم الإسلام وأوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ذكر الغزالى نفسه.

(ثالثها) أن الغزالى فى عبارته المسطورة ، قد صرح بأن ما تعبدنا الله فيه باللفظ لا تجوز روايته بالمعنى. وعلى هذا لا يجوز أن يترجم بالأولى. ولا ريب أن القرآن الكريم متعبد بلفظه إجماعا ، فلا يجوز أن يروى بالمعنى ولا أن يترجم أبدا.

(رابعها) أن عبارة الغزالى فى كتابه الوجيز (ص ٢٦ ، ٢٧) موافقة بالنص لما جاء فى كتب الشافعية ، إذ يقول ، «لا تقوم ترجمة الفاتحة مقامها. ولا تجزئ الترجمة للعاجز عن العربية». وعبارته فى كتابه إلجام العوام (ص ١٤ ـ ١٧) يذهب فيها مذهب المتشددين ، فيقول بوجوب إبقاء أسماء الله وصفاته والمتشابه من الحديث على ما هى عليه وعدم النطق بها وبألفاظ القرآن بغير العربية.

موقف الأزهر من ترجمة القرآن الكريم

منذ بضع سنوات اتجه الأزهر اتجاها قويا إلى بحث موضوع ترجمة القرآن الكريم وانتهى الأمر بعد طول النقاش والحوار إلى أن قررت مشيخته الجليلة ترجمة تفسيره

(٥ ـ مناهل العرفان ٢)

٦٥

وتألفت بالفعل لجنة من خيرة علمائه ورجالات وزارة المعارف لوضع تفسير عربى دقيق للقرآن ، تمهيدا لترجمته ترجمة دقيقة بوساطة لجنة فنية مختارة. وقد اجتمعت لجنة التفسير بضع مرات برياسة العلامة الباحث مفتى مصر الأكبر ، وكان من أثر هذه الاجتماعات أن وضعت دستورا تلتزمه فى عملها العظيم ثم بعثت بهذا الدستور إلى كبار العلماء والجماعات الإسلامية فى الأقطار الأخرى ، لتستطلعهم آراءهم فى هذا الدستور ، رغبة منها فى أن يخرج هذا التفسير العربى فى صورة ما أجمع عليه إلا يكنه.

وبما أن هذا الدستور قد حوى من ألوان الحيطة والحذر ما يتفق وجلال الغاية ، فإنا نعرض عليك هنا مواده وقواعده ، لتضيفها أنت إلى ما أبديناه من التحفظات السابقة. وها هى تلك القواعد كما جاءت فى مجلة الأزهر (٦٤٨ ، ٦٤٩. من المجلد السابع) :

١ ـ أن يكون التفسير خاليا ما أمكن من المصطلحات والمباحث العلمية ، إلا ما استدعاه فهم الآية.

٢ ـ ألا يتعرض فيه للنظريات العلمية ، فلا يذكر مثلا التفسير العلمى للرعد والبرق عند آية فيها رعد وبرق ، ولا رأى الفلكيين فى السماء والنجوم عند آية فيها سماء ونجوم. إنما تفسير الآية بما يدل عليه اللفظ العربى ، ويوضح موضع العبرة والهداية فيها.

٣ ـ إذا مست الحاجة إلى التوسع فى تحقيق بعض المسائل وضعته اللجنة فى حاشية التفسير.

٤ ـ ألا تخضع اللجنة إلا لما تدل عليه الآية الكريمة ، فلا تتقيد بمذهب معين من المذاهب الفقهية ولا مذهب معين من المذاهب الكلامية وغيرها ، ولا تتعسف فى تأويل آيات المعجزات وأمور الآخرة ونحو ذلك.

٦٦

٥ ـ أن يفسر القرآن بقراءة حفص ، ولا يتعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة إليها.

٦ ـ أن يجتنب التكلف فى ربط الآيات والسور بعضها ببعض.

٧ ـ أن يذكر من أسباب النزول ما صح بعد البحث ، وأعان على فهم الآية.

٨ ـ عند التفسير تذكر الآية كاملة أو الآيات إذا كانت كلها مرتبطة بموضوع واحد. ثم تحرر معانى الكلمات فى دقة. ثم تفسر معانى الآية أو الآيات مسلسلة فى عبارة واضحة قوية ، ويوضع سبب النزول والربط وما يؤخذ من الآيات فى الوضع المناسب.

٩ ـ ألا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الآيات.

١٠ ـ يوضع فى أوائل كل سورة ما تصل إليه اللجنة من بحثها فى السورة : أمكية هى أم مدنية؟ وما ذا فى السورة المكية من آيات مدنية ، والعكس.

١١ ـ توضع للتفسير مقدمة فى التعريف بالقرآن وبيان مسلكه فى كل ما يحتويه من فنونه ، كالدعوة إلى الله ، وكالتشريع ، والقصص والجدل ، ونحو ذلك ، كما يذكر فيها منهج اللجنة فى تفسيرها.

طريقة التفسير :

ورأت اللجنة بعد ذلك أن تضع قواعد خاصة بالطريقة التى تتبعها فى تفسير معانى القرآن الكريم ، ننشرها فيما يلى :

١ ـ تبحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور ، فتفحص مروياتها وتنقد ، ويدون الصحيح منها بالتفسير ، مع بيان وجه قوة القوى ، وضعف الضعيف من ذلك.

٦٧

٢ ـ تبحث مفردات القرآن الكريم بحثا لغويا ، وخصائص التراكيب القرآنية بحثا بلاغيا ، وتدون.

٣ ـ تبحث آراء المفسرين بالرأى والتفسير بالمأثور ، ويختار ما تفسر الآية به ، مع بيان وجه رد المردود وقبول المقبول.

٤ ـ وبعد ذلك كله يصاغ التفسير مستوفيا ما نص على استيفائه فى الفقرة الثانية من القواعد السابقة. وتكون هذه الصياغة بأسلوب مناسب لأفهام جمهرة المتعلمين ، خال من الاغراب والصنعة.

فذلكة المبحث

لقد انتهى بنا هذا المبحث ـ كما ترى ـ إلى حقائق مهمة ، أعتقد أنها إذا روعيت بإنصاف ، أزالت خلاف المختلفين فى هذا الموضوع ، أو جعلته خلافا لفظيا لا يليق أن يكون مثارا لجدال ، ولا مجالا لنزاع : فترجمة القرآن حرفية كانت أو تفسيرية ، غير تفسيره بلغة عربية أو أجنبية. وتفسير القرآن بلغة أجنبية ، يساوى ترجمة التفسير العربى للقرآن الكريم. وترجمة القرآن بالمعنى العرفى العام لا بد لتحققها من الوفاء بجميع معانى القرآن ومقاصده ، سواء أكانت ترجمة حرفية أم تفسيرية. وما الفرق بين الحرفية والتفسيرية إلا شكلى ، هو مراعاة ترتيب الأصل ونظامه فى الأولى دون الثانية وترجمة القرآن مشترك لفظى بين معان أربعة ، منها ما اتفقوا على جوازه ، وهو ترجمته بمعنى تبليغ ألفاظه ، وترجمته بمعنى تفسيره بلغة عربية ومنها ما يجب أن يتفقوا على منعه وهو ترجمته بمعنى نقله إلى لغة أجنبية ، مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده ، ومنها ما اختلف فيه ولكن الأدلة متضافرة على جوازه ، وهو ترجمته بمعنى تفسيره بلغة أجنبية مع استيفاء شروط التفسير والترجمة فيه ، ومع التحفظات التى أبديناها وأبدتها لجنة التفسير الأزهرية من قبل.

٦٨

وتعجبنى لهذه المناسبة كلمة للزركشى فى كتابه البحر المحيط أسوقها إليك فى الختام إذ قال :

«(مسألة) لا يجوز ترجمة القرآن بالفارسية وغيرها ، بل يجب قراءته على هيئته التى يتعلق بها الإعجاز ؛ لتقصير الترجمة عنه ، ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذى خص به دون سائر الألسن. قال الله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). هذا لو لم يكن متحدى بنظمه وأسلوبه ، وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربى المتحدى بنظمه ، فأحرى ألا تجوز بالترجمة بلسان غيره. ومن هنا قبل القفال فى فتاويه : عندى أنه لا يقدر أحد أن يأتى بالقرآن بالفارسية. قيل له : فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن ، قال : ليس كذلك ، لأن هناك يجوز أن يأتى ببعض مراد الله ويعجز عن البعض. أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية ، فلا يمكن أن يأتى بجميع مراد الله.

«وفرق غيره بين الترجمة والتفسير فقال : يجوز تفسير الألسن بعضها ببعض ، لأن التفسير عبارة عما قام فى النفس من المعنى ، للحاجة والضرورة ، والترجمة هى إبدال اللفظة بلفظة تقوم مقامها فى مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ فكأن الترجمة إحالة فهم السامع على الاعتبار ، والتفسير تعريف السامع بما فهم المترجم. وهذا فرق حسن» اه أحسن الله لنا الخاتمة ، وجمعنا جميعا على الحق والرشد ، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ ، وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ).

المبحث الرابع عشر فى النسخ

أهمية هذا المبحث :

لهذا المبحث أهمية خاصة ، وذلك من وجوه خمسة : (أولها) أنه طويل الذيل ، كثير التفاريع ، متشعب المسالك.

٦٩

(ثانيها) أنه تناول مسائل دقيقة ، كانت مثارا لخلاف الباحثين من الأصوليين ، الأمر الذى يدعو إلى اليقظة والتدقيق. وإلى حسن الاختيار مع الإنصاف والتوفيق.

(ثالثها) أن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين قد اتخذوا من النسخ فى الشريعة الإسلامية أسلحة مسمومة ، طعنوا بها فى صدر الدين الحنيف ، ونالوا من قدسية القرآن الكريم. ولقد أحكموا شراك شبهاتهم ، واجتهدوا فى ترويج مطاعنهم ، حتى سحروا عقول بعض المنتسبين إلى العلم والدين من المسلمين. فجحدوا وقوع النسخ وهو واقع ، وأمعنوا فى هذا الجحود الذى ركبوا له أخشن المراكب ، من تمحلات ساقطة وتأويلات غير سائغة.

(رابعها) أن الإلمام بالناسخ والمنسوخ ، يكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامى ، ويطلع الإنسان على حكمة الله فى تربيته للخلق وسياسته للبشر ، وابتلائه للناس ، مما يدل دلالة واضحة ، على أن نفس محمد النبى الأمى لا يمكن أن تكون المصدر لمثل هذا القرآن ، ولا المنبع لمثل هذا التشريع. إنما هو تنزيل من حكيم حميد.

(خامسها) أن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم فى فهم الإسلام وفى الاهتداء إلى صحيح الأحكام ، خصوصا إذا ما وجدت أدلة متعارضة لا يندفع التناقض بينها إلا بمعرفة سابقها من لاحقها ، وناسخها من منسوخها. ولهذا كان سلفنا الصالح يعنون بهذه الناحية ، يحذقونها ، ويلفتون أنظار الناس إليها ، ويحملونهم عليها. حتى لقد جاء فى الأثر أن ابن عباس رضى الله عنهما فسر الحكمة فى قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) بمعرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه. ومقدمه ومؤخره وحلاله ، وحرامه. وورد أن عليا كرم الله وجهه دخل المسجد فإذا رجل يخوف الناس. فقال : ما هذا؟ قالوا : رجل يذكر الناس. فقال : ليس برجل يذكر الناس ، ولكنه يقول أنا فلان بن فلان فاعرفونى فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا. قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه ... وروى أنه ـ كرم الله وجهه ـ مر على قاصّ

٧٠

فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا. قال : هلكت وأهلكت ، يريد أنه عرض نفسه وعرض الناس للهلاك ، ما دام أنه لا يعرف الناسخ من المنسوخ.

لهذه الوجوه الخمسة التى بسطناها ، يقتضينا الواجب أن نعنى بهذا المبحث ، وأن نسير فيه بقدر على حذر ، متوسعين فيما ينبغى التوسع فيه ، مقتصدين فيما وراء ذلك. وحسبنا الله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى.

ما هو النسخ؟

النسخ فى اللغة :

يطلق النسخ فى لغة العرب على معنيين : (أحدهما) : إزالة الشيء وإعدامه. ومنه قول الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ. فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ). ومنه قولهم نسخت الشمس الظل ، ونسخ الشيب ، الشباب ومنه تناسخ القرون والأزمان.

(والآخر) نقل الشيء وتحويله مع بقائه فى نفسه. وفيه يقول السجستانى من أئمة اللغة : «والنسخ أن تحول ما فى الخلية من النحل والعسل إلى أخرى. ومنه تناسخ المواريث بانتقالها من قوم إلى قوم ، وتناسخ الأنفس بانتقالها من بدن إلى غيره ، عند القائلين بذلك. ومنه نسخ الكتاب لما فيه من مشابهة النقل. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف ، ومن الصحف إلى غيرها» اه.

وقد اختلف العلماء بعد ذلك فى تعيين المعنى الذى وضع له لفظ النسخ : فقيل إن لفظ النسخ وضع لكل من المعنيين وضعا أوليا. وعلى هذا يكون مشتركا لفظيا ، وهو الظاهر من تبادر كلا المعنيين بنسبة واحدة عند إطلاق لفظ النسخ. وقيل إنه وضع للمعنى الأول

٧١

وحده ، فهو حقيقة فيه مجاز فى الآخر. وقيل عكس ذلك. وقيل وضع للقدر المشترك بينهما. ولكن هذه الآراء الأخيرة يعوزها الدليل ولا يخلو توجيهها من تكلف وتأويل.

النسخ فى الاصطلاح :

لقد عرف النسخ فى الاصطلاح بتعاريف كثيرة مختلفة. لا نرى من الحكمة استعراضها ، ولا الموازنة بينها ونقدها. وما دام الغرض منها كلها هو تصوير حقيقة النسخ فى لسان الشرع ، فإننا نجتزئ بتعريف واحد نراه أقرب وأنسب ، وهو (رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى).

ومعنى رفع الحكم الشرعى قطع تعلقه بأفعال المكلفين لا رفعه هو ، فإنه أمر واقع ، والواقع لا يرتفع ... والحكم الشرعى هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين إما على سبيل الطلب أو الكف أو التخيير ، وإما على سبيل كون الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا .. والدليل الشرعى هو وحى الله مطلقا متلوا أو غير متلو ، فيشمل الكتاب والسنة. أما القياس والإجماع ففي نسخهما والنسخ بهما كلام تستقبله فى موضع آخر.

وقولنا : (رفع) جنس فى التعريف ، خرج عنه ما ليس برفع ، كالتخصيص فإنه لا يرفع الحكم وإنما يقصره على بعض أفراده. وسيأتى بسط الفروق بين النسخ والتخصيص فانتظره.

وقولنا : (الحكم الشرعى) قيد أول ، خرج به ابتداء إيجاب العبادات فى الشرع ، فإنه يرفع حكم العقل ببراءة الذمة ، وذلك كإيجاب الصلاة فإنه رافع لبراءة ذمة الإنسان منها قبل ورود الشرع بها ، ومع ذلك لا يقال له نسخ وإن رفع هذه البراءة ، لأن هذه البراءة حكم عقلى لا شرعى ؛ بمعنى أنه حكم يدل عليه العقل حتى من قبل مجيء الشرع. ولا يقدح فى كونه حكما عقليا أن الشرع جاء يؤيده بمثل قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

٧٢

وقولنا : (بدليل شرعى) قيد ثان ، خرج به رفع حكم شرعى بدليل عقلى ، وذلك كسقوط التكليف عن الإنسان بموته أو جنونه أو غفلته ، فإن سقوط التكليف عنه بأحد هذه الأسباب يدل عليه العقل ، إذ الميت والمجنون والعاقل لا يعقلون خطاب الله حتى يستمر تكليفهم ، والعقل يقضى بعدم تكليف المرء إلا بما يتعقله ، وأن الله تعالى إذا أخذ ما وهب أسقط ما وجب. ولا يقدح فى كون هذا الدليل عقليا مجىء الشرع معززا له بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع القلم عن ثلاث ، عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبى حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق».

توجيهات أربعة :

وإنى أوجه نظرك فى هذا التعريف إلى نقاط أربع :

(أولاها) أن التعبير برفع الحكم يفيد أن النسخ لا يمكن أن يتحقق إلا بأمرين (أحدهما) أن يكون هذا الدليل الشرعى متراخيا عن دليل ذلك الحكم الشرعى المرفوع. (والآخر) أن يكون بين هذين الدليلين تعارض حقيقى ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما وإعمالهما معا. أما إذا انتفى الأمر الأول ولم يكن ذلك الدليل الشرعى متراخيا عن دليل الحكم الأول فلا نسخ ، وذلك كقوله تعالى : و (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فإن الغاية المذكورة وهى قوله : «إلى الليل» تفيد انتهاء حكم الصوم وهو وجوب إتمامه بمجرد دخول الليل. ولكن لا يقال لهذه الغاية الدالة على انتهاء هذا الحكم إنها نسخ. وذلك لاتصالها بدليل الحكم الأول ، وهو قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ) بل تعتبر الغاية المذكورة بيانا أو إتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط. فلا يكون رافعا وإنما يكون رافعا إذا ورد الدليل الثانى بعد أن ورد الحكم مطلقا واستقر من غير تقييد ، بحيث يدوم لو لا الناسخ. ولهذا زاد بعضهم تقييد الدليل الشرعى فى تعريف الناسخ بالتراخى. وزاد بعضهم كلمة «على وجه لولاه

٧٣

لكان الحكم الأول ثابتا». وقد علمت من هذا الذى ذكرناه أنه لا حاجة إلى هاتين الزيادتين ، بل هما تصريح بما علم من التعبير فى التعريف بكلمة «رفع» وأما إذا انتفى الأمر الثانى ، بأن لم يكن بين الدليلين تعارض حقيقى ، فإنه لا نسخ ، لأن النسخ ضرورة لا يصار إليها إلا إذا اقتضاها التعارض الحقيقى ، دفعا للتناقض فى تشريع الحكيم العليم ، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وحيث لا تعارض هناك على الحقيقة فلا حاجة إلى النسخ ، لأنه لا تناقض. ولا ريب أن إعمال الدليلين ولو بنوع تأويل ، خير من إعمال دليل وإهدار آخر. ولهذا حكم الغزالى فى كتابه المستصفى بغلط من زعموا تعارضا وتوهموا نسخا بين قوله سبحانه : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) وبين الخبر الوارد بقبول شهادة الواحد واليمين ، معتمدين على ما ظهر لهم فى الآية من أنها تدل على أنه لا حجة للحكم سوى المذكور فيها من شهادة اثنين ، مع أن هذا الظاهر لهم غير صحيح ، لأن الآية لا تدل إلا على كون الشاهدين حجة وعلى جواز الحكم بقولهما ، أما امتناع الحكم بحجة أخرى كما فهموا ، فلا تدل الآية عليه حتى يكون تعارض بينها وبين الخبر المذكور ، بل هو كالحكم بالإقرار. وذكر حجة واحدة لا يمنع وجود حجة أخرى.

(ثانيتها) أن التعريف المذكور يفيد أن النسخ لا يتوجه إلا إلى الحكم وهو كذلك فى الواقع ونفس الأمر ، وتقسيمهم النسخ إلى نسخ تلاوة ونسخ حكم تقسيم صورى للإيضاح فحسب ، لأن ما أسموه نسخ تلاوة لم يخرج عن كونه نسخ حكم ، إذ أن نسخ تلاوة الآية لا معنى له فى الحقيقة إلا نسخ حكم من أحكامها ، وهو رفع الإثابة على مجرد ترتيلها ، وصحة الصلاة بها ، ونحوهما.

(ثالثتها) ان هذا التعريف يشمل النسخ الواقع فى الكتاب وفى السنة جميعا ،

٧٤

سواء أكانت السنة قولية أم فعلية أم وصفية أم تقريرية ، وسواء منها ما كان نبويا وما كان قدسيا ، لأنها كلها وحى بالفعل أو بالقوة ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقامه الله فى محراب الإمامة لخلقه ، وجعله الأسوة الحسنة لعباده ، وأمر الجميع باتباعه ، فهو إذن لا يمكن أن يصدر فيما يشرع لأمته ابتداء أو نسخا ، إلا عن إيحاء الله إليه تصريحا أو تقريرا.

مثال نسخ الكتاب بالكتاب قوله سبحانه : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) فإنها نسخت بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ، وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ ، وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ ، وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ، وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها ، خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

ومثال نسخ السنة بالسنة ، نسخ الوضوء مما مست النار بأكله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشاة ولم يتوضأ.

(رابعتها) أن الإضافة فى كلمة «رفع الحكم الشرعى» الواردة فى تعريف النسخ ، من قبيل إضافة المصدر لمفعوله ، والفاعل مضمر وهو الله تعالى. وذلك يرشد إلى أن الناسخ فى الحقيقة هو الله ، كما يدل عليه قوله سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) ويرشد أيضا إلى أن المنسوخ فى الحقيقة هو الحكم المرتفع. وقد يطلق الناسخ على الحكم الرافع فيقال : وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء. وقد يطلق النسخ على دليله كذلك ، فيقال : آية المواريث نسخت آية الوصية للوالدين والأقربين. ويقال : خبر أكل الرسول من الشاة ولم يتوضأ ، ناسخ لخبر وضوئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما مست النار. وهلم. والخطب فى ذلك جد يسير.

٧٥

ما لا بد منه فى النسخ

ولعلك تدرك مما سبق أنه لا بد فى تحقق النسخ من أمور أربعة :

(أولها) أن يكون المنسوخ حكما شرعيا.

(ثانيها) أن يكون دليل رفع الحكم دليلا شرعيا.

(ثالثها) أن يكون هذا الدليل الرافع متراخيا عن دليل الحكم الأول غير متصل به كاتصال القيد بالمقيد والتأقيت بالمؤقت.

(رابعها) أن يكون بين ذينك الدليلين تعارض حقيقى.

تلك أربعة لا بد منها لتحقق النسخ باتفاق جمهرة الباحثين. وثمة شروط اختلفوا فى شرطيتها. منها أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة. ومنها كون النسخ مشتملا على بدل للحكم المنسوخ. ومنها كون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهى والمضيق للموسع. ومنها كون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين ، إلى غير ذلك مما يطول شرحه ، وقد يأتيك نبؤه.

الفرق بين النسخ والبداء

البداء (بفتح الباء) يطلق فى لغة العرب على معنيين متقاربين.

أحدهما) الظهور بعد الخفاء. ومنه قول الله سبحانه : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) ، (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا). ومنه قولهم : بدا لنا سور المدينة.

(والآخر) نشأة رأى جديد لم يك موجودا. قال فى القاموس : «وبدا له فى الأمر بدوا ، وبداء ، وبداة ؛ أى نشأ له فيه رأى» اه. ومنه قول الله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ

٧٦

بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ). أى نشأ لهم فى يوسف رأى جديد ، هو أن يسجن سجنا وقتيا ، بدليل قوله : (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ). ولعل هذا المعنى الثانى هو الأنسب والأوفق بمذهب القائلين به ـ قبحهم الله ـ. ولأن عباراتهم المأثورة عنهم جرت هذا المجرى فى الاستعمال دون الاستعمال الأول. كتلك الكلمة التى نسبوها كذبا إلى جعفر الصادق رضى الله عنه : ما بدا لله تعالى فى شىء كما بدا له فى إسماعيل.

ذانك معنيان متقاربان للبداء ، وكلاهما مستحيل على الله تعالى ، لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم ، والجهل والحدوث عليه محالان ؛ لأن النظر الصحيح فى هذا العالم ، دلنا على أن خالقه ومدبره ، متصف أزلا وأبدا بالعلم الواسع المطلق المحيط بكل ما كان وما سيكون وما هو كائن ، كما هدانا هذا النظر الصحيح إلى أنه تعالى لا يمكن أن يكون حادثا ولا محلا للحوادث. وإلا لكان ناقصا يعجز عن أن يبدع هذا الكون ويدبره هذا التدبير المعجز!. ذلك أجمل لدليل العقل.

أما أدلة النقل فنصوص فياضة ناطقة بأنه تعالى أحاط بكل شىء علما ، وأنه لا تخفى عليه خافية (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ، وَما تَزْدادُ* وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ* عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ* سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ). إلى غير ذلك من مئات الآيات والأحاديث.

ولكن على رغم أنف هذه البراهين الساطعة من عقلية ونقلية ، ضل أقوام سفهوا أنفسهم ، فأغمضوا عيونهم عن النظر فى كتاب الكون الناطق ، وصموا آذانهم عن

٧٧

سماع كلام الله وكلام نبيه الصادق ، وزعموا أن النسخ ضرب من البداء أو مستلزم للبداء! وهكذا اشتبهوا أو شبهوا على الناس الأمر ، وقالوا : لو لا ظهور مصلحة لله ، ونشوء رأى جديد له ، ما نسخ أحكامه ، وبدل تعاليمه. ونسوا أو تناسوا أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض ، ما ظهر له أمر كان خافيا عليه ، وما نشأ له رأى جديد كان يفقده من قبل ، إنما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلا من قبل أن يشرعهما لعباده ، بل من قبل أن يخلق الخلق ، ويبرأ السماء والأرض. إلا أنه ـ جلت حكمته ـ علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة ، أو مصلحة تنتهى فى وقت معلوم ، وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء فى هذا الميقات المعلوم منوطا بحكمة وبمصلحة أخرى. ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس ، وتتجدد بتحدد ظروفهم وأحوالهم ، وأن الأحكام وحكمها ، والعباد ومصالحهم ، والنواسخ والمنسوخات ، كانت كلها معلومة لله من قبل ، ظاهرة لديه لم يخف شىء منها عليه. والجديد فى النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده ، لا ظهور ذلك له ، على حد التعبير المعروف : (شئون يبديها ولا يبتديها). (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).

اجتمعت اليهود والرافضة على هذه الضلالة ، ضلالة استلزم النسخ للبداء ، لكنهم افترقوا بعد ذلك إلى ناحيتين خطيرتين. فاليهود أنكروا النسخ وأسرفوا فى الإنكار ، لاستلزامه فى زعمهم البداء وهو محال. وسنناقشهم الحساب فيما بعد إن شاء الله. أما الرافضة فأثبتوا النسخ ثم أسرفوا فى إثبات هذا البداء اللازم له فى زعمهم ، ونسبوه إلى الله فى صراحة ووقاحة (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً). ولقد رأيت كيف أبطلنا مزاعمهم بأدلة عقلية ونقلية؟ ورأيت كيف فندنا شبهتهم التى زعموها دليلا وما هى بدليل؟ إن هى إلا خلط فى أوهام ومشى فى غير سبيل. وشتان شتان بين النسخ القائم على الحكمة ورعاية المصلحة ، وبين البداء المستلزم لسبق الجهل وطرو العلم!.

بقى أنهم تمسحوا فى أمرين : (أولهما) قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ

٧٨

وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). والجواب أنه لا مستند لهم فى الآية الكريمة ، بل هى ترد عليهم كما ردت على أشباههم ممن عابوا النسخ على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعناها أن الله يغير ما شاء من شرائعه وخلقه ، على وفق علمه وإرادته وحكمته ، وعلمه سبحانه لا يتغير ولا يتبدل ، إنما التغير فى المعلوم لا فى العلم. بدليل قوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أى وعنده المرجع الثابت الذى لا محو فيه ولا إثبات ، وإنما يقع المحو والإثبات على وفقه ، فيمحو سبحانه شريعة ويثبت مكانها أخرى ، ويمحو حكما ويثبت آخر ، ويمحو مرضا ويثبت صحة ، ويمحو فقرا ويثبت غنى ، ويمحو حياة ويثبت موتا. وهكذا تعمل يد الله فى خلقه وتشريعاته تغييرا وتبديلا ، وهو الحق وحده لا يعروه تغيير ولا تبديل ، ولا يتطرق إلى علمه محو ولا إثبات.

وخلاصة هذا التوجيه أن النسخ تبديل فى المعلوم لا فى العلم ، وتغيير فى المخلوق لا فى الخالق ، وكشف لنا وبيان عن بعض ما سبق به علم الله القديم المحيط بكل شىء. ولهذا ذهب كثير من علمائنا إلى تعريف النسخ بأنه بيان انتهاء الحكم الشرعى الذى تقرر فى أوهامنا استمراره بطريق التراخى. ثم قالوا توجيها لهذا الاختيار : إن فى هذا التعريف دفعا ظاهرا للبداء ، وتقريرا لكون النسخ تبديلا فى حقنا ، بيانا محضا فى حق صاحب الشرع.

(الأمر الثانى) أنهم تشبثوا بآثار نسبوها إلى أئمة طاهرين. منها ان عليا ـ كرم الله وجهه ـ كان يقول : لو لا البداء لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة ومنها أن جعفر الصادق رضى الله عنه قال : ما بدا الله تعالى فى شىء كما بدا له فى إسماعيل. ومنها أن موسى بن جعفر : قال «البداء ديننا ودين آبائنا فى الجاهلية»

. وندفع هذا بأنها مفتريات وأكاذيب ، كان أول من حاك شباكها الكذاب الثقفى الذى كان ينتحل لنفسه العصمة وعلم الغيب ، فإذا ما افتضح أمره وكذبته الأيام قال : (إن الله وعدنى ذلك غير أنه بدا له). فإذا أوجس فى نفسه

٧٩

خيفة من أن يؤاخذه الناس وينتقموا منه على هذا الكفر الشنيع ، نسب تلك الكفريات إلى أعلام بيت النبوة وهم منها برآء. وهكذا كان اللعين وأشياعه يحتجون بكفر على كفر ، ويستدلون بكذب على كذب ، ويعالجون داء بداء : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ). نسأل الله السلامة بمنه وكرمه آمين.

الفرق بين النسخ والتخصيص

قد عرفنا النسخ بأنه رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى. وقد عرفوا التخصيص بأنه قصر العام على بعض أفراده. وبالنظر فى هذين التعريفين نلاحظ أن هناك تشابها قويا بين المعرفين. فالنسخ فيه ما يشبه تخصيص الحكم ببعض الأزمان والتخصيص فيه ما يشبه رفع الحكم عن بعض الأفراد. ومن هذا التشابه وقع بعض العلماء فى الاشتباه ، فمنهم من أنكر وقوع النسخ فى الشريعة ، زاعما أن كل ما نسميه نحن نسخا فهو تخصيص. ومنهم من أدخل صورا من التخصيص فى باب النسخ ، فزاد بسبب ذلك فى عداد المنسوخات من غير موجب.

لهذا نقيم لك فروقا سبعة بين النسخ والتخصيص ، تهديك فى ظلمات هذا الاشتباه ، وتعصمك من أن تتورط فيما تورط فيه سواك.

(أولها) أن العام بعد تخصيصه مجاز ، لأن مدلوله وقتئذ بعض أفراده ، مع أن لفظه موضوع للكل ، والقرينة هى المخصص. وكل ما كان كذلك فهو مجاز. أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له ، غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين ، وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان. ويظهر ذلك جليا فيما إذا قال الشارع مثلا : افعلوا كذا أبدا ، ثم نسخه بعد زمن قصير. فإنه لا يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصير دون غيره ، بل هو

٨٠