مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

أمكن تحقيقه فى الترجمة بالنسبة إلى كل ما يفهم من معانى القرآن الأصلية فهو لا يمكن تحقيقه بالنسبة إلى كل ما يفهم من معانى القرآن التابعة ؛ لأنها مدلولة لخصائصه العليا التى هى مناط إعجازه البلاغى كما سبق.

وكذلك مقصد القرآن الثانى وهو كونه آية لا يمكن تحقيقه فيما سواه من كلام البشر عربيا كان أو عجميا ، وإلا لما صح أن يكون آية خارقة ، ومعجزة غير ممكنة ، حين تتناول هذا المقصد قدرة البشر. كيف والمفروض أن القرآن آية بل آيات ، ومعجزة بل معجزات لا يقدر عليها إلا الله وحده جل وعلا؟! ويجرى هذا المجرى مقصد القرآن الثالث ، وهو كونه متعبدا بتلاوته ، فإنه لا يمكن أن يتحقق فى الترجمة ، لأن ترجمة القرآن غير القرآن قطعا. والتعبد بالتلاوة إنما ورد فى خصوص القرآن وألفاظه عينها بأساليبها وترتيباته نفسها ، دون أى ألفاظ أو أساليب أخرى ، ولو كانت عربية مرادفة لألفاظ الأصل وأساليبه.

(الطريق الثانى) أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مثل للقرآن ، وكل مثل للقرآن مستحيل. أما أنها مثل له فلأنها جمعت معانيه كلها ومقاصده كلها لم تترك شيئا ، والجامع لمعانى القرآن ومقاصده مثل له أى مثل. وأما أن كل مثل للقرآن مستحيل ، فلأن القرآن تحدى العرب أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه ، فعجزوا عن المعارضة والمحاكاة ، وهم يومئذ أئمة البلاغة والبيان ، وأحرص ما يكونون على الغلبة والفوز فى هذا الميدان. وإذا كان هؤلاء قد عجزوا وانقطعوا ، فغيرهم ممن هم دونهم بلاغة وبيانا أشد عجزا وانقطاعا. (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ). وإذا كان الإنس والجن قد حقت عليهم كلمة العجز عن أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه بلغته العربية ، فأحرى أن يكون عجزهم أظهر لو حاولوا هذه المعارضة بلغة غير عربية لأن اتحاد اللغة فى المساجلة بين كلامين ، من شأنه أن يقرب

٤١

التشابه والتماثل إذا كانا ممكنين. نظرا إلى أن الخصائص البلاغية واحدة فيما به التحدى وما به المعارضة. أما إذا اختلفت لغة التحدى ولغة المعارضة فهيهات أن يتحقق التشابه والتماثل بدقة ، لأن الخصائص البلاغية فى أحد اللسانين غير الخصائص البلاغية فى اللسان الآخر. ويوجد منها فى أحدهما ما لا يوجد فى الآخر. فيتعين التفاضل ويتعذر التماثل قطعا.

ولهذا يصرح كثير من المتمكنين فى اللغات بأن ترجمة النصوص الأدبية فى أية لغة ترجمة دقيقة أمر مستحيل. وأن ما يتداوله الناس مما يزعمونه ترجمات لبعض كتب أدبية فهو مبنى على ضرب من التسامح فى نقل معانى الأصل وأغراضه بالتقريب لا بالتحقيق. وذلك غير الترجمات الدقيقة لمثل العلوم والقوانين والوثائق المنضبطة ، فإنها ترجمات حقيقية ، مبنية على نقل معانى الأصل وأغراضه كلها بالتحقيق لا بالتقريب.

ولكى نوضح لك معنى المثلية المستحيلة فى ترجمة القرآن بهذا المعنى ، يرشدك إلى أن هذه الترجمة لا تتحقق إلا بأمور بعضها مستحيل وبعضها ممكن. ذلك أنه لا بد فيها ـ على ضوء ما تقدم ـ من أن تكون وافية بجميع. معانى القرآن الأصلية والتابعة على وجه مطمئن وأن تكون وافية كذلك بجميع مقاصده الثلاثة الرئيسية ، وتلك أمور مستحيلة التحقق كما سبق بيانه. ثم لا بد فيها أيضا من أن تكون صيغتها صيغة استقلالية ، خالية من الاستطراد والتزيد ، وتلك أمور ممكنة الوقوع فى ذاتها ، لكنها إذا أضيفت إلى سابقتها كان المجموع مستحيلا ، لأن المؤلف من الممكن والمستحيل مستحيل.

فإذا أريد بعد ذلك أن تكون ترجمة القرآن هذه حرفية ، وجب أن يعتبر فيها أمران زائدان : وجود مفردات فى لغة الترجمة مساوية لمفردات القرآن ، ووجود ضمائر وروابط فى لغة الترجمة مساوية لروابط القرآن ، حتى يمكن أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيره من الأصل ، كما هو المشروط فى الترجمة الحرفية. وهذا ـ لعمر الله ـ مما يزيد التعذر استفحالا والاستحالة إيغالا ، ومما يجعل هذه الترجمة ـ لو وجدت ـ مثلا للقرآن يا له من مثل ، وشبيها لا يطاوله شبيه ، ومعارضا لا يغالبه معارض!!. وقد عرفت دليل

٤٢

بطلان كل ما يصدق عليه أنه مثل للقرآن. وفى هذا يقول الله سبحانه : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). فنفى المثلية عن القرآن كما نفى المثلية عن نفسه فى قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وبالغ فى النفى وفى التحدى فجمع الإنس والجن على هذا العجز. ثم أكد هذا النفى وهذا التحدى مرة أخرى بتقرير عجز الثقلين عن المثلية ، على فرض معاونة بعضهم لبعض فيها ، واجتماع قواهم البيانية والعلمية عليها.

الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة الشرعية :

الآن وقد تقرر أن ترجمة القرآن بهذا المعنى العرفي من قبيل المستحيل العادى ، لا نتردد فى أن نقرر أيضا أنها من قبيل المستحيل الشرعى ، أى المحظور الذى حرمه الله.

وذلك من وجوه ثمانية :

«الوجه الأول» أن طلب المستحيل العادى حرمه الإسلام ، أيا كان هذا الطلب ولو بطريق الدعاء ، وأيا كان هذا المستحيل ترجمة أو غير ترجمة ، لأنه ضرب من العبث ، وتضييع للوقت والمجهود فى غير طائل. والله تعالى يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا ضرر ولا ضرار» رواه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم يضاف إلى ذلك أن طلب المستحيل العادى غفلة أو جهل بسنن الله الكونية ، وبحكمته فى ربط الأسباب بمسبباتها العادية ، تطمينا لخلقه ، ورحمة بعباده (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

ولقد يعذر بعض الجهلة إذا ظنوا أن بعض المحالات أمور ممكنة فطلبوها ، ولكن الذى يحاول ترجمة القرآن بهذا المعنى لا يعذر بحال. لأن القرآن نفسه أعذر حين أنذر بأنه لا يمكن أن يأتى الجن والإنس بمثله ، وإن اجتمعوا له وكان بعضهم لبعض ظهيرا وبذلك «قطعت جهيزة قول كل خطيب».

٤٣

«الوجه الثانى» أن محاولة هذه الترجمة فيها ادعاء عمل لإمكان وجود مثل أو أمثال للقرآن ، وذلك تكذيب شنيع لصريح الآية السابقة. ولقوله سبحانه : وقال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله. قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى ، إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ. إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم* قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ، أفلا تعقلون.

فإن المتأمل فى هاتين الآيتين يجد فيهما وجوها دالة على التحريم ، حيث عنون الله عن طلاب التبديل بأنهم لا يرجون لقاءه ؛ وأمر الرسول أن ينفى نفيا عاما إمكانه تبديله من تلقاء نفسه ، كما أمره أن يعلن أن أتباعه مقصور على ما يوحى إليه نسخا أو إحكاما.

ومعنى هذا أن التبديل هوى من الأهواء الباطلة ، والرسول لا يتبع أهواءهم ولا هوى نفسه ولا هوى أحد. (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وفى ختام الآية الأولى إشارة إلى أن هذه المحاولة التى يحاولونها عصيان لله ، وأنه يخاف منها عذاب يوم عظيم. وفى الآية الثانية إعلام بأن القرآن من محض فضل الله ، وأن الرسول ما كان يستطيع تلاوته عليهم ، ولا كان الله يعلمهم به على لسان رسوله ، لو لا مشيئة الله وإيحاؤه به. ثم حاكمهم إلى الواقع وهو أن الرسول نشأ بينهم وعاش عمرا طويلا فيهم ، حتى عرفوا حديثه وأسلوبه وأنه مهما خلق فى سماء البلاغة ؛ فبينه وبين حديث القرآن وأسلوبه بعد ما بين مكانة الخالق وأفضل الخلق. وأنه ما كان ينبغى أن يفترى الكذب على الله ويدعى أنه أوحى إليه ولم يوح إليه ، على حين أنه معروف بينهم بأنه الصادق الأمين ، فما كان ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله. ثم أعلن القرآن أخيرا أن هذا الطلب إهمال منهم لمقتضى العقل والنظر ، وانحطاط إلى دركة الحيوان والحجر ، إذ قال لهم (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

٤٤

وإذا كان هذا مبلغ نعى القرآن على طلاب بدل للقرآن أو مثيل له من الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أفصح الناس لسانا وبيانا. وأعلمهم بمعانى القرآن ومقاصده ، وأعرفهم بأسرار الإسلام وروح تشريعه ؛ فما بالك بطلاب هذه الترجمة والساعين إليها ممن هم أقل شأنا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهما قيل فى علمهم وفضلهم وجلالة قدرهم؟.

(الوجه الثالث) أن محاولة هذه الترجمة تشجع الناس على انصرافهم عن كتاب ربهم ، مكتفين ببدل أو أبدال يزعمونها ترجمات له. وإذا امتد الزمان بهذه الترجمات فسيذهب عنها اسم الترجمة ويبقى اسم القرآن وحده علما عليها ، ويقولون : هذا قرآن بالانجليزية ، وذاك قرآن بالفرنسية ، وهكذا ، ثم يحذفون هذا المتعلق بعد ، ويجتزئون بإطلاق لفظ القرآن على الترجمة. ومن كان فى شك فليسأل متعارف الأمم فيما بين أيديهم من ترجمات. وما لنا نذهب بعيدا؟ فلنسائل أنفسنا نحن : ما بالنا نقول بملء فنا : هذه رواية ماجدولين ، لترجمتها العربية والأصل فرنسى ، وهذا إنجيل برنابا أو يوحنا لترجمتهما العربية والأصل غير عبرى ، إلى غير ذلك من إطلاقاتنا الكثيرة على ترجمات شتى فى الدين والعلم والأدب والقوانين والوثائق ونحوها.

وهاك شاهدا أبلغ من ذلك كله : جاء فى ملحق لمجلة الأزهر أن أهالى جاوه المسلمين ، يقرءون الترجمة الأفرنجية ويقرءونها أولادهم ويعتقدون أن ما يقرءون هو القرآن الصحيح اه فقل لى ـ بربك ـ ما الذى يمنع كل قطر من الأقطار الإسلامية وغير الإسلامية إذن أن يكون له قرآن من هذا الطراز ، لو ذهبنا إلى القول بجواز هذه الترجمة؟ وهل تشك بعد ذلك فى حرمة كل ما يؤدى إلى صرف الناس عن كتاب الله ، وإلى تفرقهم عنه وضلالهم فى مسماه؟

(الوجه الرابع) أننا لو جوزنا هذه الترجمة ، ووصل الامر إلى حد أن يستغنى الناس عن القرآن بترجماته ، لتعرض الأصل العربى للضياع كما ضاع الأصل العبرى للتوراة

٤٥

والإنجيل. وضياع الأصل العربى نكبة كبرى تغرى النفوس على ملاعب بدين الله تبديلا وتغييرا ، ما دام شاهد الحق قد ضاع ، ونور الله قد انطفأ ، والمهيمن على هذه الترجمات قد زال (لا قدر الله) ولا ريب أن كل ما يعرض الدين للتغيير والتبديل ، وكل ما يعرض القرآن للاهمال والضياع ، حرام باجماع المسلمين.

(لوجه الخامس) أننا إذا فتحنا باب هذه الترجمات الضالة ، تزاحم الناس عليها بالمناكب ، وعملت كل أمة وكل طائفة على أن تترجم القرآن فى زعمها بلغتها الرسمية والعامية ، ونجم عن ذلك ترجمات كثيرات لا عداد لها ، وهى بلا شك مختلفة فيما بينها ، فينشأ عن ذلك الاختلاف فى الترجمات ، خلاف حتمى بين المسلمين ، أشبه باختلاف اليهود والنصارى فى التوراة والانجيل. وهذا الخلاف يصدع بناء المسلمين ويفرق شملهم ، ويهيئ لأعدائهم فرصة للنيل منهم ، ويوقظ بينهم فتنة عمياء كقطع الليل المظلم ، فيقول هؤلاء لأولئك : قرآننا خير من قرآنكم ، وبرد أولئك على هؤلاء تارة بسب اللسان ، وأخرى بحد الحسام ، ويخرون ضحايا هذه الترجمات ، بعد أن كانوا بالأمس إخوانا يوحد بينهم القرآن ، ويؤلف بينهم الإسلام. وهذه الفتنة ـ لا أذن بها الله ـ أشبه بل هى أشد من الفتنة التى أوجس خيفة منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان. وأمر بسببها أن تحرق جميع المصاحف الفردية ، وأن يجتمع المسلمون على تلك المصاحف العثمانية الاجماعية.

(الوجه السادس) أن قيام هذه الترجمات الأئمة يذهب بمقوم كبير من مقومات وجود المسلمين الاجتماعى ، كأمة عزيزة الجناب قوية السناد ذلك أنهم سيقنعون غدا بهذه الترجمات كما قلنا. ومتى قنعوا بها فسيستغنون لا محالة عن لغة الأصل وعلومها وآدابها. وأنت تعلم والتاريخ يشهد ، أنها رباط من أقوى الروابط فيما بينها وكان لهذا الرباط أثره الفعال العظيم فى تدعيم وحدة الأمة وبنائها ، حين كانوا يقرءون القرآن نفسه ، ويدرسون من أجله علوم لغته العربية وآدابها ، تذرعا إلى حسن أدائه وفهمه ، حتى خدموا هذه العلوم ونبغوا فيها ، ولمع فى سمائها رجال من الأعجام بزوا كثيرا من أعلام

٤٦

العرب فى خدمتها وخدمة كتاب الله وعلومه بها. وبهذا قامت اللغة العربية لسانا عاما للمسلمين ، ورابطا مشتركا بينهم. على اختلاف أجناسهم ولغاتهم الإقليمية ؛ بل ذابت كثير من اللغات الإقليمية فى هذه اللغة الجديدة لغة القرآن الكريم.

وإن كنت فى ريب فسائل التاريخ عن وحدة المسلمين وعزتهم يوم كانت اللغة العربية صاحبة الدولة والسلطان فى الأقطار الإسلامية شرقية وغربية ، عربية وعجمية.

يوم كانت لغة التخاطب بينهم ، ولغة المراسلات ، ولغة الأذان والإقامة والصلوات ، ولغة الخطابة فى الجمع والأعياد والجيوش والحفلات ، ولغة المكاتبات الرسمية بين الخلفاء المسلمين وأمرائهم وقوادهم وجنودهم ، ولغة مدارسهم ومساجدهم وكتبهم ودواوينهم ونحن فى هذا العصر الذى زاحمتنا فيه اللغات الأجنبية وصارت حربا على لغتنا العربية ، حتى تبلبلت ألسنتنا وألسنة أبنائنا وخاصتنا وعامتنا ، يتأكد علينا أمام هذا الغزو اللغوى الجائح ، أن نحشد قوانا لحماية لغتنا والدفاع عن وسائل بقائها وانتشارها. وفى مقدمة هذه الوسائل إبقاء القرآن على عربيته ، والضرب على أيدى العاملين على ترجمته. وما ينبغى لنا أن نحطب فى حبلهم ، ولا أن نسايرهم فى قياس ترجمة القرآن بهذا المعنى على ترجمة غيره فى الجواز والإمكان. فأين الثرى من الثريا؟ وأين كلام العبد العاجز من كلام الله المعجز؟. وما أشبه هؤلاء بالمفتونين من أمة موسى حين جاوز الله بهم البحر وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)!.

جاء فى كتاب الرسالة للشافعى ما خلاصته : «إنه يجب على غير العرب أن يكونوا تابعين للسان العرب ، وهو لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميعا. كما يجب أن يكونوا تابعين له دينا ـ وأن الله تعالى قضى أن ينذروا بلسان العرب خاصة .. ثم قال : «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده ، حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله ، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير

٤٧

وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك وكلما ازداد من العلم باللسان الذى جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه ، كان خيرا له».

وجاء فى كتاب الرسالة أيضا أن المسور بن مخرمة رأى رجلا أعجمى اللسان أراد أن يتقدم للصلاة. فمنعه المسور بن مخرمة وقدم غيره ولما سأله عمر رضى الله عنه فى ذلك قال له : إن الرجل كان أعجمى اللسان وكان فى الحج ، فخشيت أن يسمع بعض الحاج قراءته فيأخذ بعجمته. فقال له عمر : أصبت. وقال الشافعى : «لقد أحببت ذلك». اه قال فى الكشاف «الأعجمى من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته ، فجاز أن يكون لسانه ألكن أو تكون لغته غريبة».

(الوجه السابع) أن الأمة أجمعت على عدم جواز رواية القرآن بالمعنى. وأنت خبير بأن ترجمة القرآن بهذا المعنى العرفى ، تساوى روايته بالمعنى فكلتاهما صيغة مستقلة وافية بجميع معانى الأصل ومقاصده ، لا فرق بينهما إلا فى القشرة اللفظية. فالرواية بالمعنى لغتها لغة الأصل. وهذه الترجمة لغتها غير لغة الأصل. وعلى هذا يقال إذا كانت رواية القرآن بالمعنى فى كلام عربى ممنوعة إجماعا ، فهذه الترجمة ممنوعة كذلك ، قياسا. على هذا المجمع عليه ، بل هى أحرى بالمنع ، للاختلاف بين لغتها ولغة الأصل.

(الوجه الثامن) أن الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين ، تواضعوا على أن الأعلام لا يمكن ترجمتها ، سواء أكانت موضوعة لأشخاص من بنى الإنسان ، أم لأفراد من الحيوان ، أم لبلاد وأقاليم ، أم لكتب ومؤلفات. حتى إذا وقع علم من هذه الأعلام أثناء ترجمة ما ، ألفيته هو هو ثابتا لا يتغير ، عزيزا لا ينال ، متمتعا بحصانته العلمية ، لا ترزؤه الترجمة شيئا ، ولا تنال منه منالا ـ وما ذاك إلا لأن واضعى هذه الأعلام قصدوا ألفاظها بذاتها ، واختاروها دون سواها الدلالة على مسمياتها فكذلك القرآن الكريم علم ربانى قصد الله سبحانه ألفاظه دون غيرها. وأساليبه دون سواها ، لتدل على هداياته وليؤيد بها

٤٨

رسوله ، وليتعبد بتلاوتها عباده. وكان سبحانه حكيما فى هذا التخصيص والاختيار ، لمكان الفضل والامتياز فى هذه الأساليب والألفاظ المختارة.

ومن تفقه فى أساليب اللغة العربية ، وعرف أن لخفة الألفاظ على الأسماع وحسن جرمها فى النفوس مدخلا فى فصاحة الكلام وبلاغته ، أيقن أن القرآن فذ الأفذاذ فى بابه ، وعلم الأعلام فى بيانه لأن ما فيه من الأساليب البلاغية والموسيقى اللفظية ، أمر فاق كل فوق ، وخرج عن كل طوق (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى .. بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) ، فأنى لمخلوق بعد هذا أن يحاكيه بترجمة مساوية أو مماثلة (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

دفع الشبهات الواردة على منع هذه الترجمة

الشبهة الأولى ودفعها :

يقولون : إن تبليغ هداية القرآن إلى الأمم الأجنبية واجب ؛ لما هو معروف من أن الدعوة إلى الإسلام عامة لا تختص بجيل ولا بقبيل. وهذا التبليغ الواجب يتوقف على ترجمة القرآن لغير العرب بلغاتهم ، لأنهم لا يحذقون لغة العرب بينما القرآن عربى. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ونجيب على هذه الشبهة (أولا) بأن هذا التبليغ لا يتوقف على ترجمة القرآن لهم تلك الترجمة العرفية ، الممنوعة بل يمكن أن يحصل بترجمته على المعنى اللغوى السالف وهو تفسيره بغير لغته على ما شرحناه آنفا. ويمكن أن يكون تبليغهم هداية القرآن وتعاليمه ، ومحاسن الإسلام ومزاياه. ودفع الشبهات التى تعترضهم فى ذلك. إما بمحادثات شفهية ، وإما بمؤلفات على شكل ، وسائل تنشر ، أو مجلات تذاع ، أو كتب تطبع ، يختار الداعى من ذلك ما هو أنسب بحال المدعوين ، وما هو أيسر له وأنجح لدعوته فيهم.

(٤ ـ مناهل العرفان ٢)

٤٩

(ثانيا) أن الله تعالى لم يكلفنا بالمستحيل (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). وقد أشبعنا القول فى بيان استحالة ترجمة القرآن بذلك المعنى العرفى استحالة عادية. فواضح ألا يكلفنا الله إياها.

(ثالثا) أن القول بوجوب هذه الترجمة يستلزم المحال ؛ وهو التناقض فى أحكام الله تعالى. ذلك أن الله حرمها كما تقرر من قبل ، فكيف يستقيم القول بأنه أوجبها ، مع أن الحاكم واحد وهو الله ، ومحل الحكم واحد وهو الترجمة ، والمحكوم عليه واحد وهم المكلفون فى كل زمان ومكان.

(رابعا) أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أعرف الناس بأحكام الله وأنشط الخلق فى الدعوة إلى الله ، لم يتخذ هذه الترجمة وسيلة إلى تبليغ الأجانب مع أنه قد دعا العرب والعجم ، وكاتب كسرى وقيصر ، وراسل المقوقس والنجاشى. وكانت جميع كتبه لهم عربية العبارة ، ليس فيها آية واحدة مترجمة ، فضلا عن ترجمة القرآن كله وكان كل ما فى هذه الكتب دعوة صريحة جريئة إلى نبذ الشرك واعتناق التوحيد والاعتراف برسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوب طاعته واتباعه وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدفع كتبه هذه إلى سفراء يختارهم من أصحابه فيؤدونها على وجهها ، وهؤلاء الملوك والحكام قد يدعون تراجم يفسرونها لهم ، وقد يسألون السفراء ومن يتصل بهم عن تعاليم الإسلام ، وشمائل نبى الإسلام ، وصفات الذين اتبعوه ، ومدى نجاح هذه الرسالة مما عساه أن يلقى ضوءا على حقيقة الدعى ودعوته. انظر حديث هرقل فى أوائل صحيح البخارى.

(خامسا) أن الصحابة رضوان الله عليهم ، وهم مصابيح الهدى وأفضل طبقة فى سلف هذه الأمة الصالح ، وأحرص الناس على مرضاة الله ورسوله ، وأعرفهم بأسرار الإسلام وروح تشريعه ، لم يفكروا يوما ما فى هذه الترجمة ، فضلا عن أن يحاولوها أو يأتوها.

بل كان شأنهم الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعون بالوسائل التى دعا بها ، على نشاط رائع

٥٠

عجيب فى النشر والدعوة والفتح فلو كانت هذه الترجمة العرفية من مواجب الإسلام لكان أسرع الخلق إليها رسول الله وأصحابه. ولو فعلوه لنقل وتواتر ، لأن مثله مما تتوافر الدواعى على نقله وتواتره.

الشبهة الثانية ودفعها

يقولون : إن كتبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العظماء من غير العرب يدعوهم إلى الإسلام ، تستلزم إقراره على ترجمتها ؛ لأنها مشتملة على قرآن وهم أعجام ، ولأن الروايات الصحيحة ذكرت فى صراحة أن هرقل وهو من هؤلاء المدعوين ، دعا ترجمانه فترجم له الكتاب النبوى وفيه قرآن.

والجواب أن هذه الكتب النبوية لا تستلزم إقرار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تلك الترجمة العرفية الممنوعة. بل هى إذا استلزمت فإنما تستلزم الإقرار على نوع جائز من الترجمة وهو التفسير بغير العربية ، لأن التفسير بيان ولو من وجه وهو كاف فى تفهم مضمون الرسائل المرسلة. على أن هذه الرسائل الكريمة لم تشتمل على القرآن كله ، ولا على آيات كاملة منه. بل كل ما فيها مقتبسات نادرة جدا ولا ريب أن المقتبسات من القرآن ليس لها حكم القرآن.

وهاكم نماذج تتبينون منها مبلغ هذه الحقيقة :

فكتابة صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي ارسله مع دحية بن خليفه الكلبي الى هرقل ، هذا نصه :

«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله الى هرقل عظيم الروم.

سلام على من اتبع الهدى ـ اما بعد فأني ادعوك بدعاية الاسلام اسلم تسلم يؤتك الله اجرك مرتين. وان توليت فإنما عليك إثم الآريسيين (اي الفلاحين) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا

٥١

تعالوا إلى كلمة سواء بينا وبينكم : ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».

فأنت تزى أن ما فى هذا الكتاب من القرآن لم يبلغ آية تامة ، لأن الآية مبتدأة بقوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) ولكن الكتاب حذف منه لفظ (قل) وزيد فيه حرف الواو ، والحذف والزيادة دليلان ماديان على الاقتباس.

٢ ـ وكتابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى بعث به مع عبد الله بن حذافة إلى كسرى ، هذا نصه : «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله. ادعوك بدعاية الله ، فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة ، لأنه من كان حيا ويحق القول على الكافرين. أسلم تسلم. فإن توليت فعليك إثم المجوس».

فأنت ترى فى هذه الرسالة النبوية أنها اشتملت على كلمة لأنذر من كان حيا ويحقّ القول على الكافرين ، على حين أن نص الآية فى القرآن الكريم ، (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) وهذا دليل الاقتباس.

٣ ـ وقل مثل ذلك فى سائر رسائله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كتابه إلى المقوقس هو نص كتابه إلى هرقل ، لا فرق بينهما إلا فى كلمة (الاريسيين) إذ أبدلت بها كلمة (القبط) ، وإلا فى اسم المرسل إليه ومكانته كما هو واضح.

٤ ـ وكذلك كتابه إلى جيفر وعبد ملكى عمان ، ليس فيه إلا كلمة لأنذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين. وهى التى فى رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى كسرى. (١)

__________________

(١) راجع فى ذلك ما كتبه الزرقانى على المواهب (ص ٣٢٦ ـ ٣٦٩ ج ٣) والسيرة الحلبية (ص ٣٦٢ ـ ٣٧٨ ج ٢). وكتاب العلم من صحيح البخارى.

٥٢

الشبهة الثالثة ودفعها

يقولون : إن جميع المحذورات التى تخشى من الترجمة موجودة فى التفسير باللفظ العربى نفسه. وقد أجمعت الأمة على عدم التحاشى عن هذه المحذورات ، فيجب ألا يتحاشى عنها فى الترجمة أصلا. إذ لا فرق بين التعبير باللفظ العربى والتعبير باللفظ العجمى عن المراد بالآيات ، بعد أن يكون المعبر والمفسر والمترجم مستكملا للشروط والمؤهلات الواجبة لمن يعرض نفسه للتفسير والترجمة.

والجواب أنهم إن أرادوا بالترجمة فى كلامهم تلك الترجمة العرفية ، فقد بسطنا من وجوه المحذورات فيها ما جعلها حجرا محجورا ، وإنما محظورا ورسمنا من الفروق ما جعل بينها وبين التفسير بونا بعيدا ؛ سواء أكانت هى ترجمة حرفية أم تفسيرية ، وسواء أكان هو تفسيرا بلغة الأصل أم بغير لغة الأصل.

وإن أرادوا بالترجمة فى كلامهم تلك الترجمة اللغوية على معنى التفسير بلغة أجنبية ، فكلامهم فى محل التسليم والقبول ، ولكن لا يجوز أن تخاطب العرف العالمى العام بهذا الإطلاق اللغوى الخاص بنا لأنه لا يعرفه.

الشبهة الرابعة ودفعها

يقولون : إن الترجمة العرفية للقرآن إذا تعذرت بالنسبة إلى معانية التابعة ، فإنها تمكن بالنسبة إلى معانيه الأصلية. وعلى هذا فلنترجم القرآن بمعنى أننا ننقل معانيه الأصلية وحدها. لا سيما أنها هى المشتملة على الهداية المقصودة منه دون معانيه التابعة.

ونجيب على هذه الشبهة (أولا) بأن نقل معانى القرآن الأصلية لا يسمى ترجمة للقرآن عرفا ، لأن مدلول ألفاظ القرآن مؤلف من المعانى الأصلية والتابعة. فترجمته نقل معانيه كلها لا فرق بين ما كان منها أوليا وما كان ثانويا ، ونقل مقاصده كلها كذلك. ومحال

٥٣

نقل جميع هذا كما سبق. وعلى هذا لا يجوز أن يعتبر مجرد نقل المعانى الأصلية دون التابعة ودون بقية مقاصده ترجمة له. اللهم إلا إذ جاز أن تسمى يد الإنسان إنسانا ، ورجل الحيوان حيوانا.

ثم إن إطلاق الترجمة على هذا المعنى المراد ، لو كان مقصورا على قائليه ولم يتصل بالعرف العام ، لهان الخطب وسهل الأمر ، وأمكن أن يلتمس وجه للتجوز ولو بعيدا. ولكن العرف الذى نخاطبه لا يفهم من كلمة ترجمة إلا أنها صورة مطابقة للأصل ، وافية بجميع معانيه ومقاصده ، لا فرق بينهما إلا فى القشرة اللفظية. فإذا نحن نقلنا المعانى الأصلية للقرآن وحدها ، ثم قلنا لأهل هذا العرف العالمى العام : هذه هى ترجمة القرآن ، نكون قد ضللنا أهل هذا العرف من ناحية ، ثم نكون قد بخسنا القرآن حقه من الإجلال والإكبار من ناحية أخرى ، فزعمنا أن له مثلا يناصيه ، وشبيها يحاكمه ، على حين أن الذى جئنا به ما هو إلا صورة مصغرة لجزء منه ، وبين هذه الصورة وجلال الأصل مراحل شتى ، كالذى يصور الجزء الأسفل من إنسان عظيم ، ثم يقول للناس : هذه صورة فلان العظيم (ثانيا) أن تلك المعانى التابعة الثانوية ، فياضة بهدايات زاخرة ، ومعارف واسعة ، فلا نسلم أن معانى القرآن الأولية وحدها هى مصدر هداياته. وارجع إلى ما ذكرناه سابقا فى هذا الصدد ، فإن فيه الكفاية.

الشبهة الخامسة ودفعها :

يقولون إن الذين ترجموا القرآن إلى اللغات الأجنبية ، غيروا معانيه ، وشوهوا جماله ، وأخطئوا أخطاء فاحشة ، فإذا نحن ترجمنا القرآن بعناية ، أمكن أن نصحح لهم تلك الأخطاء ، وأن نرد إلى القرآن الكريم اعتباره فى نظر أولئك الذين يقرءون تلك الترجمات الضالة ، وأن نزيل العقبات التى وضعت فى طريقهم إلى هداية الإسلام ؛ وبذلك نكون قد أدينا رسالتنا فى النشر والدعوة إلى هذا الدين الحنيف

٥٤

ونجيب على هذا بان الذين زعموا أنهم ترجموا القرآن ترجمة عربية شوهوا جماله وغضوا مقامه باعترافكم. فإن أنتم ترجمتم ترجمتهم وحاولتهم محاولتهم فستقعون لا محالة فى قريب مما وقعوا فيه ، وستمسون بدوركم عظمة هذا القرآن وجلاله ، مهما بالغتم فى الحيطة ، وأمعنتم فى الدقة ، ونبغتم فى العلم ، وتفوقتم فى الفهم ، لأن القرآن أعز وأمنع من أن تناله ريشة أى مصور كان ، من إنس أو جان كما بينا ذلك أو فى بيان.

أما إذا حاولتم ترجمة القرآن على معنى تفسيره بلغة أجنبية ، فذلك موقف آخر ، نؤيدكم فيه ، ونوافقكم عليه ، وندعو القادرين معكم إليه.

الشبهة السادسة ودفعها :

يقولون : جاء فى صريح السنة ما يؤيد القول بجواز ترجمة القرآن فقد قال الشر بنلالى فى كتابه «النفحة القدسية» ما نصه :

«روى أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسى أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية ، فكتب لهم. «بسم الله الرحمن الرحيم ـ بنام يزدان بخشايند» فكانوا يقرءون ذلك فى الصلاة حتى لانت ألسنتهم. وبعد ما كتب عرضه على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كذا فى المبسوط.

قاله فى النهاية والدراية».

ونجيب على هذا من وجوه : (أولها) أن هذا خبر مجهول الأصل ، لا يعرف له سند ، فلا يجوز العمل به ، (ثانيها) أن هذا الخبر لو كان لنقل وتواتر ، لأنه مما تتوافر الدواعى على نقله وتواتره. (ثالثها) أنه يحمل دليل وهنه فيه. ذلك أنهم سألوه أن يكتب لهم ترجمة الفاتحة فلم يكتبها لهم. إنما كتب لهم ترجمة البسملة : ولو كانت الترجمة ممكنة وجائزة ، لأجابهم إلى ما طلبوا وجوبا ، وإلا كان كانما وكاتم العلم ملعون.

(رابعها) أن المتأمل فى هذا الخبر يدرك أن البسملة نفسها لم نترجم لهم كاملة ، لأن هذه

٥٥

الألفاظ التى ساقتها الرواية على أنها ترجمة للبسملة لم يؤت فيها بلفظ مقابل للفظ «الرحمن». وكأن ذلك لعجز اللغة الفارسية عن وجود نظير فيها لهذا الاسم الكريم. وهذا دليل مادى على أن المراد بالترجمة هنا الترجمة اللغوية لا العرفية ، على فرض ثبوت الرواية.

(خامسها) أنه قد وقع اختلاف فى لفظ هذا الخبر بالزيادة والنقص وذلك موجب لاضطرابه ورده والدليل على هذا الاضطراب أن النووى فى المجموع نقله بلفظ آخر هذا نصه : «إن قوما من أهل فارس طلبوا من سلمان أن يكتب لهم شيئا من القرآن ، فكتب لهم الفاتحة بالفارسية».

وبين هذه الرواية وتلك مخالفة ظاهرة ، إذ أن هذه ذكرت الفاتحة وتلك ذكرت البسملة بل بعض البسملة. ثم إنها لم تعرض لحكاية العرض على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أما تلك فعرضت له

(سادسها) أن هذه الرواية على فرض صحتها معارضة للقاطع من الأدلة السابقة القائمة على استحالة الترجمة وحرمتها. ومعارض القاطع ساقط.

حكم قراءة الترجمة والصلاة بها

تكاد كلمة الفقهاء تتفق على منع قراءة ترجمة القرآن بأى لغة كانت فارسية أو غيرها ، وسواءً كانت قراءة هذه الترجمة فى صلاة أم فى غير صلاة. لو لا خلاف واضطراب فى بعض نقول الحنفية.

وإليك نبذا من أقوال الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، تتنور بها فى ذلك :

مذهب الشافعية :

١ ـ قال فى المجموع (ص ٣٧٩ ج ٣) : مذهبنا ـ أى الشافعية ـ أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب ، سواء أمكنته العربية أم عجز عنها ، وسواءً كان فى

٥٦

الصلاة أم فى غيرها. فإن أتى بترجمته فى صلاة بدلا عنها لم تصح صلاته ، سواء أحسن القراءة أم لا. وبه قال جماهير العلماء ، منهم مالك وأحمد وأبو داود».

٢ ـ وقال الزركشى فى البحر المحيط : «لا تجوز ترجمة القرآن بالفارسية ولا بغيرها ، بل تجب قراءته على الهيئة التى يتعلق بها الإعجاز. لتقصير الترجمة عنه ، ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذى خص به دون سائر الألسن.

٣ ـ وجاء فى حاشية ترشيح المستفيدين (ص ٥٢ ج ١) : من جهل الفاتحة لا يجوز له أن يترجم عنها ، لقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) والعجمى ليس كذلك. وللتعبد بألفاظ القرآن.

٤ ـ وجاء فى الإتقان للسيوطى : «لا تجوز قراءة القرآن بالمعنى لأن جبريل أداه باللفظ ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى»

مذهب المالكية :

١ ـ جاء فى حاشية الدسوقى على شرح الدردير للمالكية (ص ٢٣٢ ـ ٢٣٦ ج ١). «لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية. بل لا يجوز التكبير فى الصلاة بغيرها ولا بمرادفه من العربية. فإن عجز عن النطق بالفاتحة بالعربية وجب عليه أن يأتم بمن يحسها. فإن أمكنه الائتمام ولم يأتم بطلت صلاته. وإن لم يجد إماما سقطت عنه الفاتحة ، وذكر الله تعالى وسبحه بالعربية وقالوا : على كل مكلف أن يتعلم الفاتحة بالعربية وأن يبذل وسعه فى ذلك ، ويجهد نفسه فى تعلمها وما زاد عليها ، إلا أن يحول الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذر».

٢ ـ وجاء فى المدونة (ص ٦٢ ج ١) : «سألت ابن القاسم عمن افتتح الصلاة بالاعجمية وهو لا يعرف العربية : ما قول مالك فيه؟ فقال : سئل مالك عن الرجل يحلف بالعجمية فكره ذلك وقال. أما يقرأ؟ أما يصلى؟ إنكارا لذلك» أى ليتكلم بالعربية

٥٧

لا بالعجمية. قال : وما يدريه الذى قال ، أهو كما قال؟. أى الذى حلف به أنه هو الله ، ما يدريه أنه هو أم لا. قال : قال مالك : «أكره أن يدعو الرجل بالعجمية فى الصلاة ولقد رأيت مالكا يكره العجمى أن يحلف بالعجمى ويستثقله. قال ابن القاسم : وأخبرنى مالك أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه نهى عن رطانة الأعاجم ؛ وقال : إنها خب أى خبث وغش».

مذهب الحنابلة :

١ ـ قال فى المغنى (ص ٥٢٦ ج ١) : «ولا تجزئة القراءة بغير العربية ، ولا إبدال لفظ عربى ، سواء أحسن القراءة بالعربية أم لم يحسن. ثم قال : فإن لم يحسن القراءة بالعربية لزمه التعلم فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته».

٢ ـ وقال ابن حزم الحنبلى فى كتابه المحلى (ص ٢٥٤ ج ٣ «من قرأ أم القرآن او شيئا منها أو شيئا من القرآن فى صلاته مترجما بغير العربية ، أو بألفاظ عربية غير الألفاظ التى أنزل الله تعالى ، عامدا لذلك ؛ أو قدم كلمة أو أخرها عامدا لذلك ؛ بطلت صلاته ، وهو فاسق ؛ لأن الله تعالى قال : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، وغير العربى ليس عربيا ؛ فليس قرآنا ، وإحالة عربية القرآن تحريف لكلام الله. وقد ذم الله تعالى من فعلوا ذلك فقال : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ).

ومن كان لا يحسن العربية فليذكر الله تعالى بلغته لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). ولا يحل له أن يقرأ أم القرآن ولا شيئا من القرآن مترجما على أنه الذى افترض عليه أن يقرأه ، لأنه غير الذى افترض عليه ، كما ذكرنا ، فيكون مفتريا على الله».

مذهب الحنفية :

اختلفت نقول الحنفية فى هذا المقام ، واضطرب النقل بنوع خاص عن الإمام. ونحن نختصر لك الطريق بإيراد كلمة فيها تلخيص للموضوع ، وتوفيق بين النقول ، اقتطفناها من

٥٨

مجلة الأزهر (ص ٣٢ و ٣٣ و ٦٦ و ٦٧ من المجلد الثالث) بقلم عالم كبير من علماء الأحناف. إذ جاء فيها باختصار وتصرف ما يلي :

أجمع الأئمة على أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة. ويمنع فاعل ذلك أشد المنع ، لأن قراءته بغيرها من قبيل التصرف فى قراءة القرآن بما يخرجه عن إعجازه ، بل بما يوجب الركاكة.

وأما القراءة فى الصلاة بغير العربية فتحرم إجماعا للمعنى المتقدم لكن لو فرض وقرأ المصلى بغير العربية ، أتصح صلاته أم تفسد؟.

ذكر الحنفية فى كتبهم أن الإمام أبا حنيفة كان يقول أولا : إذا قرأ المصلى بغير العربية مع قدرته عليها اكتفى بتلك القراءة. ثم رجع عن ذلك وقال : (متى كان قادرا على العربية ففرضه قراءة النظم العربى. ولو قرأ بغيرها فسدت صلاة لخلوها من القراءة مع قدرته عليها ، والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا).

ورواية رجوع الإمام هذه تعزى إلى أقطاب فى المذهب. منهم نوح بن مريم ، وهو من أصحاب أبى حنيفة ، ومنهم على بن الجعد ، وهو من أصحاب أبى يوسف. ومنهم أبو بكر الرازى ، وهو شيخ علماء الحنفية فى عصره بالقرن الرابع.

ولا يخفى أن المجتهد إذا رجع عن قوله ، لا يعد ذلك المرجوع عنه قولا له ، لأنه لم يرجع عنه إلا بعد أن ظهر له أنه ليس بصواب. وحينئذ لا يكون فى مذهب الحنفية قول بكفاية القراءة بغير العربية فى الصلاة للقادر عليها ، فلا يصح التمسك به ، ولا النظر إليه ، لا سيما أن إجماع الأئمة ـ ومنهم أبو حنيفة ـ صريح فى أن القرآن اسم للفظ المخصوص الدال على المعنى ، لا للمعنى وحده.

أما العاجز عن قراءة القرآن بالعربية فهو كالأمى فى أنه لا قراءة عليه. ولكن إذا فرض أنه خالف وأدى القرآن بلغة أخرى ، فإن كان ما يؤديه قصة أو أمرا أو نهيا فسدت

٥٩

صلاته ، لأنه متكلم بكلام وليس ذكرا. وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها لا تفسد صلاته ، لأن الذكر بأى لسان لا يفسد الصلاة لا لأن القراءة بترجمة القرآن جائزة ، فقد مضى القول بأن القراءة بالترجمة محظورة شرعا على كل حال.

توجيهات وتعليقات

جاء فى كلام بعض الأئمة وأقطاب علماء الأمة ، ما أوقع بعض كبار الباحثين فى اشتباه. لذلك نرى إتماما للبحث ، وتمحيصا للحقيقة ، أن نسوق نماذج من هذا الكلام ، ثم نتبعها بما نعتقده توجيها لها ، أو تعليقا عليها.

١ ـ كلمة للإمام الشافعى

جاء فى كتاب الأم للشافعى رحمه‌الله ، تحت عنوان : (إمامة الأعجمى) ص ١٤٧ ج ١ ما نصه : «وإذا ائتموا به ، فإن اقاما معا أم القرآن ، ولحن أو نطق أحدهما بالأعجمية أو لسان أعجمى فى شىء من القرآن غيرها ، أجزأته ومن خلفه صلاتهم ، إذا كان أراد القراءة لما نطق به من عجمة ولحن. فإن أراد به كلاما غير القراءات فسدت صلاته» اه.

قالوا فى بيان مراد الشافعى من كلمته هذه : «ومراده أن الإمام والمؤتم إذا أحسنا قراءة الفاتحة ، ثم لحن أو نطق أحدهما بلهجة أعجمية أو لغة أعجمية فى شىء من القرآن غير الفاتحة ، لا تبطل صلاتهما. والمراد من الأعجمية اللهجة ، ومن اللسان اللغة ، كما هو استعماله فى هذه المواطن. فهذا النص يدل على أن اللسان الأعجمى بعد قراءة المفروض عنده ـ وهو الفاتحة ـ لا يبطل الصلاة. وهو موافق للحنفية فى هذا» اه.

٦٠