مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ. أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). وقال جل جلاله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وقال عز من قائل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ، وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). وقال تعالت حكمته (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) إلى غير ذلك من آيات كثيرة.

وأمّا وضوح هذه الهداية : فلعرضها عرضا رائعا مؤثرا ، توافرت فيه كل وسائل الإيضاح وعوامل الإقناع : أسلوب فذ معجز فى بلاغته وبيانه. واستدلال بسيط عميق يستمد بساطته وعمقه من كتاب الكون الناطق وأمثال خلابة تخرج أدق المعقولات فى صورة أجلى الملموسات. وحكم بالغات تبهر الألباب بمحاسن الإسلام وحلال التشريع.

وقصص حكيم مختار يقوى الإيمان واليقين ، ويهذب النفوس والغرائز ويصقل الأفكار والعواطف ، ويدفع الإنسان دفعا إلى التضحية والنهضة ويصور له مستقبل الأبرار والفجار ، تصويرا يجعله كأنه حاضر تراه الأبصار فى رابعة النهار. والأمثلة على ذلك كثيرة فى القرآن ، يخرجنا استعراضها عما نحن بسبيله الآن.

والمهم أن نعلم فى هذا المقام أن الهدايات القرآنية الكريمة ، منها ما استفيد من معانى القرآن الأصلية ، ومنها ما استفيد من معانيه التابعة ، أما القسم الأول فواضح لا يحتاج إلى تمثيل ، وهو موضع اتفاق بين الجميع. وأما القسم الثانى ففيه دقة جعلت بعض الباحثين يجادل فيه وإنا نوضحه لك بأمثلة نستمدها من فاتحة الكتاب العزيز :

منها : استفادة أدب الابتداء بالبسملة فى كل أمر ذى بال ، أخذا من ابتداء الله كتابه بها ، ومن افتتاحه كل سورة من سوره بها عدا سورة التوبة.

٢١

ومنها : استفادة أن الاستعانة فى أى شىء لا تستمد إلا من اسم الله وحده ، أخذا من إضافة الاسم إلى لفظ الجلالة موصوفا بالرحمن الرحيم ، ومن القصر المفهوم من البسملة على تقدير عامل الجار والمجرور متأخرا ، ومن تقدير هذا العامل عاما لا خاصا.

ومنها : استفادة الاستدلال على أن الحمد مستحق لله بأمور ثلاثة : تربيته تعالى للعوالم كلها ، ورحمته الواسعة التى ظهرت آثارها وتأصل اتصافه تعالى بها ، وتصرفه وحده بالجزاء العادل فى يوم الجزاء. وذلك أخذا من جريان هذه الأوصاف على اسم الجلالة فى مقام حمده بقوله سبحانه. (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

ومنها : استفادة التوحيد بنوعيه توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية من القصر الماثل فى قوله سبحانه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

ومنها : استفادة دليل هذا التوحيد من الآيات السابقة عليه ووقوعه هو فى سياقها عقيبها كما تقع النتيجة عقب مقدماتها.

ومنها : استفادة أن الهداية إلى الصراط المستقيم هى المطمع الأسمى الذى يجب أن يرمى إليه الناس ويتنافس فيه المتنافسون. يدل على ذلك اختيارها والاقتصار على طلبها والدعاء بها ، ثم انتهاء سورة الفاتحة بها كما تنتهى البدايات بمقاصدها.

ومنها : استفادة أن الهداية لا يرجى فيها إلا الله وحده ، لأنها انتظمت مع آيات التوحيد قبلها فى سمط واحد.

ومنها : استفادة أدب من الآداب ، هو أن يقدم الداعى ثناء الله على دعائه ، استنتاجا من ترتيب هذه الآيات الكريمة ، حيث تقدم فيها ما يتصل بحمد الله وتمجيده وتوحيده ، على ما يتصل بدعائه واستهدائه.

هذه أمثلة اقتبسناها من سورة الفاتحة ونحن لا نظن أن أحدا يخاصم فيها. وهاك مثالين مما وقع فيه خلاف العلماء :

٢٢

(المثال الأول) استفادة وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء فى الطهارة ، أخذا من مخالفة مقتضى الظاهر فى ذكر هذه الأعضاء بآية الوضوء ، إذ يقول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ، وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). فأنت ترى أنه ـ تعالت حكمته ـ ذكر الرأس وهو ممسوح بين الأعضاء الأخرى وهى مغسولة ، وكان مقتضى الظاهر أن تتصل المغسولات بعضها ببعض وتذكر قبل الممسوح أو بعده لأن المغسولات متماثلة ، والعرب لا تفصل بين المتماثلات إلا لحكمة. والحكمة هنا هى إفادة وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء فى الطهارة. على نمط الترتيب الماثل فى هذه الآية.

وثمة وجه آخر لاستفادة حكم هذا الترتيب أيضا. ذلك أن الآية المذكورة لم تعرض فيها أعضاء الوضوء مرتبة ترتيبا تصاعديا ولا ترتيبا تنازليا ، فلم يبدأ فيها بالأعالى متبوعة بالأسافل ولا بالأسافل متبوعة بالأعالى ، بل ذكر فيها عال ثم سافل ثم أعلى ثم أسفل ، وذلك خلاف مقتضى الظاهر ، ومثله لا يصدر فى لغة العرب إلا لحكمة وما الحكمة هنا فيما نفهم إلا إفادة وجوب الترتيب فى الوضوء. وبهذا قال الشافعية والحنابلة وإن خالفهم الحنفية والمالكية.

(المثال الثانى) استفادة وجوب مسح ربع الرأس فى الوضوء ، أخذا من مخالفة مقتضى الظاهر أيضا فى قوله سبحانه : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) حيث دخلت باء الجر على الرءوس وهى الممسوحة ، مع أن الظاهر كان يقتضى دخولها على آلة المسح وهى راحة اليد ، ولكن مخالفة هذا الظاهر فى كلام عربى بليغ ، دلتنا على أنه نزل الرأس منزلة آلة المسح إرشادا إلى أن اليد توضع على الرأس وتحرك عليه كأننا مسحنا اليد بالرأس. وبهذه الطريقة تتمسح الناصية عادة ، وهى تقدر بربع الرأس ، فالواجب إذن هو مسح ربع الرأس ، وبهذا أخذ الحنفية ، وإن خالفهم الأئمة الثلاثة (رضوان الله عليهم أجمعين).

٢٣

ولسنا هنا بصدد مقارنات فقهية أو موازنات مذهبية ؛ حتى نناصر رأيا على رأى أو نرجح فهما على فهم. فحسبنا فى هذا الموضوع بيان دلالة نظم القرآن الكريم باعتبار معانيه الثانوية على هدايات متنوعة من عقائد وأحكام وآداب وأدلة ولطائف ، وإن اختلفت الناس فى إدراكها على مقدار اختلاف مواهبهم واستعدادهم ، لأن هذه المعانى الثانوية دقيقة الطرق ، لطيفة المسالك ، ومن شأن الدقائق واللطائف أن يكون مجال التفاوت بين الفاهمين لها بعيدا. بخلاف دلالة نظم القرآن الكريم على هداياته باعتبار معانيه الأصلية فإنها واضحة قل أن يقع فيها تفاوت أو خلاف ، لأن هذه المعانى ـ كما قررنا ـ يستوى فيها العربى والعجمى ، والحضرى والبدوى ، والذكى والغبى.

واعلم أن قرآنية القرآن وامتيازه ، ترتبط بمعانيه الثانوية وما استفيد منها ، أكثر مما ترتبط بمعانيه الأصلية وما استفيد منها ، للاعتبارات الآنفة ، ولأن المعانى الأصلية ضيقة الدائرة محدودة الأفق ، أما المعانى الثانوية فبحر زاخر متلاطم الأمواج ، تتجلى فيها علوم الله وحكمته وعظمته الإلهية ، وتظهر منها فيوضات الله وإلهاماته العلوية على من وهبهم هذه الفيوضات والإلهامات من عباده المصطفين وورثة كلامه المقربين ، وأهل الذوق والصفاء من العلماء العاملين ، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه آمين.

إعجاز القرآن :

المقصد الثانى من نزول القرآن الكريم ، أن يقوم فى فم الدنيا آية شاهدة برسالة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يبقى على جبهة الدهر معجزة خالدة تنطق بالهدى ودين الحق ظاهرا على الدين كله!. ووجوه إعجاز القرآن كثيرة نفصلها فى مبحثها إن شاء الله. بيد أنا ننبهك هنا إلى أن بلاغته العليا وجه بارز من هذه الوجوه. بل هى أبرز وجوهه وجودا ، وأعظمها أفرادا ، لأن كل مقدار ثلاث آيات قصار معجز ، ولو كان هذا

٢٤

المقدار من آية واحدة طويلة. فقد تحدى الله أئمة البيان أن يأتوا بسورة من مثله ، وأقصر سورة هى سورة الكوثر ، وآياتها ثلاث قصار. وإذا كان أئمة البيان فى عصر ازدهاره والنباغة فيه قد عجزوا فسائر الخلق أشد عجزا. ولقد فرغنا من أن بلاغة القرآن منوطة بما اشتمل عليه من الخصوصيات والاعتبارات الزائدة وأنت خبير بأنها سارية فيه سريان الماء فى العود الأخضر أو سريان الروح فى الجسم الحى ، وأن نظم القرآن الكريم مصدر لهداياته كلها سواء منها ما كان طريقه هيكل النظم ، وما كان طريقه تلك الخصوصيات الزائدة عليه. وهنا يطالعك العجب العاجب حين تجد دليل صدق الهداية الإسلامية قد آخاها ؛ واتحد مطلعهما فى سماء القرآن فأداه وأداها!!.

التعبد بتلاوة القرآن :

المقصد الثالث من نزول القرآن أن يتعبد الله خلقه بتلاوته ، ويقربهم إليه ويأجرهم على مجرد ترديد لفظه ولو من غير فهمه ، فإذا ضموا إلى التلاوة فهما زادوا أجرا على أجر ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف» رواه الترمذى وقال : حسن صحيح. وروى الحاكم مثله مرفوعا وقال : صحيح الإسناد وجاء فى حديث آخر عن أنس أنه قال : أفضل عبادة أمتى قراءة القرآن وسنده ضعيف غير أنه يتقوى بغيره ثم إن هذه خصيصة امتاز بها القرآن ، أما غيره فلا أجر على مجرد تلاوته ، بل لا بد من التفكر فيه وتدبره ، حتى الصلاة التى هى عماد الدين ، ليس للمرء من ثوابها إلا بمقدار ما عقل منها ..

٢٥

وإنما انفرد القرآن بهذه المزية لحم سامية ، وفوائد ذات شأن :

(أولها) توفير عامل مهم من عوامل المحافظة على القرآن وبقائه مصونا من التغيير والتبديل اللذين أصابا كتب الله من قبل. ذلك أن هذا الأجر العظيم الذى وعده الله من يتلو كتابه العزيز ولو غير متفهم لمعانيه ، من شأنه أن يجب الناس فى قراءة القرآن ويدفعهم إلى الإكثار منها ، ويحركهم إلى استظهاره وحفظه. ولا ريب أن انتشار القراءة والقراء والحفاظ ، يجعل القرآن كثير الدوران على الألسنة ، واضح المعالم فى جميع الأوساط والطبقات ، وهنا لا يجرؤ أحد على تغيير شىء فيه ، وإلا لقى أشد العنت من عارفيه ، كما حدث لبعض من حاولوا هذا الإجرام ، من أعداء الإسلام.

(ثانيها) إيجاد وحدة للمسلمين لغوية ، تعزز وحدتهم الدينية ، وتيسر وسائل التفاهم والتعاون فيما بينهم ، فتقوى بذلك صفوفهم ، وتعظم شوكتهم ، وتعلو كلمتهم.

وتلك سياسة إلاهية عالية ، فطن لها الإسلام على يد هذا النبى الأمى فى عهد قديم من عهود التاريخ ، ونجحت هذه السياسة نجاحا باهرا ، حتى انصوى تحت اللسان العربى أمم كثيرة مختلفة اللغات ، ونبغ منهم نابغون سبقوا كثيرا من العرب فى علوم القرآن وعلوم لغة القرآن ، بينما أمم كبيرة فى هذا العصر الحديث الذى يزعمونه عصر العلم والنور ، قد حاولت مثل هذه المحاولة بتقرير لسان عام ولغة عالمية مشتركة أسموها لغة «الاسبرنتو» ، فكانت محاولة فاشلة ، فضلا عن أنها جاءت مسبوقة متأخرة.

(ثالثها) استدراج القارئ إلى التدبر والاهتداء بهدى القرآن عن طريق هذا الترغيب المشوق ، وبوساطة هذا الأسلوب الحكيم.

فإن من يقرأ القرآن فى يومه وهو غافل عن معانيه ، يقرؤه فى غده وهو ذاكر لها. ومن قرأه فى غده وهو ذاكر لها ، أوشك أن يعمل بعد غد بهديها. وهكذا ينتقل القارئ من درجة إلى درجة أرقى منها ، حتى يصل إلى الغاية بعد تلك البداية. «كل من سار على

٢٦

الدرب وصل» ويرحم الله ابن عطاء الله السكندرى إذ يقول فى حكمه : «لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه ؛ لأن غفلتك عن وجود ذكره ، أشد من غفلتك فى وجود ذكره. فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة ، إلى ذكر مع وجود يقظة. ومن ذكر مع وجود يقظة ، إلى ذكر مع وجود حضور. ومن ذكر مع وجود حضور ، إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور. وما ذلك على الله بعزيز».

حكم ترجمة القرآن تفصيلا

على ضوء هذه المعلومات التى سقناها فى تجلية معنى المتضايفين من لفظ ترجمة القرآن ، يسهل علينا أن ندرك أن لهذا المركب الإضافى أربعة معان رئيسية ؛ ثلاثة منها ترجع إلى اللغة وحدها ، والرابع تشترك فيه اللغة والعرف العام الذائع بين الأمم. ولا ريب أن هذا المعنى الرابع هو الجدير بالعناية والاهتمام ؛ لأنه المتبادر إلى الأفهام ، والمقصود فى لسان التخاطب العام.

وها نحن أولاء نستعرض تلك المعانى الأربعة ، مشفوعا كل معنى منها بحكمه المناسب له ، عسى أن تكون هذه الطريقة أبعد عن الخطأ والشطط ، وأهدى إلى الصواب والاعتدال.

١ ـ ترجمة القرآن بمعنى تبليغ ألفاظه

تطلق ترجمة القرآن إطلاقا مستندا إلى اللغة ويراد بها : تبليغ ألفاظه. وحكمها حينئذ أنها جائزة شرعا. والمراد بالجواز هنا ما يقابل الحظر فيصدق بالوجوب وبالندب. وإن شئت دليلا فها هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ القرآن ويسمعه أولياءه وأعداءه. ويدعو إلى الله به فى مولده ومهاجره ، وفى سفره وحضره ، والأمة من ورائه نهجت نهجه ، فبلغت ألفاظ القرآن ، وتلقاها بعضهم عن بعض فردا عن فرد ، وجماعة عن جماعة ، وجيلا عن جيل ،

٢٧

حتى وصل إلينا متواترا .. ثم ها هو القرآن نفسه يتوعد كاتميه ويقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ. أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ، فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ، وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بلغوا عنى ولو آية ، وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج. ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» رواه البخارى والترمذى وأحمد. ويقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» رواه الشيخان.

٢ ـ ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغته العربية

هذا هو الإطلاق الثانى المستند إلى اللغة أيضا كما مر. ويراد به تفسير القرآن بلغته العربية لا بلغة أخرى. وغنى عن البيان أن حكمه الجواز بالمعنى الآنف. وإن كنت فى شك فهاك القرآن نفسه يقول الله فيه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). ولقد قام الرسول صلوات الله وسلامه عليه ببيانه العربى خير قيام ، حتى اعتبرت السنة النبوية كلها شارحة له ، ونقل منها فى التفسير بالمأثور شىء كثير. ولقد تأثر العلماء رسول الله فى ذلك منذ عهد الصحابة إلى اليوم ، وها هى المكتبات العامة والخاصة زاخرة بالتفاسير العربية للقرآن الكريم على رغم ما اندثر منها ، وعلى رغم ما يأتى به المستقبل من تفاسير يؤلفها من لا يقنعون بقديم ، ويتلقاها عنهم من يجدون فى أنفسهم حاجة إلى عرض جديد لعلوم القرآن والدين. مما يدل على أن القرآن بحر الله الخضم ، وأن العلماء جميعا من قدامى ومحدثين ، لا يزالون وقوفا بساحله ، يأخذون منه على قدر قرائحهم وفهومهم. والبحر بعد ذلك هو البحر فى فيضانه وامتلائه ، والقرآن هو القرآن فى ثروته وغناه بعلومه وبأسراره. (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).

٢٨

٣ ـ ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية

هذا هو الإطلاق الثالث المستند إلى اللغة أيضا ويراد به تفسير القرآن بلغة غير لغته ، أى بلغة عجمية لا عربية. ولا ريب عندنا فى أن تفسير القرآن بلسان أعجمى لمن لا يحسن العربية ، يجرى فى حكمه مجرى تفسيره بلسان عربى لمن يحسن العربية. فكلاهما عرض لما يفهمه المفسر من كتاب الله بلغة يفهمها مخاطبه ، لا عرض لترجمة القرآن نفسه ، وكلاهما حكاية لما يستطاع من المعانى والمقاصد ، لا حكاية لجميع المقاصد. وتفسير القرآن الكريم يكفى فى تحققه أن يكون بيانا لمراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية ولو جاء على احتمال واحد ؛ لأن التفسير فى اللغة هو الإيضاح والبيان ، وهما يتحققان ببيان المعنى ولو من وجه ولأن التفسير فى الاصطلاح علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله بقدر الطاقة البشرية وهذا يتحقق أيضا بعرض معنى واحد من جملة معان يحتملها التنزيل. وإذا كان تفسير القرآن بيانا لمراد الله بقدر الطاقة البشرية ، فهذا البيان يستوى فيه ما كان بلغة العرب وما ليس بلغة العرب ، لأن كلا منهما مقدور للبشر ، وكلا منهما يحتاجه البشر ، بيد أنه لا بد من أمرين : أن يستوفى هذا النوع شروط التفسير باعتبار أنه تفسير ، وأن يستوفى شروط الترجمة باعتبار أنه نقل لما يمكن من معانى اللفظ العربى بلغة غير عربية. وشروط التفسير ذكرناها فى الجزء الأول بالمبحث الثانى عشر من هذا الكتاب ، وشروط الترجمة ذكرناها بهذا المبحث عن كتب.

أمور مهمة :

ونسترعى نظرك إلى أمور مهمة : (أولها) أن علماءنا حظروا كتابة القرآن بحروف غير عربية. وعلى هذا يجب عند ترجمة القرآن بهذا المعنى إلى أية لغة أن تكتب

٢٩

الآيات القرآنية إذا كتبت بالحروف العربية. كيلا يقع إخلال وتحريف فى لفظه ؛ فيتبعهما تغير وفساد فى معناه.

سئلت لجنة الفتوى فى الأزهر عن كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ، فأجابت بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله بما نصه (١) «لا شك أن الحروف اللاتينية المعروفة خالية من عدة حروف توافق العربية ، فلا تؤدى جميع ما تؤديه الحروف العربية فلو كتب القرآن الكريم بها على طريقة النظم العربى ـ كما يفهم من الاستفتاء ـ لوقع الاخلال والتحريف فى لفظه ، ويتبعهما تغير المعنى وفساده. وقد قضت نصوص الشريعة بأن يصان القرآن الكريم من كل ما يعرضه للتبديل والتحريف وأجمع علماء الإسلام سلفا وخلفا على أن كل تصرف فى القرآن يؤدى إلى تحريف فى لفظه أو تغيير فى معناه ممنوع منعا باتا ، ومحرم تحريما قاطعا. وقد التزم الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم إلى يومنا هذا كتابة القرآن بالحروف العربية».

(الأمر الثانى) : أن تفاسير القرآن المتداولة بيننا تتناول المفرد من الأصل ، وبجانبه شرحه ، ثم تتناول الجملة أو الآية وشرحها متصل بها كذلك غالبا. ومعنى هذا أن ألفاظ القرآن منبثة فى ثنايا التفسير ، على وجه من الارتباط والإحكام ، بحيث لو جردنا التفاسير من ألفاظ الأصل لعادت التفاسير لغوا من القول ، وضربا من السخف. ونحن لا نريد هنا فى تفسير القرآن بلغة أجنبية أن تذكر مفردات القرآن وجملة مكتوبة بتلك اللغة الأجنبية أو مترجمة بهذه اللغة ، ثم تشفع بتفسيرها المذكور ؛ فلقد قررنا أن كتابة القرآن بغير العربية ممنوعة وسنقرر أن ترجمته بالمعنى العرفى مستحيلة. إنما نريد هنا نوعا من التفسير يجوز أن يصدر بطائفة من ألفاظ الأصل على ما هى عليه فى عروبتها رسما ولفظا ، إذا وضع لطائفة من المسلمين ثم يذكر عقبها المعنى الذى فهمه المفسر غير مختلط بشيء من

__________________

(١) انظر المجلد السابع من مجلة الأزهر صفحة ٤٥.

٣٠

ألفاظ الأصل ولا ترجمته» بل يكون هذا المعنى كله من كلام المفسر ، ويصاغ بطريقة ، تدل على أنه تفسير لا ترجمة كأن يقال : معنى الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا هو كذا وكذا. أو يقال فى أول كل نوبة من نوبات التفسير : معنى هذه الجملة أو الآية كذا. ثم يبين فى كلتا الطريقين أن هذا المعنى مقطوع به أو أنه محتمل ، ويستطرد بما يظن أن حاجة المخاطبين ماسة إليه من التعريف بالمصطلحات الإسلامية ، والأسرار والحكم التشريعية والتنبيه على الأخطاء التى وقعت فيها الترجمات المزعومة ، ونحو ذلك مما يوقع فى روع القارئ أن ما يقرؤه ليس ترجمة للأصل محيطة بجميع معانيه ومقاصده ، إنما هو تفسير فحسب ، لم يحمل من معانى القرآن ومقاصده إلا قلا من كثر ، وقطرة من بحر. أما القرآن نفسه فأعظم من هذا التفسير بكثير ، كيف وهو النص المعجز فى ألفاظه ومعانيه من كلام العليم الخبير؟!.

(الأمر الثالث) : أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مساوية لترجمة تفسيره العربى.

لأن الترجمة هنا لم تتناول فى الحقيقة إلا رأى هذا المفسر وفهمه لمراد الله على قدر طاقته ، خطأ كان فهمه أو صوابا ، ولم تتناول كل مراد الله من كلامه قطعا. فكأن هذا المفسر وضع أولا تفسيرا عربيا ثم ترجم هذا التفسير الذى وضعه. وإن شئت فقل : إنه ترجم تفسيرا للقرآن قام هو به غير أنه لم يدونه ، وأنت خبير بأن التفسير هو التفسير ، سواء أدونه صاحبه أم لم يدونه.

(الأمر الرابع) ذهب بعضهم إلى تسمية هذا النوع وما يشبهه ترجمة تفسيرية للقرآن بالمعنى العرفى ونحن ـ مع علمنا بأن الخلاف فى التسمية تافه ـ لا نستطيع أن نرى رأيهم ، لشهادة العرف التى أقمناها ثم اعتمدنا عليها فى رسم الفوارق الأربعة بين أى ترجمة وأى تفسير. فترجمة القرآن ـ على فرض إمكانها ـ تصوير لكل ما أراد منزله من معانيه ومقاصده وترجمة التفسير تصوير لكل ما أراد المفسر من معانيه ومقاصده. والقرآن لا يمكن أن يكون فى معانيه المرادة لله خطأ أبدا ، فإذا صحت ترجمته على فرض إمكانها ، وجب ألا

٣١

تحمل ولا تصور خطأ. أما التفسير فيمكن أن يكون فى معانيه المرادة للمفسر خطأ أى خطأ ، وعلى هذا فترجمة هذا التفسير ترجمة صحيحة لا بد أن تحمل هذا الخطأ وتصوره ؛ وإلا لما صح أن تكون ترجمة له لأن الترجمة صورة مطابقة للأصل ، ومرآة حاكية له على ما هو عليه ؛ من صواب أو خطأ ، إيمان أو كفر ، حق أو باطل.

والقرآن ملى بالمعانى والأسرار الجلية والخفية إلى درجة تعجز المخلوق عن الإحاطة بها ، فضلا عن قدرته على محاكاتها وتصويرها ، بلغة عربية أو أعجمية. أما التفسير فمعانيه محدودة ، لأن قدرة صاحبه محدودة ، مهما حلق فى سماء البلاغة والعلم. وعلى هذا فعدسة أى مصور له ، تستطيع التقاطه وتصويره بالترجمة إلى أية لغة.

(الأمر الخامس) : يجب أن تسمى مثل هذه الترجمة ، ترجمة تفسير القرآن ، أو تفسير القرآن بلغة كذا. ولا يجوز أن تسمى ترجمة القرآن بهذا الاطلاق اللغوى المحض ، لما علمت من أن لفظ ترجمة القرآن مشترك بين معان أربعة ، وأن المعنى الرابع هو المتبادر إلى الأذهان عند الإطلاق ، نظرا إلى أن العرف الأممى العام لا يعرف سواه. ولا يجوز أيضا أن تسمى ترجمة معانى القرآن ، لأن الترجمة لا تضاف إلا إلى الألفاظ. ولأن هذه التسمية توهم أنها ترجمة للقرآن نفسه ، خصوصا إذا لاحظنا أن كل ترجمة لا تنقل إلا المعانى دون الألفاظ.

(الأمر السادس) يحسن أن يدون التفسير العربى وتشفع به ترجمته هذه ، ليكون ذلك أنفى للريب ، وأهدى للحق ، وأظهر فى أنه ترجمة تفسير لا ترجمة قرآن ، ومن عرف قدر القرآن لم يبخل عليه بهذا الاحتياط ، لا سيما فى هذا الزمن الذى تنمر فيه أعداء الإسلام ، وحاربونا فيه بأسلحة مسمومة من كل مكان.

(الأمر السابع) يجب أن يصدر هذا التفسير المترجم بمقدمة تنفى عنه فى صراحة أنه ترجمة للقرآن نفسه ، وتبين أن ترجمة القرآن نفسه بالمعنى المتعارف أمر دونه خرط القتاد ،

٣٢

لأن طبيعة تأليف هذا الكتاب تأبى أن يكون له نظير يحاكيه ، لا من لغته ولا من غير لغته ، وذلك هو معنى إعجاز البلاغى ومن أراد أن يتصور هذا اللون من ألوان إعجازه فلينتقل هو إلى هذا الكتاب ولغته ، فيتذوقه بها وبأساليبها ومن المحال أن ينتقل هذا الكتاب العزيز ، تاركا عرشه الذى بوأه الله إياه وهو عرش اللغة العربية. وما ذا يبقى للملك من عزة وسلطان إذا هو تخلى عن عرشه وملكه؟ وهذا القرآن جعله الله ملك الكلام ، وتوّجه بتاج الإعجاز ، واختار لغته العربية مظهرا لهذا الإعجاز والاعتزاز! (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

فوائد الترجمة بهذا المعنى

لترجمة القرآن بهذا المعنى فوائد كنا فى غنى عن بيانها ، بما أشرنا إليه من أنها كالتفسير العربى الذى اتفق الجميع على جوازه بشرطه. ولكن بعض الباحثين توقفوا فى جواز هذه الترجمة كما توقفوا فى جواز الترجمة بالمعنى الآتى مع بعد ما بينهما ؛ ثم تذرعوا بأنه لا فائدة ترجى منها ، وأثاروا شبهات حولها. لهذا نبسط القول ببيان فوائد هذه الترجمة ، ثم بدفع الشبهات عنها. أما فوائدها فنشرحها فيما يأتى :

(الفائدة الأولى) : رفع النقاب عن جمال القرآن ومحاسنه لمن لم يستطع أن يراها بمنظار اللغة العربية من المسلمين الأعاجم ، وتيسير فهمه عليهم بهذا النوع من الترجمة ، ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، ويعظم تقديرهم للقرآن ، ويشتد شوقهم إليه ، فيهتدوا بهديه ، ويغترفوا من بحره ، ويستمتعوا بما حواه من نبل فى المقاصد ، وقوة فى الدلائل ، وسمو فى التعاليم ، ووضوح وعمق فى العقائد ، وطهر ورشد فى العبادات ، ودفع قوى إلى مكارم الأخلاق ، وردع زاجر عن الرذائل والآثام ، وإصلاح معجز للفرد وللمجموع ، واختيار موفق لأحسن القصص ، وإخبار عن كثير من أنباء الغيب ، وكشف عن معجزات

(٣ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

٣٣

كرم الله بها رسوله وأمته ، إلى غير ذلك مما من شأنه أن يسمو بالنفوس الإنسانية ، ويملأ العالم حضارة صحيحة ومدنية.

وإنك لتستطيع أن ترى هذه الفائدة ماثلة بين عينيك إذا ما شاهدت أستاذا ممتازا يلقى درسا من دروس التفسير على العامة ، يجلى معانى القرآن لهم بمهارته ، ويتنزل إلى مستواهم فيخاطبهم بلغتهم ، ويتخير من المعانى أصحها وأمسها بحاجتهم ، ويعالج عند المناسبة ما يعرف من جهالتهم وشبهتهم. والله لكأنى بهذا المدرس اللبق وقد نفخ فيهم من روح القرآن فأحيا مواتهم ، وداوى أمراضهم ، وقادهم إلى النهضة ، وجعلهم يؤمنون بهذا الكتاب عن علم وذوق وشعور ووجدان ، بعد أن كانوا يؤمنون به إيمانا أشبه بالتقليد الأعمى أو بمحاكاة الصبيان.

ولقد دلتنا التجارب على أن كثيرا من هؤلاء الذين أحسوا جلال القرآن عن طريق تفسيره ، فكروا فى حفظه ، واستظهاره ودراسة لغته وعلومه ، ليرتشفوا بأنفسهم من منهله الروى ، ويشبعوا نهمتهم من غذائه الهنيء ، ما دام هذا التفسير وغيره لا يحمل كل معانى الأصل ، وما دام ثواب الله يجرى على كل من نظر فى الأصل أو تلا نفس ألفاظ الأصل.

(الفائدة الثانية) دفع الشبهات التى لفقها أعداء الإسلام وألصقوها بالقرآن وتفسيره كذبا وافتراء ، ثم ضللوا بها هؤلاء المسلمين الذين لا يحذقون اللسان العربى فى شكل ترجمات مزعومة للقرآن ، أو مؤلفات علمية وتاريخية للطلاب ، أو دوائر معارف للقراء ، أو دروس ومحاضرات للجمهور ، أو صحف ومجلات للعامة والخاصة.

(الفائدة الثالثة) تنوير غير المسلمين من الأجانب فى حقائق الإسلام وتعاليمه ، خصوصا فى هذا العصر القائم على الدعايات ، وبين نيران هذه الحروب التى أوقدها أهل الملل والنحل الأخرى ، حتى ضل الحق أو كاد يضل فى سواد الباطل ، وخفت صوت الإسلام أو كاد يخفت بين ضجيج غيره من المذاهب المتطرفة والأديان المنحرفة.

٣٤

(الفائدة الرابعة) إزالة الحواجز والعواثير التى أقامها الخبثاء الماكرون للحيلولة بين الإسلام وعشاق الحق من الأمم الأجنبية. وهذه الحواجز والعواثير ترتكز فى الغالب على أكاذيب افتروها تارة على الإسلام ، وتارة أخرى على نبى الإسلام. وكثيرا ما ينسبون هذه الأكاذيب إلى القرآن وتفاسيره ، وإلى تاريخ الرسول وسيرته ، ثم يدسونها فيما يزعمونه ترجمات للقرآن ، وفيما يقرأ الناس ويسمعون بالوسائل الأخرى. فإذا نحن ترجمنا تفسير القرآن أو فسرنا القرآن بلغة أخرى مع العناية بشروط التفسير وشروط الترجمة ، ومع العناية التامة بدفع الشبهات والأباطيل الرائجة فيهم عند كل مناسبة ، تزلزلت بلا شك تلك القصور التى أقاموها من الخرافات والأباطيل ، وزالت العقبات من طريق طلاب الحق وعشاقه من كل قبيل.

وهاك كلمة يؤيدنا بها الكاتب الانجليزى الشهير (برناردشو) إذ يقول : «لقد طبع رجال الكنيسة فى القرون الوسطى دين الإسلام بطابع أسود حالك ، إما جهلا وإما تعصبا ، إنهم كانوا فى الحقيقة مسوقين بعامل يغض محمد ودينه ، فعندهم أن محمدا كان عدوا للمسيح. ولقد درست سيرة محمد الرجل العجيب ، وفى رأيى أنه بعيد جدا من أن يكون عدوا للمسيح. إنما ينبغى أن يدعى منقذ البشرية ، الخ ما قال بمجلة ذى مسلم رفيو بلكنو الهند فى جزء مارس سنة ١٩٣٣.

(الفائدة الخامسة) براءة ذمتنا من واجب تبليغ القرآن بلفظه ومعناه ، فإن هذه الترجمة جمعت بين النص الكريم بلفظه ورسمه العربيين ، وبين معانى القرآن على ما فهمه المفسر وشرحه باللغة الأجنبية ، قال السيوطى وابن بطال والحافظ ابن حجر وغيرهم من العلماء : «إن الوحى يجب تبليغه. ولكنه قسمان : قسم تبليغه بنظمه ومعناه وجوبا ، وهو القرآن. وقسم يصح أن يبلغ بمعناه دون لفظه ، وهو ما عدا القرآن. وبذلك يتم التبليغ».

٣٥

دفع الشبهات عن هذه الترجمة

الشبهة الأولى ودفعها :

يقولون : إن المترجم للتفسير مضطر إلى الترجمة العرفية الممنوعة وهى ترجمة كل ما يسوقه فى كل نوبة للتفسير من آية أو آيات ، لأن التفسير بيان ، فلا بد أن يعرف المبين أولا ثم يعرف البيان. ولأنه إذا ترجم التفسير بدون الآية كانت الترجمة غير مؤدية للمطلوب ، لعدم التئامها مع ما قبلها.

ونجيب على هذا بأننا شرطنا ألا تكون ألفاظ الأصل ولا ترجمتها العرفية منبثة بين ثنايا التفسير بلغة أجنبية ، بل قلنا : إن التفسير يجزأ أجزاء ، وتساق الآية أو الآيات فى كل نوبة من نوبات هذه التجزئة باللفظ والرسم العربيين ، إن كنا نترجم هذه الترجمة لطائفة من إخواننا المسلمين ، ثم يشار إليها فى تفسيرها فيقال : معنى هذه الآية أو الآيات كذا ..

أو يقال : الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا معناها كذا وكذا .. بعبارة مجردة من ألفاظ الأصل وترجمتها ترجمة عرفية. ويكفى فى ارتباط المبين ببيانه أن يكون بأى وجه من وجوه الارتباط. وهو هنا قد ذكر أولا بلفظه ورسمه العربيين ، ثم أشير إليه باسم إشارة أو ببيان رقمه من السورة واسم سورته من القرآن.

أما الالتئام فمن السهل رعاية الانسجام بين جمل التفسير بعضها مع بعض فى كل نوبة من نوباته. وأما انسجام هذه النوبات كلها بعضها ببعض ، بحيث يتألف منها كلام واحد مترابط كأنه سبيكة واحدة فشىء لم يشترطه أحد فى التفسير ، ولا يضيرنا فقده شيئا ما دام التفسير كلاما منجما على نوبات متفرقة ، لا كلاما واحدا فى نوبة واحدة ، وأما التئام الآيات بعضها ببعض فهو حاصل لا محالة ولكن ليس من الواجب أن يعرض له هذا التفسير ولا غيره من التفاسير.

٣٦

الشبهة الثانية ودفعها :

يقولون : إن تفسير القرآن يشتمل عادة على كيفية نطق ألفاظه ومدلولات مفرداته ، وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التى تحمل عليها حال التركيب ، واختلاف المعانى عند الوقف على بعض الكلمات والابتداء بما بعدها وعند وصل الأولى بالثانية. ويشتمل أيضا على معرفة السنة لأنها بيان للقرآن ، وعلى أقوال الصحابة والأئمة المجتهدين وغير ذلك وترجمة مثل هذا مع الاستيفاء أمر متعذر.

ونجيب على هذا بأن استيفاء الأمور المذكورة لم يشرطه أحد فى أصل التفسير العربى ، فبدهى ألا يشترط ذلك فى ترجمته وهى صورة له. كيف وقد علمنا أن التفسير هو البيان ولو من وجه. وكل ما على المفسر أن يكون حكيما ، يلاحظ حال من يفسر لهم على قدر طاقته ، فيضمن تفسيره ما يحتاجون إليه ، ويعفيهم مما لا تسعه عقولهم ، وإلا كان فتنة عليهم. ولعل ذلك سر من أسرار تنوع التفاسير العربية التى بين أيدينا ، ما بين مختصر ومتوسط ومطول ، وما بين تفسير بالمأثور وتفسير بالمعقول. وما بين تفسير معنى بالناحية البلاغية وآخر معنى بالناحية النحوية ، وثالث معنى بالناحية الكلامية ، ورابع معنى بالناحية الفقهية ، إلى غير ذلك.

وإذا كان هذا مائلا أمام أعيننا فى التفاسير العربية ، فكيف نذهب إلى إنكاره إذا وقع مثله فى التفاسير بلغة أجنبية؟!

الشبهة الثالثة ودفعها :

يقولون : لا حاجة إلى هذا التفسير بلسان غير عربى ، ولا إلى ترجمة أى تفسير من التفاسير ، لامكان الاستغناء عنهما بترجمة تعاليم الإسلام وهداياته.

والجواب أنا بينا وجه الحاجة إليه فى الفوائد التى ذكرناها آنفا. ثم إن ترجمة تفسير القرآن وتفسير القرآن بلغة أجنبية. كلاهما مثل ترجمة تعاليم الإسلام وهداياته. فكلها

٣٧

معارف دينية ، وكلها من كلام البشر لا من كلام الله المعجز. وقد جوزتم ترجمة تعاليم الاسلام وهداياته. فلتجوزوا ترجمة التفسير بلغة أجنبية أيضا ، لأن ما جاز على أحد المثلين يجوز على الآخر قطعا.

ثم إن الرسائل المتحدثة عن الإسلام وتعاليمه بلغات أجنبية ، قد تكون ضرورية لا بد منها فى بعض الظروف والمناسبات ، ولكنها لا تغنى عن هذا التفسير الذى نحن بصدده الآن ، للفوائد التى شرحناها قريبا فيه ، فوجوده شاهد من مشاهد الحق على بطلان ما جاء فى تلك الترجمات الخاطئة ، ييسر على المنصفين وطلاب الحقائق أن يحاكموا تلك الترجمات إلى ما جاء فى هذا التفسير خصوصا إذا صدر من هيئة إسلامية موثوق بها ، وعرض عند كل مناسبة ـ كما قلنا ـ لنقض الشبهات التى ضلت فيها الترجمات الزائغة.

يضاف إلى هذا أن المسلم الأعجمى يستعين بهذا التفسير على تدبر كتاب الله وتفهمه لأية آية من أية سورة يريد. والرسائل المقترحة لا يمكن أن تفى بذلك كله.

وإن أبيت إلا مثلا مما قرره علماؤنا فى ذلك فاستمع إلى جار الله الزمخشرى عند تفسيره لقوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) إذ يقول ما نصه : «فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعا (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) ، بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة. فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة ... قلت : لا يخلو. إما أن ينزل بجميع لألسنة أو بواحد منها. فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل. فبقى أن ينزل بلسان واحد. فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ، لأنهم أقرب إليه ، وإذا فهموا عنه وبينوه وتنوقل عنهم وانتشر قامت التراجم (كذا) ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم فى كل أمه من أمم العجم ، مع ما فى ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة ، والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ،

٣٨

واجتهادهم فى تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب عن ذلك من جليل الفوائد ، وما يتكاثر فى إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه من القرب والطاعات ، المفضية إلى جزيل الثواب. ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والاختلاف. ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها وكان مستقلا بصفة الاعجاز فى كل واحد منها ، وكلم الرسول العربى كل أمة بلسانها كما كلم أمته التى هو منها يتلوه عليهم معجزا ، لكان ذلك مرا قريبا من الإلجاء» اه باختصار طفيف.

وقوله : قامت التراجم ببيانه وتفهيمه يشعر بأن مراده تفاسير القرآن بلغات أجنبية ، لا ترجمات القرآن نفسه بالمعنى العرفى. وذلك لأن التفسير هو الذى يبين القرآن ويفهمه. أما الترجمة فتصوير للأصل فحسب وليس من وظيفتها البيان والتفهيم.

ولو كان مراده بالترجمات ترجمات القرآن نفسه لم يستقم كلامه ، لأن الذين فهموا القرآن عن الرسول والذين نقلوه عنه لم يقوموا بترجمة القرآن الكريم إلى الأمم المختلفة.

إنما شرحوه لهم بعد أن بلغوهم نفس ألفاظه العربية.

ومما يؤيد ذلك قوله : «مع ما فى ذلك من اتفاق أهل البلد المتباعدة الخ». لأن اجتماع الجميع على كتاب واحد ، لا يتأتى مع وجود ترجمات لنفس الكتاب ، بل هو مدعاة إلى الانصراف عن الأصل اكتفاء بالترجمات كما تقدم تفصيل ذلك. فتأمل.

٤ ـ ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى

هذا هو الإطلاق الرابع المستند إلى اللغة. ثم هو الاطلاق الوحيد فى عرف التخاطب الأممى العام.

ويمكننا أن نعرف ترجمة القرآن بهذا الإطلاق تعريفا مضغوطا على نمط تعريفهم فنقول : هى نقل القرآن من لغته العربية إلى لغة أخرى. ويمكننا أن نعرفها تعريفا

٣٩

مبسوطا فنقول : ترجمة القرآن هى التعبير عن معانى ألفاظه العربية ومقاصدها بألفاظ غير عربية ، مع الوفاء بجميع هذه المعانى والمقاصد.

ثم إن لوحظ فى هذه الترجمة ترتيب ألفاظ القرآن ، فتلك ترجمة القرآن الحرفية أو اللفظية أو المساوية ، وإن لم يلاحظ فيها هذا الترتيب ، فتلك ترجمة القرآن التفسيرية أو المعنوية.

والناظر فيما سلف من الكلام على معنى الترجمة وتقسيمها والفروق بينها وبين التفسير يستغنى هنا عن شرح التعريف والتمثيل للمعرف فى قسميه ؛ كما يستغنى عن التدليل على أن هذا المعنى وحده هو المعنى الاصطلاحى الفريد فى لسان التخاطب العام بين الأمم ، ويعلم أن ترجمة القرآن بهذا المعنى خلاف تفسيره بلغته العربية. وخلاف تفسيره بغير لغته العربية ، وخلاف ترجمة تفسيره العربى ترجمة حرفية أو تفسيرية ، فارجع إلى هذا الذى أسلفناه إن شئت.

الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة العادية :

أما حكم ترجمة القرآن بهذا المعنى فالاستحالة العادية والشرعية أى عدم إمكان وقوعها عادة ، وحرمة محاولتها شرعا. ولنا على استحالتها العادية طريقان فى الاستدلال :

(الطريق الأول) أن ترجمة القرآن بهذا المعنى تستلزم المحال ، وكل ما يستلزم المحال محال والدليل على أنها تستلزم المحال أنه لا بد فى تحققها من الوفاء بجميع معانى القرآن الأولية والثانوية ، وبجميع مقاصده الرئيسية الثلاثة ، وكلا هذين مستحيل.

أما الأول فلأن المعانى الثانوية القرآن مدلولة لخصائصه العليا التى هى مناط بلاغته وإعجازه كما بيننا من قبل ، وما كان لبشر أن يحيط بها فضلا عن أن يحاكيها فى كلام له ، وإلا لما تحقق هذا الاعجاز. وأما الثانى فلأن للقصد الأول من القرآن ـ وهو كونه هداية ـ إن

٤٠