مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

فلو كان محمد صاحب هذا التنزيل ، لخرج عن مستوى الخلق جملة ، ولظهر فى أفق الألوهية ، يطل على العالم بعظمة تنقطع دونها الأعناق وتخضع لها الرقاب ، وأن يحقق كل ما اقترحه معارضوه من الآيات ، ولكنه اعترف بعبوديته حينذاك ، وتبرأ من حوله وقوته إزاء هذا الكتاب وغيره من المعجزات وخوارق العادات. اقرأ فى سورة الإسراء : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ. وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ. قُلْ : سُبْحانَ رَبِّي ، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟.

الوجه الرابع عشر : تأثير القرآن ونجاحه

ومعنى هذا أن القرآن بلغ فى تأثيره ونجاحه مبلغا خرق به العادة فى كل ما عرف من كتب الله والناس. وخرج عن المعهود فى سنن الله من التأثير النافع بالكلام وغير الكلام. وبيان ذلك أن الإصلاح العام الذى جاء به القرآن والانقلاب العالمى الذى تركه هذا الكتاب ، ما حدث ولم يكن ليحدث فى أى عهد من عهود التاريخ قديمه وحديثه إلا على أساس من الإيمان العميق القائم على وجدان قوى ، بحيث يكون له من السلطان القاهر على النفوس ، والحكم النافذ على العواطف والميول ، ما يصد الناس عن نهجهم الأول فى عقائدهم التى توارثوها ، وعبادتهم التى ألفوها ، وأخلاقهم التى نشئوا عليها ، وعاداتهم التى امتزجت بدمائهم ، وما يحملهم على اعتناق هذا الدين الجديد الذى هدم تلك الموروثات فيهم ، وحارب تلك الأوضاع المألوفة لديهم.

وهذا الأساس الذى لا بد منه ، تقصر عنه فى العادة جميع الكتب التعليمية التى يؤلفها العلماء والمصلحون ، وتعجز عن إيجاده كافة القوانين البشرية التى يضعها القادة والمتشرعون ، لأن قصارى هذه الكتب والقوانين ـ إذا وفقت ـ أن تشرح الحقائق وتبين الواجبات ،

٣٠١

لا أن تحمل على الإيمان والإذعان ، وتدفع إلى العمل بوحى هذا الإيمان وإذا فرض أن يؤمن بها أصحاب الاستعداد السليم ، فإيمانهم مجرد حينئذ من قوة الدفع ودفعة التحويل. ولا سبيل فى العادة إلى التأثير بها على الجماهير ونجاحها فيهم نجاحا عاما إلا بأمرين : أحدهما تربية الأحداث وترويضهم عليها علما وعملا من عهد الطفولة. والآخر قوة حاكمة تحمل الكبار على احترامها حملا بالقوة والقهر ، ومع هذا وذاك ، فتربية الصغار على هذا الغرار هيهات أن تكون تربية استقلالية ؛ بل هى تقليدية تفقد الدليل والبرهان ، وكذلك إجبار الكبار هيهات أن يصل إلى موضع الإذعان والوجدان!.

لكن القرآن الكريم وحده ، هو الذى نفخ الإيمان فى الكبار والصغار نفخا ، وبثه روحا عاما ، وأشعر النفوس بما جاء فيه إشعارا ، ودفعها إلى التخلى عن موروثاتها ومقدساتها جملة ، وحملها على التحلى بهديه الكريم علما وعملا ، على حين أن الذى أتى بهذا القرآن رجل أمى لا دولة له ولا سلطان ، ولا حكومة ولا جند ، ولا اضطهاد ولا إجبار ، إنما هو الاقتناع والرغبة والرضا والإذعان ، (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ). أما السيف ومشروعية الجهاد فى الإسلام ، فلم يكن لأجل تقرير عقيدة فى نفس ، ولا لإكراه شخص أو جماعة على عبادة ، ولكن لدفع أصحاب السيوف عن إذلاله واضطهاده ، وحملهم على أن يتركوا دعوة الحق حرة طليقة ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.

هذا الأساس الذى وضعه القرآن وحده هو سر نهضته ، وإن شئت فقل هو نار ثورته ، بل هو نور هدايته ، والروح السارى لإحياء العالم بدعوته ، وذلك عن طريق أسلوبه المعجز الذى هز النفوس والمشاعر ، وملك القلوب والعقول ، وكان له من السلطان ما جعل أعداءه منذ نزله إلى اليوم ، يخشون بأسه وصولته ، ويخافون تأثيره وعمله ، أكثر مما يخافون الجيوش الفاتحة والحروب الجائحة ، لأن سلطان الجيوش والحروب لا يعدو هياكل

٣٠٢

الأجسام والأشباح ، أما سلطان هذا الكتاب فقد امتد إلى حرائر النفوس وكرائم الأرواح ، بما لم يعهد له نظير فى أية نهضة من النهضات!.

ولقد أشار القرآن نفسه إلى هذا الوجه من وجوه إعجازه ، حين سمى الله كتابه روحا من أمره بقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وحين سماه نورا بقوله : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) وحين وصف بالحياة والنور من آمن به فى قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟). وفى قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً). وفى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ).

هذا التأثير الخارق أو النجاح الباهر الذى نتحدث فيه ، أدركه ولا يزال يدركه كل من قرأ القرآن فى تدبر وإمعان ونصفة ، حاذقا لأساليبه العربية ، ملما بظروفه وأسباب نزوله. أما الذين لم يحذقوا لغة العرب ولم يحيطوا بهذه الظروف والأسباب الخاصة ، فيكفيهم أن يسألوا التاريخ عما حمل هذا الكتاب من قوة محولة غيرت صورة العالم ، ونقلت حدود الممالك ، عن طريق استيلائها على قلوب المخاطبين به لأول مرة استيلاء أشبه بالقهر وما هو بالقهر ، وأفعل من السحر وما هو بالسحر ، سواء فى ذلك أنصاره وأعداؤه ، ومحالفوه ومخالفوه! وما ذاك إلا لانهم ذاقوا بسلامة فطرتهم العربية بلاغته ، ولمسوا بحاستهم البيانية اعجازه ؛ فوجد تياره الكهربائى موضعا فى نفوسهم لشرارة ناره ، أو لهطول غيثه وانبلاج أنواره!.

تأثيره فى أعدائه :

أما أعداؤه المشركون ، فقد ثبت أنه جذبهم إليه بقوته فى مظاهر كثيرة ، نذكر بعضها على سبيل التمثيل :

٣٠٣

(المظهر الأول) أن هؤلاء المشركين مع حربهم له ، ونفورهم مما جاء به ، كانوا يخرجون فى جنح الليل البهيم يستمعون إليه والمسلمون يرتلونه فى بيوتهم. فهل ذاك إلا لأنه استولى على مشاعرهم ، ولكن أبى عليهم عنادهم وكبرهم وكراهتهم للحق أن يؤمنوا به (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ).

(المظهر الثانى) أن أئمة الكفر منهم كانوا يجتهدون فى صد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قراءته فى المسجد الحرام وفى مجامع العرب وأسواقهم ، وكذلك كانوا يمنعون المسلمين من اظهاره ، حتى لقد هالهم من أبى بكر أن يصلى به فى فناء داره ، وذلك لأن الأولاد والنساء كانوا يجتمعون عليه يستمتعون بلذة هذا الحديث ويتأثرون به ويهتزون له!.

(المظهر الثالث) أنهم ذعروا ذعرا شديدا من قوة تأثيره ونفوذه إلى النفوس على رغم صدهم عنه واضطهادهم لمن أذعن له. فتواصوا على ألا يسمعوه ، وتعاقدوا على أن يلغوا فيه إذا سمعوه ، (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)!.

(المظهر الرابع) أن بعض شجعانهم وصناديدهم ، كان الواحد منهم يحمله طغيانه وكفره وتحمسه لموروثه ، على أن يخرج من بيته شاهرا سيفه ، معلنا غدره ، ناويا القضاء على دعوة القرآن ومن جاء بالقرآن ، فما يلبث حين تدركه لمحة من لمحات العناية ، وينصت إلى صوت القرآن فى سورة أو آية ، أن يذل للحق ويخشع ، ويؤمن بالله ورسوله وكتابه ويخضع. وإن أردت شاهدا على هذا فاستعرض قصة إسلام عمر وهى مشهورة. أو فتأمل كيف أسلم سعد بن معاذ سيد قبيلة الأوس هو وابن أخيه أسيد بن حضير ، رضى الله عنهم أجمعين. وإليك كلمة قصيرة عن إسلام سعد وأسيد فيها نفع كبير :

تروى كتب السيرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فى مكة قبل الهجرة ، أرسل مع أهل المدينة الذين جاءوا وبايعوه بيعة العقبة ، مبعوثين جليلين يعلمانهم الإسلام وينشرانه

٣٠٤

فى المدينة ، هما مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم رضى الله عنهما ، وقد نجح هذان فى مهمتهما أكبر نجاح ، وأحدثا فى المدينة ثورة فكرية أو حركة تبشيرية جزع لها سعد بن معاذ سيد قبيلة الأوس ، حتى قال لابن أخيه أسيد بن حضير ألا تذهب إلى هذين الرجلين اللذين أتيا يسفهان ضعفاءنا فتزجرهما. فلما انتهى إليهما أسيد قال لهما : ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا؟ ثم هددهما وقال ، اعتزلا إن كانت لكما فى أنفسكما حاجة. رضى الله عن مصعب فقد تغاضى عن هذا التهديد وقال لأسيد فى وقار المؤمن وثباته : أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره. ثم قرأ مصعب القرآن وأسيد يسمع ، فما قام من مجلسه حتى أسلم ، ثم كر راجعا إلى سعد فقال له. والله ما رأيت بالرجلين بأسا. فغضب سعد وذهب هو نفسه ثائرا مهتاجا ، فاستقبله مصعب بما استقبل به أسيدا وانتهى الأمر بإسلامه أيضا ، ثم كر راجعا فجمع قبيلته وقال لهم : ما تعدوننى فيكم؟ قالوا. سيدنا وابن سيدنا. فقال سعد : كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تسلموا. فأسلموا أجمعين!.

تأثير القرآن فى نفوس أوليائه :

تلك مظاهر لفعل القرآن بنفوس شانئيه ، فهل تدرى ما ذا فعل بهم بعد أن دانوا له وآمنوا به وأصبحوا من تابعيه ومحبيه؟ لعلك لم تنس ما فعل القرآن بعمر وسعد وأسيد الذين نوهنا بهم بين يديك. ألم يعودوا من خيرة جنود الإسلام ودعاته من يوم أسلموا ، بل من ساعة أسلموا؟ وهناك مظاهر أربعة لهذا الضرب أيضا.

(المظهر الأول) تنافسهم فى حفظه وقراءته فى الصلاة وفى غير الصلاة ، حتى لقد طاب لهم أن يهجروا لذيذ منامهم من أجل تهجدهم به فى الأسحار ، ومناجاتهم العزيز الغفار.

وما كان هذا حالا نادرا فيهم ، بل ورد أن المار على بيوت الصحابة بالليل كان يسمع لها دويا كدوى النحل بالقرآن!. وكان التفاضل بينهم بمقدار ما يحفظ أحدهم من القرآن!. وكانت

(٢٠ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

٣٠٥

المرأة ترضى بل تغتبط أن يكون مهرها سورة يعلمها إياها زوجها من القرآن؟.

(المظهر الثانى) عملهم به وتنفيذهم لتعاليمه ، فى كل شأن من شئونهم تاركين كل ما كانوا عليه مما يخالف تعاليمه ويجافى هداياته. طيبة بذلك نفوسهم ، طيعة أجسامهم ، سخية أيديهم وأرواحهم ، حتى صهرهم القرآن فى بوتقته ، وأخرجهم للعالم خلقا آخر مستقيم العقيدة ، قويم العبادة ؛ طاهر العادة ، كريم الخلق ، نبيل المطمح!.

(المظهر الثالث) استبسالهم فى نشر القرآن والدفاع عنه وعن هدايته. فأخلصوا له وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى بحبه وهو مدافع عنه ، ومنهم من انتظر حتى أتاه اليقين وهو مجاهد فى سبيله مضح بنفسه ونفيسه. ولقد بلغ الأمر إلى حد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يرد بعض من يتطوع بالجندية من الشباب لحداثة أسنانهم وكان كثير من ذوى الأعذار يؤلهم التخلف عن الغزو حتى يضطر الرسول أن يتخلف معهم جبرا لخاطرهم ، ويرسل سراياه وبعوثه بعد أن ينظمها ويزودها بما تحتاجه ولا يخرج معهم. روى مالك والشيخان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذى نفس محمد بيده لو لا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو فى سبيل الله أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم. ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عنى والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ، ثم أغزو فأقتل»!.

(المظهر الرابع) ذلك النجاح الباهر الذى أحرزه القرآن فى هداية العالم. فقد وجد قبل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنبياء ومصلحون ، وعلماء ومشترعون ، وفلاسفة وأخلاقيون ؛ وحكام ومتحكمون ، فما تسنى لأحد من هؤلاء بل ما تسنى لجميعهم أن يحدثوا مثل هذه النهضة الرائعة التى أحدثها محمد فى العقائد والأخلاق ، وفى العبادات والمعاملات ، وفى السياسة والإدارة وفى كافة نواحى الإصلاح الإنسانى. وما كان لمحمد ولا لألف رجل غير محمد أن يأتوا بمثل هذا الدستور الصالح الذى أحيا موات الأمة العربية فى أقل من عشرين سنة ، ثم نفخ فيهم من روحه فهبوا بعد وفاته ينقذون العالم ففتحوا ملك كسرى وقيصر ، ووضعوا رجلا

٣٠٦

فى الشرق ورجلا فى الغرب ، وخفقت رايتهم على نصف المعمور فى أقل من قرن ونصف قرن من الزمان.

أفسحر هذا؟ أم هو برهان عقلى لمحه المنصفون من الباحثين فاكتفوا من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا النجاح الباهر دليلا على أنه رسول من رب العالمين.

هذا فيلسوف من فلاسفة فرنسا يذكر فى كتاب له ما زعمه دعاة النصرانية من أن محمدا لم يأت بآية على نبوته كآيات موسى وعيسى ، ثم يفند هذا الزعم ويقول : إن محمدا كان يقرأ القرآن خاشعا أواها متألها ، فتفعل قراءته فى جذب الناس إلى الإيمان به ما لم تفعله جميع آيات الأنبياء الأولين!

أجل ، لقد صدق الرجل ، فإن فعل القرآن فى نفوس العرب كان أشد وأرقى وأبلغ مما فعلت معجزات جميع الأنبياء. وإن شئت مقارنة بسيطة فهذا موسى عليه‌السلام قد أتى بنى إسرائيل بآيات باهرة من عصا يلقيها فإذا هى ثعبان مبين ، ومن يد يخرجها فإذا هى بيضاء للناظرين. ومن انفلاق البحر فإذا هو طريق يابسة يمشون فيها ناجين آمنين ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة فى مصر وفى طور سينا مدة التيه. فهل تعلم مدى تأثير هذه الهدايات فى إيمانهم بالله ووحدانيته ، وإخلاصهم لدينه ونصرة رسوله؟ إنهم ما كادوا يخرجون من البحر بهذه المعجزة الإلهية الكبرى ويرون بأعينهم عبدة الأصنام والأوثان ، حتى كان منهم ما حكاه الله فى القرآن : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ. قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ثم لما ذهب موسى إلى مناجاة ربه واستخلف عليهم أخاه هارون عليهما‌السلام ، نسوا الله تعالى وحنوا إلى ما وقر فى نفوسهم من الوثنية المصرية وخرافاتها. فعبدوا العجل كما تحدثت سورة الأعراف بذلك : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ

٣٠٧

خُوارٌ. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً. اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ* وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

ولما دعاهم موسى إلى قتال الجبارين ودخول الأرض المقدسة التى كتب الله لهم ، أبوا وخالفوا وفضلوا القعود والاستخذاء ، على الجلاد والنزول إلى ميادين الجهاد ، (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ. وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها. فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ* قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ. فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ. وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)! ... هؤلاء أصحاب موسى فانظر إلى أصحاب محمد كيف تأثروا بالقرآن حتى ليحدث التاريخ عنهم أنهم قطعوا شجرة الرضوان ؛ وهى تلك الشجرة التاريخية المباركة التى ورد ذكرها فى القرآن. وما هذا إلا لأن الناس تبركوا بها ، فخاف عمر إن طال الزمان بالناس أن يعودوا إلى وثنيتهم ويعبدوها ، فأمر بقطعها ووافقه الصحابة على ذلك!.

وكذلك يذكر التاريخ أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم استشار أصحابه حين عزم على قتال المشركين فى غزوة بدر فقالوا : والله لو استعرضت بنا هذا البحر (يريدون البحر الأحمر) فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. إنا لا نقول لك ما قال قوم موسى لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) : ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون!. هكذا كانوا يفضلون مصافحة المنايا فى ميادين الجهاد ، ويتهافتون على الغزو طمعا فى الاستشهاد! وهكذا حرصوا على الموت فوهبهم الله الحياة ، وأتقنوا صناعة الموت فدانت لهم الملوك وعنت الكماة! : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ. إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

وجوه معلولة

ذكر بعضهم وجوها أخرى للإعجاز ، ولكنها لا تسلم فى نظرنا من طعن ، لأن منها

٣٠٨

ما يتداخل بعضه فى بعض ، ومنها ما لا يجوز أن يكون وجها من وجوه الإعجاز بحال. ونمثل لهذا الذى ذكروه بتلك الأوجه العشرة التى عدها القرطبى ، وهى :

١ ـ نظمه البديع المخالف لكل نظم معهود.

٢ ـ أسلوبه العجيب المخالف لجميع الأساليب.

٣ ـ جزالته التى لا تمكن من مخلوق.

٤ ـ التصرف فى الألفاظ العربية على وجه لا يستقل به عربى.

٥ ـ الوفاء بالوعد المدرك بالحس والعيان ، كوعد المؤمنين بالنصر وغير ذلك.

٦ ـ الأخبار عن المغيبات المستقبلة التى لا يطلع عليها إلا بالوحى.

٧ ـ ما تضمنه القرآن من العلوم المختلفة التى بها قوام الأنام.

٨ ـ اشتماله على الحكم البالغة.

٩ ـ عدم الاختلاف والتناقض بين معانيه.

١٠ ـ الإخبار عن الأمور التى تقدمت من أول الدنيا إلى وقت نزوله بما لم تجر العادة بصدوره ممن لم يقرأ الكتاب ولم يتعلم ولم يسافر إلى حيث يختلط بأهل الكتاب.

فإن المتأمل فى هذه الأوجه يلاحظ أن أسلوب القرآن العجيب يشمل جزالته التى لا تمكن لمخلوق ، ويشمل التصرف فى الألفاظ العربية على وجه لا يستقل به عربى ويلاحظ أيضا أن الوفاء بالوعد المدرك بالحس والعيان كوعد المؤمنين بالنصر ينضوى تحت مضمون الأخبار بالمغيبات ، وكذلك الأمور التى تقدمت من أول الدنيا إلى وقت نزوله تنتظم فى سلك الإخبار بالمغيبات. ويلاحظ كذلك أن الاشتمال على الحكم البالغة ، وعدم الاختلاف والتناقض بين معانيه ، لا يصلح واحد منها أن يكون وجها من وجوه الإعجاز ، لأنهما لا يخرجان عن حدود الطاقة ، بل كثيرا ما نجد كلام الناس مشتملا على حكم وسليما من التناقض والاختلاف.

وبعضهم جعل وجه الإعجاز فى القرآن هو الفصاحة وحدها ، وذلك غير سديد أيضا ،

٣٠٩

لأن مجرد الفصاحة دون مراعاة لمقتضى الحال ، أمر لا يخرج بالكلام عن المعهود فى مقدور البشر فكثيرا ما يكون الكلام البشرى فصيحا لكن تعوزه الخصائص والنكات الزائدة التى هى مناط بلاغته فى أقل درجاته فضلا عن إعجازه.

شبهة القول بالصرفة

ومن الباحثين من طوعت له نفسه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة أى صرف الله العرب عن معارضته على حين أنه لم يتجاوز فى بلاغته مستوى طاقتهم البشرية ، وضربوا لذلك مثلا فقالوا : إن الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الاختيارية ومما يقع مثله فى دائرة كسبه وقدرته ، إما لأن البواعث على هذا العمل لم تتوافر ، وإما لأن الكسل أو الصدود أصابه فأقعد همته وثبط عزيمته وإما لأن حادثا مفاجئا لا قبل له به قد اعترضه فعطل آلاته ووسائله وعاق قدرته قهرا عنه ، على رغم انبعاث همته نحوه وتوجه إرادته إليه. فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن ، لم ينشأ من أن القرآن بلغ فى بلاغته حد الإعجاز الذى لا تسمو إليه قدرة البشر عادة ، بل لواحد من ثلاثة :

(أولها) أن بواعث هذه المعارضة ودواعيها لم تتوافر لديهم.

(ثانيها) أن صارفا إليها زهدهم فى المعارضة فلم تتعلق بها إرادتهم ولم تنبعث إليها عزائمهم ، فكسلوا وقعدوا على رغم توافر البواعث والدواعى.

(ثالثها) أن عارضا مفاجئا عطل مواهبهم البيانية ، وعاق قدرهم البلاغية ، وسلبهم أسبابهم العادية إلى المعارضة على رغم تعلق إرادتهم بها وتوجه همتهم إليها.

بهذا التوجيه أو نحوه يعزى القول بالصرفة إلى أبى إسحاق الإسفرايينى من أهل السنة والنظام من المعتزلة ، والمرتضى من الشيعة. وأنت إذا تأملت هذه الفروض الثلاثة التى التمسوها أو التمست لهم ، علمت أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تجئ من ناحية إعجازه البلاغى فى زعمهم. بل جاءت على الفرضين الأولين من ناحية عدم اكتراث العرب بهذه

٣١٠

المعارضة ، ولو أنهم حاولوها لنالوها. وجاءت على الفرض الأخير من ناحية عجزهم عنها لكن بسبب خارجى عن القرآن ، وهو وجود مانع منعهم منها قهرا. ذلك المانع هو حماية الله لهذا الكتاب وحفظه إياه من معارضة المعارضين وإبطال المبطلين. ولو أن هذا المانع زال لجاء الناس بمثله ، لأنه لا يعلو على مستواهم فى بلاغته ونظمه.

تفنيد هذا القول

وهذا القول بفروضه التى افترضوها ، أو بشبهاته التى تخيلوها ، لا يثبت أمام البحث ، ولا يتفق والواقع.

(أما الفرض الأول) فينقضه ما سجل التاريخ وأثبت التواتر ، من أن دواعى المعارضة كانت قائمة موفورة ودوافعها كانت ماثلة متآخذة وذلك لأدلة كثيرة :

(منها) أن القرآن تحداهم غير مرة أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة منه ؛ ثم سجل العجز عليهم وقال بلغة واثقة إنهم لم يسطيعوا أن يفعلوا ولن يفعلوا ولو ظاهرهم الإنس والجن. فكيف لا تثور حميتهم إلى المعارضة بعد هذا ولو كانوا أجبن خلق الله؟.

(ومنها) أن العرب الذين تحداهم القرآن كانوا مضرب المثل فى الحمية والأنفة وإباء الضيم. فكيف لا يحركهم هذا التحدى والاستفزاز؟

(ومنها) أن صناعتهم البيان ، وديدنهم التنافس فى ميادين الكلام. فكيف لا يطيرون بعد هذه الصيحة إلى حلبة المساجلة؟.

(ومنها) أن القرآن أثار حفائظهم وسفه عقولهم وعقول آبائهم ، ونعى عليهم الجمود والجهالة والشرك. فكيف يسكتون بعد هذا التقريع والتشنيع؟

(ومنها) أن القرآن أقام حربا شعواء على أعز شىء لديهم وهى عقائدهم المتغلغلة فيهم ، وعوائدهم المتمكنة منهم فأى شىء يلهب الشاعر ويحرك الهمم إلى المساجلة أكثر من هذا؟ ما دامت هذه المساجلة هى السبيل المتعين لإسكات خصمهم لو استطاعوا.

٣١١

(وأما الفرض الثانى) فينقضه الواقع التاريخى أيضا. ودليلنا على هذا ما تواترت به الأنباء ، من أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها إلى نفوسهم ، ونالت منالها من عزائمهم. فهبوا هبة رجل واحد يحاولون القضاء على دعوة القرآن بمختلف الوسائل ؛ فلم يتركوا طريقا إلا سلكوه ، ولم يدعوا بابا إلا دخلوه.

لقد آذوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآذوا أصحابه ، فسبوا من سبوا ، وعذبوا من عذبوا ، وقتلوا من قتلوا.

ولقد طلبوا إلى عمه أبى طالب أن يكفه ، وإلا نازلوه وإياه.

ولقد قاطعوه وقاطعوا أسرته الكريمة لا يبيعون لهم ولا يبتاعون ولا يتزوجون منهم ولا يزوجون ، واشتد الأمر حتى أكلت الأسرة الكريمة ورق الشجر.

ولقد فاوضوه أثناء هذه المقاطعة التى تلين الحديد مفاوضات عدة وعرضوا عليه عروضا سخية مغرية ، منها أن يعطوه حتى يكون أكثرهم مالا ، وأن يعقدوا له لواء الزعامة فلا يقطعوا أمرا دونه ، وأن يتوجوه ملكا عليهم إن كان يريد ملكا ، وأن يلتمسوا له الطلب إن كان به مس من الجن. كل ذلك فى نظير أن يترك هذا الذى جاء به. ولما أبى عليهم ذلك عرضوا عليه أن يهادنهم ويداهنهم ، فيعبد آلهتهم سنة ويعبدون إلهه سنة. فأبى أيضا ونزل قول الله. (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) ونزلت كذلك سورة الكافرون.

ولقد صادروه وصادروا أصحابه فى عبادتهم ، وانبعث شقى منهم فوضع النجاسة على ظهره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلى. وخنقه طاغية من طواغيتهم لو لا أن جاء أبو بكر فدفعه وقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ؟) ولقد اتهموه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة بالسحر ، وأخرى بالشعر ، وثالثة بالجنون ، ورابعة بالكهانة. وكانوا يتعقبونه وهو يعرض نفسه على قبائل العرب أيام الموسم ، فيبهتونه ويكذبونه أمام من لا يعرفونه. ولقد شدوا وطأتهم على أتباعه حتى اضطروهم أن يهاجروا من وطنهم ، ويتركوا أهلهم وأولادهم وأموالهم فرارا إلى الله بدينهم.

٣١٢

ولقد تآمروا على الرسول أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، لو لا أن حفظه الله وحماه من مكرهم وأمره بالهجرة من بينهم.

ولقد أرسلوا إليه الأذى بعد ذلك فى مهاجره ، فشبت الحرب بينه وبينهم فى خمس وسبعين موقعة ، منها سبع وعشرون غزوة وثمان وأربعون سرية.

فهل يرضى عاقل لنفسه أن يقول بعد ذلك كله : إن العرب كانوا مصروفين عن معارضة القرآن ونبى القرآن ، وإنهم كانوا مخلدين إلى العجز والكسل زاهدين فى النزول إلى هذا الميدان؟.

وهل يصح مع هذا كله أن يقال : إنهم كانوا فى تشاغل عن القرآن غير معنيين به ولا آبهين له؟.

وإذا كان أمر القرآن لم يحركهم ولم يسترع انتباههم ، فلما ذا كانت جميع هذه المهاترات والمصاولات؟ مع أن خصمهم الذى يزعمون خصومته قد قصر لهم المسافة ، ودلهم على أن سبيلهم إلى إسكاته هو أن يأتوا بمثل أقصر سورة مما جاءهم به! أليس ذلك دليلا ماديا على أن قعودهم عن معارضة القرآن ، ليست إلا بسبب شعورهم بعجزهم عن هذه المعارضة واقتناعهم بإعجاز القرآن؟ وإلا فلما ذا آثروا الملاكمة على المكالمة ، والمقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف؟!.

وقد يظن جاهل أن حماستهم فى خصومتهم هذه ، ليس مبعثها شعورهم بقوة القرآن وإعجازه ، وإنما مبعثها بغضهم لمحمد وأصحابه. ولكن هذا الظن يكذبه ما هو مقرر تاريخيا ، وثابت ثبوتا قطعيا ، من أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لم تكن بينهم وبين هؤلاء عداوة قبل نزول القرآن ، بل كانوا أمة واحدة وقبيلة واحدة ، وكان الرسول وأصحابه من أحب الناس إليهم لدماثة أخلاقهم. وللرحم الماسة التى بينهم.

وقد يظن آخر أن حماسة قريش فى خصومتهم للنبى وأتباعه ، إنما كان مبعثها مجرد المخالفة فى الدين ، بقطع النظر عن إعجاز هذا القرآن الكريم. وهذا ظن خاطئ أيضا

٣١٣

لأمرين : أحدهما أنه كان بين المشركين فى جزيرة العرب يهود وأهل كتاب يخالفونهم فى الدين ، فما أرّث ذلك بينهم حربا ولا أوقد لخصومتهم نارا ، على مثل ما كان بينهم وبين محمد. والآخر أنه كان يوجد بين العرب حنفاء من مقاويل الخطباء وفحول الشعراء ، كأمية بن أبى الصلت وقس بن ساعدة ، فما كان هذا ليثير حفائظهم ولا ليقفهم موقف الخصومة منهم. بل رضوا بتحنفهم ومخالفتهم لدينهم ودين آبائهم ، وزادوا على ذلك أن سجلوا كلامهم فى التوحيد وشعرهم فى التنزيه والتمجيد ، لأنهم لم يجدوا فى هذا المنظوم والمنثور مثل ما وجدوا فى القرآن من شدة التأثير وقوة الدفع. ذلك الكتاب الذى جاءهم من فوقهم ، وكان له شأن غير شأنهم ورأوا فيه من مسحة الألوهية ما جعله روحا من أمر الله يتحرك به كل من سمع صوته ، ويهتز له كل من شام برقه ، ولا سبيل إلى وقف تياره وأثره ، إلا بالوقوف فى وجهه والحيلولة بين الناس وبينه. روى أبو داود والترمذى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا رجل يحملنى إلى قومه فإن قريشا منعونى أن أبلغ كلام ربى» فتأمل كلمة «أن أبلغ كلام ربى» ولم يقل : منعونى أن أتلو أو أعمل فى نفسى بكلام ربى ، لأن التلاوة والعمل من غير استعلان بالقرآن ونشر له ، كان لا يؤثر على قريش كثيرا إنما الذى كان يحز فى نفوسهم ويقض من مضاجعهم ، هو نشر هذا النور الذى يكاد يخطف الأبصار ، وإعلان هذا الكتاب الذى يجذب القلوب والأفكار. وكان من تأثيره وفتحه وغزوه للنفوس ما ألمعنا إليه فى إسلام عمر وسعد وأسيد!.

(وأما الفرض الثالث) فينقضه ما هو معروف من أن العرب حين خوطبوا بالقرآن قعدوا عن معارضته ، اقتناعا بإعجازه وعجزهم الفطرى عن مساجلته. ولو أن عجزهم هذا كان لطارئ مباغت عطل قواهم البيانية ، لأثر عنهم أنهم حاولوا المعارضة بمقتضى تلك الدوافع القوية التى شرحناها ففوجئوا بما ليس فى حسبانهم ؛ ولكان ذلك مثار عجب لهم. ولأعلنوا ذلك فى الناس ليلتمسوا العذر لأنفسهم وليقللوا من شأن القرآن فى ذاته ، ولعمدوا إلى كلامهم القديم فعقدوا مقارنة بينه وبين القرآن يغضون بها من مقام القرآن وإعجازه ، ولكانوا بعد

٣١٤

نزول القرآن أقل فصاحة وبلاغة منهم قبل نزوله ، ولأمكننا نحن الآن وأمكن المشتغلين بالأدب العربى فى كل عصر أن يتبينوا الكذب فى دعوى إعجاز القرآن. وكل هذه اللوازم باطلة؟ فبطل ما استلزمها وهو القول بالصرفة بناء على هذه الشبهة الهازلة.

ثم ألم يكف هؤلاء شهادة أعداء القرآن أنفسهم فى أوقات تخليهم من عنادهم ، كتلك الشهادة التى خرجت من فم الوليد «والفضل ما شهدت به الأعداء»؟.

ثم ألم يكفهم ما فى القرآن من وجوه الإعجاز الكثيرة التى دللنا عليها فيما سبق؟

والتى لا تزال قائمة ماثلة ناطقة إلى يومنا هذا ولا تزيدها الأيام وما يجد فى العالم من علوم ومعارف وتجارب إلا وضوحا وبيانا؟!.

إنى لأعجب من القول بالصرفة فى ذاته ، ثم ليشتد عجبى وأسفى حين ينسب إلى ثلاثة من علماء المسلمين الذين نرجوهم الدفاع عن القرآن ، ونربأ بأمثالهم أن يثيروا هذه الشبهات فى إعجاز القرآن!.

على أننى أشك كثيرا فى نسبة هذه الآراء السقيمة إلى أعلام من العلماء ويبدو لى أن الطعن فى نسبتها إليهم ، والقول بأنها مدسوسة من أعداء الإسلام عليهم ؛ أقرب إلى العقول ، وأقوى فى الدليل ، لأن ظهور وجوه الإعجاز فى القرآن من ناحية ، وعلم هؤلاء من ناحية أخرى ، قرينتان مانعتان من صحة عزو هذا الرأى الآثم إليهم.

ولقد عودنا أعداء الإسلام أن يفتروا على رسول الله وعلى أصحابه وعلى الأئمة والعلماء ، فلم لا يكون هذا منه؟

على أن الحق لا يعرف بالرجال ، إنما يعرف الحق بسلامة الاستدلال. وها قد طاش هذا الرأى فى الميزان ، فلنرده على قائله أيا كان.

«وليس كلّ خلاف جاء معتبرا

إلا خلاف له حظّ من النظر»

٣١٥

وأحب أن تلتفت إلى أن هذه الشبهة قد أثارها أعداء الإسلام فيما أثاروا وصوبوا منها سهما طائشا إلى القرآن وإعجازه. فلنكتف بنقضنا لها هنا عن إعادتها بين ما سنذكره فى دفع الشبهات هناك إن شاء الله.

دفع الشبهات الواردة فى هذا المقام

لقد كان ما ذكرناه من وجوه الإعجاز الأربعة عشر ، كافيا للقضاء على كل شبهة ، ولرد كل فرية ومحو كل تهمة. لو لا أن المخذولين من أعداء الإسلام وجدوا آذانا صاغية من نفوس عزيزة علينا ، وفئات متعلمة تعلما مدنيا ، فتأثروا بدجلهم ، ثم رضوا أن يكونوا أبواقا لهم ، يرددون شبهاتهم ، على تلاميذنا فى الجامعات والمدارس ، ويطلقون بخورهم على جماهيرنا فى المطبوعات والأندية والمجالس. لهذا كان من واجبنا أن نحشد قوانا لتطهير الجو الإسلامى من هذه الجراثيم الفتاكة والمطاعن الجارحة الهدامة ، وألا نكتفى عند المناسبة بذكر أحد المتلازمين عن الآخر ، اللهم إلا إذا كان الأمر ظاهرا لا يحتاج إلى تنبيه أما عند الحاجة فقد نكرر ما سبق لنا ذكره ، ولكن بمقدار الحاجة من غير إكثار.

ونلفت نظرك إلى ما أسلفناه من الكلام على الوحى بين مثبتيه ومنكريه ، بالمبحث الثالث من هذا الكتاب (ص ٥٧ ـ ٨٤) من الجزء الأول ، وإلى ما حواه هذا الكلام من أدلة علمية وعقلية ، ومن تنفيد شبهات عشر تتصل بإعجاز القرآن عن قرب أو بعد.

ثم نلفت نظرك أيضا إلى نقض تلك الشبهات الست التى أثيرت حول المكى والمدنى من القرآن (ص ١٩٨ ـ ٢٣٢ بالجزء الأول).

ونرشدك إلى أننا راعينا عند كلامنا على أسلوب القرآن وإعجازه تفصيلات

٣١٦

وتوجيهات ، نعتقد أن فيها غناء عن دفع كثير من الشبهات فاحرص عليها ، ثم اشدد يديك على ما يلقى إليك.

الشبهة الأولى ودفعها :

يقولون : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقى بحيرا الراهب فأخذ عنه وتعلم منه. وما تلك المعارف التى فى القرآن إلا ثمرة هذا الأخذ وذاك التعلم.

وندفع هذا (أولا) بأنها دعوى مجردة من الدليل ، خالية من التحديد والتعيين.

ومثل هذه الدعاوى لا تقبل ما دامت غير مدللة ، وإلا فليخبرونا ما الذى سمعه محمد من بحيرا الراهب؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟.

(ثانيا) أن التاريخ لا يعرف أكثر من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سافر إلى الشام فى تجارة مرتين ، مرة فى طفولته ومرة فى شبابه. ولم يسافر غير هاتين المرتين ، ولم يجاوز سوق بصرى فيهما.

ولم يسمع من بحيرا ولا من غيره شيئا من الدين. ولم يك أمره سرا هناك بل كان معه شاهد فى المرة الأولى وهو عمه أبو طالب ، وشاهد فى الثانية وهو ميسرة غلام خديجة التى خرج الرسول بتجارتها أيامئذ. وكل ما هنالك أن بحيرا الراهب رأى سحابة تظلله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشمس ، فذكر لعمه أن سيكون لهذا الغلام شأن ، ثم حذره عليه من اليهود. وقد رجع به عمه خوفا عليه ولم يتم رحلته. كذلك روى هذا الحادث من طرق فى بعض أسانيدها ضعف. ورواية الترمذى ليس فيها اسم بحيرا. وليس فى شىء من الروايات أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع من بحيرا أو تلقى منه درسا واحدا أو كلمة واحدة ، لا فى العقائد ولا فى العبادات ولا فى المعاملات ولا فى الأخلاق. فأنى يؤفكون؟.

(ثالثا) أن تلك الروايات التاريخية نفسها تحيل أن يقف هذا الراهب موقف المعلم المرشد لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه بشره أو بشر عمه بنبوته ، وليس بمعقول أن يؤمن

٣١٧

رجل بهذه البشارة التى يزفها ، ثم ينصب نفسه أستاذا لصاحبها الذى سيأخذ عن الله ، ويتلقى من جبريل ويكون هو أستاذ الأستاذين ، وهادى الهداة والمرشدين!. وإلا كان هذا الراهب متناقضا مع نفسه.

(رابعا) أن بحيرا الراهب لو كان مصدر هذا الفيض الإسلامى المعجز ، لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة والانتداب لهذا الأمر العظيم.

(خامسا) أنه يستحيل فى مجرى العادة أن يتم إنسان على وجه الأرض تعليمه وثقافته ، ثم ينضج النضج الخارق للمعهود فيما تعلم وتثقف ، بحيث يصبح أستاذ العالم كله ، لمجرد أنه لقى مصادفة واتفاقا راهبا من الرهبان مرتين. على حين أن هذا التلميذ كان فى كلتا المرتين مشتغلا عن التعليم بالتجارة ، وكان أميا لا يعرف القراءة والكتابة ، وكان صغيرا تابعا لعمه فى المرة الأولى ، وكان حاملا لأمانة ثقيلة فى عنقه لا بد أن يؤديها كاملة فى المرة الثانية ؛ وهى أمانة العمل والإخلاص فى مال خديجة وتجارتها.

(سادسا) أن طبيعة الدين الذى ينتمى إليه الراهب بحيرا ، تأبى أن تكون مصدرا للقرآن وهداياته. خصوصا بعد أن أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف.

وحسبك أدلة على ذلك ما أقمناه من المقارنات السابقة بين تعاليم القرآن وتعاليم غيره. وما قررناه من الوفاء فى تعاليم القرآن دون غيره ، وما أشرنا إليه من أن القرآن قد صور علوم أهل الكتاب فى زمانه بأنها الجهالات ثم تصدى لتصحيحها. وصور عقائدهم بأنها الضلالات ثم عمل على تقويمها. وصور أعمالهم بأنها المخازى والمنكرات ثم حض على تركها. فارجع إلى ما أسلفناه ، ثم تذكر أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه ، وأن الخطأ لا يمكن أن يكون مصدرا للصواب ، وأن الظلام لا يمكن أن يكون مشرقا للنور.

(سابعا) أن أصحاب هذه الشبهة من الملاحدة يقولون : إن القرآن هو الأثر التاريخى

٣١٨

الوحيد الذى يمثل روح عصره أصدق تمثيل. فإذا كانوا صادقين فى هذه الكلمة فإننا نحاكمهم فى هذه الشبهة إلى القرآن نفسه ، وندعوهم أن يقرءوه ولو مرة واحدة بتعقل ونصفة ، ليعرفوا منه كيف كانت الأديان وعلماؤها وكتابها فى عصره؟ وليعلموا أنها ما كانت تصلح لأستاذية رشيدة ، بل كانت هى فى أشد الحاجة إلى أستاذية رشيدة!. إنهم إن فعلوا ذلك فسيستريحون ويريحون الناس من هذا الضلال والزيغ ، ومن ذلك الخبط والخلط. هدانا وهداهم الله فإن الهدى هداه. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

(ثامنا) أن هذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة ، لفرح بها قومه وقاموا لها وقعدوا ، لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله ، وكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه وإحباط دعوته بأية وسيلة لكنهم كانوا أكرم على أنفسهم من هؤلاء الملاحدة فحين أرادوا طعنه بأنه تعلم القرآن من غيره ولم يفكروا أن يقولوا إنه تعلم من بحيرا الراهب كما قال هؤلاء ، لأن العقل لا يصدق ذلك والهزل لا يسعه. بل لجأوا إلى رجل فى نسبة الأستاذية إليه شىء من الطرافة والهزل ، حتى إذا مجت العقول نسبة الأستاذية إليه لاستحالتها ، قبلتها النفوس لهزلها وطرافتها ، فقالوا إنما يعلمه بشر ، وأرادوا بالبشر حدادا روميا منهكا بين مطرقته وسندانه ، ضالا طول يومه فى خبث الحديد وناره ودخانه ، غير أنه اجتمع فيه أمران حسبوهما مناط ترويج تهمتهم أحدهما : أنه مقيم بمكة إقامة تيسر لمحمد الاتصال الدائم الوثيق به ، والتلقى عنه. والآخر. غريب عنهم وليس منهم ، ليخيلوا إلى قومهم أن عند هذا الرجل علم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم ، فيكون ذلك أدنى إلى التصديق بأستاذيته لمحمد. وغاب عنهم أن الحق لا يزال نوره ساطعا يدل عليه ، لأن هذا الحداد الرومى أعجمى لا يحسن العربية ، فليس بمعقول أن يكون مصدرا لهذا القرآن الذى هو أبلغ نصوص العربية ، بل هو معجزة المعجزات ومفخرة العرب واللغة العربية. (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)!.

٣١٩

الشبهة الثانية ودفعها :

يقولون : نحن لا نشك فى صدق محمد فى إخباره عما رأى وسمع. ولكنا نعتقد أن نفسه هى منبع هذه الأخبار ، لأنه لم يثبت علميا أن هناك غيبا وراء المادة يصح أن يتنزل منه قرآن أو يفيض عنه علم أو يأتى منه دين. ثم ضربوا لذلك مثلا فقالوا : إن الفتاة الفرنسية (جان دارك) الناشئة فى القرن الخامس عشر الميلادى ، قد حدث التاريخ عنها أنها اعتقدت ـ وهى فى بيت أهلها بعيدة عن التكاليف السياسية ـ أنها مرسلة من عند الله لانقاذ وطنها ودفع العدو عنه ، واعتقدت أنها تسمع صوت الوحى الإلهى يحضها على القتال والجهاد. وانطلقت تحت هذا التأثير فجردت حملة على أعداء وطنها وقادت الجيش بنفسها فقهرتهم ثم دارت الدائرة فوقعت أسيرة وماتت ميتة الأبطال فى ميدان النزال ولا يزال ذكرها يتلألأ نورا ويعبق أريجا ، حتى لقد قررت الكنيسة الكاثوليكية قداستها بعد موتها بزمن.

وندفع هذه الشبهة بأمور :

(أولها) تلك الأدلة العلمية التى أقمناها هناك على إثبات الوحى الإلهى الحقيقى لا الوحى النفسى الخيالى ، مع دفع الشبهات الواردة عليه (بالمبحث الثالث من هذا الكتاب).

(ثانيها) هذه الأدلة الأربعة عشر التى أقمناها وجوها لإعجاز القرآن فى هذا المبحث ؛ ففي كل وجه منها دفع كاف لهذه الشبهة عند التأمل والإنصاف ، لأن الإنسان محدود القوى والمواهب ، فلا يستطيع أن يخرق النواميس الكونية العادية. وما ذكرناه من وجوه إعجاز القرآن فيه أربعة عشر دليلا على خرق القرآن للنواميس الكونية المعتادة. وخرقها لا يملكه إلا من قهر الكون ونواميسه ، وكان له السلطان المطلق على العالم وما فيه ، وهو الله وحده لا محمد ولا غير محمد لا بالعقل الباطن ولا الظاهر ، لا بالوحى النفسى ولا الانفعال العصبى.

٣٢٠