مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

لقد ظهر أن الصيام يفيد فى حالات كثيرة ، وهو العلاج الوحيد فى أحوال أخرى وهو أهم علاج إن لم يكن العلاج الوحيد للوقاية من أمراض شتى.

فللعلاج يستعمل فى :

١ ـ اضطرابات الأمعاء المزمنة المصحوبة بتخمر فى المواد الزلالية والنشوية. وهنا ينجح الصيام وخصوصا عدم شرب الماء بين الأكلتين وأن تكون بين الأكلة والأخرى مدة طويلة كما فى صيام رمضان ويمكن أخذ الغذاء المناسب حسب حالة التخمر. وهذه الطريقة هى أنجع طريقة لتطهير الأمعاء.

٢ ـ زيادة الوزن الناشئ من كثرة الغذاء وقلة الحركة فالصيام أنجع من كل علاج مع الاعتدال وقت الإفطار فى الطعام ، والاكتفاء بالماء فى السحور.

٣ ـ زيادة الضغط الذاتى. وهو آخذ فى الانتشار بازدياد الترف والانفعالات النفسية.

ففي هذه الحالة يكون شهر رمضان نعمة وبركة خصوصا إذا كان وزن الشخص أكثر من الوزن الطبيعى لمثله.

٤ ـ البول السكرى. وهو منتشر انتشار الضغط. ويكون فى مدته الأولى وقبل ظهوره مصحوبا غالبا بزيادة الوزن. فينا يكون الصيام علاجا نافعا ، إذ أن السكر يهبط مع قلة السمن ويهبط السكر فى العادة بعد الأكل بخمس ساعات إلى أقل من الحد الطبيعى فى حالات البول السكرى الخفيف. وبعد عشر ساعات إلى أقل من الحد الطبيعى بكثير. ولا يزال الصيام مع بعض ملاحظات فى الغذاء أهم علاج لهذا المرض حتى بعد ظهور الأنسولين ، خصوصا إذا كان الشخص يزيد على الوزن الطبيعى ولم يكن هناك علاج لهذا المرض قبل الأنسولين غير الصيام.

٥ ـ التهاب الكلى الحاد والمزمن المصحوب بارتشاح وتورم.

٢٨١

٦ ـ أمراض القلب المصحوبة بتورم.

٧ ـ التهاب المفاصل المزمنة خصوصا إذا كانت مصحوبة بسمن ، كما يحصل عند السيدات غالبا بعد سن الأربعين وقد شوهدت حالات تتمشى فى شهر رمضان بالصيام فقط أكثر مما تمشى مع علاج سنوات بالكهرباء والحقن والأدوية وكل الطب الحديث.

ورب سائل يقول : ولكن الصيام فى كل هذه الحالات يحتاج إلى إرشاد طبيب فى كل مرض على حدته ، والصيام الذى كتب على المسلمين إنما كتب على الأصحاء .. وهذا صحيح ، ولكن فائدة الصيام للأصحاء هى الوقاية من هذه الأمراض ، وخصوصا الأمراض التى مر ذكرها تحت رقم ١ ر ٢ ر ٣ ر ٧

وهذه الأمراض كلها تبتدئ فى الإنسان تدريجا ، بحيث لا يمكن الجزم بأول المرض فلا الشخص ولا طبيبه يمكنهما أن يعرفا أول المرض ، لأن الطب لم يتقدم بعد إلى الحد الذى يعرف فيه أسباب هذه الأمراض كلها ولكن من المؤكد طبيا أن الوقاية من كل هذه الأمراض هى فى الصيام : بل إن الوقاية فعالة جدا قبل ظهور أعراض المرض بوضوح. وقد ظهر بإحصاءات لا تقبل الشك أن زيادة السمن يصحبها استعداد للبول ، السكرى ، وزيادة الضغط الذاتى للدم ، والتهاب المفاصل المزمن ، وغير ذلك. ومع قلة الوزن الاستعداد لهذه الأمراض بالنسبة نفسها. وهذا هو السر فى أن شركات التأمين لا تقبل تأمينا على الأشخاص الذين يزيد وزنهم إلا بشروط تثقل كلما زاد الوزن. والصيام مدة شهر كل سنة هو خير وقاية من كل هذه الأمراض.

وهذه الأمراض تنتشر بزيادة الحضارة والترف فقد انتشرت فى أوربة أكثر من الأول وفى مصر يكاد يكون البول السكرى وزيادة ضغط الدم مقتصرين على الطبقات الوسطى والعليا وهو قليل جدا فى الفقراء.

ويغلب على الظن أن ذلك هو السر فى الصيام فى الإسلام أشد منه فى الأديان

٢٨٢

السابقة ، لأن الإسلام ـ وهو آخر الشرائع السماوية ـ جاء فى زمن نحتاج فيه إلى الوقاية من أمراض تزداد كلما ازداد الترف» اه رحمة الله عليه.

٣ ـ معجزة يكشف عنها علم الاجتماع

كتب العلامة مدير مجلة الأزهر الغراء تحت عنوان : (معجزات القرآن العلمية ـ القرآن يضع أصول علم الاجتماع قبل العلم بأكثر من ألف سنة) مقالا ضافيا نقتطف منه ما يلى :

«لما جاء الإسلام وشرع أهله فى إحياء موات العلم ونقل كتبه القيمة إلى لغتهم ، نظروا فى كل شىء ، مستهدين بالأصول الأولية للقرآن الكريم ، كقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ. وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فأدركوا على وجه عام أن لكل شىء فى هذا الوجود نظاما يجرى عليه كما فعل بعض المؤرخين ، وخاصة ابن خلدون. ولكن المعارف التى كانت قد جمعت عن الأمم ، لم تكن تكفى لتكوين علم خاص بها. وتلت هذا الدور نهضة أوربا. فادخر الله هذا السبق للفيلسوف الفرنسى الكبير (أوجست كومت ١٧٩٨ ـ ١٨٥٣) واضع أصول الفلسفة الوضعية فإنه أول من جعل للاجتماع علما ووضعه فى رأس جميع العلوم البشرية لشرف موضوعه من ناحية ، ولأنه لا يتسنى إلا لمن يأخذ من كل علم بطرف ، لتشعب بحوثه ، واستنادها على جملة المعارف البشرية.

فعلم الاجتماع البشرى أحدث العلوم وضعا ، ولكنه أشرفها موضوعا ، إذ يعرفنا على أى الأصول تقوم الجماعات ، وبأيها تحفظ وجودها وترتقى ، وما هى عوامل التأليف التى تقوى وجودها؟ وعوامل التحليل التى تفصم عرا ألفتها؟. وهذه كلها معارف عالية ضرورية للمجتمع ضرورة علمى قوانين الصحة والطب لآحاده.

ثم ذكر من قواعد علم الاجتماع : أن الإنسان لا يستطيع أن يؤثر فى المجتمع لمجرد رأى

٢٨٣

يبدو له فى إصلاحه. ولكن ذلك لا يكون إلا إذا فهم الكافة سداد هذا الرأى وعملوا به. عند ذاك يوجد فى المجتمع ميل جديد للتحول عن الجهة التى يراد تحويله منها ، إلى الوجهة التى يريده على أن يكون عليها. وهذا كله مصداق لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) فمعنى الآية أن الأمة التى تريد أن يحول الله عنها حالا لا ترضاه لمجتمعها ، يجب عليها أن تغير من نفسيتها أو لا فإن فعلت حول الله عنها ما تكره ، ووجه إليها من نعمه ما تحب. وهذا وحده معجزة علمية للقرآن كان يجب أن يعقد لها فصل خاص ، وأن يشاد بذكرها أعظم إشادة! فكشف هذا السر يجعلنا ندرك سر تنبيه القرآن على وجوب الدعوة إلى المعروف والنهى عن المنكر ـ وبعد أن ساق أدلة عن الكتاب والسنة على ذلك قال :

القرآن أثبت أن للاجتماع نواميس ثابتة قبل أن يتخيلها أعلم علماء الأرض تخيلا وقد رأيت أن تعيين تلك النواميس والتحسس مما خفى منها هو الشغل الشاغل اليوم لفلاسفة الاجتماع. فقال تعالى : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً). وقال تعالى (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً). (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً).

ولم يكتف الكتاب بهذا وحده. ولكنه قرر أيضا أن الجماعات كالآحاد ، لها آجال لا تستطيع أن تتعداها. وهو ما هدى إليه علم الاجتماع بعد أن وجد أن وجوه الشبه بين الفرد والمجتمع واحدة ، فقال تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). وقد تكرر مثلها فى سور كثيرة من القرآن الكريم.

فالذى يتأمل فى سبق القرآن الكريم العالم كله أكثر من عشرة قرون فى وضع أصول العلم الاجتماعى ، ويكون من غير أهل هذا الدين ، يدهش كل الدهش ، ولا يكاد يصدق عينيه. وسندأب نحن من جهتنا على تجلية الأصول العلمية مستخرجين إياها من

٢٨٤

الكتاب الكريم ، ليتحقق العالم أنه على ما يقوله موحيه سبحانه وتعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ).

وبذلك يتضح سر نهضة المسلمين التى حصلت لهم زعامة العلم والحكمة فى العالم فى سنين معدودة ، فإنهم لو كانوا بدءوا حياتهم العلمية على النحو الذى تبدؤها به كل أمة ، ما استطاعوا أن يبزوا الأمم التى تقدمتهم فى هذا السبيل بقرون كثيرة. ولكنهم لبدئهم إياها مستنيرين بهذه الأصول القرآنية العالية ، بلغوا منها أوجا فى مدى قصير لم تبلغه أمة فى آماد طويلة. وعلى المسلمين اليوم أن يدركوا هذا الأمر الجلل ، وأن يجعلوا كتابهم نبراسا لهم فى اقتباسهم العلم عن الأمم الغربية ، ليبلغوا منه ما بلغه أسلافهم فى عهدهم الأول ، ويزيدوا عليه ما هدى إليه البشر فى العصور الأخيرة اه.

الوجه الثامن آيات العتاب

ومعنى هذا أن القرآن سجل فى كثير من آياته بعض أخطاء فى الرأى على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووجه إليه بسيبها عتابا نشعر بلطفه تارة وبعنفه أخرى. ولا ريب أن العقل المنصف يحكم جازما بأن هذا القرآن كلام الله وحده ، ولو كان كلام محمد ما سجل على نفسه هذه الأخطاء وهذا العتاب ، يتلوهما الناس بل ويتقربون إلى الله بتلاوتهما حتى يوم المآب.

الخطأ فى الاجتهاد ليس معصية :

وننبهك فى هذه المناسبة إلى أن هذا الخطأ ليس معصية ، حتى يقدح ذلك فى عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما هو خطأ فحسب ، بل هو من نوع الخطأ الذى يستحق صاحبه أجرا ، لأنه صادر عن اجتهاد منه. والاجتهاد الصالح ـ وهو بذل الجهد فى الاطلاع والبحث والموازنة والاستنتاج ـ مجهود شاق يبذله صاحبه لغرض شريف ، فليس من الإنصاف حرمانه من

٢٨٥

المكافأة متى كان أهلا للاجتهاد وإن أخطأ ، لأن الإنسان ليس فى وسعه أن يكون معصوما من الخطأ. بل المجتهد يخطئ بعد أن يبذل وسعه فى طلب الصواب وهو يتمنى ألا يخطئ بل وهو يخشى أشد الخشية أن يخطئ ، والله تعالى يقول : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وعلى هذا قررت شريعتنا السمحة أن المجتهد له أجر إن أخطأ وأجران إذا أصاب. روى الجماعة كلهم حديث «إذا حكم الحاكم فى شىء فاجتهد ثم أصاب فله أجران. وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد» بل كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطى أمراء الجيوش والسرايا حق الحكم بما يرون فيه المصلحة ، ويقول للواحد منهم : وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ؛ فإنك لا تدرى أتصيب فيهم حكم الله أم لا» رواه أحمد ومسلم والترمذى وابن ماجة.

ولا ريب أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فى موضع الإمامة الكبرى للخلق فكان من حكمة الله أن يجتهد ليقلده الخلق فى الاجتهاد ، وأن يخطئ فى بعض الأمور لئلا يصرفهم خوف الخطأ فى الاجتهاد عن الاجتهاد ، ما دام أفضل الخلق على الإطلاق قد أخطأ ومع خطئه لم يمتنع عن الاجتهاد ، بل عاش طوال حياته يجتهد فى كل ما لم ينزل عليه فيه وحى ، حتى يتقرر فى الناس مبدأ الانتفاع بمواهب العقول وثمار القرائح ، ويتحرر الفكر البشرى من رق الجمود والركود .. ثم كان من حكمة الله أيضا أن يقف رسوله على وجه الصواب فيما أعوزه فيه الصواب ليعلم الناس أنه ليس كأحدهم ، ولا أن اجتهاده كاجتهادهم ، بل اجتهاده حجة دونهم ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤيد من لدن ربه ، يتولاه مولاه دائما حتى لا يقره على خطأ فى الأمور الاجتهادية. وهنا يزداد الذين آمنوا إيمانا به ، وثقة بكل ما صدر عنه. ثم يقتدرون به فى وجوب الخضوع للحق إذا ظهر ، كما كان الرسول يخضع له ويعلنه ويعلن خطأه فيما أخطأ فيه لا تأخذه العزة بالإثم ، ولا تلويه العظمة عن حق ، بل هنا سر العظمة وسر النهضة وسر تربية الأمة بالقدوة. (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً).

٢٨٦

إنما العار الجارح لكرامة البشر ، أن يجمد الإنسان فلا يجتهد وهو أهل للاجتهاد ، أو يجمد المجتهد على رأيه وإن كان عظيما بعد أن يستعلن له خطؤه ، مع أن الرجوع إلى الحق فضيلة ، والرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل. والكمال المطلق لله وحده. وفى الحديث. «كل بنى آدم خطاء. وخير الخطائين التوابون».

يضاف إلى ما ذكرنا من الحكم والأسرار فى أخطاء الرسول الاجتهادية ، أمر آخر له قيمته وخطره ، وهو إقامة أدلة مادية ناطقة على بشرية الرسول وعبوديته ، وأنه ـ وهو أفضل خلق الله ـ لم يخرج عن أن يكون عبدا من عبيد الله ، يصيبه من أعراض العبودية ما يصيب العباد ، ومن ذلك خطؤه فى الاجتهاد ، وبذلك لا يضل المسلمون فى إطرائه ، ولا يغلون فى إجلاله ، كما ضل النصارى فى ابن مريم ولقد نبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذلك فقال : «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله» رواه البخارى وقال : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). وإن الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله» رواه أحمد وابن ماجة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما أنا بشر. وإنكم تختصمون إلى فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضى له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار ، فليأخذها أو ليتركها» رواه مالك والشيخان وأصحاب السنن.

وخلاصة القول أن فى هذا المقام أمورا ثلاثة :

(أولها) أن خطأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن من جنس الأخطاء المعروفة التى يتردى فيها كثير من ذوى النفوس الوضيعة ، كمخالفة أمر من الأوامر الإلهية الصريحة ، أو ارتكاب فعل من الأفعال القبيحة. إنما كان خطؤه عليه الصلاة والسلام فى أمور ليس لديه فيها نص صريح ، فأعمل نظره وأجال فكره وبذل وسعه ولكن على رغم ذلك كله خطأ.

٢٨٧

(ثانيها) أن الله تعالى لم يقر رسوله على خطأ أبدا ، لأنه لو أقره عليه لكان إقرارا ضمنيا بمساواة الخطأ للصواب والحق للباطل. ما دامت الأمة مأمورة من الله باتباع الرسول فيما يقول ويفعل. ولكان فى ذلك تلبيس على الناس وتضليل لهم عن الحق الذى فرض الله عليهم اتباعه. ولكان ذلك مدعاة إلى التشكك فيما يصدر عن الرسول ، ضرورة أنه على هذا الفرض قد يجتهد ويخطئ ولا يرشده الله إلى وجه الصواب فيما أخطأ. وهذه اللوازم كلها باطلة لا محالة ، فبطل ملزومها وثبت أن الحكيم العليم لا يمكن أن يقر القدوة العظمى على خطأ أبدا ، بل لا بد أن يبين له وجه الصواب. وقد يكون مع هذا البيان لون من ألوان العتاب لطيفا أو عنيفا ، توجيها له وتكميلا ، لا عقوبة وتنكيلا.

(ثالثها) أن الرسول كان يرجع إلى الصواب الذى أرشده إليه مولاه دون أن يبدى غضاضة ، ودون أن يكتم شيئا مما أوحى إليه من تسجيل الأخطاء عليه ، وتوجيه العتاب إليه ، وفى ذلك ـ لا ريب ـ أنصع دليل على عصمته وأمانته ، وعلى صدقه فى كل ما يبلغ عن ربه ، وعلى أن القرآن ليس من تأليفه ووضعه ، ولكنه تنزيل العزيز الرحيم.

آيات العتاب نوعان :

أما بعد فإن العتاب الموجه للرسول فى القرآن على نوعين نوع لطيف لين ونوع عنيف خشن. ولنمثل لهما بأمثلة ثلاثة :

(المثال الأول) قوله تعالى فى سورة التوبة : (عَفَا اللهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) وذلك أنه عليه‌السلام كان قد أذن لبعض المنافقين فى التخلف عن غزوة تبوك حين جاءوا يستأذنون ويعتذرون ، فقبل منهم تلك الأعذار. أخذا بظواهرهم ، ودفعا لأن يقال إنه لا يقبل العذر من أصحاب الأعذار ، ولكن الله تعالى عاتبه كما ترى ، وأمره بكمال التثبت والتحرى ، وألا ينخدع بتلك الظواهر ، فإن من ورائها أسفل المقاصد والله أعلم بما يبيتون ولعله لم يخف عليك لطف هذا العتاب بتصدير العفو فيه خطابا للرسول من رب الأرباب!.

٢٨٨

(المثال الثانى) قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً. وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وذلك أنه وقع فى أسر المسلمين يوم بدر سبعون من أشراف قريش. فاستشار الرسول أصحابه فيهم. فمنهم من اشتد وأبى عليهم إلا السيف. ومنهم من رق لحالهم وأشار بقبول الفداء منهم. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطبوعا على الرحمة ، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، فرجح بمقتضى طبعه الكريم ورحمته الواسعة رأى من أشار بقبول الفداء عسى أن يسلموا أو يخرج الله من أصلابهم من يعبده ويمجده ، ولينتفع المسلمون بمال الفدية فى شئونهم الخاصة والعامة. ولكن ما لبث حتى نزلت الآيات الكريمة المذكورة. وفيها تسجيل لخطأ ذلك الاجتهاد المحمدى. فلو كان القرآن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سجل على نفسه ذلك الخطأ!.

أمر آخر : فى هذه الآيات ظاهرة عجيبة ، هى الجمع بين متقابلات لا تجتمع فى نفس بشر على هذا الوجه ، فصدرها استنكار للفعل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ). وعقب هذا الاستنكار عتاب قاس مر وتخويف من العذاب (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وفى أثر هذا الاستنكار والعتاب والتخويف إذن بالأكل ، ووصف له بالطيب والحل ، وبشارة بالمغفرة والرحمة لمن أكل (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً. وَاتَّقُوا اللهَ. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومثلك يعلم أن نظم هذه المتقابلات فى سلك واحد بهذه الصورة لآمر واحد ومأمور واحد ، لا يمكن أن يصدر من نفس بشرية هكذا من غير فاضل بين الإنكار والإذن ، ولا بين المدح والذم. ولا بين الوعيد والوعد لأن من طبيعة البشر أن يشغلهم شأن عن شأن ، ولا يجتمع لهم فى أمر واحد ووقت واحد خاطران متقابلان ، ولا حالان متنافيتان. كالغضب والرضا والاستهجان

(١٩ ـ مناهل العرفان ٢)

٢٨٩

والاستحسان. بل إذا تواردا على النفس فإنما يردان متعاقبين فى زمنين. وإذا تعاقبا فاللاحق منهما يمحو السابق. وإذا محاه لم يبق معنى لإثباته وتسجيله ، بل من الطبعى تركه والإضراب عنه ، خصوصا إذا كان هذا الخاطر الأول إعلانا لتخطئة المتكلم ونقده ولومه ، كقبول الفداء فى هذا المقام وأكله.

فلا جرم أن هذه الظاهرة تأبى هى الأخرى إلا أن تكون دليل إعجاز ، وبرهان صدق على أن هنا نفسيتين مختلفتين : نفسية لا يشغلها شأن عن شأن ، ولا تتأثر ببواعث الغضب والرضا كما يتأثر الإنسان. ونفسية أخرى نسبتها إلى الأخرى نسبة المأمور من آمره ، والمسود من سيده ، لكن مع الحب والقرب. فهذه الآيات الكريمة ليست إلا كلام سيد عزيز يقول لعبده الحبيب : أخطأت فيما مضى وما كان لك أن تفعل ، ولكنى عفوت وغفرت وأذنت لك بمثله فى المستقبل!.

(المثال الثالث) قوله عزوجل : (عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى * وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى * وَهُوَ يَخْشى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى* كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) وذلك أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مشتغلا ذات يوم بدعوة أشراف من قريش إلى الإسلام ، وإذا عبد الله بن أم مكتوم يجيء ويسأل الرسول عليه الصلاة والسلام. وكان عبد الله رجلا أعمى تشرف بهداية الإسلام من قبل ، ولم يقدر تشاغله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعاية هؤلاء الصناديد الذين كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على هدايتهم كل الحرص ، وكان يستميلهم ويتألفهم إليه طمعا فى أن يسلموا ، فلا يلبث جماهير العرب أن تقتدى بهم فى إسلامهم. وفى أى شىء جاء هذا الصحابى يسأل؟ إنه مسلم ، فطبيعى أنه لم يسأله عن الإسلام بل جاء يستزيده من الهداية والعلم ويقول : «يا رسول الله علمنى مما علمك الله».

وجد الرسول نفسه بين قوم غلاظ مشركين يدعوهم إلى الإسلام ، ورجل وديع مسلم يستزيده من العلم فآثر الإقبال على أولئك الصناديد. وعبس فى وجه ابن أم مكتوم هذا وأعرض عنه ، لا احتقارا له وغضا من شأنه ، ولكن حرصا على هداية هؤلاء وخوفا

٢٩٠

من أن تفوت هذه الفرصة السانحة لدعوتهم. فأنزل الله على رسوله تلك الآيات السالفة ، يعاتبه فيها ذلك العتاب القاسى الخشن ، ويفهمه أن حرصه على الهداية ما كان ينبغى أن يصل به إلى حد الإقبال الشديد على هؤلاء الصناديد وهم عنه معرضون ، ولا إلى حد الإعراض العابس فى وجه هذا الضعيف الأعمى وهو عليه مقبل.

وكأنى بك تحس معى حرارة هذا العتاب. وذلك لتقرير مبدأ من المبادئ العالية ، هو الإعراض عن المعرضين مهما عظم شأنهم ، والإقبال على المقبلين مهما رق حالهم (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا. وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) ولعلك تلمح معى من وراء هذا العتاب ، رحمة الرسول بأعدائه وإخلاصه لدعوته ، وتفانيه فى وظيفته ، وحرصه على هداية الناس أجمعين. زاده الله شرفا على شرفه وعزا على عزه آمين.

الوجه التاسع

ما نزل بعد طول انتظار

ومعنى هذا أن فى القرآن آيات كثيرة تناولت مهمات الأمور ، ومع ذلك لم تنزل إلا بعد تلبث وطول انتظار. فدل هذا على أن القرآن كلام الله لا كلام محمد ، لأنه لو كان كلام محمد ما كان معنى لهذا الانتظار فإن الانتظار فى ذاته شاق وتعلقه بمهمات الأمور يجعله أشق ، خصوصا على رجل عظيم يتحدى قومه بل يحدى العالم كله!.

ولبيان هذا الوجه نمثل بأمثلة خمسة :

(أولها) حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، نزل فيه قول الله تعالى :

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فأنت تفهم معى من هذه الآية أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٩١

كان يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة ، ومن أجل ذلك كان يقلب وجهه فى السماء تلهفا إلى نزول الوحى بهذا التحويل. ولقد طال به الأمر سنة ونصف سنة وهو يستقبل بيت المقدس ، فلو كان القرآن من وضعه لنفس عن نفسه وأسعفها بهذا الذى تهفو إليه نفسه ويصبو إليه قومه لأن الكعبة فى نظرهم ، هى مفخرتهم ومفخرة آبائهم من قبلهم.

(ثانيها) حادث الإفك ، وهو من أخطر الأحداث وأشنعها ، لم ينزل القرآن فيه إلا بعد أن مضى على الحادث قرابة أربعين يوما. على حين أنه يتصل بعرض الرسول وعرض صديقه الأول أبى بكر. وقام على اتهام أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق ورميها بأقذر العار وهو عار الزنى. فلو كان القرآن كلام محمد ما بخل على نفسه بتلك الآيات التى تنقذ سمعته وسمعة زوجته الحصان الطاهرة ؛ ولما انتظر يوما واحدا فى القضاء على هذه الوشايات الحقيرة الآثمة ، التى تولى كبرها أعداء الله المنافقون. اقرأ قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) ـ إلى قوله ـ (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فى سورة النور. ثم حدثنى بعد قراءتها : ألم يكن الواجب على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعجل الحكم بهذه البراءة لو كان الأمر إليه ، خصوصا أنه قد علم الناس وجوب الدفاع عن العرض ولو بالنفس؟ ثم أخبرنى : ألا ترى فارقا كبيرا بين هذه اللغة الجريئة القاطعة ، المنذرة والمبشرة ، التى صيغت بها آيات البراءة ، وبين لغة الرسول الحذرة المتحفظة التى رويت عنه فى هذه الحادثة؟ إن كنت فى شك فأمامك آيات البراءة وهاك كلمتين مما أثر عنه فى هذا الأمر الجلل : ورد أنه قال حين طال الانتظار وبلغت القلوب الحناجر : «إنى لا أعلم إلا خيرا». وورد أنه قال قبيل الساعة التى نزلت فيها آيات البراءة : «يا عائشة ، أما إنه قد بلغنى كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله».

فهل يجوز فى عقل عاقل أن يكون صاحب هذا الكلام هو صاحب آيات البراءة؟

٢٩٢

دع عنك الأسلوبين ولكن تأمل النفسيتين المتميزتين فى الكلامين ، تميز السيد من المسود ، والعابد من المعبود!

(ثالثها) ما ورد من أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أصحاب الكهف وعن ذى القرنين وعن الروح. فقال لسائليه : «ائتونى غدا أخبركم»

ولم يقل : إن شاء الله فأبطأ عليه الوحى حتى شق ذلك عليه وكذبته قريش وقالوا : ودعه ربه وقلاه أى تركه ربه وأبغضه ، فأنزل الله : (وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) ثم نهاه مولاه أن يترك المشيئة مرة أخرى! إذ قال له فى سورة الكهف : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً). ولما نزل جبريل بعد هذا الإبطاء والتمهل قال له ما حكاه الله عنه فى سورة مريم : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ. لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ. وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا). يعنى أن عدم الإسراع بالنزول لم يكن سببه إعراض الله عنه كما يزعمون. بل كان لعدم الإذن به لحكم بالغة ، قد عرضنا لبعضها فى الكلام على أسرار تنجيم القرآن بالجزء الأول وحسبك هنا أن يستدل المنصف بهذا الإبطاء والتراخى على أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم لا كلام النبى الكريم.

(رابعها) ما ورد من أنه لما نزل قوله سبحانه : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) انخلعت قلوب الصحابة وذعروا ذعرا شديدا ؛ لأنهم فهموا من هذه الآية أن الله تعالى سيحاسبهم على كل ما يجول بخاطرهم ولو كانت خواطر رديئة ، ثم سألوا فقالوا : يا رسول الله ، أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها ، فقال لهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؛ بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير» فجعلوا يقولونها ويضرعون إلى الله بها حتى أنزل ـ تقدست أسماؤه ـ الآية الأخيرة من سورة البقرة وهى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلى آخر السورة. فسكنت نفوسهم واطمأنت قلوبهم ، وفهموا أنهم لا يحاسبون إلا على ما يقع تحت اختيارهم

٢٩٣

وفى دائرة طاقتهم من نية وعزم وقول وعمل. أما خلجات الضمائر العابرة ، وخطرات السوء ولو كانت كافرة. فلا يتعلق بها تكليف ، لأنها ليست فى مقدور العبد ، والقرآن يقول : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

فأنت ترى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبين لهم هذا البيان حين سألوه ، لأنه لم يوح وقتئذ إليه. ولو كان من وحى نفسه كما يقول الأفاكون لأسعف أصحابه بالآية الأخيرة ، وأنقذهم من هول هذا الخوف الذى أكل قلوبهم لا سيما أنهم أصحابه وهو نبيهم ، ومن خلقه الرحمة خصوصا بهم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). وأيضا لو كان يملك هذا الكلام لعاجلهم بالبيان ، وإلا كان كاتما للعلم : «وكاتم العلم ملعون. فأين يذهبون؟»

(خامسها) ورد أن كبير المنافقين عبد الله بن أبى لما توفى ، قام إليه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفنه فى ثوبه وأراد أن يستغفر له ، فقال له عمر : أستغفر له وتصلى عليه وقد نهاك ربك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما خيرنى ربى فقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وسأزيده على السبعين ، ثم صلى عليه. فأنزل الله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) فترك الصلاة عليهم.

اقرأ الرواية بتمامها فى الصحيحين ، ثم نبئنى : هل يعقل أن يكون القرآن كلام محمد مع ما ترى من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم فى الآية الأولى غير ما فهم عمر ثم جاءت الآية الثانية صارفة للرسول عن فهمه ومؤيدة لعمر؟ أفما كان الأجدر به لو كان القرآن كلامه أن يكون هو أدرى الناس بمراده منه وأعرفهم بحقية المقصود من ألفاظه ، وأن يجيء آخر الكلام مؤيدا لما فهمه هولا لما فهمه غيره؟ لكن الواقع غير ذلك ، فقد سبق إلى فهمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كلمة (أو) فى الآية الأولى للتخيير ، وفهم عمر أنها للمساواة وفهم الرسول أن المراد بكلمة (سبعين) حقيقة العدد المعروف فى العشرات بين الستين والثمانين ، وفهم عمر أنها للمبالغة لا للتحديد فلا مفهوم لها. ولما كان ما فهمه الرسول جاريا على أصل الوضع فى معنى (أو) وفى معنى (سبعين مرة

٢٩٤

تمسك برأيه ، خصوصا أن فيه رحمة برجل من الناس وإن كان منافقا ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطبوعا على الرحمة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

الوجه العاشر

مظهر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند هبوط الوحى عليه

وبيان ذلك أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فى أول عهده بالوحى ، يتعجل فى تلقفه ، ويحرك لسانه بالقرآن من قبل أن يفرغ أمين الوحى من إيحائه إليه ، وذلك للإسراع بحفظه والحرص على استظهاره حتى يبلغه للناس كما أنزل. وكان عليه الصلاة والسلام يجد من ذلك شدة على نفسه فوق الشدة العظمى التى يحسها من نزول الوحى عليه ، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد ، وحتى أن جسمه ليثقل بحيث يحس ثقله من بجواره ، وحتى إن وجهه ليحمر ويسمع له غطيط. روى مسلم «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك وتربد وجهه الشريف» فاقتضت رحمة الله بمصطفاه أن يخفف عنه هذا العناء فأنزل عليه فى سورة القيامة : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ). وبهذا اطمأن الرسول ثقة بأن الله قد تكفل له بأن يجمع القرآن فى صدره ، وأن يقرأه على الناس كاملا لا ينقص كلمة ولا حرفا ، وأن يبين له معناه فلا تخفى عليه خافية منه. وكذلك قال الله فى سورة الأعلى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) وقال له مرة ثالثة فى سورة طه : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ. وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).

ألا ترى فى هذا كله نورا يهدى إلى أن القرآن كلام الله وحده ، ومحال أن يكون كلام محمد ، وإلا لما احتاج إلى هذا العناء الذى كان يعانيه فى نزول القرآن عليه ، ولكان الهدوء والسكون والصمت أجدى فى إنضاج الفكرة وانتقاء ألفاظها لديه ، ولما كان ثمة من داع إلى أن يطمأن على حفظه وتبليغه وبيان معانيه!. أضف إلى ذلك أن هذه الحال

٢٩٥

التى كانت تعروه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الوحى ، لم تكن من عادته فى تحضير كلامه لا قبل النبوة ولا بعدها ، ولم تكن من عادة أحد من قومه. بل كان ديدنهم جميعا تحضير الكلام فى نفوسهم وكفى!

الوجه الحادى عشر

آية المباهلة

وذلك أن القرآن دعا إلى المباهلة ـ وهى مفاعلة من الابتهال والضراعة إلى الله بحرارة واجتهاد ، فأبى المدعوون وهم النصارى من أهل نجران ، أن يستجيبوا لها وخافوها ولا ذوا بالفرار منها ، مع أنها لا تكلفهم شيئا سوى أن يأتوا بأبنائهم ونسائهم ويأتى الرسول بأبنائه ونسائه ، ثم يجتمع الجميع فى مكان واحد يبتهلون إلى الله ويضرعون إليه ، بإخلاص وقوة ، أن ينزل لعنته وغضبه على من كان كاذبا من الفريقين. قال سبحانه فى سورة آل عمران : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ : وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ. وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

«ورد أنه عليه‌السلام لما دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى ننظر ، فقال العاقب وكان ذا رأيهم : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبى مرسل ، وما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم. ولئن فعلتم لتهلكن. فإن أبيتم الا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد غدا محتضنا للحسين آخذا بيد الحسن ، وفاطمة تمشى خلفه وعلىّ خلفها وهو يقول : «إذا أنا دعوت فأمنوا». فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إنى لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها. فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانى!. فقالوا : يا أبا القاسم ، رأينا ألا نباهلك فصالحهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ألفى حلة كل سنة. فقال عليه‌السلام : «والذى نفسى بيده ، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران. ولو لا عنوا لمسخوا قردة وخنازير».

٢٩٦

وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كانت المباهلة مختصة به وبمن يكذبه ، لأن ذلك آكد فى الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حتى جرؤ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وقدمهم فى الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم. وفيه دليل على صحة نبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق أو مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك» اه من تفسير النسفى. ونقول : أليس هذا دليلا ماديا على أن هذا القرآن كلام القادر على إنزال اللعنة وإهلاك الكاذب. ثم أليس قبول محمد لهذه المباهلة مع امتناع أعدائه دليلا على أن صدقه فى نبوته كان أمرا معروفا مقررا حتى فى نفوس مخالفيه من أهل الكتاب. وإلا فلما ذا نكصوا على أعقابهم ولا ذوا بالفرار من المباهلة (تأمل كلمة العاقب وأسقف نجران فى الرواية الآنفة). لكنه الحقد والكبرياء أكلا قلوبهم ، فحسدوه أن آتاه الله النبوة دونهم مع أنه أمى وهم أهل كتاب. وكبر عليهم أن يؤمنوا به ويدينوا له فتضيع رياستهم وتنحط منزلتهم فى نفوس العامة. والحسد والكبر من الحجب الكثيفة التى تحول بين المرء وسعادته ، فالحسود لا يسود ، والمتكبر مخذول لا يسترشد ولا يتوب ؛ (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ). معاذا بك اللهم من مقتك وغضبك ، ومن كل ما يؤدى إلى مقتك وغضبك ، آمين.

الوجه الثانى عشر

عجز الرسول عن الإتيان ببدل له

وذلك أن أعداء الإسلام طلبوا من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتى بقرآن غير هذا القرآن أو أن

٢٩٧

يبدله ، فلم يفعل ، وما ذاك إلا لأن القرآن ليس كلامه ، بل هو خارج عن طوقه ، آت من فوقه ، ولو كان كلامه لاستطاع أن يأتى بغيره وأن يبدله حين اقترحوا عليه ، وحينئذ يكتسب أنصارا إلى أنصاره ، ويضم أعوانا إلى أعوانه ، ويكون ذلك أروج لدعوته التى يحرص على نجاحها ، لكنه أعلن عجزه عن إجابة هذه المقترحات وأبدى مخاوفه إن هو أقدم على هذا الذى سألوه ، وتنصل من نسبة القرآن إليه مع أنه الفخر كل الفخر ، وألقمهم حجرا فى أفواههم بتلك الحجة التى أقامها عليهم ، وهى أنه نشأ فيهم لا يعرف ولا يعرفون عنه ذلك الذى جاء به وهو القرآن.

اقرأ ـ إن شئت ـ هاتين الآيتين من سورة يونس : وقال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله. قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى. إن أتبع إلّا ما يوحى إلى. إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم* قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون؟ والمعنى : أن القرآن فوق طاقتى وليس من مقدورى ، وما أنا إلا ناقل له أتبع ما يوحى إلى منه. وإنى أخاف سطوة صاحب هذا الكتاب إذا أنا تلاعبت بنصوصه أو غيرت فيه. فالقرآن كلامه ، ولو أراد ألا أكون رسولا بينه وبينكم ، ما كانت لى حيلة إلى أن أتلو هذا الكتاب عليكم وتأخذوه عنى ، فقد نشأت بينكم ومكثت أكثر من أربعين سنة قبل نزوله ـ وهو عمر طويل ـ وأنتم لا تعرفون منى هذا الاستعداد الأعلى ، ولا تسمعون منى مطلقا مثل هذا الكلام المعجز ، ولم تأخذوا على قط أنى كذبت مرة على عبد من عباد الله ، فكيف أكذب على الله بعد هذا العمر الطويل؟ (أفلا تعقلون)؟ يا لها كلمة فيها من لذعة التعنيف والتخجيل بمقدار ما فيها من لفت النظر إلى قوة الدليل!!

٢٩٨

الوجه الثالث عشر

الآيات التى تجرد الرسول من نسبته إليه

وذلك أنك تقرأ القرآن فتجد فيه آيات كثيرة ، تجرد الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يكون له فيها حرف أو كلمة ، وتصفه بأنه كان قبل نزول القرآن لا يدرى ما الكتاب ولا الإيمان ، وتمتن عليه بأن الله آتاه الكتاب والحكمة بعد أن كان بعيدا عنهما وغير مستبعد لهما ولم يكن عنده رجاء من قبل لأن يكون منهل هذا الفيض ولا مشرق ذلك النور. اقرأ قوله سبحانه فى سورة النساء : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ. وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). وقوله فى ختام سورة الشورى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) : وقوله فى سورة القصص : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).

بل كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاف انقطاع هذا المدد الفياض عنه ، فإذا فتر الوحى عراه من الحزن على فترته والتلهف على عودته ، ما يجعله يمشى فى الشعاب والجبال كأنه يتلمسه ، حتى لقد كاد يتردى مرة من شاهق وهو يطلبه!. وأكثر من هذا أنه كان يخشى أن يتفلت منه شىء أثناء إيحائه إليه لو لا أن طمأنه الله عليه (كما تقدم شرحه فى الوجه العاشر) وأكثر من هذا وذاك أنه كان يخاف أن ينزع الله من قلبه ما أنزل عليه وحفظه إياه ، (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً* إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ؛ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً).

قل لى ـ وربك ـ هل يتصور منصف على وجه الأرض أن القرآن كلام محمد ؛ بعد ما قصصنا عليك من هذه الآيات التى تجرده من إنشائه ووضعه ، بل تجرده من رجاء نزوله عليه قبل مبعثه ، ومن رجاء بقائه لديه بعد نزوله عليه؟ وهل يصح فى الأذهان أن أحدا

٢٩٩

يبتكر بعبقريته أمرا هو مفخرة المفاخر ومعجزة المعجزات ، ثم يقول للعالم فى صراحة : ليس هذا الفخر فخرى ، وما هو من صنعى ، وما كان لدى استعداد أن آتى بشيء منه ، وأنتم تعرفوننى وتعرفون استعدادى من قبل؟

ألا إن هذا يخالف العقل والمنطق ، ويجافى العرف والعادة ، وينافى مقررات علم النفس وعلم الاجتماع ، فإن النفوس البشرية مجبولة على الرغبة فى جلائل الأمور ومعاليها ، مطبوعة على حب كل ما يخلد ذكرها ويرفع شأنها ، لا سيما إذا كان ذلك نابعا منها وصادرا عنها ، وكان صاحب هذه النفس صدوقا ما كذب قط ، رافعا عقيرته بزعامة الناس ودعوتهم إلى الحق. وليس شىء أجل شأنا ولا أخلد ذكرا من القرآن الكريم ، الذى جمع الله به شمل أمة ، وأقام به خير ملة ، وأسس به أعظم دولة فما كان لمحمد أن يزهد فى هذا المجد الخالد ، ولا أن يتنصل من نسبته إليه لو كان من وصفه وصنعه ، وهو يدعو الخلق إلى الإيمان به وبما جاء به!.

وأى وجه لمحمد فى أن يتنصل من نسبة القرآن إليه وهو صاحبه؟ إنه إن كان يطلب الوجاهة والعلو والمجلد ، فليس شىء أوجه له ولا أعلى ولا أمجد من أن يكون هذا القرآن كلامه وإن كان يطلب هداية الناس ، فالناس يسرهم أن يأخذوا الهداية مباشرة ممن يعجز الجن والإنس بكلامه ، ويتحدى كل جيل وقبيل ببيانه ، ويقهر كل معارض ومكابر ببرهانه. ولو كان القرآن من تأليف محمد لأثبت به ألوهيته بدلا من نبوته ، لأن هذا القرآن لا يمكن أن يصدر إلا عن إله كما بينا فى الوجوه السالفة للإعجاز ، وإذن لكانت تلك الألوهية أبلغ فى نجاح دعوته ، وأرجى فى ترويج ديانته ، لأن الناس تبهرهم الألوهية. أكثر مما تبهرهم النبوة ، ويشرفهم أنهم أتباع إله أكثر من أن يشرفهم أنهم أتباع رسول لم يخرج ولن يخرج يوما من أرض العبودية ، ولم يرتق ولن يرتقى يوما إلى سماء الربوبية.

«العبد عبد وإن تعالى

والمولى مولى وإن تنزل»

ولهذا كان أعداء الرسل كثيرا ما يعظم عليهم أن يخضعوا لرجل منهم ، وكانوا يعجبون أن يوحى إلى بشر مثلهم ويقترحون أن يروا الله جهرة أو تنزل لهم الملائكة عيانا.

٣٠٠