مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

ولا ريب أن وضع التشريع على هذا الوجه ، فيه متسع للجميع. وفيه إغراء للنفوس الضعيفة أن تتشرف باعتناق الإسلام ولو فى أدنى درجة من درجاته. حتى إذا أنست به وذاقت حلاوته ، تدرجت فى مدارج الرقى ، فمن إيمان إلى إسلام إلى أداء ركن إلى أداء فرض إلى أداء واجب إلى أداء مندوب مؤكد إلى أداء مندوب غير مؤكد. ومن ترك نفاق إلى ترك شرك وكفر إلى ترك كبيرة إلى ترك صغيرة إلى ترك مكروه تحريما إلى ترك مكروه تنزيها إلى ترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس. ومن مجرد أداء للنوافل إلى زيادة فيها وإكثار منها ، حتى يصل العبد إلى ذلك المقام الذى جاء فيه عن الله تعالى : «ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ؛ ويده التى يبطش بها ، ورجله التى يمشى بها ، ولئن سألنى لأعطينه ، ولئن استعاذ بى لأعيدنه» رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه.

على ضوء هذه السياسة الشرعية الحكيمة التى نزل بها القرآن ، كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتدرج بالأقوام رويدا رويدا ، كما كان يتساهل معهم تأليفا لقلوبهم واستمالة لهم إلى اعتناق الدين على أى وجه. ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد بسنده عن نصر بن عاصم الليثى عن رجل منهم أنه أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم على أن يصلى صلاتين (لا خمسا) فقبل منه وجاء فى رواية أخرى : على ألا يصلى إلا صلاة فقبل وعن وهب قال : سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت فقال : اشترطت على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد ، وأنه سمع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بعد ذلك سيتصدقون ويجاهدون رواه أبو داود وعن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الرجل : «أسلم» قال أجدنى كارها قال : «أسلم وإن كنت كارها» رواه أحمد ، قال الشوكانى فى نيل الأوطار بعد أن سرد هذه الأحاديث : «فيها دليل على أنه يجوز مبايعة الكافر وقبول الإسلام منه وإن شرط شرطا باطلا».

والمراقب لنزول القرآن وسير التشريع الإسلامى ، يرى من مظاهر هذه السياسة

٢٦١

البارعة المعجزة شيئا كثيرا ، وحسبك أن يبتدئ الأمر بتقرير عقيدة التوحيد ، وألا تفرض الصلوات الخمس إلا بعد عشر سنوات تقريبا من البعثة ، ثم سائر العبادات بعضها تلو بعض. أما المعاملات فلم يستبحر الأمر فيها إلا بعد الهجرة. وقل مثل ذلك فى المهيات. ولعلك لم تنس التدرج الإلهى الحكيم فى تحريم الخمر.

(ثامنها) مجىء القرآن بمطالب الروح والجسد جميعا ، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر. وفى ذلك آيات كثيرة تقدم التنويه بها فى مناسبات أخرى ، من أجلها كان المسلمون أمة وسطا بين من تغلب عليهم المادية والحظوظ الجسدية كاليهود ، ومن تغلب عليهم النواحى الروحية وتعذيب الجسد وإذلال النفس كالهندوس والنصارى فى تعاليمهم ، وإن خالفتها الكثرة الغامرة منهم.

(تاسعها) مجىء القرآن بمطالب الدنيا والآخرة جميعا ، عن طريق التزام تعاليمه وهداياته التى أجملنا مقاصدها فيما سبق ، لا عن طريق الاعتقادات الخاطئة والأمانى الكاذبة والتواكل وترك العمل. والآيات فى هذا المعنى أظهر من أن تذكر.

(عاشرها) مجىء القرآن بالتيسير ورفع الحرج عن الناس : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ـ (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ـ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) وهذا باب واسع وضع منه علماؤنا قواعد عامة كقولهم : المشقة تجلب التيسير ، والضرورات تبيح المحظورات. ثم فرعوا عليها فروعا وسعت ولا تزال تسع الناس أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

٢٦٢

الوجه السابع أنباء الغيب فيه

ومعنى هذا أن القرآن قد اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التى لا علم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، ولا سبيل لمثله أن يعلمها مما يدل دلالة بينة على أن هذا القرآن المشتمل على تلك الغيوب ، لا يعقل أن يكون نابعا من نفس محمد ولا غير محمد من الخلق. بل هو كلام علام الغيوب وقيوم الوجود ، الذى يملك زمام العالم (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

من ذلك قصص عن الماضى البعيد المتغلغل فى أحشاء القدم. وقصص عن الحاضر الذى لا سبيل لمحمد إلى رؤيته ومعرفته فضلا عن التحدث به. وقصص عن المستقبل الغامض الذى انقطعت دونه الأسباب ، وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء .. وسر الإعجاز فى ذلك كله أنه وقع كما حدث وما تخلف. وجاء على النحو الذى أخبر به فى إجمال ما أجمل وتفصيل ما فصل. وأنه إن أخبر عن غيب الماضى صدقه ما شهد به التاريخ. وإن أخبر عن غيب الحاضر صدقه ما جاء به الأنبياء. وما يجدّ فى العالم من تجارب وعلوم. وإن أخبر عن غيب المستقبل صدقه ما تلده الليالى وما تجىء به الأيام.

غيب الماضى :

أما غيوب الماضى فى القرآن فكثيرة ، تتمثل فى تلك القصص الرائعة التى يفيض بها التنزيل ، ولم يكن لعلم محمد بها من سبيل.

منها قصة نوح التى قال الله فيها : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ. ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا).

ومنها قصة موسى التى يقول الله فيها : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا

٢٦٣

إِلى مُوسَى الْأَمْرَ. وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ* وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ. وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ؛ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

ومنها قصة مريم وفيها يقول الله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

غيب الحاضر :

أما غيب الحاضر فنريد به ما يتصل بالله تعالى والملائكة والجن والجنة والنار ونحو ذلك ، مما لم يكن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيل إلى رؤيته ولا العلم به ، فضلا عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح ، الذى أيده ما جاء به الأنبياء وكتبهم عليهم الصلاة والسلام. وأمثلة هذا الضرب كثيرة فى القرآن ، لا تحتاج إلى عرض ولا بيان.

ومنه أيضا ما فضح الله به المنافقين فى عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما كان قائما بهم وخفى أمره عليه كقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ. وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) وكقوله فى مسجد الضرار الذى بناه المنافقون : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

وسورة التوبة فيها من هذا الضرب شىء كثير.

ومن غيب الحاضر أو الماضى ما جاء فى طى القرآن من حقائق ومنافع ومبادئ لم يكشف عنها إلا العلم الحديث. وسيأتى التمثيل له.

٢٦٤

غيب المستقبل :

وأما غيب المستقبل ، فنمثل له بأمثلة عشرة :

(المثال الأول) إخبار القرآن عن الروم بأنهم سينتصرون فى بضع سنين من إعلان هذا النبأ الذى بقول الله فيه : (غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ. وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللهِ ، لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وبيان ذلك أن دولة الرومان وهى مسيحية كانت قد انهزمت أمام دولة الفرس وهى وثنية ، فى حروب طاحنة بينهما سنة ٦١٤ م فاغتم المسلمون بسبب أنها هزيمة لدولة متدينة أمام دولة وثنية ، وفرح المشركون وقالوا للمسلمين فى شماتة العدو : إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب وقد غلبهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذى أنزل عليكم ، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم. فنزلت الآيات الكريمة يبشر الله فيها المسلمين بأن هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار فى بضع سنين ، أى فى مدة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع. ولم يك مظنونا وقت هذه البشارة أن الروم تنتصر على الفرس فى مثل هذه المدة الوجيزة. بل كانت المقدمات والأسباب تأبى ذلك عليها ؛ لأن الحروب الطاحنة أنهكتها حتى غزيت فى عقر دارها ، كما يدل عليه النص الكريم : (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ).

ولأن دولة الفرس كانت قوية منيعة وزادها الظفر الأخير قوة ومنعة. حتى إنه بسبب استحالة أن ينتصر الروم عادة أو تقوم لهم قائمة ، راهن بعض المشركين أبا بكر على تحقق هذه النبوة. ولكن الله تعالى أنجز وعده وتحققت نبوءة القرآن سنة ٦٢٢ م الموافقة للسنة الثانية من الهجرة المحمدية.

ومما هو جدير بالذكر أن هذه الآية نفسها حملت نبوءة أخرى ، وهى البشارة بأن المسلمين سيفرحون بنصر عزيز فى هذا الوقت الذى ينتصر فيه الروم ؛ (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ

٢٦٥

بِنَصْرِ اللهِ)! ولقد صدق الله وعده فى هذه كما صدقه فى تلك وكان ظفر المسلمين فى غزوة بدر الكبرى واقعا فى الظرف الذى ظفر فيه الرومان. وهكذا تحققت النبوءتان فى وقت واحد ، مع تقطع الأسباب فى انتصار الروم كما علمت ، ومع تقطع الأسباب أيضا فى انتصار المسلمين على المشركين على عهد هذه البشارة ؛ لأنهم كانوا أيامئذ فى مكة فى صدر الإسلام والمسلمون فى قلة وذلة ، يضطهدهم المشركون ولا يرقبون فيهم إلّا ولا ذمة.

ولكن على رغم هذا الاستبعاد أو هذه الاستحالة العادية ، نزلت الآيات كما ترى تؤكد البشارتين وتسوقهما فى موكب من التأكيدات البالغة التى تنأى بهما عن التكهنات والتخرصات. وإن كنت فى شك فأعد على سمعك هذه الكلمات : (بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللهِ ، لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

ثم ألست ترى معى أن هذه العبارة الكريمة : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) قد حاطت هاتين النبوءتين بسياح من الدقة والحكمة ، لا يترك شبهة لمشتبه ولا فرصة لمعاند ؛ لأن البضع كما علمت من ثلاث إلى تسع. والناس يختلفون فى حساب الأشهر والسنين : فمنهم من يؤقت بالشمس ومنهم من يؤقت بالقمر. ثم إن منهم من يجبر الكسر ويكمله إذا عد وحسب ، ومنهم من يلغيه. يضاف إلى ذلك أن زمن الانتصار قد يطول حبله ، فتبتدئ بشائره فى عام ولا تنتهى مواقعه الفاصلة إلا بعد عام أو أكثر. ونظر الحاسبين يختلف تبعا لذلك فى تعيين وقت الانتصار : فمنهم من يضيفه إلى وقت تلك البشائر ومنهم من يضيفه إلى يوم الفصل ، ومنهم من يضيفه إلى ما بينهما. لذلك كله جاء التعبير بقوله جلت حكمته : (سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) من الدقة البيانية والاحتراس البارع بحيث لا يدع مجالا لطاعن ولا حاسب. وظهر أمر الله وصدق وعده على كل اعتبار من الاعتبارات وفى كل اصطلاح من الاصطلاحات. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً)؟!.

(المثال الثانى) إنباء القرآن بأن الله عاصم رسوله وحافظه من الناس ، لا يصلون إليه بقتل ، ولا يتمكنون من اغتيال حياته الشريفة بحال ، وذلك فى قوله عزوجل : (وَاللهُ

٢٦٦

يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ولقد تحققت نبوءة القرآن هذه ، ولم يتمكن أحد من أعداء الإسلام أن يقتله عليه الصلاة والسلام ، مع كثرة عددهم ووفرة استعدادهم ومع أنهم كانوا يتربصون به الدوائر ويتحينون الفرص للإيقاع به والقضاء عليه وعلى دعوته؟ وهو أضعف منهم استعدادا وأقل جنودا. فمن الذى يملك هذا الوعد وتنفيذه إذن إلا الله الذى يغلب ولا يغلب ، والذى لا يقف شىء فى سبيل تنفيذ مراده (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ)؟. وإن لم تصدقنى فسل التاريخ والمؤرخين ، كم من الملوك والأمراء والفراعين ضرجت الأرض بدمائهم ، وهم بين جنودهم وخدمهم وحشمهم!؟

فهل يمكن بعد هذا أن يكون القرآن الذى احتوى ذلك الضمان من كلام محمد وهو من قد علمت ضعفه وقوة أعدائه يومئذ؟ حتى لقد كان يتخذ الحراس قبل نزول هذه الآية ، فلما نزلت إذا ثقته واعتداده بها أعظم من ثقته واعتداده بمن كانوا يحرسونه. وسرعان ما صرف حراسه وسرحهم عند نزول الآية قائلا : أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى الله كما

رواه الطبرانى عن أبى سعيد الخدرى. وكذلك روى مسلم فى صحيحه عن جابر قال : كنا إذا أتينا فى سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما كنا بذات الرقاع نزل نبى الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها. فجاء رجل من المشركين فأخذ السيف فاخترطه وقال للنبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتخافني؟ قال : لا ، قال من يمنعك منى؟ قال : الله يمنعنى منك. ضع السيف فوضعه. ومما يجدر التنبيه له أن هذا الأمن كان فى الغزوة التى شرعت فيها صلاة الخوف!

ومن شواهد حماية الله لرسوله وإنجازه له هذا الوعد ، ما ورد عن على رضى الله عنه قال : كنا إذا احمر البأس وحمى الوطيس اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما يكون أحد منا أقرب إلى العدو منه.

ومن أبلغ الشواهد على ذلك أيضا ما ثبت من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى يوم حنين حين أعجبت المسلمين كثرتهم وأدبهم الله بالهزيمة حتى ولوا مدبرين ، أنزل سبحانه سكينته على رسوله ،

٢٦٧

حتى لقد جعل يركض بغلته إلى جهة العدو ، والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع. فأقبل المشركون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما غشوه لم يفر ولم ينكص ، بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه وجعل يقول : أنا النبى لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه. فو الله ما نالوا منه نيلا ، بل أيده الله بجنده ، وكف أيديهم عنه بيده رواه الشيخان.

(المثال الثالث) ما جاء فى معرض التحدى بالقرآن ، من قوله سبحانه : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا). وقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فإن ما تراه فى هاتين الآيتين من القطع بانتفاء قدرة المخاطبين وجميع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، قد تناول أطواء المستقبل (والمستقبل غيب) لا يملكه محمد ولا مخلوق غيره ومع ذلك فقد تحققت نبوءة القرآن ولا تزال متحققة ، حيث انقرضت طبقة المخاطبين به دون أن يستطيعوا معارضة أقصر سورة منه ، ومضت بعدهم أجيال وأجيال من عرب وأعجام ، وكلهم قد باءوا بالعجز ولم يستطيعوا المعارضة إلى اليوم ، مع وجود أعداء للإسلام فى هذه العصور المتأخرة ، أكثر وأقدر وأحرص على هدم بناء هذا الدين من أولئك الأعداء الأولين.

لاحظ مع هذا ما يثيره مثل هذا التحدى الطويل العريض الجرىء ، من الحمية الأدبية التى تبعث روح المنافسة على أشدها فى نفوس من يتحداهم. ثم لاحظ أن المتأخرين من الناقدين لا يعييهم فى العادة أن يستدركوا على السابقين ، إما نقصا يعالجونه بالكمال ، أو كمالا يعالجونه بما هو أكمل منه. وإذا فرضنا أن واحدا قد عجز عن هذا فمن البعيد أن تعجز عنه جماعة. وإذا عجزت جماعة فمن البعيد أن تعجز أمة. وإذا عجزت أمة فمن البعيد أن يعجز جيل. وإذا عجز جيل فمن البعيد أن تعجز أجيال فكيف يصدر إذن مثل هذا التحدى عن رجل يعرف ما يقول ، فضلا عن رجل عظيم ، فضلا عن رسول كريم ، فضلا عن محمد أفضل المرسلين؟!. وهل يمكن أن يفسر هذا التحدى الجرىء الطويل العريض

٢٦٨

إلا بأنه استمداد من وحى السماء ، واستناد إلى من يملك السمع والأبصار ، وحديث عمن بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه؟!

(المثال الرابع) ما جاء من التنبؤ بمستقبل الإسلام ونجاحه نجاحا باهرا ، فقد أخبر القرآن والمسلمون فى مكة قليل مستضعفون فى الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس ـ بأن الإسلام سيظهر ويبقى ، وأن كتابه سيكتب له الحفظ والخلود منفردا بهذه الميزة عن سائر كتب الله. اقرأ إن شئت قوله تعالى فى سورة الرعد (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً. وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ، وفى سورة إبراهيم : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) وفى سورة الحجر : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

أجل فى هذه السور الثلاث المكية ، قطع القرآن هذه العهود المؤكدة بتلك اللغة الواثقة ، والإسلام يومئذ فى مكة مدفوع مضطهد ، والمسلمون قليل مستضعفون فى الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس ، وليس هناك من بواسم الآمال ما يلقى ضوءا على نجاح هذا الدين الوليد ، ولئن التمست هذه الآمال فى نفس الداعى من طبيعة دعوته ، فما كانت لتصل إلى هذا الحد من اليقين والتأكيد. ولئن وصلت إلى هذا الحد ما دام صاحبها حيا يتعهدها بنفسه ويغذيها بنشاطه ، فليس لديه من العوامل ما يجعله يثق بهذا النجاح بعد موته ، مع ما هو معروف بأن المستقبل ملىء بشتيت المفاجآت ، والليالى من الزمان حبالى مثقلات ، والتاريخ لا يزال يقص علينا وعلى الناس نبأ من قتل من الأنبياء ، وما ضاع أو حرف من كتب الله ووحى السماء وما حبط من دعوات الحق ونهض من دعوات الباطل ... كل ذلك قد كان ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن فى يوم من الأيام بالرجل الأخرق الذى يسير مع الأوهام ، أو يطير مع الخيال ، أو يطلب المجد عن طريق الأحلام المكذوبة والآمال المعسولة. بل كان معروفا منذ نشأته ، بتواضعه ورجاحة عقله واتزانه ودقته ، حتى لقد كان يتثبت فى كلامه ويتحرى إلى أن لقب واشتهر بأنه الصادق الأمين ، وجاء القرآن نفسه يشهد بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قبل نبوته

٢٦٩

لا يطمع فى نبوة ولا يأمل فى وحى (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). وكذلك لم يكن بعد نبوته بالذى يضمن بقاء هذا الوحى وحفظه ؛ (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً* إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً).

فلا مناص إذن من أن تكون تلك البشارات المؤكدة والعهود الموثقة ، صادرة من أفق غير أفقه ، آنية من ملك قاهر لا راد لحكمه ، معبرة عن مراد من يملك العالم ويحكمه فى ماضيه وحاضره ومستقبله! ومما يؤيد صدق هذه التنبؤات ، أن الإسلام لقى من ضروب العنت مرارا وتكررا ، فى أزمان متطاولة وعهود مختلفة ، ما كان بعضه كافيا فى محوه وزواله ، ولكنه على رغم أنف هذه الأعاصير العاتية بقى ثابتا يسامى الجبال ، شامخا يطاول السماء. وكذلك لقى كتابه العزيز ولا يزال يلقى من الهمز واللمز والطعن والسباب والمحاولات القاتلة ، ما لا يتصوره إنسان فى أى زمان ، وما لم يلق كتاب قبله من الكيد والتضليل والبهتان ، ومع ذلك كله فالقرآن هو القرآن ، لا يزال جالسا على عرشه فى سمائه ، يمد العالم كله بحرارته وضيائه ، ولم. تنل منه هذه المحاولات إلا كما ينال نباح الكلاب من عاليات السحاب.

(المثال الخامس) تنبأ القرآن بأن المستقبل السعيد ينتظر المسلمين فى وقت لم تكن عوامل هذا المستقبل السعيد مواتية ، ثم إذا تأويل هذا النبأ يأتى على نحو ما أخبر القرآن ، فى أقصر ما يكون من الزمان! أجل ، إننا لنقرأ فى سورة الصافات المكية : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) وفى سورة غافر المكية أيضا (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وكذلك نقرأ فى سورة النور المدنية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) على حين أن سجلات التاريخ لا تزال تحفظ بين طياتها ما يشيب الوليد من ألوان الاضطهاد والأذى الذى أصاب الرسول وأتباعه

٢٧٠

فى مكة والمدينة ، على عهد نزول هذه الوعود المؤكدة الكريمة. حتى لقد كان أكبر أمانى المسلمين بعد هجرتهم وتنفسهم الصعداء قليلا ، أن يسلم لهم دينهم ويعيشوا آمنين فى مهاجرهم كما يدل على ذلك ما صححه الحاكم عن أبى بن كعب قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار ، رمتهم العرب عن قوس واحدة. وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه ، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت الآية وكذلك روى ابن أبى حاتم عن البراء قال : نزلت هذه الآية ونحن فى خوف شديد (أى قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)) الخ .. هكذا كان حال الصحابة أيام أن وعدهم الله ما وعد ، وما أعجل تحقق هذا الوعد الإلهى رغم هذه الحال المنافية فى العادة لما وعد ، فدالت الدولة لهم ، واستخلفهم فى أقطار الأرض ، وأورثهم ملك كسرى وقيصر ، ومكن لهم دينهم الذى ارتضى لهم ، وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا. يا لها نبوءة تأبى عادة أن يتحدث بها إلا من يملك تحقيقها ، ومن يخرق ـ إن شاء ـ عادات الكون ونواميسه من أجلها. (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ). (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

(المثال السادس) تنبأ القرآن بأن الرسول وأصحابه وقد كانوا بالمدينة ، سيدخلون مكة أمنين محلقين رءوسهم ومقصرين ، إذ قال سبحانه : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ؛ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) ثم وقع هذا التنبؤ كما أخبر ، مع أن ظروفه لم تكن تسمح به فى مجرى العادة فدل ذلك على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون كلام محمد ولا مخلوق سواه ، بل هو كلام القادر على أن يبلغ مراده ويخرق العادة.

ولزيادة البيان تذكر ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى فى نومه كأنه هو واصحابه قد دخلوا مكة آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين فقص رؤياه على اصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوها من عامهم. ثم خرجوا محرمين يسوقون الهدى إلى مكة لا يقصدون حربا وانما يقصدون عمرة ونسكا ولكنهم ما كادوا يبلغون الحديبية حتى صدتهم قريش وأبت

٢٧١

عليهم ما أرادوا. وكادت تكون حرب لو لا أن الرسول رضى بصلح بينه وبينهم وإن كان قاسيا ، إيثارا منه للمسالمة وحبا للسلام العام. ثم قفل راجعا على أن يؤدى نسكه فى العام القابل نزولا على مواد هذا الصلح القاسى. وعز ذلك على أصحابه ، واتخذ المنافقون منه حطبا لنفاقهم ومادة لدسهم ولمزهم ، فقال عبد الله بن أبى رأسهم : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام. ولكن على رغم هذا وعلى رغم ما هو معروف من غدر قريش ونكثهم العهود وتقطيعهم الأرحام ، نزلت الآية الكريمة تحمل هذا الوعد بل تلك الوعود الثلاثة المؤكدة ، وهى دخول مكة وأداء النسك والأمن على أنفسهم من قريش حتى يتحللوا ويقفلوا راجعين إلى المدينة. وقد أنجز الله وعده فتم الأمر على أكمله فى العام الذى بعد عام الحديبية. (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)!.

(المثال السابع) تنبأ الكفار بهزيمة جموع الأعداء فى وقت لا مجال فيه لفكرة الحرب ، فضلا عن التقاء الجمعين وانتصار المسلمين وانهزام المشركين وذلك قوله سبحانه فى سورة القمر المكية : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وأنت خبير بأن الجهاد لم يشرع إلا فى السنة الثانية للهجرة. فأين ما يتنبأ به القرآن إذن؟ إنه لا بد أن يكون كلاما تنزل ممن يعلم الغيب فى السموات والأرض. أما محمد الرجل الأمى فأنى له ذلك إن لم يكن تلقاه من لدن حكيم عليم؟. روى ابن أبى حاتم وابن مردويه أن عمر رضى الله عنه جعل يقول حين نزلت هذه الآية : أى جمع هذا؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولها.

(المثال الثامن) تنبأ القرآن فى مكة بهذا المستقبل الأسود الذى ينتظر كفار قريش ، ثم وقوع ذلك كما تنبأ. اقرأ قوله سبحانه : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ* رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ ؛ إِنَّا مُؤْمِنُونَ* أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ* ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ* إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ* يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) : وسبب نزول هذه

٢٧٢

الآيات أن أهل مكة لما تمردوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستعصوا ، دعا عليهم بسنين كسنى يوسف ، أى بالجوع والقحط الشديدين ، عسى أن يتوبوا ويؤمنوا بالله ورسوله. فأجابه الله بهذه الآيات. وفيها عند التأمل خمسة تنبؤات :

(أولها) الإخبار بما يغشاهم من القحط وشدة الجوع ، حتى ينظر الرجل إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان.

(ثانيها) الإخبار بأنهم سيضرعون إلى الله حين تحل بهم هذه الأزمة : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ).

(ثالثها) الإخبار بأن الله سيكشف عنهم ذلك العذاب قليلا :

(رابعها) الإخبار بأنهم سيعودون إلى كفرهم وعتوهم.

(خامسها) الإخبار بأن الله سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى وهو يوم بدر.

ولقد حقق الله ذلك كله ما انخرم منه ولا نبوءة واحدة ، فأصيبوا بالقحط حتى أكلوا العظام ، وجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من شدة جوعه وجهده. ثم قالوا متضرعين ذلك الذى حكاه الله عنهم : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ). ثم كشف الله عنهم هذا العذاب قليلا ، ثم عادوا إلى كفرهم وعتوهم. ثم انتقم الله منهم يوم بدر فبطش بهم البطشة الكبرى حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون وأديل للمسلمين منهم!.

أرأيت ذلك كله؟ وهل يمكن أن يصدر مثله من مخلوق؟ كلا بل هو الله العزيز الحكيم.

(المثال التاسع) تنبأ القرآن بهذا المستقبل المظلم الأسود ، المضروب على اليهود بوجه مؤكد مؤبد ، ثم تحقق هذا النبأ كاملا عاما يتناول القرون والأجيال من عهد نزول القرآن

(١٨ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

٢٧٣

لم ينخرم مرة من المرات فى يوم واحد من الأيام. اقرأ ما نزل فى شأنهم من قوله سبحانه فى سورة آل عمران : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً. وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ* ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ). ثم انظر كم تنبؤا فى هذا النظم الكريم ، وضعه الله كأنه الأغلال فى عنق هذا الشعب الماكر اللئيم؟ ألست ترى فيه أنهم لا يستطيعون أن ينالوا من المسلمين بالحرب والقتل والأسر؟ إنما ضررهم أذى بالغدر وبسوء الاستغلال والمكر. وعلى فرض أنهم يقاتلون المسلمين ، فسيلوذون حينئذ بالفرار ، ويولون الأدبار ، ولا سبيل لهم فى المستقبل إلى الانتصار ثم إن الذلة قد ضربت عليهم كما يضرب الحجر على السفهاء لا يستطيعون الفكاك إلا إن دخلوا فى عهد من الله أو عهد من الناس. ثم إن المسكنة وهى خوف الفقر قد ضربت عليهم كذلك ، فهم أشد الشعوب خوفا من الفقر ، ولذلك كانوا أشدها طمعا وشرها فى جمع الدنيا ، لا يعرفون القناعة وإن غرقوا فى المال إلى أم رءوسهم ، ولا يتورعون عن الجرى وراء الدنايا بأحط الوسائل ، وإن كانوا يملكون الآن ما يقرب من نصف ثروة العالم!.

ثم اقرأ فى شأن هذه الطائفة قول الله تعالى فى سورة الأعراف : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ). وخبرنى ألست تقرأ فى هذا النص الكريم ، صكا مسجلا بعبودية هؤلاء وذلتهم إلى الأبد؟ ثم ألست ترى أن تداول القرون والأحقاب من لدن نزول القرآن إلى اليوم لم يزد هذا التنبؤ إلا تصديقا وتحقيقا ، ما خرمه مرة وإنما أشبعه إعجازا وتأبيدا؟. إن كنت فى شك فسل التاريخ قديمه وحديثه ، أو فاستمع إلى صوت المآسى الماثلة القريبة ، ثم قل : صدق الله. ما القرآن إلا كلامه ، وما محمد إلا عبده ورسوله!.

وإليك مثالا آخر فى شأن هؤلاء أبدع فى الإعجاز وأروع.

(المثال العاشر) تحدى القرآن لأعداء الله اليهود فى شىء يظهر أنه سهل بسيط ، وأنه

٢٧٤

كان فى متناول قدرتهم وفى دائرة استطاعتهم ، ومع ذلك انصرفوا عنه. وعجزوا. فدل هذا التحدى مع الانصراف والعجز ، على أن القرآن كلام من يستطيع تصريف القلوب وتحريك الألسنة ، وهو الله وحده. أما محمد صلوات الله وسلامه عليه فمحال أن يقامر بنفسه وبدعوته ويتحدى بهذا الأمر الظاهرة سهولته ، وهو بشر لا يعلم الغيب ولا يستطيع أن يقلب القلوب ولا أن يعقد الألسنة.

وبيان ذلك أن اليهود زعموا أنهم هم الشعب المختار من بين شعوب الخلق ، وادّعوا أن الدار الآخرة وقف عليهم وخالصة لهم من دون الناس ، فخاطب الله رسوله فى سورة البقرة يرد عليهم ويتحداهم بقوله : (قُلْ : إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم قال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، فأنت ترى هذا النظم الكريم يبطل مزاعم اليهود بطلب يبدو لكل ناظر أنه هين ، وهو أن يتمنوا الموت لو كانوا صادقين فى ادعائهم أن نعيم الآخرة وقف عليهم. ولقد كان بمقدور اليهود فى العادة أن يقولوا ولو بألسنتهم : نحن نتمنى الموت ، كى تنهض حجتهم على محمد ويسكتوه. لكنهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول إنى أتمنى الموت. وعلى ذلك قامت الحجة عليهم ، وبان كذبهم فى كبريائهم وغرورهم. وبلغ من أمر القرآن معهم أنه نفى عنهم هذا التمنى نفيا يشمل آباد المستقبل فقال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً).

وها قد مضى على نزول القرآن قريب من أربعة عشر قرنا ، وما تمنى أحد منهم الموت لو كانوا صادقين. بل أعلن القرآن فى السورة نفسها مبلغ حرصهم على الحياة وأملهم فيها فقال : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ. وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ). فكان ذلك علما جديدا من أعلام النبوة ، لأنه تنويه بغيب حاضر ، لم يكن يعلمه محمد ولا قومه.

٢٧٥

خبرنى ـ بربك ـ هل يتصور عاقل أن محمدا وهو فى موقف الخصومة الشديدة من اليهود ، تطوع له نفسه أن يتحداهم هذا التحدى من عنده فى لغة الواثق الذى لا يتردد ، والآمن الذى لا يخاف المستقبل؟ وهل كان يأمن أن يرد عليه واحد منهم فيقول : إنى أتمنى الموت؟ وهنا تكون القاضية ، فتنقطع ـ لا قدر الله ـ حجة الرسول ، ويظهر عجزه ، وتفشل دعوته ، أمام قوم هم من أشد الناس عداوة للذين آمنوا ، ومن أحرصهم على إفحام الرسول وتعجيزه.

فصدور هذا التحدى من رجل عظيم كمحمد ، ثم استخذاء هؤلاء وانصرافهم عن الرد عليه وعن إسكاته وهو فى مقدور أقل رجل منهم ، ثم تسجيل هذا الاستخذاء عليهم فى الحال بقوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) وفى الاستقبال بقوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) : كل أولئك أدلة ساطعة على أن القرآن كلام علام الغيوب ، قاهر الألسنة ومقلب القلوب. وهى أيضا براهين قاطعة على أن محمدا لا يمكن أن يكون مصدر هذا الكتاب ولا منبع هذا الفيض ، بل قصاراه أنه مهبط هذا التنزيل ، وأنه يتلقاه من لدن حكيم عليم.

(المثال الحادى عشر) وهو من عجائب هذا الباب ، أن القرآن عرض لتعيين بعض أحداث جزئية ، تقع فى المستقبل لشخص معين ، ثم تحقق الأمر كما أخبر. هذا هو الوليد ابن المغيرة المخزومى يقول الله فيه : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أى سنجعل له علامة على أنفه يعرف بها وقد كان ، ففي غزوة بدر الكبرى خطم ذلك الرجل بالسيف أى ضرب به أنفه ، وبقى أثر هذه الضربة سمة فيه وعلامة له! ولعلك لم تنس أن الوليد هو الذى نزل فيه (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) وما بعدها من الآيات التى ذكرناها قبلا. وهو أيضا الذى نزلت فيه هنا هذه الآيات من سورة القلم : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ* أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ* إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ* سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ). نعوذ به تعالى من الكفر والعناد وسوء الأخلاق ، ونسأله الإيمان الكامل والعمل الصالح والخلق الفاضل آمين.

٢٧٦

على هامش الوجه السابع

فى هذا الوجه من الإعجاز على ما شرحنا ومثلنا ، معجزات كثيرة لا معجزة واحدة ، لأن كل نبأ من أنباء الغيب معجزة. فانظر ما عدة تلك الأنباء ، يتبين لك عدد تلك المعجزات.

وإنه ليروعك هذا الإعجاز إذا لاحظت أن هذه الكثرة الغامرة لم تتخلف منها قط نبوءة واحدة ، بل وقعت كما أنبأ على الحال الذى أنبأ. ولو تخلفت واحدة لقامت الدنيا وقعدت ، وطبل أعداؤه ورقصوا فرحا بالعثور على سقطة لهذا الذى جاءهم من فوقهم ، وتحداهم بما ليس فى طوقهم. وسفه معبوداتهم ومعبودات آبائهم. ولو كان ذلك لنقل وتواتر ما دامت هذه الدواعى متوافرة على نقله وتواتره كما ترى.

ويزيد فى أمر هذا الإعجاز أن المتحدث بهذه الأنباء الغيبية أمى نشأ فى الأميين ، وان من هذه الأنباء ما كان تحديا وإجابة لسؤال العلماء من أهل الكتاب ، كما سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصحاب الكهف وذى القرنين وعن الروح ونحوها ، وأجابهم عما سألوا وهم يعلمون أنه غيب بالنسمة إليه ، ليست لديه وسيلة عادية للعلم به. ولم يؤثر عنهم أنهم كذبوه فى شىء مما أخبر تكذيبا يستندون فيه إلى دليل ، بل هو الذى كان يكذبهم فيما حرفوه ، ويرشدهم إلى حقيقة ما بدلوه ، ويتحداهم بما فى أيديهم إذا جادلوه. وإليك شاهدا على ذلك :

قالت اليهود مرة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك تدعى أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها. فقال عليه‌السلام : كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله. فقالت اليهود : إنها لم تزل محرمة فى ملة إبراهيم ونوح عليهما‌السلام. فنزل تكذيبا لهم ، وتحديا بالتوراة التى عندهم : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ

٢٧٧

الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* قُلْ صَدَقَ اللهُ. فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

يضاف إلى ما ذكرنا أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخفى عليه وجه الصواب فى بعض ما يعنيه من الشئون ويهمه من الأمور فكان يتوقف تارة كما توقف فى حديث الإفك مدة حتى نزل الوحى ببراءة عائشة زوجته وبنت صديقه. وكان يجتهد ويخطئ تارة أخرى ، كما حدث فى أسرى بدر على ما سيأتى. فلو كانت هذه الأنباء الغيبية نابعة من نفسه ولم تكن من ربه ، لكان الأحرى به أن يعرف وجه الصواب فى أمثال تلك الشئون والمهام ، مع أن أسباب العلم فيها أقرب إلى اليسر والسهولة من تلك الغيبيات التى تقطعت أسبابها العادية جملة ومع أن الرسول قد آلمه ما أصابه من جراء عدم علمه بأمثال تلك الشئون والمهام. وإلى ذلك يشير القرآن فى قوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ. وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

معجزات يكشف عنها العلم الحديث

يتصل بما ذكرنا من أنباء الغيب ، نوع طريف لم يكشف عنه إلا العلم فى العصر الحديث. وكان قبل ذلك مخبوءا فى ضمير الزمن ، خفيا على المعاصرين لنزول القرآن ، حتى صاغ أعداء الله من هذا الخفاء شبهة. ولفقوا منه تهمة ، وما علموا أن جهلهم لا يصح أن يكون حجة (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ). وإليك أمثلة ثلاثة من هذا النوع :

١ ـ معجزة يكشف عنها التاريخ الحديث :

قال العلامة صاحب مجلة الفتح الغراء : فى سورة التوبة نقرأ هذه الآية الكريمة :

٢٧٨

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ. وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. قاتَلَهُمُ اللهُ ، أَنَّى يُؤْفَكُونَ)؟ فصدر هذه الآية وهو جملة (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) يتضمن من وقائع التاريخ وحقائق العلم ، أمرا لم يكن أحد يعرفه على وجه الأرض فى عصر نزول القرآن.

ذلك أن اسم عزيز ، لم يكن معروفا عند بنى إسرائيل إلا بعد دخولهم مصر واختلاطهم بأهلها واتصالهم بعقائدها ووثنيتها. واسم عزيز هو (أوزيرس) كما ينطق به الإفرنج أو (عوزر) كما ينطق به قدماء المصريين ، وقدماء المصريين منذ تركوا عقيدة التوحيد وانتحلوا عبادة الشمس ، كانوا يعتقدون فى عوزر أو أوزيرس أنه ابن الله. وكذلك بنو إسرائيل فى دور من أدوار حلولهم فى مصر القديمة ، استحسنوا هذه العقيدة عقيدة أن أوزيرس ابن الله. وصار اسم أوزيرس أو عوزر (عزير) من الأسماء المقدسة التى طرأت عليهم من ديانة قدماء المصريين. وصاروا يسمون أولادهم بهذا الاسم الذى قدسوه كفرا وضلالا. فعاب الله عليهم ذلك فى القرآن الحكيم ، ودلهم على هذه الوقائع من تاريخهم الذى نسيه البشر جميعا. إن اليهود لا يستطيعون أن يدعوا فى وقت من الأوقات أن اسم عزيز كان معروفا عندهم قبل اختلاطهم بقدماء المصريين وهذا الاسم فى لغتهم من مادة (عوزر) وهى تدل على الألوهية ، ومعناه الإله المعين وكانت بالمعنى نفسه عند قدماء المصريين فى اسم عوزر أو أوزيرس الذى كان عندهم فى الدهر الأول بمعنى الإله الواحد ، ثم صاروا يعتقدون أنه ابن الله عقب عبادتهم للشمس. واليهود أخذوا منهم هذا الاسم فى الطور الثانى عند ما كانوا يعتقدون أن أوزيرس ابن الله.

فهذا سر من أسرار القرآن ، لم يكتشف إلا بعد ظهور حقيقة ما كان عليه قدماء المصريين فى العصر الحديث. وما كان شىء من ذلك معروفا فى الدنيا عند نزول القرآن! حتى إن أعداء الإسلام كانوا يصوغون من جهلهم بهذه الحقيقة التاريخية شبهة يلطخون بها وجه الإسلام ويطعنون بها فى القرآن ، فقال اليهود منهم : إن القرآن يقولنا ما لم نقل

٢٧٩

فى كتبنا ولا فى عقائدنا. وأتى دعاة النصرانية منهم بما شاء لهم أدبهم من السب والطعن والزراية بالقرآن ودين الإسلام ونبى الإسلام!.» اه بتصرف طفيف.

٢ ـ معجزة يكشف عنها الطب الحديث

كتب العلامة المرحوم الدكتور عبد العزيز إسماعيل (باشا) فى مجلة الأزهر الغراء يقول فى مقال له تحت عنوان : (الطب وصيام شهر رمضان) : «من الناس من يتوهم أن فى صيام رمضان ـ وهو من أركان الإسلام ـ مضرة تلحق بالصائم ، لما يصيب الجهاز الهضمى خاصة وغيره عامة ؛ ولما يكون من بعض الصائمين من انفعال وغضب. وهذا خطأ ؛ لأن ما ذهبوا إليه ليس من الصيام فى شىء ، ولكنه من ترك الاعتدال فى طعام الإفطار والسحور ، ولأنهم لم يراعوا ما يتناسب مع خلو المعدة النهار كله فى وقت الإفطار ، ولأن السحور يجب أن يقتصر على بضع لقيمات لأنه لا ضرر من الجوع فى حد ذاته.

وبما أن الصيام يستعمل طبيا فى حالات كثيرة ، ووقاية فى حالات أكثر. وأن كثيرا من الأوامر الدينية لم تظهر حكمتها وستظهر مع تقدم العلوم ، رأيت من الواجب على أن أكتب عما ظهر طبيا للآن من فوائد هذه الأوامر ، وإيضاح آيات قرآنية لأبين معناها الذى لا يظهر إلا لمن بحث عنها فى نور الطب الحديث. وسأبدأ بالصيام.

الصيام :

للصيام فوائد فى ثلاث جهات : (أولاها) وأهمها الجهة الروحية وهذه أتركها لعلماء الدين والمتصوفة منهم (ثانيها) الجهة الأخلاقية وهذه أتركها لعلماء الأخلاق. ومن السهل البرهنة على أن الصيام يعود الإنسان النظام والقناعة ، وطاعة الرؤساء ، والصبر وكبح شهوات النفس ، وحب الخير والصدقة ، وغير ذلك من الفضائل. (وثالثها) وأقلها أهمية الجهة المادية أو الصحية ، وهى محل بحثنا.

٢٨٠