مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ، فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ ، انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ. سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ؛ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً* لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) ويقول : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ. انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ). ويقول : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ويقول فى نفى التعب الذى افتراه اليهود على الله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). ويقول نعيا عليهم فى عبادة بعل : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ* اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ويقول نعيا عليهم فى فرية أخرى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) ويقول فى نفى البنوة التى زعموها لله هم والنصارى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ، يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ. وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ* يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ. وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

ب ـ أمثلة من عقيدة البعث والجزاء :

(١) جاء القرآن بعقيدة البعث بعد الموت واضحة شاملة للروح والجسد ، عادلة لا ظلم

(١٦ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

٢٤١

فيها ولا محاباة ، مقسطة لا شفاعة هناك بالمعنى الفاسد ولا فداء ، عامة لا فضل لجنس ولا لطائفة ولا لشخص إلا بالتقوى. اقرأ إن شئت قوله سبحانه : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) وقوله. (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟!) وقوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً. وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها. وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) وقوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ).

٢ ـ وضل اليهود فزعموا أنهم الشعب المختار من بين شعوب الأرض ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة هى مدة عبادتهم العجل أربعين يوما.

٣ ـ وضل النصارى فزعموا أيضا أنهم أبناء الله وأحباؤه وذهبوا مذهب الهنود فى كرشنة أنه قتل وصلب ليخلص الإنسان ويفديه من الخطيئة ، فهو المخلص الفادى الذى يخلص الناس من عقوبة الخطايا ويفديهم بنفسه ، وهو الأقنوم الثانى من الثالوث الإلهى الذى هو عين الأول والثالث وكل منهما عين الآخر. كذلك قال الهنود فى كرشنة ، ثم جاء مخرفة النصارى فتابعوهم على هذا الخيال الفاسد ، الذى تأباه العقول والطباع ، ولا يتفق وعدل الله وحكمته فى الجزاء والمسئولية. ولم يستطع الخابطون فى هذا الضلال أن يروجوه فى ضحاياهم إلا بترويجهم عليه من عهد الصغر ، وتنشئتهم على سماعه واعتقاده من غير بحث ولا نظر ، بل قالوا : «اعتقد وأنت أعمى» ٤ ـ وضل نساك النصارى فتابعوا الهنود أيضا ، فى احتقار اللذات المادية ، وفى

٢٤٢

تربية النفوس على الحرمان وتعذيب الجسد ، وزادوا الطين بلة فقالوا : إن البعث روحانى مجرد عن إعادة الجسم ، مخدوعين بتلك النظرية الفلسفية الخاطئة وهى احتقار اللذات المادية وذمهم إياها بأنها حيوانية. وغاب عنهم أنها لا تكون نقصا إلا إذا سخر الإنسان عقله وقواه لها ، وأسرف فيها إسرافا يشغله عن اللذات العقلية والروحية القائمة على العلم النافع والعمل الصالح. أما إذا اعتدل فيها ووفق بين المطالب الروحية والجسمية ، فتلك مفخرة للإنسان وميزة لنوع الإنسان ، بها صار عالما عجيبا جمع بين روحانية الملائكة وجثمانية الحيوان والنبات ، وقد خلقه الله فى الدنيا مظهرا من مظاهر إبداعه واقتداره ، فكيف ينقص ملكوت الآخرة هذا المظهر العجيب ، على حين أن الآخرة هى دار العجائب والغرائب ، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟! (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

٥ ـ وكذلك ضل متطرفة اليهود فعكسوا الأمر ، وأفرطوا فى حب المادة حتى أحلوا لأنفسهم جمعها من أى ريق ، وبالغوا فى استنزاف دماء العالم بالربا وأكل أموال الناس بالباطل وظنوا أن لا جناح عليهم إذا رزءوا أى عنصر غريب عنهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).

٦ ـ ولكن القرآن قد جاء يرد هؤلاء وهؤلاء إلى جادة الاعتدال ، ووقف موقفا وسطا يرجع إليه الغالى وينتهى إليه المقصر ، فأعلن عقيدته فى وضوح على نحو ما ذكرنا.

وتناول أخطاءهم المذكورة بالإصلاح والتقويم فقال فى معرض الرد على أنهم الشعب المختار : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وقال فى هذا المعرض أيضا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ. إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وقال أيضا : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ

٢٤٣

مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً). وقال فى معرض الرد على فرية أنهم أبناء الله وأحباؤه : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ : فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وقال فى تفنيد ما زعموه من أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ * بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) .. وقال فى تكذيب ما زعموا من قتل عيسى وصلبه : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ. وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً* وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً). وقال فى دحض عقيدة الفداء : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ. وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ. وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

وقال : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها. وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ونزلت سورة المسد تسجل العذاب على عم من أعمام أفضل الخلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذكر القرآن ما ذكر فى ابن نوح ولم يطب القرآن نفسا بضلالة «اعتقد وأنت أعمى» بل حيث على النظر والتفكر وحاكم العقائد والتعاليم الإسلامية إلى العقول السليمة ، ونعى على المقلدين تقليدا أعمى. والأمر فى هذا أظهر من أن تساق له أمثلة.

وعالج القرآن شبهة احتقار اللذات المادية بالمعنى الذى أرادوه ، فقال : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟) وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) وذم الرهبانية ومبتدعيها فقال :

٢٤٤

(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ، ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها). وعاب على اليهود خيانتهم وظلمهم للشعوب فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ* إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَلا يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). وقال : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا). وقال : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .. إلى غير ذلك من آيات كثيرة فى هذه المواضيع.

والذى نريد أن تفطن له هنا ، هو أن هداية القرآن كما رأيت هداية تمة عامة ، صححت معارف الفلاسفة المكبين على البحث والنظر كما صححت معارف الأميين ومن لا ينتمى إلى العلم بسبب. وصححت أغلاط أهل الكتاب من يهود ونصارى ، كما صححت أغلاط مؤلهة الحجر وعبدة الوثن. وإذن فليس يصح فى الأذهان شىء إذا قيل إن هذه الهدايات القرآنية ليست وحيا من الله ، وإنما هى نابعة من نفس محمد الأمى الناشئ فى الأميين. وليس يصح فى الأذهان شىء إذا قيل إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استقى هذه الهدايات من بعض أهل الكتاب الذين لقيهم فى الجزيرة العربية ، ولو صح هذا لكانوا هم أولى منه بدعوى الرسالة والنبوة. وكيف يصح هذا والقرآن هو الذى علمهم ما جهلوا من حقائق دينهم؟ وهل فاقد الشيء يعطيه؟. وحسبك ما قدمناه لك من تلك الأمثلة التى تتصل بأساس الأديان وصميم العقائد ، والتى تريك بالمنظار المكبر أن القرآن جالس على كرسى الأستاذية العليا للعالم كله يعلم اليهود والنصارى وغير اليهود والنصارى ، لا على مقعد التلمذة الدنيا يتلقف من هؤلاء وهؤلاء.

٢٤٥

فإن لم يكفك ما سمعت ، فدونك القرآن تصفحه وتجول فى آفاقه وناهيك مثل قوله :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومثل قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وإن شئت أكثر من هذا فتأمل كيف أعلن الحق فى صراحة أن بيانه لأهل الكتاب ما اختلفوا فيه هو من مقاصده الأولى ، إذ قال فى سورة النحل : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هكذا قدم أنه بيان لما اختلف فيه الكتابيون ، قبل أن يقول : وهدى ورحمة لقوم يؤمنون!. وكذلك قال فى سورة النحل : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ* وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ* إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ* فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ).

لقد لفت القرآن نفسه أنظار الناس إلى هذه الناحية من الإعجاز وأقام الدليل على أنه كلام الله ولا يمكن أن يكون كلام محمد ، إذ قال جلت حكمته فى سورة العنكبوت : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ* وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) وإذ قال سبحانه مرة أخرى فى سورة الشورى. (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ. وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

٢٤٦

ويرحم الله البوصيرى فى قوله :

«كفاك بالعلم فى الأمىّ معجزة

فى الجاهلية والتأديب فى اليتم»

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومجد وعظم ، وشرف وكرم ، ورزقنا كمال الإيمان به وكمال اتّباعه ، آمين.

الوجه الرابع وفاؤه بحاجات البشر

ومعنى هذا أن القرآن الكريم جاء بهدايات تامة كاملة ، تفى بحاجات البشر فى كل عصر ومصر ، وفاء لا تظفر به فى أى تشريع ولا فى أى دين آخر ويتجلى لك هذا إذا استعرضت المقاصد النبيلة التى رمى إليها القرآن فى هدايته ، والتى نعرض عليك من تفاصيلها ما يأتى :

أولا : إصلاح العقائد عن طريق إرشاد الخلق إلى حقائق المبدأ والمعاد وما بينهما تحت عنوان الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

ثانيا : إصلاح العبادات عن طريق إرشاد الخلق إلى ما يزكى النفوس ويغذى الأرواح ويقوم الإرادة ويفيد الفرد والمجموع منها.

ثالثا : إصلاح الأخلاق عن طريق إرشاد الخلق إلى فضائلها وتنفيرهم من رذائلها ، فى قصد واعتدال وعند حد وسط لا إفراط فيه ولا تفريط

رابعا : إصلاح الاجتماع عن طريق إرشاد الخلق إلى توحيد صفوفهم ومحو العصبيات وإزالة الفوارق التى تباعد بينهم. وذلك بإشعارهم أنهم جنس واحد من نفس واحدة ومن عائلة واحدة أبوهم آدم وأمهم حواء ، وأنه لا فضل لشعب على شعب ولا لأحد على أحد إلا بالتقوى. وأنهم متساوون أمام الله ودينه وتشريعه ، متكافئون فى الأفضلية وفى الحقوق والتبعات من غير استثناءات ولا امتيازات. وأن الإسلام عقد إخاء بينهم أقوى من إخاء النسب والعصب. وأن لسانهم العام هو لسان هذا الدين ولسان كتابه : (لغة العرب). وأنهم أمة واحدة يؤلف بينها المبدأ ولا تفرقها الحدود الإقليمية ولا الفواصل

٢٤٧

السياسة والوضعية ؛ (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).

خامسا : إصلاح السياسة أو الحكم الدولى ، عن طريق تقرير العدل المطلق والمساواة بين الناس ، ومراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات من الحق والعدل والوفاء بالعهود والرحمة والمواساة والمحبة ، واجتناب الرذائل من الظلم والغدر ونقض العهود والكذب والخيانة والغش وأكل أموال الناس بالباطل كالرشوة والربا والتجارة بالدين والخرافات.

سادسا : الإصلاح المالى عن طريق الدعوة إلى الاقتصاد وحماية المال من التلف والضياع ، ووجوب إنفاقه فى وجوه البر وأداء الحقوق الخاصة والعامة والسعى المشروع سابعا : الإصلاح النسائى عن طريق حماية المرأة واحترامها وإعطائها جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية.

ثامنا : الإصلاح الحربى عن طريق تهذيب الحرب ووضعها على قواعد سليمة لخير الإنسانية فى مبدئها وغايتها ، ووجوب التزام الرحمة فيها والوفاء بمعاهداتها ، وإيثار السلم عليها ، والاكتفاء بالحرية عند النصر والظفر فيها.

تاسعا : محاربة الاسترقاق فى المستقبل وتحرير الرقيق الموجود بطرق شتى ، منها الترغيب العظيم فى تحرير الرقاب ، وجعله كفارة للقتل وللظهار ، ولإفساد الصيام بطريقة فاحشة ، ولليمين الحانثة ، ولإيذاء المملوك باللطم أو الضرب.

عاشرا : تحرير العقول والأفكار ، ومنع الإكراه والاضطهاد والسيطرة الدينية القائمة على الاستبداد والغطرسة. (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).

دليل على هذا الوجه من الإعجاز :

والدليل على هذا الوجه من إعجاز القرآن ، أن غير المسلمين كانوا ولا يزالون حائرين يبحثون عن النور ، وينقبون عما يفى بحاجتهم فى كثير من نواحى حياتهم ، حتى اضطروا تحت ضغط هذه الحاجة وبعد طول المطاف وقسوة التجارب ، أن يرجعوا إلى هداية القرآن من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وإليك شواهد على ذلك.

٢٤٨

١ ـ أمريكا حرمت الخمر أخيرا ، ولكنها فشلت ولم تنجح لأنها لم توفق إلى الطريقة الحكيمة التى اتبعها الإسلام فى تحريم الخمر.

٢ ـ أمريكا أباحت الطلاق ، وإن كانت قد أسرفت فيه إلى درجة ضارة.

٣ ـ أسبانيا أصدرت حكومتها قانونا بمنع البغاء الرسمى فى بلادها ، وبمنع النساء من البروز على الشواطئ فى ثياب الاستحمام.

٤ ـ مصلحو أوروبا يرفعون أصواتهم بضرورة الرجوع إلى مبدأ تعدد الزوجات ، حتى بعض نسائهم طالبن بهذا.

٥ ـ اليهود يطالبون أيضا بتعدد الزوجات وقد تزعم هذه الحركة يهودى اسمه مورثه ليكفرمان ، وبرهن على أن ذلك من أحكام الدين اليهودى. وطلب إلى اليهود الغاء قرار الحاخام غرشون الذى تعدى حدود الدين اليهودى بإبطاله الزواج بأكثر من واحدة وأصبح له أتبع كثيرون.

٦ ـ زعيم فرنسا نادى غداة هزيمتها فى الحرب القائمة الآن يقول : إن سبب انهيار دولتهم هو انغماسهم فى الشهوات الجنسية ، وإسرافهم فى المفاسد والمفاتن.

الوجه الخامس

موقف القرآن من العلوم الكونية

ومعنى هذا أن القرآن روعيت فيه بالنسبة إلى العلوم الكونية اعتبارات خمسة ، لا يصدر مثلها عن مخلوق ، فضلا عن رجل أمى نشأ فى الأميين ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أولها) أنه لم يجعل تلك العلوم الكونية من موضوعه ، وذلك لأنها خاضعة لقانون النشوء والارتقاء ، وفى تفاصيلها من الدقة والخفاء ما يعلو على أفهام العامة. ثم إن أمرها بعد

٢٤٩

ذلك هين بإزاء ما يقصده القرآن من إنقاذ الإنسانية العاثرة ، وهداية الثقلين إلى سعادة الدنيا والآخرة. فالقرآن ـ كما أسلفنا فى المبحث الأول ـ كتاب هداية وإعجاز ، وعلى هذا فلا يليق أن نتجاوز به حدود الهداية والإعجاز. حتى إذا ذكر فيه شىء من الكونيات ، فإنما ذلك للهداية ودلالة الخلق على الخالق. ولا يقصد القرآن مطلقا من ذكر هذه الكونيات أن يشرح حقيقة علمية فى الهيئة والفلك أو الطبيعة والكيمياء ، ولا أن يحل مسألة حسابية أو معادلة جبرية أو نظرية هندسية ، ولا أن يزيد فى علم الطلب بابا ولا فى علم التشريح فصلا ، ولا أن يتحدث عن علم الحيوان أو النبات أو طبقات الأرض ، إلى غير ذلك.

ولكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسعوا فى علوم القرآن ومعارفه ، فنظموا فى سلكها ما بدا لهم من علوم الكون ، وهم فى ذلك مخطئون ومسرفون ، وإن كانت نيتهم حسنة وشعورهم نبيلا ، ولكن النية والشعور مهما حسنا لا يسوغان أن يحكى الإنسان غير الواقع ، ويحمل كتاب الله على ما ليس من وظيفته ، خصوصا بعد أن أعلن الكتاب نفسه هذه الوظيفة وحددها مرات كثيرة. منها قوله سبحانه : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ومنها قوله جلت حكمته. (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

ومما يجب التفطن له أن عظمة القرآن لا تتوقف على أن ننتحل له وظيفة جديدة ، ولا أن نحمله مهمة ما أنزل الله بها من سلطان ؛ فإن وظيفته فى هداية العالم أسمى وظيفة فى الوجود ، ومهمته فى إنقاذ الإنسانية أعلى مهمة فى الحياة! وما العلوم الكونية بإزاء الهدايات القرآنية؟ أليس العالم الآن يشقى بهذه العلوم ويحترب وينتحر؟ ثم أليست العلوم الكونية هى التى ترمى الناس فى هذه الأيام بالمنايا وتقذفهم بالحكم ، وتظهر لهم على أشكال مخيفة مزعجة ، من مدافع رشاشة ، ودبابات فتاكة ، وطائرات أزازة ، وقنابل مهلكة ، وغازات

٢٥٠

محرقة ، ومدمرات فى البر والبحر وفى الهواء والماء؟. وما أشبه هذه العلوم للإنسان بعد تجرده من هدى الله ووحى السماء ، بالأنياب والمخالب للوحوش الضارية والسباع الواغلة فى أديم الغبراء!!.

(ثانيها) أن القرآن دعا إلى هذه العلوم فى جملة ما دعا إليه من البحث والنظر ، والانتفاع بما فى الكون من نعم وعبر. قال سبحانه : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وقال جل شأنه : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، (ثالثها) أن القرآن حين عرض لهذه الكونيات أشعرنا أنها مربوبة له تعالى ومقهورة لمراده ، ونفى عنها ما علق بأذهان كثير من الضالين الذين توهموها آلهة وهى مألوهة ، وزعموها ذات تأثير وسلطان بينما هى خاضعة لقدرة الله وسلطانه ، (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ). وكذلك أشعرنا القرآن أنها هالكة (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ).

(رابعها) أن القرآن حين يعرض لآية كونية فى معرض من معارض الهداية ، يتحدث عنها حديث المحيط بعلوم الكون ، الخبير بأسرار السموات والأرض ؛ الذى لا تخفى عليه خافية فى البر والبحر ، ولا فى النجوم والكواكب ، ولا فى السحاب والماء ، ولا فى الإنسان والحيوان والنبات والجماد. وذلك هو الذى بهر بعض المشتغلين بالعلوم الكونية ؛ وأوقع من أوقع منهم فى الإسراف واعتبار هذه العلوم من علوم القرآن.

(خامسها) أن الأسلوب الذى اختاره القرآن فى التعبير عن آيات الله الكونية ، أسلوب بارع جمع بين البيان والإجمال فى سمط واحد ، بحيث يمر النظم القرآنى الكريم

٢٥١

على سامعيه فى كل جيل وقبيل ، فإذا هو واضح فيما سيق له من دلالة الإنسان وهدايته إلى الله ، ثم إذا هو مجمل التفاصيل ، يختلف الخلق فى معرفة تفاريعه ودقائقه ، باختلاف ما لديهم من مواهب ووسائل وعلوم وفنون.

ولنضرب لذلك مثلا : تلك الآية الحكيمة وهى قوله عز اسمه : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). فإنها مرت على بنى الإنسان منذ نزلت إلى الآن ، ففهموا منها جميعا أن الله تعالى يدل على قدرته وإبداعه وكماله بأنه خلق من الأشياء متنوعات مختلفة الأشكال والخصائص. لكنهم اختلفوا بعد ذلك. فالأوائل يؤثر عنهم أن الزوجين فى الآية الكريمة ، هما الأمران المتقابلان تقابلا ما. لا بخصوص الذكورة والأنوثة ؛ روى عن الحسن أنه فسر الزوجين بالليل والنهار والسماء والأرض ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ، والحياة والموت ، وهكذا عدد أشياء وقال كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثيل له .. أما المتأخرون ففهموا أن الزوجين فى الآية ، هما الأمران المتقابلان بالذكورة والأنوثة ، ويقولون : إنه ما من شىء فى الوجود إلا منه الذكر والأنثى ، سواء فى ذلك الإنسان والحيوان والجماد وغيرها مما لا نعلم ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ). ويقولون : إن أحدث نظرية فى أصول الأكوان تقرر أن أصول جميع الكائنات تتكون من زوجين اثنين ، وبلسان العلم الحديث (الكترون وپروتون).

ولا أحب أن نتوسع فى هذا ، فبين أيدينا أمثلة كثيرة ومؤلفات جمة ، تموج وتضطرب باستنباط علوم الكون من القرآن ، أو بتفسير القرآن وشرحه بعلوم الكون. وأحدثها فيما أعلم كتاب تحت الطبع الآن ألفه شاب فاضل مثقف وسماه (بين القرآن والعلم) وضمنه شتيتا من الأبحاث المختلفة فى الاجتماع وعلم النفس وعلم الوراثة والزراعة والتغذية وفيما وراء الطبيعة ، مما لا يتسع المقام لذكره ، ومما لا نرى حاجة إليه ، خصوصا بعد أن تبين لنا أن العلوم الكونية خاضعة لطبيعة الجزر والمد ، أن أبحاثا كثيرة منها لا تزال قلقة حائرة بين

٢٥٢

إثبات ونفى. فما قاله علماء الهيئة بالأمس ينقضه علماء الهيئة اليوم. وما قرره علماء الطبيعة فى الماضى يقرر غيره علماء الطبيعة فى الحاضر. وما أثبته المؤرخون قديما ينفيه المؤرخون حديثا وما أنكره الماديون وأسرفوا فى إنكاره باسم العلم ، أصبحوا يثبتونه ويسرفون فى إثباته باسم العلم أيضا ، إلى غير ذلك مما زعزع ثقتنا بما يسمونه العلم ، ومما جعلنا لا نطمئن إلى كل ما قرروه باسم هذا العلم ، حتى لقد ظهر فى عالم المطبوعات كتاب خطير من مصدر علمى محترم عندهم ، له خطورته وجلالته وشأنه ، فصدع هذا الكتاب بناء علمهم وزلزل أركان الثقة به ، بعد أن نقض بالدليل والبرهان كثيرا من المقررات والمسلمات التى يزعمونها يقينية. ثم انتهى بقارئه إلى أن هذا الكون غامض متغلغل فى الغموض والخفاء ، ومن هنا سمى تأليفه (الكون الغامض). وهذا المؤلف هو السير جميس جينز.

فهل يليق ـ بعد ذلك كله ـ أن نبقى مخدوعين مغرورين بعلمهم الذى اصطلحوا عليه وتحاكموا إليه ، وقد سجنوه وسجنوا أنفسهم معه فى سجن ضيق هو دائرة المادة ، تلك الدائرة المسجونة هى أيضا فى حدود ما تفهم عقولهم وتصل تجاربهم ، وقد تكون عقولهم خاطئة وتجاربهم فاشلة؟؟! ثم هل يليق بعد ذلك كله أن نحاكم القرآن إلى هذه العلوم المادية القلقة الحائرة بينما القرآن هو تلك الحقائق الإلهية العلوية القارة الثابتة ، المتنزلة من أفق الحق الأعلى الذى يعلم السر وأخفى؟! ألا إن القرآن لا يفر من وجه العلم. ولكنه يهفو إلى العلم ويدعو إليه ويقيم بناءه عليه ، فأثبتوا العلم أولا ووفروا له الثقة وحققوه ، ثم اطلبوه فى القرآن فإنكم لا شك يومئذ واجدوه. وليس من الحكمة ولا الإنصاف فى شىء أن نحاكم المعارف العليا إلى المعارف لدنيا ، ولا أن نحبس القرآن فى هذا القفص الضيق الذى انحبست فيه طائفة مخدوعة من لبشر ، بل الواجب أن نتحرر من أغلال هذه المادة المظلمة ، وأن نطير فى سماوات القرآن حيث نستشرف المعارف النورانية المطلقة ، والحقائق الإلهية المشرقة ، وأن نوجه اهتمامنا دائما إلى استجلاء عظات هذا التنزيل وهداياته الفائقة ، وألا نقطع برأى فى تفاصيل

٢٥٣

ما يعرض له القرآن من الكونيات إلا إن كان لنا عليه دليل وبرهان لا شك فيه ولا نكران ، وإلا وجب أن نتوقف عن هذه التفاصيل ، ونكل علمها إلى العالم الخبير ، قائلين ما قالت الملائكة حين أظهر الله لهم على لسان آدم ما لم يكونوا يحتسبون : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

كلمة فى الموضوع

والآن يروقنى أن أنقل لك مقتطفات قيمة للعلامة المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش فى هذا الموضوع لكن يتصرف قليل :

١ ـ ليست مهمة القرآن كسائر الكتب السماوية البحث فى الشئون الكونية والمسائل العلمية والفنية ، على النحو المألوف فى الكتب الخاصة الموضوعة فيها.

٢ ـ لما جاء القرآن الكريم كان فى جزيرة العرب من العقائد الفاسدة والعلم الخاطئ بالكونيات أضعاف ما كان منها لدى بنى إسرائيل عند ما أخرجهم موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مصر ، فكان من الحكمة الإلهية أن يتنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى سبيل تصحيح تلك العقائد والمعلومات أضعاف ما تنزل على موسى فى سفر التكوين .. والحكمة البالغة فى ذلك أن الدعوة إلى توحيد الخالق وتقرير الحق من العقائد وقبول ما يلي ذلك من الشرائع والأخلاق ، ما كانت لتجد سبيلها إلى قلوب عرفت للأجرام العلوية فى ألوهيتها وتزاوجها وما كان من أثرها فى تكوين هذه الكائنات ونظامها ، ما قررته العقلية القديمة فى بلاد مصر والإغريق ، وما بثته فى جزيرة العرب وما حولها أساطير الأشوريين والبابليين والكلدانيين. إذن كان لزاما أن يسترعى القرآن انتباه الناس إلى وجه الخطأ فى عقائدهم ، وأن يشككهم فى الباطل الذى اتبعوه ، لأنهم وجدوا عليه آباءهم ، وأن يطلقهم بذلك من الحجر الذى أشقاهم وألحقهم بالأنعام من الحيوان.

٢٥٤

٣ ـ كانت إذن مهمة القرآن الحكيم التى أرادها لتمهيد السبيل إلى التعريف بالخالق جل شأنه ، أن يعين للعقول بضرب الأمثال ، لم تفكر؟ وفيم تفكر؟ وكيف تفكر؟ فهو فى جهاده هذا كان يخطط أرض العلم لتقيم العقول البشرية عليها صروحه الشامخة المتينة ، ويرسم الخطوط الأساسية للصور كى يملأها الرسام بما يلزم لها من الألوان والظلال ومعالم الجمال.

٤ ـ لم يقف القرآن الكريم عند هذا الحد فيما ضرب لنا من الأمثال ، فى بيان بعض غوامض الحقائق الكونية ، بل جاء فى ذلك بحقائق أمر الأميين وغير المحصلين بالتسليم بها والتفويض فيها ، كما أمر العقول الناضجة المقتدرة بطلابها والوقوف على دقائقها والعلم بوجوه الصواب فيها. ثم نصح الفويقين أن يعترفا بعجز عقولهم وألا يقطعا بشيء فيما لا تبلغه أبحاثهم وسعيهم ، بل يتهمون أنفسهم بالعجز والقصور ؛ ويسألون أهل الذكر فيما لا يعلمون ، أو يكلون أمر ما لا يدركون إلى من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.

٥ ـ أن المسيحيين حينما ثاروا فى وجه العلم ونظام الحكم ثوراتهم التجديدية فى أوربة ، لم يكونوا ليشبهوا فى شىء من مواقفهم تلك أحدا من الشعوب الإسلامية ، فإنما كان مبعث حركتهم العنيفة ومصدر ثورتهم الدموية ، أن رجال الكنيسة باسم الدين حجروا على العقول والوجدان ، وقرروا للكنيسة فلسفة حرموا على الناس حتى استيضاح ما غمض عليهم منها. ثم قرروا تكفير من يقول بغيرها ، ولو اعتمد فى رأيه على الحس والمعاينة. حتى لقد كان منهم ميلانشتون وكيرمونينى اللذان رفضا أن ينظرا إلى السماء بالآلة المقربة (تلسكوب) وقد روى عن غاليلو أن من تلاميذ المذهب الأرسطاطالى من كانوا ينكرون وجود أجسام علوية مرئية بالفعل ، وأنهم كانوا يعتبرون فلسفة أرسطو كتلة واحدة لا تقبل التفكيك ، إذا نقض منها حجر انهار سائر بنيانها على أثره فكان ذلك سبب مغالاتهم فى التمسك بها والحرص عليها مجتمعة».

٢٥٥

ثم قال فى تعدد الأرضين.

«لم يذكر القدماء شيئا فى أمر تعدد الأرضين سوى ما نقله ابن سينا عن قدماء حكماء الفرس من أن هنالك أراضى كثيرة غير أرضنا. وما زال الرأى السائد بين سائر الحكماء والفلاسفة ، بقول بعدم تعددها ، حتى جاء غاليلو المتوفى سنة ١٦٤٢ بمناظيره المكبرة والمقربة وكذلك من جاءوا بعده ، فأثبتوا بمشاهداتهم العينية الصادقة أن السيارات جميعها أراض كأرضنا ، وقد يكون بها ما بأرضنا من الجبال والوهاد والماء والهواء والخلائق والعمران. ولم يعتمدوا فى هذا التجويز إلا على الحدس والظن ، فإن مناظيرهم لم تثبت لهم ذلك بعد.

أما القرآن فقد صرح بتعدد الأرضين فى آية (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) ففي تفسير أبى السعود (من مفسرى القرن التاسع للهجرة) أن الجمهور على أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض ، وفى تفسير النيسابورى أنها سبع أرضين ما بين كل واحدة منها إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام (١) وفى كل أرض منها خلق ـ إلى أن قال ـ وهم يشاهدون السماء من جانب أرضهم ويشهدون الضياء منها ومن أصرح الآيات فى أن السيارات أراض مأهولة آية الشورى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) إذ المراد بالسماوات هنا السيارات على ما يأتى لنا من التأويل. ومن الآيات

__________________

(١) مسألة تقدير المسافات التى بين السيارات مثلا بمسير خمسمائة عام يفسرها الشهرستانى بالدابة تسير فرسخا إسلاميا فى كل ساعة على ما هو المعروف ومصطلح عليه فى سائر الكتب الإسلامية ، مما يبلغ مجموعه نحو ١٦ ميلا تقريبا. وهو قريب جدا من تقديرات المتأخرين للمسافات الفاصلة بين السيارات كما يقول ذلك الأستاذ الشهرستانى فى كتابه المسمى (الهيئة والإسلام) ص ٩٠ ج أول.

(ومما يجدر ذكره أن الشهرستانى هذا ليس هو صاحب الملل والنحل بل هو أحد مجتهدى الشيعة المعاصرين لنا. واسمه هبة الله).

٢٥٦

البينة فى هذا الموضوع قوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) :

ومن قصرت عقولهم استبعدوا وجود الحيوان فى الأجرام السماوية. ولكن نفى الزمخشرى والبيضاوى وغيرهما استبعاد أن يخلق الله فيها صنوفا من الحيوان يمشون فيها مشى الإنسان على الأرض ؛ فالله خلق كما قالوا : ما نعلم وما لا نعلم اه ما أردنا نقله.

الوجه السادس

سياسته فى الإصلاح

ومعنى هذا أن القرآن انتهج طريقا عجبا فى إصلاحه ، وسلك سياسة حكيمة وصل بها من مكان قريب إلى ما أراد من هداية الخلق ، فتذرع بجميع الوسائل المؤدية إلى نجاح هذا الإصلاح الوافى بكل ما يحتاج إليه البشر. مما يدل بوضوح على أن القرآن فى سياسته هذه لا يمكن أن يصدر عن نفس محمد ولا غير محمد.

وبيان ذلك من وجوه :

(أولها) مجىء هذا الكتاب منجما ، ومخالفته بذلك سائر كتب الله الإلهية ، بعدا بالناس عن الطفرة ، وتيسيرا لتلقيهم إياه وقبولهم ما جاء به ، على نحو ما بينا فى أسرار التنجيم بالمبحث الثالث من هذا الكتاب.

(ثانيها) مجىء هذا الكتاب بذلك الاسلوب الشيق الرائع الحبيب إلى نفوسهم ، ليكون لهم من هذا الأسلوب دافع إلى الإقبال عليه والاستئناس بما جاء من تعاليمه وإن كانت مخالفة لما مردوا عليه من قبل.

(ثالثها) مجىء هذا الكتاب على غير المعهود فى تأليف القوانين والعلوم والفنون والآداب ، من بناء تقسيمها وتبويها على الموضوعات بحيث يختص كل باب من الكتاب

(١٧ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

٢٥٧

بموضوع معين ، ويختص كل فصل من فصول هذا الباب بمسالة أو مسائل وهكذا. فأنت تجد فى الغالب كل سورة من سور القرآن جامعة لمزيج من مقاصد وموضوعات ، يشعر الناظر فيها بمتعة ولذة ؛ كلما تنقل بين هذه المقاصد فى السورة الواحدة ، كما يشعر الآكل باللذة والمتعة كلما وجد ألوانا شتى من الأطعمة على المائدة الواحدة. وإذن ففي هذا النمط الذى اختاره القرآن فائدتان : دفع السأم والملل عن الناظر فى هذا الكتاب ، وانقياد النفوس إلى هداياته بلباقة من حيث لا تحس بغضاضة. يضاف إلى هذا ما نلمحه من الوحدة الفنية فى السورة أو القطعة الواحدة ، ومن وفاء القرآن بجميع الاصطلاحات البشرية ، على رغم هذا الانتشار القاضى فى العادة بعدم الانسجام وبفوات شىء أو أشياء من مقاصد التأليف وأغراض المؤلفين. حتى ليبدو ذلك وجها جديدا من وجوه الإعجاز ، يؤمن به عن خبرة وإحساس كل من ابتلى بتأليف أو مزاولة آثار المؤلفين!

(رابعها) تكرار ما يستحق التكرار من الأمور المهمة ، حتى يجد سبيله إلى النفوس النافرة والطباع العصية ، فتسلس له القيادة وتلقى إليه السلم ، مثال ذلك تقرير القرآن لعقيدة التوحيد واستئصاله لشأفة الشرك ، بوساطة الحديث عنهما مرارا وتكرارا : تارة يصرح وأخرى يلوح. وتارة يوجز وأخرى يطنب. وتارة يذكر العقيدة مرسلة وأخرى يذكرها مدللة. وتارة يشفعها بدليل واحد وأخرى بجملة أدلة. وتارة يضرب لها الأمثال وأخرى يسوق فيها القصص. وتارة يقرنها بالوعد وأخرى بالوعيد. وهلم.

(خامسها) مخاطبته العقول والأفكار ، ودعوته إلى أعمال النظر وطلب الدليل والبرهان ، ونعيه على من أهملوا العقول واستمرءوا التقليد الأعمى ، وركنوا إلى الجمود. اقرأ قوله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). وقوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) وقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها. أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ. أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

٢٥٨

وهكذا كثيرا ما نسمع فى القرآن أمثال قوله سبحانه (أَفَلا يَسْمَعُونَ) ـ (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ـ (أَنَّى يُؤْفَكُونَ ـ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ـ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى غير ذلك مما يرفع كرامة الإنسان ، ويحاكم أهم الأمور حتى العقيدة فى الله تعالى إلى العقول ، ليصل المرء من وراء ذلك إلى اقتناع الضمير واطمئنان القلب وبرد اليقين وحرارة الإيمان!.

(سادسها) استغلاله الغرائز النفسية استغلالا صالحا بعد أن يهذبها بالدليل ويصقلها بالبرهان. هذه غريزة التقليد والمحاكاة فى الإنسان مثلا قد نأى بها القرآن عن احتذاء الأمثلة السيئة من الجهلة والفسقة ، وذهب بها إلى مقام أمين من وجوب اتباع الأمثلة الطيبة والتأسى بمن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) ، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ، (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

وهذه غريزة حب البقاء والعلو فى الإنسان ، قد نأى بها القرآن أيضا عن الظلم والبغى ، وذهب بها إلى حيث الدفاع عن النفس والعرض والدين والوطن ، وقاد بها عباد الله إلى الحق والخير ، إذ وعدهم حياة ثانية فيها الخلود والبقاء ، وفيها الملك الواسع والاستعلاء العادل (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً).

وهكذا دخل القرآن على الناس من هذا الباب فقادهم من غرائزهم حتى ناط أوامره بمصالحهم ، ونواهيه بمفاسدهم ، وجعل ذلك قاعدة عامة قال فيها : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها). (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها).

وإن أردت تفصيلا وتمثيلا. فانظر إلى تلك المقارنة الرائعة بين المؤمن والمشرك إذ يقول سبحانه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ.)

٢٥٩

(هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). فأنت ترى فى هذه الآية الكريمة أن المشرك مع معبوديه ، مثله مثل عبد اشترك فيه شركاء متنازعون مختلفون ، كل واحد منهم يدعى أنه عبده ، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه فى أعمال شتى ، وهو متحير متعب مجهود لا يدرى أيهم يرضى بخدمته؟ وعلى أيهم يعتمد فى حاجاته؟ ولا يدرى ممن يطلب رزقه وممن يلتمس رفقه؟. فهمه شعاع ، وقلبه أوزاع. أما المؤمن فمثله مثل عبد له سيد واحد ، فهمه واحد وقلبه مجتمع وضميره مستريح وعمله مريح. (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟)!.

وإن أردت مثالا ثانيا فاستمع إلى القرآن وهو يقول فى فريضة الصلاة : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ) الخ. وقوله (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

وإن أردت أمثلة أخرى فاقرأ قوله سبحانه فى فرض الزكاة : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها). وفى فرض الصيام : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وفى فرض الحج : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) الخ. وفى عموم الإيمان والعمل الصالح ، (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

(سابعها) ترتيبه الأوامر والنواهى ترتيبا يسع جميع الناس ، على تفاوت استعدادهم ومواهبهم. فالأوامر الدينية درجات : هذا إيمان ، وهذا إسلام ، وهذا ركن ، وهذا فرض وهذا واجب ، وهذا مندوب مؤكد ، وهذا مندوب غير مؤكد. والمناهى كذلك درجات :

هذا نفاق ، وهذا شرك ، وهذا كفر ، وهذه كبيرة وهذه صغيرة ، وهذا مكروه تحريما ، وهذا مكروه تنزيها .. وما وراء هذه الأوامر والنواهى فمباحات ، لكل أن يأخذ وأن يدع منها ما شاء.

٢٦٠