مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

وإذا افترضنا أن بليغا كتب له التوفيق بين هاتين الغايتين ـ وهما القصد فى اللفظ مع الوفاء بالمعنى ـ فى جملة أو جملتين من كلامه ، فإن الكلال والإعياء لا بد لا حقا به فى بقية هذا الكلام ، وندر أن يصادفه هذا التوفيق مرة ثانية ، إلا فى الفينة بعد الفينة ، كما تصادف الإنسان قطعة من الذهب أو الماس فى الحين بعد الحين ، وهو يبحث فى التراب أو ينقب بين الصخور.

وإن كنت فى شك فسائل أئمة البيان وصيارفته : هل ظفرتم بقطعة من النثر ، أو بقصيدة من الشعر ، كانت كلها أو أكثرها جامعا بين وفاء المعنى وقصد اللفظ؟. ها هم أولاء يعلنون حكمهم صريحا بأن أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة ، والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا فى أبيات معدودة من قصائد محدودة أما سائر شعرهم بعد ، فبين متوسط وردىء. وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه ، على الناثرين من الخطباء والكتاب.

وإن أردت أن تلمس بيدك هذه الخاصة ، فافتح المصحف الشريف مرة ، واعمد إلى جملة من كتاب الله ، وأحصها عددا ، ثم خذ بعدد تلك الكلمات من أى كلام آخر ، وقارن بين الجملتين ، ووازن بين الكلامين ، وانظر أيهما أملأ بالمعانى مع القصد فى الألفاظ؟ ثم انظر أى كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها بما هو خير منها فى ذلك الكلام الإلهى؟ وكم كلمة يجب أن تسقطها أو تبدلها فى ذلك الكلام البشرى؟ إنك إذا حاولت هذه المحاولة ، فستنتهى إلى هذه الحقيقة التى أعلنها ابن عطية فيما يحكى السيوطى عنه وهو يتحدث عن القرآن الكريم إذ يقول : لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد» اه. وذلك بخلاف كلام الناس مهما سما وعلا ، حتى كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى أوتى جوامع الكلم ، وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحى ، وصيغ على أكمل ما خلق الله ، فإنه مع تحليقه فى سماء البيان ، وسموه على كلام كل إنسان ، لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن. وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم!.

٢٢١

تعليق وتمثيل :

يحلو لي أن أسوق إليك هنا كلمة قيمة ، فيها تعليق وتمثيل لما نحن بصدده ، وهى لصديقنا العلامة الجليل الشيخ محمد عبد الله دراز فى كتابه (النبأ العظيم) الذى اقتبسنا منه فيما يتصل بإعجاز القرآن كثيرا.

«قلنا : إن القرآن الكريم يستثمر دائما برفق أقل ما يمكن من اللفظ ، فى توليد أكثر ما يمكن من المعانى. أجل : تلك ظاهرة بارزة فيه كله ، يستوى فيها مواضع إجماله التى يسميها الناس مقام الإيجاز ، ومواضع تفصيله التى يسمونها مقام الإطناب. ولذلك نسميه إيجازا كله ، لأننا نراه فى كلا المقامين لا يجاوز سبيل القصد ، ولا يميل إلى الإسراف ميلا ما. ونرى أن مراميه فى كلا المقامين لا يمكن تأديتها كاملة العناصر والحلى بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها ، فليس فيه كلمة إلا هى مفتاح لفائدة جليلة ، وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى.

دع عنك قول الذى يقول فى بعض الكلمات القرآنية : إنها «مقحمة» وفى بعض حروفه إنها «زائدة» زيادة معنوية. ودع عنك قول الذى يستخف كلمة التأكيد فيرمى بها فى كل موطن يظن فيه الزيادة ، لا يبالى أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون ، ولا يبالى أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أو لا حاجة له به. أجل : دع عنك هذا وذاك ؛ فإن الحكم فى القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها ، إنما هو ضرب من الجهل ـ مستورا أو مكشوفا ـ بدقة الميزان الذى وضع عليه أسلوب القرآن. وخذ نفسك أنت بالغوص فى طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح ، فإن عمى عليك وجه الحكمة فى كلمة منه أو حرف ، فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون ، ولكن قل قولا سديدا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف قل : «الله أعلم بأسرار كلامه ، ولا علم لنا إلا بتعليمه» ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار

٢٢٢

قائلا : «أين أنا من فلان وفلان» كلا ، فرب صغير مفضول قد فطن إلى ما لم يفطن له الكبير الفاضل ، ألا ترى إلى قصة ابن عمر فى الأحجية المشهورة (١) فجد فى الطلب (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فعسى الله أن يفتح لك بابا من الفهم تكشف به شيئا مما عمى على غيرك ـ والله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النّور.

ولنضرب لك مثلا قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

أكثر أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف بل على وجوب زيادتها فى هذه الجملة ، فرارا من المحال العقلى الذى يفضى إليه بقاؤها على معناها الأصلى من التشبيه ؛ إذ رأوا أنها حينئذ تكون نافية التشبيه عن مثل الله ، فتكون تسليما بثبوت المثل له سبحانه :

أو على الأقل. محتملة لثبوته وانتفائه ، لأن السالبة كما يقول علماء المنطق تصدق بعدم الموضوع ، أو لأن النفى ـ كما يقول علماء النحو ـ قد يوجه (٢) إلى المقيد وقيده جميعا. تقول :

ليس لفلان ولد يعاونه ، إذا لم يكن له ولد قط ، أو كان له ولد لا يعاونه. وتقول (ليس محمد أخا لعلى) إذا كان أخا لغير على أو لم يكن أخا لأحد. وقليل منهم من ذهب إلى أنه لا بأس ببقائها على أصلها ، إذ رأى أنها لا تؤدى إلى ذلك المحال لا نصا ولا احتمالا ، لأن نفى مثل

__________________

(١) قرأ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ الآية) ٢٤ من سورة إبراهيم «١٤» وقال : «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها لمثل المسلم. فحدثونى ما هى؟» فخفى على القوم علمها ، وجعلوا يذكرون أنواعا من شجر البادية. وفهم ابن عمر أنها النخلة ، وكان عاشر عشرة هو أحدثهم سنا ، وفيهم أبو بكر وعمر. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هى النخلة») الحديث رواه الشيخان. وفى القرآن : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) الآية ٧٩ من سورة الأنبياء «٢١».

(٢) لعل تمام الكلام : أو لأن النفى ـ كما يقول علماء النحو ـ قد يوجّه إلى القيد وحده وقد يوجه إلى المقيد وقيده جميعا الخ.

٢٢٣

المثل يتبعه العقل نفى المثل أيضا. وذلك أنه لو كان هناك مثل لله. لكان لهذا المثل مثل قطعا وهو الإله الحق نفسه ، فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلا لصاحبه ، وإذا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل ، وهو المطلوب.

وقصارى هذا التوجيه ـ لو تأملته ـ أنه مصحح لا مرجح ، أى أنه ينفى الضرر عن هذا الحرف ، ولكنه لا يثبت فائدته ، ولا يبين مسيس الحاجة إليه. ألست ترى أن مؤدى الكلام معه كمؤداه بدونه سواء ، وأنه إن كان قد ازداد به شيئا فإنما ازداد شيئا من التكلف والدوران وضربا من التعمية والتعقيد وهل سبيله إلا سبيل الذى أراد أن يقول هذا أخو فلان.

فقال هذا ابن أخت خالة فلان؟ فمآله إذا إلى القول بالزيادة التى يسترونها باسم التأكيد. ذلك الاسم الذى لا نعرف له مسمى هاهنا ، فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودا البتة ، وتأكيد النفى بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان.

ولو رجعت إلى نفسك قليلا لرأيت هذا الحرف فى موقعه محتفظا بقوة دلالته ، قائما بقسط جليل من المعنى المقصود فى جملته ، وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامة المعنى أو لتهدم ركن من أركانه. ونحن نبين لك هذا من طريقين أحدهما أدق مسلكا من الآخر : (الطريق الأول) وهو أدنى الطريقين إلى فهم الجمهور : أنه لو قيل (ليس مثله شىء) لكان ذلك نفيا للمثل المكافئ ، وهو المثل التام المماثلة فحسب ؛ إذ أن هذا المعنى هو الذى ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه. وإذا لدب إلى النفس دبيب الوساوس والأوهام ، أن لعل هنالك رتبة لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها ، وأن عسى أن تكون هذه المنزلة للملائكة والأنبياء ، أو للكواكب وقوى الطبيعة ، أو للجن والأوثان والكهان ، فيكون لهم بالإله الحق شبه ما فى قدرته أو علمه ، وشرك ما فى خلقه أو أمره فكان وضع هذا الحرف فى الكلام إقصاء للعالم كله عن المماثلة وعما يشبه المماثلة وما يدنو منها ، كأنه قيل : ليس هناك شىء يشبه أن يكون مثلا لله ، فضلا عن أن يكون مثلا له على الحقيقة ، وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى على حد قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) نهيا عن يسير الأذى صريحا ، وعما فوق اليسير بطريق الأخرى.

٢٢٤

(الطريق الثانى) وهو أدق مسلكا : أن المقصود الأول من هذه الجملة ـ وهو نفى الشبيه ـ وإن كان يكفى لأدائه أن يقال (ليس كالله شىء) أو (ليس مثله شىء) لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمى إليه الآية الكريمة. بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم ، تريد فى الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجته وطريق برهانه العقلى.

ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفى عن امرئ نقيصة فى خلقه فقلت : «فلان لا يكذب ولا يبخل» أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها ـ فإذا زدت فيه كلمة فقلت (مثل فلان لا يكذب ولا يبخل) لم تكن بذلك مشيرا إلى شخص آخر يماثله مبرأ من تلك النقائص ، بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلى ، وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك ؛ لوجود التنافى بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم.

على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الكريمة الحكيمة قائلة : (مثله تعالى لا يكون له مثل) تعنى أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى ، لا يمكن أن يكون له شبيه ، ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه ؛ فلا جرم جىء فيها بلفظين كل واحد منها يؤدى معنى المماثلة ليقوم أحدهما ركنا فى الدعوى. والآخر دعامة لها وبرهانا.

فالتشبيه المدلول عليه (بالكاف) لما تصوب إليه النفى تأدى به أصل التوحيد المطلوب ، ولفظ (المثل) المصرح به فى مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب.

واعلم أن البرهان الذى ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف فى إثبات وحدة الصانع : لا نعلم أحدا من علماء الكلام حام حوله فكل براهينهم فى الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العملية ، حسب ما أرشد إليه قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ذلك ينقض فرض التعدد من

(١٥ مناهل العرفان ـ ٢)

٢٢٥

أساسه : ويقرر استحالته الذاتية فى نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار ، فكأننا بها تقول لنا : ـ إن حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التى تقبل التعدد والاشتراك والتماثل فى مفهومها ، كلا ، فإن الذى يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافى الناقص. أما الكمال التام المطلق الذى هو قوام معنى الإلهية فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنينية ؛ لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدما على كل شىء وإنشاء لكل شىء (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وحققت سلطانا على كل شىء ، وعلوا فوق كل شىء ، (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان فى هذه الصفات لتناقضت ، إذ تجعل كل واحد منهما سابقا مسبوقا ومنشئا منشأ ، ومستعليا ، مستعلى عليه أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما ، إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقا ولا مستعليا ، فأنى يكون كل منهما إلها ، وللإله المثل الأعلى؟! أرأيت كم أفدنا من هذه (الكاف) وجوها من المعانى كلها شاف كاف. فاحفظ هذا المثال ، وتعرف به دقة الميزان الذى وضع عليه النظام الحكيم حرفا حرفا» اه. وهو كلام جد نفيس ، فاحرص عليه.

الشبهات الواردة على أسلوب القرآن

تنمر أعداء الله على القرآن ، وألقوا فى طريق الإيمان به حبالا وعصيا من التخييلات والأوهام. من ذلك شبهات لفقوها ووجهوها إلى أسلوبه. وهى مع التوائها وخبثها تراها مفضوحة منقوضة فى هذا الكتاب ، (بالجزء الأول ، من ص ٧٢ ـ ٧٤ ومن صفحة ١٩٩ ـ ٢٣٢ بالطبعة الثانية) فارجع إلى ذلك هناك ، والله يتولى بتوفيقه هدانا وهداك وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٢٢٦

المبحث السابع عشر

فى إعجاز القرآن وما يتعلق به

إعجاز القرآن مركب إضافى ، معناه بحسب أصل اللغة : إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به. فهو من إضافة المصدر لفاعله ، والمفعول وما تعلق بالفعل محذوف للعلم به. والتقدير. إعجاز القرآن خلق الله عن الإتيان بما تحداهم به. ولكن التعجيز المذكور ليس مقصودا لذاته ، بل المقصود لازمه وهو إظهار أن هذا الكتاب حق ، وأن الرسول الذى جاء به رسول صدق. وكذلك الشأن فى كل معجزات الأنبياء ، ليس المقصود بها تعجيز الخلق لذات التعجيز ، ولكن للازمه وهو دلالتها على أنهم صادقون فيما يبلغون عن الله. فينتقل الناس من الشعور بعجزهم إزاء المعجزات ، إلى شعورهم وإيمانهم بأنها صادرة عن الإله القادر ، لحكمة عالية ، وهى إرشادهم إلى تصديق من جاء بها ليسعدوا باتباعه فى الدنيا والآخرة.

ولقد تناولنا فى المبحث الثالث من هذا الكتاب ، الكلام على المعجزة ما هى؟ وعلى الفرق بينها وبين السحر وغيره ، وعلى وجه دلالتها على تأييد الحق وتصديق الرسل ، مع ضرب الأمثال ونقض الشبهات. فارجع إلى ذلك هناك (ص ٥٦ ـ ٨٤ من الجزء الأول).

وقبل أن نخوض فى موضوعنا هذا ، ننبهك إلى أننا سنختص سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذكر فى نفى نسبة القرآن إليه ، وذلك للتنصيص من أول الأمر على ما يشبه محل النزاع أو موضع الاشتباه عند كثير من أشباه الناس. ولأنه إذا كانت طبيعة القرآن تأبى أن ينسب إلى أفضل الخلق على أنه من تأليفه ، فأحر بها أن تأبى نسبته إلى غيره بالطريق الأولى.

متى سلم الدليل على أن القرآن كلام الله وحده ، سلمت نبوة نبى الإسلام ، وسلم كل ما جاء به القرآن ؛ وسلم الإسلام كله بل سلمت الأديان الصحيحة والكتب الإلهية كلها ؛

٢٢٧

لأنه لم يبق على وجه الأرض شاهد مقبول الشهادة إلا هذا الكتاب الذى أنزله الله مقررا لنبوة الأنبياء السابقين وأديانهم ، ومصححا لأغلاط اللاغطين فيها والمحرفين لها : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ).

«الله أكبر ؛ إن دين محمد

«الله أكبر ؛ إن دين محمد

لا تذكروا الكتب السوالف عنده

طلع الصباح فأطفئ القنديلا»

وجوه إعجاز القرآن

الناظر فى هذا الكتاب الكريم بإنصاف ، تتراءى له وجوه كثيرة مختلفة من الإعجاز ، كما تتراءى للناظر إلى قطعة من الماس ألوان عجيبة متعددة بتعدد ما فيها من زوايا وأضلاع ، ومختلفة باختلاف ما يكون عليه الناظر وما تكون عليه قطعة الماس من الأوضاع. وسنبدأ بما نراه سليما من المطاعن ، ثم نقفى بما لا يسلم فى نظرنا من طعن.

الوجه الأول : لغته وأسلوبه

أما الوجه الأول فلغته وأسلوبه ، على نحو ما فصلناه فى المبحث السابق. وبيان ذلك أن القرآن جاء بهذا الأسلوب الرائع الخلاب ، الذى اشتمل على تلك الخصائص العليا التى تحدثنا عنها والتى لم تجتمع بل لم توجد خاصة واحدة منها فى كلام على نحو ما وجدت فى القرآن وكل ما كان من هذا القبيل فهو لا شك معجز ، خصوصا أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحدى به ، فأعجز أساطين الفصحاء ، وأعيا مقاويل البلغاء ؛ وأخرس ألسنة فحول البيان من أهل صناعة اللسان. وذلك فى عصر كانت القوى فيه قد توافرت على الإجادة والتبريز فى هذا الميدان ، وفى أمة كانت مواهبها محشودة للتفوق فى هذه الناحية!. وإذا كان أهل الصناعة هؤلاء قد عجزوا عن معارضة القرآن ، فغيرهم أشد عجزا وأفحش عيا.

وها قد مرت على اللغة العربية من عهد نزول القرآن إلى عصرنا هذا ، أدوار مختلفة

٢٢٨

بين علو ونزول ، واتساع وانقباض ، وحركة وجمود ، وحضارة وبداوة ، والقرآن فى كل هذه الأدوار واقف فى عليائه ، يطل على الجميع من سمائه ، وهو يشع نورا وهداية ، ويفيض عذوبة وجلالة ، ويسيل رقة وجزالة ، ويرف جدة وطلاوة. ولا يزال كما كان غضا طريا يحمل راية الإعجاز ويتحدى أمم العالم فى يقين وثقة قائلا فى صراحة الحق وقوته ، وسلطان الإعجاز وصولته : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

القدر المعجز من القرآن

ومن عجيب أمر هذا القرآن وأمر هؤلاء العرب ، أنه طاولهم فى المعارضة ، وتنازل لهم عن التحدى بجميع القرآن إلى التحدى بعشر سور مثله ، ثم إلى التحدى بسورة واحدة من مثله ، وهم على رغم هذه المطاولة ، ينتقلون من عجز إلى عجز ، ومن هزيمة إلى هزيمة ، وهو فى كل مرة من مرات هذا التحدى وهذه المطاولة ، ينتقل من فوز إلى فوز ، ويخرج من نصر إلى نصر :

تصور أنه قال لهم فى سورة الطور أول ما تحداهم : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ؟ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ). فلما انقطعوا مدّ لهم فى الحبل وقال فى سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟). فلما عجزوا هذه المرة أيضا ، طاولهم مرة أخرى ، وأرخى لهم الحبل إلى آخره ، وقال فى سورة البقرة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فكان عجزهم بعد ذلك أشنع وأبشع ، وسجل الله عليهم الهزيمة أبد الدهر ، فلم يفعلوا ولن يفعلوا. ودحضت

٢٢٩

حجتهم وافتضح أمرهم ، وظهر أمر الله وهم كارهون.

بهذا يتبين لك أن القدر المعجز من القرآن هو ما يقدر بأقصر سورة منه ، وأن القائلين بأن المعجز هو كل القرآن لا بعضه وهم المعتزلة والقائلين بأن المعجز كل ما يصدق عليه أنه قرآن ولو كان أقل من سورة كل أولئك بمنأى عن الصواب ، وهم محجوجون بما بين يديك من الآيات.

معارضة القرآن

وهل أتاك نبأ الخصم إذ همّوا أن يعارضوا القرآن؟ فكان ما أتوا به باسم المعارضة ، لا يخرج عن أن يكون محاولات مضحكة مخجلة : أخجلتهم أمام الجماهير وأضحكت الجماهير منهم. فباءوا بغضب من الله وسخط من الناس. وكان مصرعهم هذا كسبا جديدا للحق ، وبرهانا ماديا على أن القرآن كلام الله القادر وحده ، لا يستطيع معارضته إنسان ولا جان.

ومن ارتاب فأمامه الميدان.

يذكر التاريخ أن مسيلمة الكذاب ؛ زعم أنه أوحى إليه بكلام كالقرآن. ثم طلع على الناس بهذا الهذر : إنا أعطيناك الجماهر* فصل لربك وجاهر وبهذا السخف :

والطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا. وأنت خبير بأن مثل ذلك الإسفاف ليس من المعارضة فى قليل ولا كثير ، وأين محاكاة الببغاء من فصاحة الإنسان؟

وأين هذه الكلمات السوقية الركيكة ، من ألفاظ القرآن الرفيعة ومعانيه العالية؟ وهل المعارضة إلا الإتيان بمثل الأصل فى لغته وأسلوبه ومعانيه أو بأرقى منه فى ذلك؟.

يقول حجة الأدب العربى ، فقيدنا الرافعى عليه سحائب الرحمة : إن مسيلمة لم يرد أن يعرض للقرآن من ناحية الصناعة البيانية ؛ إذ كانت هذه الناحية أوضح من أن يلتبس أمرها عليه ، أو أن يستطيع تلبيسها على أحد من العرب ، وإنما أراد أن يتخذ سبيله إلى استهواء قومه من ناحية أخرى ظنها أهون عليه وأقرب تأثيرا فى نفوسهم. ذلك أنه رأى العرب تعظم

٢٣٠

الكهان فى الجاهلية ، وكانت عامة أساليب الكهان من هذا السجع القلق الذى يزعمون أنه من كلام الجن ، كقولهم : «يا جليح. أمر نجيح. رجل فصيح : يقول لا إله إلا الله» ـ البخارى فى المناقب : إسلام عمر فكذلك جعل يطبع مثل هذه الأسجاع فى محاكاة القرآن ، ليوهمهم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد ، كأنما النبوة والكهانة ضرب واحد. على أنه لم يفلح فى هذه الحيلة أيضا ، فقد كان كثيرون من أشياعه يعرفونه بالكذب والحماقة ويقولون : إنه لم يكن فى تعاطيه الكهانة حاذقا ولا فى دعوى النبوة صادقا وإنما كان اتباعهم إياه كما قال قائلهم. «كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر».

ويروى التاريخ أن أبا العلاء المعرى وأبا الطيب المتنبى وابن المقفع ، حدثتهم نفوسهم مرة أن يعارضوا القرآن ، فما كادوا يبدءون هذه المحاولة حتى انتهوا منها بتكسير أقلامهم وتمزيق صحفهم ؛ لأنهم لمسوا بأنفسهم وعورة الطريق واستحالة المحاولة. وأكبر ظنى وظن الكاتبين من قبلى ، أنهم كانوا يعتقدون من أعماق قلوبهم بلاغة القرآن وإعجازه من أول الأمر ، وإنما أرادوا أن يضموا دليلا جديدا إلى ما لديهم من أدلة ذاقوها بحاستهم البيانية ، من باب (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). ويا ليت شعرى ، إن لم يتذوق أمثال هؤلاء بلاغة القرآن وإعجازه فمن غيرهم؟!

وتحدثنا الأيام القريبة أن زعماء البهائية ، والقاديانية وضعوا كتبا يزعمون أنهم يعارضون بها القرآن ، ثم خافوا وخجلوا أن يظهروها للناس ، فأخفوها ولكن على أمل أن تتغير الظروف ويأتي على الناس زمان تروج فيه أمثال هذه السفاسف ، إذا ما استحر فيهم الجهل باللغة العربية وآدابها ، والدين الإسلامى وكتابه. ألا خيبهم الله وخيب ما يأملون.

فى القرآن آلاف المعجزات

علمنا من قبل أن القرآن يزيد على مائتى آية وستة آلاف آية. وعلمنا اليوم أن حبل التحدى قد طال حتى صار بسورة ، وأن السورة تصدق بسورة الكوثر وهى ثلاث آيات

٢٣١

قصار ، وأن مقدارها من آية أو آيات طويلة له حكم السورة ، وأن لأسلوب التنزيل سبع خواص لا توجد واحدة منها على كمالها فى أى كلام آخر ، كما بسطنا القول فى ذلك بالمبحث الآنف ... فيخلص لنا فى ضوء هذه الحقائق أن القرآن مشتمل على آلاف من المعجزات لا معجزة واحدة كما يبدو لبعض السذج والسطحيين؟. وإذا أضفنا إلى هذا ما يحمل القرآن من وجوه الإعجاز التالية ، تراءت لنا معجزات متنوعات شتى تجل عن الإحصاء والتعداد وسبحان من يجعل من الواحد كثرة ومن الفرد أمة! (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) أى لكان هذا القرآن!.

معجزات القرآن خالدة

وهنا نلفت النظر إلى أن القرآن بما اشتمل عليه من هذه المعجزات الكثيرة ، قد كتب له الخلود ، فلم يذهب بذهاب الأيام ، ولم يمت بموت الرسول عليه الصلاة والسلام. بل هو قائم فى فم الدنيا يحاج كل مكذب ، ويتحدى كل منكر ويدعو أمم العالم جمعاء إلى ما فيه من هداية الإسلام وسعادة بنى الإنسان. ومن هذا يظهر الفرق جليا بين معجزات نبى الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعجزات إخوانه الأنبياء عليهم أزكى الصلاة وأتم السلام فمعجزات محمد فى القرآن وحده آلاف مؤلفة ، وهى متمتعة بالبقاء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم حتى يرث الله الأرض ومن عليها. أما معجزات سائر الرسل فمحدودة العدد ، قصيرة الأمد ، ذهبت بذهاب زمانهم ، وماتت بموتهم ، ومن يطلبها الآن ، لا يجدها إلا فى خبر كان ، ولا يسلم له شاهد بها إلا هذا القرآن؟. وتلك نعمة يمنها القرآن على سائر الكتب والرسل وما صح من الأديان كافة. قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ). وقال عز اسمه. (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).

٢٣٢

حكمة بالغة فى هذا الاختيار

وهنا نقف هنيهة ، لنعلم أن حكمة الله البالغة قضت أن تكون معجزة الإسلام باقية بجانبه تؤيده وتعززه إلى قيام الساعة ، حتى لا يكون لأحد عذر فى ترك هذا الدين الأخير ، الذى هو خاتمة الأديان والشرائع. لذلك اختار سبحانه أن تكون معجزة الإسلام شيئا يصلح للبقاء ، فكانت دون سواها كلاما ما يتلى فى أذن الدهر ، وحديثا يقرأ على سمع الزمان. وكان من أسرار الإعجاز فيه بلوغه من الفصاحة والبيان مبلغا يعجز الخلق أجمعين. وكان من عدله تعالى ورحمته ، أن اللغة التى صيغت بها هذه المعجزة ، هى اللغة العربية دون غيرها من اللغات ؛ لأن اللغة العربية حين مبعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانت قد بلغت لدى الشعب العربى أوج عظمتها من الاعتناء بها ، والاعتداد بالنابغين فيها ، والاعتزاز بالجيد منها. وكان هذا الشعب العربى قد استكملت له حينذاك ملكة فى النقد والمفاضلة ، تؤهله بسهولة ويسر ، للحكم على جيد الكلام وزيفه ، ووضع كل كلام فى درجته من العلو أو النزول. وترجع براعتهم فى هذه الناحية إلى أنهم كانوا قد وقفوا عليها حياتهم ، والتمسوا من ورائها عظمتهم. وعلقوا عليها آمالهم.

ولا يغيبن عنك أن هذا الشعب العربى كان مطبوعا أيامئذ على الصراحة فى الرأى ، لا يعرف النفاق ولا الذبذبة. وكانوا فوق ذلك شجعانا يأنفون الذل ويعافون الضيم ، مهما كلفتهم سجاياهم هذه من بذل مال وسفك دم. فلما نزل القرآن لم يسع هذا الشعب الحر الصريح الأبى المتمهر فى لغته ، إلا أن يلقى السلاح من يده ، ويخضع لسلطان هذا التنزيل وبلاغته. ويدين له ويؤمن به ، عن إدراك ووجدان ، بعد أن ذاق حلاوته ولمس إعجازه ، وحكم بملكته العربية الناقدة وصراحته المعروفة السافرة ، وشجاعته النادرة الفائقة ، أن هذا الذكر الحكيم ، لا يمكن أن يكون كلام مخلوق من البشر ولا غير البشر ، إنما هو تنزيل من حكيم حميد.

٢٣٣

بهذه الشهادة ينجح العالم كله

شهادة هذا شأنها ، وهذا شأن من شهد بها ، جديرة أن ينجح بها العالم حين يتلقاها بالقبول ، كما يتلقى بالقبول شهادة لجان التحكيم فى هذا العصر ، ثقة منه بأنهم فنيون يحسنون المقارنة والموازنة ، واطمئنانا إلى أنهم عادلون لا يعرفون المحاباة والمداهنة. بل شهادة أولئك العرب أزكى وأطهر ، وأحكم وأقوم ؛ لأنها صدرت عن أعداء القرآن حين نزوله ، بعد محاولات ، ومصاولات ، مخضتهم مخضا عنيفا ، وأفحمتهم إفحاما سريرا. «والفضل ما شهدت به الأعداء».

أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوى

ومما يفيد فى هذا المقام ويدفع التلبيس ، أن تعرف بعد ما بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوى الشريف. ولا أدل على ذلك من أن بين يدى التاريخ إلى يوم الناس هذا آلافا مؤلفة من كتب السنة ، تملأ دور الكتب فى الشرق والغرب ، وتنادى كل من له إلمام وذوق فى البيان العربى : أن هلم لتحس بحاستك البيانية ، المدى البعيد بين أسلوبى القرآن والحديث ، ولتؤمن عن وجدان بأن أسلوب التنزيل أعلى وأجل من أسلوب الأحاديث النبوية ، علوا خارقا للعادة ، خارجا عن محيط الطاقة البشرية ، وإن بلغ كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى جودته وروعته وجلالته ، ما جعله خير بيان لخير إنسان.

غير أن هذه الفوارق ـ كما قلنا ـ فوارق فنية لا يدركها إلا الذين أوتوا حظا عظيما من معرفة اللسان العربى والذوق العربى. ولقد نزل القرآن أول ما نزل ، على أمة العرب وهم مطبوعون على اللغة الفصحى ، منقطعون لإحيائها وترقيتها. وكانوا يتفاضلون بينهم بالتفوق فى علو البيان وفصاحة اللسان ، حتى بلغ من تقديسهم لهذا أنهم كانوا يقيمون المعارض العامة للتفاخر والتفاضل بفصيح المنظوم وبليغ المنثور ، وحتى إن القبيلة كان يرفعها بيت

٢٣٤

واحد من الشعر يكون رائعا فى مدحها ، ويضعها بيت يكون لاذعا فى ذمها. ولقد كان هؤلاء العرب يعرفون نبى الإسلام ويعرفون مقدرته الكلامية من قبل أن يوحى إليه ، فلم يخطر ببال منصف منهم أن يقول : إن هذا القرآن كلام محمد ، وذلك لما يرى من المفارقات الواضحة بين لغة القرآن ولغة الرسول عليه الصلاة والسلام.

يضاف إلى هذا أنه لم يعرف فى نشأته بينهم بالخطابة ولا بالكتابة ولا بالشعر ، ولم يؤثر أنه شاركهم فى معارضهم وأسواقهم العامة التى كانوا يقيمونها للتسابق فى البيان. بل كان مقبلا على شأنه. زاهدا فى الظهور ميالا إلى العزلة. وكل ما اشتهر به قبل النبوة أنه كان صادقا لم يجربوا عليه كذبا ، أمينا ما خان أبدا ، ميمون النقيبة عالى الأخلاق علوا ممتازا!. فهل يعقل أن رجلا سلخ عهد شبابه وكهولته على هذا النمط ، يجيء فى سن الشيخوخة فينافس العالم كله ويتحداه بشيء من لدنه ، وهو الذى ما نافس أحدا قبل ذلك ولا تحداه ، بل كان من خلقه الحياء والتواضع وعدم الاستطالة على خلق الله؟. ثم هل يتصور أن هذا الإنسان الكامل يتورع عن الكذب على الناس فى صباه وشبابه وكهولته ، ثم يجيء فى سن الشيخوخة فيكذب أفظع الكذب على الله؟ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ؟).

ألا إن وجود القرآن كلاما متلوا لم ينقص كلمة ولا حرفا ، لرحمة واسعة من الله بعباده لم تتسن لأى كتاب فى أمة ، غير هذا الكتاب الذى يهل الظامئون من بحره الروى فى كل عصر ، ويأوى المنصفون إلى هديه الربانى فى كل مصر ، ويكتسب بما فيه من سمات الألوهية أتباعا فى كل أفق ، مصداقا لقوله سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من نبى من الأنبياء إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما

٢٣٥

كان الذى أوتيته حيا أوحاه الله تعالى إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» رواه الشيخان.

الوجه الثانى طريقة تأليفه

وبيان ذلك أن القرآن لم ينزل جملة واحدة ، وإنما نزل مفرقا منجما على أكثر من عشرين عاما ، على حسب الوقائع والدواعى المتجددة ، كما تقدم بيانه فى المبحث الثالث من هذا الكتاب ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما نزل عليه نجم من تلك النجوم قال : ضعوه فى مكان كذا من سورة كذا. وهو بشر لا يدرى (طبعا) ما ستجىء به الأيام ، ولا يعلم ما سيكون فى مستقبل الزمان ، ولا يدرك ما سيحدث من الدواعى والأحداث ، فضلا عما سينزل فيها. ثم مضى العمر الطويل والرسول على هذا العهد ، وإذا القرآن كله بعد ذلك يكمل ويتم ، وينتظم ويتآخى ويأتلف وينسجم ، ولا يؤخذ عليه شىء من التخاذل والتفاوت ، بل كان من ضروب إعجازه ما فيه من انسجام ووحدة وترابط ، حتى إن الناظر فيه دون أن يعلم بتنجيم نزوله ، لا يخطر على باله أنه نزل منجما ، وحتى إنك مهما أمعنت النظر وبحثت ، لا تستطيع أن تجد فرقا بين السور التى نزلت جملة والسور التى نزلت منجمة ، من حيث إحكام الربط فى كل منهما. فسورة البقرة مثلا وقد نزلت بضعة وثمانين نجما فى تسع سنين (١). لا تجد فرقا بينها وبين سورة الأنعام التى نزلت دفعة واحدة كما يقول الجمهور (٢) من حيث

__________________

(١) وجه نزولها فى تسع سنين أنها جمعت بين ما نزل فى مبادى السنة الثانية للهجرة ، كآيات تحويل القبلة وآيات تشريع صوم رمضان وبين آخر القرآن نزولا على الإطلاق ، وهو آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) التى ورد أنها نزلت قبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتسع ليال فقط.

(٢) رواه الطبرانى موقوفا على ابن عباس ورواه أبى بن كعب مرفوعا بسند ضعيف.

٢٣٦

نظام المبنى ودقة المعنى وتمام الوحدة الفنية وإذا قرأت سورة الضحى وسورة أقرأ وسورة الماعون ، لا تشعر بفارق بينها وبين كثير من السور القصار مثلها من حيث الإحكام والوحدة والانسجام كذلك ، على حين أن تلك السور الثلاث نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين! فقل لى بربك : هل يجوز فى عقل عاقل أن يكون هذا القرآن كلام محمد او غير محمد ، مع ما علمت من هذا الانفصال الزمانى البعيد بين أول ما نزل وآخره ، ومع ما علمت من ارتباط كل نجم بحادثة من أحداث الزمن ووقائعه ، ومع ما علمت من أن ترتيب هذه النجوم فى القرآن ليس على ترتيب هذا النزول الخاضع للحدثان ، بدليل أن أول ما نزل من القرآن إطلاقا ـ وهو صدر سورة اقرأ ـ مدون بالمصحف فى أواخره ، وبدليل أن آخر ما نزل منه إطلاقا ـ وهو آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ـ مدون بالمصحف فى أوائله؟؟

إن كنت فى شك من أن هذا الكتاب المحكم الرصين قد جاء فى طريقة تأليفه معجزة ، فاجمع أهل الدنيا يظاهر بعضهم بعضا ، واطلب إليهم أن يؤلفوا لك كتابا فى حجم سورة البقرة لا فى حجم سور القرآن كله ، لكن على شرط أن تكون طريقة تأليفه هى الطريقة التى خضعت لها سورة البقرة ، من الارتباط بأحداث الزمن ووقائعه ، ومن وضع هذه النجوم مبعثرة غير مرتبة فى الكتاب بترتيب الأحداث والوقائع ثم من تمام هذا الكتاب أخيرا على وحدة فنية تربط بين بداياته ونهاياته وأوساطه وسائر أجزائه؟ فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا ؛ فاطلب إليهم أن يعمدوا مثلا إلى حديث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ما هو فى روعته وبلاغته وطهره وسموه ، وقد قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أوقات مختلفة ، واسألهم بعد ذلك هل فى مكنتهم أن ينظموا من هذا السرد الشتيت الماثل أمامهم ، كتابا واحدا يصقله الاسترسال والوحدة كالقرآن ، من غير أن ينقصوا منه أو يتزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه؟؟ ذلك ما لن يكون ولا يمكن أن يكون ، ومن حاوله من الخلق فإنما يحاول العبث العابث ، وسيخرج إلى

٢٣٧

الناس من هذه المحاولة بثوب مرقع ، وكلام مشوش ، ينقصه الترابط والانسجام ، وتعوزه الوحدة والاسترسال ، وتمجه الأسماع والأفهام!.

إذن فالقرآن الكريم تنطق طريقة تأليفه ، بأنه لا يمكن أن يكون صادرا إلا ممن له السلطان الكامل على الفلك ودورته ، والعلم المحيط بالزمن وحوادثه ، والبقاء السرمدى حتى يبلغ مراده وينفذ مشيئته. ذلكم الله وحده الذى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، والذى يعلم الغيب فى السموات وفى الأرض ، والذى لا يذوق الموت ولا تأخذه سنة ولا نوم ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه. (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

الوجه الثالث علومه ومعارفه

وبيان ذلك أن القرآن قد اشتمل على علوم ومعارف فى هداية الخلق إلى الحق. بلغت من نبالة القصد ، ونصاعة الحجة وحسن الأثر وعموم النفع ، مبلغا يستحيل على محمد ـ وهو رجل أمى نشأ بين الأميين ـ أن يأتى بها من عند نفسه. بل يستحيل على أهل الأرض جميعا من علماء وأدباء وفلاسفة ومشترعين وأخلاقيين ، أن يأتوا من تلقاء أنفسهم بمثلها.

هذا هو التنزيل الحكيم ، تقرؤه فإذا بحر العلوم والمعارف متلاطم زاخر ، وإذا روح الإصلاح فيه قوى قاهر. ثم إذا هو يجمع الكمال من أطرافه. فبينا تراه يصلح ما أفسده الفلاسفة بفلسفتهم ، إذ تراه يهدم ما تردى فيه الوثنيون بشركهم. وبينا تراه يصحح ما حرفه أهل الأديان فى دياناتهم ، إذ تراه يقدم للإنسانية مزيجا صالحا من عقيدة راشدة ترفع همة العبد ، وعبادة قويمة تطهر نفس الإنسان ، وأخلاق عالية تؤهل المرء لأن يكون خليفة الله فى الأرض ، وأحكام شخصية ومدنية واجتماعية تكفل حماية المجتمع من الفوضى والفساد ، وتضمن له حياة الطمأنينة والنظام والسلام والسعادة .. دينا قيما يساوق الفطرة ، ويوائم الطبيعة ، ويشبع حاجات القلب والعقل ، ويوفق بين مطالب الروح والجسد ، ويؤلف بين مصالح الدين والدنيا ، ويجمع بين عز الآخرة والأولى! كل ذلك فى قصد واعتدال ،

٢٣٨

وببراهين واضحة مقنعة تبهر العقل وتملك اللب. والكلام على هذه التفاصيل يستنفد مجلدا بل مجلدات ، فلنجتزئ هنا بأمثلة وإشارات ، ولنخترها فى موضوع العقائد التى هى واحدة فى جميع أديان الله بحسب أصلها قبل التعريف. ولنتعرض فى هذه الأمثلة إلى شىء من المقارنة بين تعاليم الإسلام وتعاليم اليهود والنصارى على عهد نزوله ، ثم إلى شىء من رد القرآن عليهم وتصحيحه لأغلاطهم وفضحه لأباطيلهم ، ومقصدنا من هذا قطع ألسنة خراصة ، زعم أصحابها أن تعاليم القرآن استمدها محمد من بعض أهل الكتاب فى عصره ثم نسبها إلى ربه ، ليستمد من هذه النسبة قدسيتها (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ. إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً).

ا ـ أمثلة من عقيدة الإيمان بالله :

١ ـ جاء القرآن بالعقيدة فى الله بيضاء نقية ، نزهه فيها عن جميع النقائص ، ونص على استحالة الولد وكل ما يشعر بمشابهة الخالق بالمخلوق. ووصف الله بالكمال المطلق ، ونص على وحدانيته فى ربوبيته ووحدانيته فى ألوهيته ، بمعنى أنه أحد فى تدبير خلقه وأحد فى استحقاقه العبادة دون غيره ، ألم تر أنه يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ويقول (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) ويقول : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟) : ويقول. (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ؟ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). ويقول : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) ويقول : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ، فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ* وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ، يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ويقول : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ويقول :

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ؟) ويقول (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ). ويقول : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ*

٢٣٩

إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ* يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ويقول : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ، فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً* أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ ؛ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) إلى غير ذلك وهو جد كثير.

٢ ـ وصل اليهود بعد موسى فعبدوا بعلا ، وزعموا فى عهد من عهودهم ما زعمت النصارى من أن لله ابنا ، وشبهوا الله تعالى بالإنسان فنعتوه بأنه تعب من خلق السموات والأرض فاستراح يوم السبت ، وركبوا رءوسهم فقالوا إنه سبحانه ظهر فى شكل إنسان وصارع إسرائيل فلم يقدر على التفلت منه حتى باركه فأطلقه. إلى غير ذلك من أغلاطهم وفضائحهم.

٣ ـ وضل النصارى بعد عيسى ، فذهبوا إلى عقيدة معقدة من التثليث وصارت كنائسهم من عهد قسطنطين كهياكل الوثنية الأولى وخلعوا على رجال كهنوتهم ما هو حق الله وحده من التشريع والتحليل والتحريم ، حتى تعزى بهم وثنيو العرب ورأوا أنهم أمثل من هؤلاء المسيحيين فى الوثنية ، (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ* وَقالُوا : أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟) ثم احتجوا على شركهم بأنهم ما سمعوا دعوة التوحيد الذى جاء به الإسلام فى الملة الآخرة ، (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أى النصرانية.

٤ ـ فانظر مدى البون الشاسع بين الحق الذى جاء به القرآن فى هذا الباب ، وبين الباطل الذى جاء به هؤلاء وهؤلاء! على أن كتاب الله لم يكتف بذلك ، بل رد على أولئك المبطلين ببراهينه الساطعة وأدلته القاطعة. استمع إليه وهو يقول : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ : أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). ويقول :

٢٤٠