مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

كذلكم البيان اللغوى فى أية لغة ، ما هو إلا صناعة ، موادها وقواعدها واحدة فى المفردات والتراكيب ، ولكن البيان يختلف بعد ذلك باختلاف الطرائق والأساليب ، وإن شئت فقل : يختلف باختلاف الأذواق والمواهب التى انتقت هذه المفردات اللغوية ، واصطفت تلك الجمل التركيبية. حتى إنك لترى أهل اللغة الواحدة ، يؤدون الغرض الواحد بوجوه مختلفة من المفردات ، ومذاهب شتى من التراكيب ، يتفاوت حظها من الجودة والرداءة ، ومن الحسن والدمامة ، ومن القبول والرد ، بمقدار ما بينهم من اختلاف فى طرائق اختيارهم لما اختاروه من مواد اللغة إفرادا وتركيبا ، ولما لاحظوه من المناسبات مع هذا الاختيار ، فإذا سلم ذوق المتكلم وسمت حاسته البيانية ، حسن اختياره ، وسما كلامه ، سموا قد يأخذ عليك حسك ، ويملك قلبك ولبك. وإذا فسد ذوق المتكلم وانحطت حاسته البيانية ، ساء اختياره ، ونزل كلامه ، نزولا قد تتقزز منه نفسك ، ويتأذى به سمعك ، وربما فررت منه وأنت تتمثل بقول الشاعر :

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

وصوّت إنسان فكدت أطير

بيان ذلك فى اللغة العربية :

بيان ذلك فى لغتنا المحبوبة العربية ، أن مفرداتها منها متآلف فى حروفه ومتنافر ، وواضح مستأنس ، وخفى غريب ، ورقيق خفيف على الاسماع ، وثقيل كريه تمجه الاسماع ، وموافق لقياس اللغة ومخالف له. ثم من هذه المفردات عام وخاص ، ومطلق ومقيد ، ومجمل ومبين ، ومعرف ومنكر ، وظاهر ومضمر ، وحقيقة ومجاز .. وكذلك التراكيب العربية ، منها ما هو حقيقة ومجاز ، ومنها متآلف الكلمات ومتنافرها ، وواضح المعانى ومعقدها. وموافق للقياس اللغوى والخارج عليه ، ومنها الاسمية والفعلية ، والخبرية والإنشائية ، وفيها النفى والإثبات ، والإيجاز والإطناب ، والتقديم والتأخير ، والفصل والوصل ، إلى غير ذلك مما هو مفصل فى علوم اللغة وكتبها.

٢٠١

ثم إن ما يؤيده معهود اللغة من المتنوعات المذكورة وما أشبهها ، هو المسلك العام الذى ينفذ منه المتكلمون إلى أغراضهم ومقاصدهم. ولكن ليس شىء من هذه المتنوعات بالذى يحسن استعماله إطلاقا ، ولا شىء منها بالذى يسوء استعماله إطلاقا ، أى فى كافة الأحوال وجميع المقامات. بل لكل مقام مقال ، فما يجمل فى موطن قد يقبح فى موطن آخر ، وما يجب فى مقام قد يمتنع فى مقام آخر ، ولو لا هذا لكان الوصول إلى الطرف الأعلى من البلاغة هينا ولأصبح كلام الناس لونا واحدا وطعما واحدا. ولكن الأمر يرجع إلى حسن الاختيار من هذه المتنوعات بحسب ما يناسب الأحوال والمقامات ، فخطاب الأذكياء غبر خطاب الأغبياء. وموضوع العقائد التى يتحمس لها الناس غير موضوع القصص. وميدان الجدل الصاحب غير مجلس التعليم الهادئ ولغة الوعد والتبشير غير لغة الوعيد والانذار إلى غير ذلك مما يجعل اختيار المناسبات عسيرا ضرورة أن الاحاطة بجميع أحوال المخاطبين قد تكون متعسرة أو متعذرة ومما يجعل اللفظ الواحد فى موضع من المواضع كأنه نجمة وضاءة لامعة ، وفى موضع آخر كأنه نكتة سوداء مظلمة.

ولعلمائنا ـ أكرمهم الله ـ أذواق مختلفة فى استنباط الفروق الدقيقة بين استعمال حرف أو كلمة ، مكان حرف أو كلمة. ومن السابقين فى حلبة هذا الاستنباط الخطيب الاسكافى المتوفى سنة ٤١٢ ه‍ فى كتابه (درة التنزيل وغرة التأويل). وهاك مثالا منه يفيدنا فيما نحن فيه ، إذ يتحدث عن سر التعبير بالفاء فى لفظ (كلوا) من قوله سبحانه فى سورة البقرة : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) وعن سر التعبير بالواو لا بالفاء فى لفظ «كلوا» أيضا ، لكن من قوله سبحانه فى سورة الأعراف. (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) مع أن القصة واحدة ، ومدخول الحرف واحد قال رحمه‌الله :

«الأصل أن كل فعل عطف عليه ما تعلق به تعلق الجواب بالابتداء ، وكان الأول مع الثانى بمعنى الشرط والجزاء ، فالأصل فيه عطف الثانى على الأول بالفاء ومنه (وَإِذْ قُلْنَا

٢٠٢

ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا) فإن وجود الأكل متعلق بالدخول والدخول موصل إلى الأكل فالأكل وجوده معلق بوجوده بخلاف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا) لأن السكنى مقام مع طول لبث ، والأكل لا يختص وجوده بوجوده ، لأن من يدخل بستانا قد يأكل منه مجتازا. فلما لم يتعلق الثانى بالأول تعلق الجواب بالابتداء ، وجب العطف بالواو دون الفاء» اه.

تفاوت القوى والقدر

ولا ريب أن القوى والقدر تتفاوت تفاوتا بعيدا فيما نعرف من الأحوال ومناسباتها ، وأن ميدان الاختيار فسيح ملىء بشتى الألوان والصور للمفردات ومركباتها. فما ذا عسى أن تبلغ قدرة الإنسان فى استعراض كل هذه الألوان والصور ، وفى إقامة ميزان دقيق بينها ، تمهيدا لحسن الاختيار ، على ضوء تلك الأحوال المقتضية لما ينبغى أن يكون منها! هنا ينفسح المجال ثم ينفسح ، فما يهتدى إليه متكلم قد يغفل عنه متكلم ، وما يتيقظ له كاتب قد يغفل عنه كاتب ، وما يدركه شاعر قد يفوت شاعرا آخر ، بل ما يدركه الإنسان الواحد فى موضع قد يخطئه فى موضع سواه ، وهكذا.

وليس من غرضنا هنا أن نستقصى الأحوال والمناسبات ، ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لكل حال وما يناسبها ، فلذلك محله من علوم اللغة وكتبها كما قلنا. ولكن الذى نريد أن نضع يدك عليه فى هذا المقام ، هو أن أسلوب أى كلام بليغ ، معناه صورته الفنية أو طابعه الخاص ، أو مزاجه الشخصى الذى تهيأ له برعاية صاحبه لجملة الأحوال ومناسباتها فى هذا الكلام. وأنه على حسب ما تحتوى أساليب الكلام من الأحوال والمناسبات ، يتفاوت هذا الكلام فى درجات البلاغة علوا ونزولا ، وفى حظه عند السامعين ردا وقبولا. وأنه لم يظفر الوجود بكلام إلهى ولا بشرى بلغ الطرف الأعلى فى البلاغة ؛ ووصل إلى قمة الإعجاز من هذه الناحية ، غير القرآن الكريم ؛ لأن منشئ هذا الكتاب هو وحده الذى تعلقت إرادته بأن تكون معجزة نبى الإسلام من هذا الطراز لحكمة شرحناها وقد نعرض لها فيما يأتى ولأنه سبحانه هو الذى انتهت إليه الإحاطة بجميع أحوال الخلق وحده

٢٠٣

ولأنه عز سلطانه هو القادر وحده. على تضمين كلامه كل المناسبات التى اقتضتها تلك الأحوال الكثيرة التى لم يحط ولن يحيط بها سواه!. ومن الذى يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وفيها الخفى الذى لا يعلمه إلا من يعلم السر وأخفى؟ ثم من ذا الذى يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق ؛ وهم أجيال متعددة ، منهم من لم يخلقوا وقت نزول القرآن ، ومنهم من لم يعرفوا لنا إلى الآن؟ بعد بضعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن. وأنت خبير بأن القرآن هو كتاب الساعة الذى يخاطب الأجيال كافة ؛ حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فلا غرو أن يضمنه منزله كل ما تحتاج إليه الأمم على اختلاف أجيالها من المناسبات الملائمة لأحوالهم وليس ذلك فى قدرة أحد إلا العليم بأسرار الخلق وخفيات السموات والأرض (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى * الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى * لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى).

ومن شواهد ما نذكر ، أننا نلاحظ فى كثير من ألفاظ القرآن أنها اختيرت اختيارا يتجلى فيه وجه الإعجاز من هذا الاختيار ، وذلك فى الألفاظ التى نمر بها على القرون والأجيال ، منذ نزل القرآن إلى اليوم فإذا بعض الأجيال يفهم منها ما يناسب تفكيره ، ويلائم ذوقه ، ويوائم معارفه ، وإذا أجيال أخرى تفهم من هذه الألفاظ عينها غير ما فهمته تلك الأجيال ، ولو استبدلت هذه الألفاظ بغيرها لم يصلح القرآن لخطاب الناس كافة ، وكان ذلك قدحا فى أنه كتاب الدين العام الخالد ، ودستور البشرية فى كل عصر ومصر. فسبحان من أنزل هذا القرآن مشبعا لحاجات الجميع ، وافيا تجارب الجميع ، ملائما لأذواق الجميع ، متفقا ومعارف الجميع ، مما يدل دلالة واضحة ، على أنه كلام الله وحده ، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ، وكفى بالله شهيدا.

ولعل لنا عودة لمثل هذا الكلام فى فرصة أخرى. فلنمسك القلم عن الجولان فى هذا الميدان. ولنرجع عودا على بدء إلى أسلوب القرآن ولنذكر شيئا من خصائص

٢٠٤

أسلوب القرآن ومزاياه التى انفرد بها. وكانت هى السر فى إعجازه اللغوى أو البلاغى أو الأسلوبى

خصائص أسلوب القرآن :

إن الخصائص التى امتاز بها أسلوب القرآن. والمزايا التى توافرت فيه حتى جعلت له طابعا معجزا فى لغته وبلاغته ، أفاض العلماء فيها بين مقل ومكثر ، ولكنهم بعد أن طال بهم المطاف ، وبعد أن دميت أقدامهم ، وحفيت أقلامهم ، لم يزيدوا على أن قدموا إلينا قلّا من كثر وقطرة من بحر ، معترفين بأنهم عجزوا عن الوفاء ، وأن ما خفى عليهم فلم يذكروه أكثر مما ظهر لهم فذكروه ، وأنهم لم يزيدوا على أن قربوا لنا البعيد بضرب من التمثيل رجاء الإيضاح والتبيين. أما الاستقصاء والإحاطة بمزايا الأسلوب القرآنى وخصائصه على وجه الاستيعاب فأمر استأثر به منزله الذى عنده علم الكتاب.

وإذن فلنذكر نحن بدورنا شيئا من خصائص أسلوب القرآن ، على وجه التمثيل والتقريب أيضا .. وما لا يدرك كله لا يترك أقله.

الخاصة الأولى :

مسحة القرآن اللفظية. فإنها مسحة خلابة عجيبة ، تتجلى فى نظامه الصوتى ، وجماله اللغوى.

١ ـ ونريد بنظام القرآن الصوتى ، اتساق القرآن وائتلافه فى حركاته وسكناته ، ومداته وغناته ، واتصالاته وسكتاته ، اتساقا عجيبا ، وائتلافا رائعا ، يسترعى الأسماع ويستهوى النفوس ، بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أى كلام آخر من منظوم ومنثور. وبيان ذلك أن من ألقى سمعه إلى مجموعة القرآن الصوتية ، وهى مرسلة على وجه السذاجة

٢٠٥

فى الهواء ؛ مجردة من هيكل الحروف والكلمات ، كأن يكون السامع بعيدا عن القارئ المجود ، بحيث لا تبلغ إلى سمعه الحروف والكلمات متميزا بعضها عن بعض ، بل يبلغه مجرد الأصوات الساذجة المؤلفة من المدات والغنات ، والحركات والسكنات ، والاتصالات والسكتات ، نقول : إن من ألقى سمعه إلى هذه المجموعة الصوتية الساذجة يشعر من نفسه ولو كان أعجميا لا يعرف العربية ، بأنه أمام لحن غريب وتوقيع عجيب ، يفوق فى حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع الموسيقى وترنيم الشعر ، لأن الموسيقى تتشابه أجراسها وتتقارب أنغامها فلا يفتأ السمع أن يملها ، والطبع أن يمجها ، ولأن الشعر تتحد فيه الأوزان وتتشابه القوافى فى القصيدة الواحدة غالبا وإن طالت ، على نمط يورث سامعه السأم والملل ، بينما سامع لحن القرآن لا يسأم ولا يمل ، لأنه يتنقل فيه دائما بين ألحان متنوعة ، وأنعام متجددة ، على أوضاع مختلفة يهز كل وضع منها أو تار القلوب ، وأعصاب الأفئدة.

وهذا الجمال الصوتى أو النظام التوقيعى ، هو أول شىء أحسته الآذان العربية أيام نزول القرآن ، ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام ، سواء أكان مرسلا أم مسجوعا ، حتى خيل إلى هؤلاء العرب أن القرآن شعر؟ لأنهم أدركوا فى إيقاعه وترجيعه لذة ، وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة ، لم يعرفوا شيئا قريبا منها إلا فى الشعر ، ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا ، حتى قال قائلهم ـ وهو الوليد ابن المغيرة ـ : «وما هو بالشعر» معللا ذلك بأنه ليس على أعاريض (١) الشعر فى رجزه (٢) ولا فى قصيده. بيد أنه تورط فى خطأ أفحش من هذا الخطأ ، حين زعم فى ظلام العناد

__________________

(١) جمع عروض على غير قياس كأنهم جمعوا عريضا. وهو ميزان الشعر أو الجزء الذى فى آخر النصف الأول من البيت؟ مختار

(٢) الرجز ضرب من الشعر وزنه مستفعلن ست مرات. وزعم الخليل أنه ليس بشعر وإنما هو أنصاف أبيات أو أثلاث؟ قاموس.

٢٠٦

والحيرة أنه سحر ، لأنه أخذ من النثر جلاله وروعته ، ومن النظم جماله ومتعته ووقف منهما فى نقطة وسط خارقة لحدود العادة البشرية ، بين إطلاق النثر وإرساله ، وتقييد الشعر وأوزانه. ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور لكنه معجز ليس كمثله كلام ، لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شىء. وما هو بالشعر ولا بالسحر ، لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه وقانونه ورسمه ، والقرآن ليس منه ؛ ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلا من نفس خبيثة ، ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمدية وسموها ونبلها ، إذ كانوا أعلم الناس به وأعرفهم بحسن سيرته وسلوكه ، وقد نشأ فيهم وشب وشاب بينهم. هذا إلى أن القرآن كله ، ما هو إلا دعوة طيبة لأهداف طيبة ، لا محل فيها إلى خبث ورجس ، بل هى تحارب السحر وخبثه ورجسه ، وتسمه بأنه كفر ، إذ قال : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا : إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).

ثم إن السحر معروف المقدمات والوسائل ، فليس بمعجز ، ولا يمكنه ولن يمكنه أن يأتى فى يوم من الأيام بمثل هذا الذى جاء به القرآن.

عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فلما قرأ عليه القرآن كأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال له : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك ما لا ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله (بكسر القاف وفتح الباء). قال الوليد لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره. قال : وما ذا أقول؟ فو الله ما فيكم من رجل أعلم منى بالشعر لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذى يقوله شيئا من هذا. وو الله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمنير أعلاه ، مشرق أسفله ، وإنه ليعلوا ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته! قال أبو جهل للوليد : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه فقال الوليد : دعنى أفكر. فلما فكر قال : هذا سحر يأثره عن غيره وفى ذلك نزل

٢٠٧

قوله تعالى (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً* وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً* وَبَنِينَ شُهُوداً* وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً* ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ* كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً* سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً* إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط البخارى. فانظر إلى الرجل حين أرسل نفسه على سجيتها العربية ، وبديهتها الفطرية كيف أنصف فى حكمه ، حين تجرد ساعة من عناده وكفره ، وقال : والله ما يشبه الذى يقوله شيئا من هذا إلى أن قال : وإنه ليحطم ما تحته. ثم انظر إلى الرجل حين غلبت عليه شقوته ، وعاوده عناده وتعصبه ، كيف قاوم فطرته وأكره نفسه على مخالفة شعوره ووجدانه وقال ما قال بعد أن حار وذهب كل مذهب فى ضلاله وحيرته ، على نحو ما يصور القرآن تلك الحيرة والمقاومة والاستكراه بقوله : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) الخ. نسأل الله الحماية والهداية بمنه وكرمه. آمين.

٢ ـ ونريد بجمال القرآن اللغوى ، تلك الظاهرة العجيبة التى امتاز بها القرآن فى رصف حروفه وترتيب كلماته ، ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس فى كلامهم. وبيان ذلك أنك إذا استمعت إلى حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة ، تشعر بلذة جديدة فى رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض فى الكلمات والآيات هذا ينقر وذاك يصفر. وهذا يخفى وذاك يظهر ، وهذا يهمس وذاك يجهر ، إلى غير ذلك مما هو مقرر فى باب مخارج الحروف وصفاتها فى علم التجويد. ومن هنا يتجلى لك جمال لغة القرآن حين خرج إلى الناس فى هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة ، الجامعة بين اللين والشدة ، والخشونة والرقة ، والجهر والخفية ، على وجه دقيق محكم ، وضع كلا من الحروف وصفاتها المتقابلة فى موضعه بميزان حتى تألف من المجموع قالب لفظى مدهش ، وقشرة سطحية أخاذة امتزجت فيها جزالة البداوة فى غير خشونة ، برقة الحضارة من غير ميوعة ، وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة. ولقد وصل هذا الجمال اللغوى إلى قمة الإعجاز ، بحيث

٢٠٨

لو دخل فى القرآن شىء من كلام الناس لاعتل مذاقه فى أفواه قارئيه ، واختل نظامه فى آذان سامعيه.

ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوى ، وذاك النظام الصوتى ، أنهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية ، كانا سورا منيعا لحفظ القرآن من ناحية أخرى. وذلك أن من شأن الجمال اللغوى والنظام الصوتى ، أن يسترعى الأسماع ، ويثير الانتباه ، ويحرك داعية الإقبال فى كل إنسان ، إلى هذا القرآن الكريم. وبذلك يبقى أبد الدهر سائدا على ألسنة الخلق وفى آذانهم ، ويعرف بذاته ومزاياه بينهم ، فلا يجرؤ أحد على تغييره وتبديله مصداقا لقوله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

الخاصة الثانية :

إرضاؤه العامة والخاصة. و؟؟؟ هذا أن القرآن الكريم إذا قرأته على العامة أو قرئ عليهم ، أحسوا جلاله ، وذاقوا حلاوته ، وفهموا منه على قدر استعدادهم ما يرضى عقولهم وعواطفهم. وكذلك الخاصة إذا قرءوه أو قرئ عليهم ؛ أحسوا جلاله وذاقوا حلاوته ، وفهموا منه أكثر مما يفهم العامة ، ورأوا أنهم بين يدى كلام ليس كمثله كلام لا فى إشراق ديباجته ولا فى امتلائه وثروته ، ولا كذلك كلام البشر ، فإنه إن أرضى الخاصة والأذكياء ، لجنوحه إلى التجوز والإغراب والإشارة ، لم يرض العامة لأنهم لا يفهمونه وإن أرضى العامة لجنوحه إلى التصريح والحقائق العارية المكشوفة ، لم يرض الخاصة لنزوله إلى مستوى ليس فيه متاع لأذواقهم ومشاربهم وعقولهم.

الخاصة الثالثة :

إرضاؤه العقل والعاطفة. ومعنى هذا أن أسلوب القرآن يخاطب العقل والقلب معا ،

(١٤ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

٢٠٩

ويجمع الحق والجمال معا. انظر إليه مثلا وهو فى معمعان الاستدلال العقلى على البعث والإعادة فى مواجهة منكريهما ، كيف يسوق استدلاله سوقا يهز القلوب هزا ، ويمتع العاطفة إمتاعا ، بما جاء فى طى هذه الأدلة المسكتة المقنعة ، إذ قال الله سبحانه فى سورة فصلت (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى. إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وإذ قال فى سورة ق : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ* وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ* وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ* رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ). تأمل فى هذا الأسلوب البارع ، الذى أقنع العقل وأمتع العاطفة فى آن واحد ، حتى فى الجملة التى هى بمثابة النتيجة من مقدمات الدليل ، إذ قال فى الآية الأولى إن الذى أحياها لمحيى الموتى وفى الآيات الأخيرة (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) يا للجمال الساحر ، ويا للإعجاز الباهر الذى يستقبل عقل الإنسان وقلبه معا بأنصح الأدلة وأمتع المعروضات ، فى هذه الكلمات المعدودات!.

ثم انظر إلى القرآن وهو يسوق قصة يوسف مثلا ، كيف يأتى فى خلالها بالعظات البالغة ، ويطلع من خلالها بالبراهين الساطعة ، على وجوب الاعتصام بالعفاف والشرف والأمانة ، إذ قال فى فصل من فصول تلك الرواية الرائعة : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ، وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ. قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). فتأمل فى هذه الآية كيف قوبلت دواعى الغواية الثلاث ، بدواعى العفاف الثلاث ، مقابلة صورت من القصص الممتع جدا لا عنيفا بين جند الرحمن وجند الشيطان ، ووضعتهما أمام العقل المنصف فى كفتى ميزان! وهكذا تجد القرآن كله مزيجا حلوا سائغا ، يخفف على النفوس أن تجرع الأدلة العقلية ، ويرفه عن العقول باللفتات العاطفية ، ووجه العقول والعواطف معا جنبا إلى جنب لهداية الإنسان وخير الإنسانية!.

٢١٠

وهل تسعد بمثل هذا فى كلام البشر؟ لا ، ثم لا. بل كلامهم إن وفى بحق العقل بخس العاطفة حقها ، وإن وفى بحق العاطفة بخس العقل حقه ، وبمقدار ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر ، حتى لقد بات العرف العام يقسم الأساليب البشرية إلى نوعين لا ثالث لهما :

أسلوب علمى وأسلوب أدبى : فطلاب العلم لا يرضيهم أسلوب الأدب ، وطلاب الأدب لا يرضيهم أسلوب العلم. وهكذا تجد كلام العلماء والمحققين فيه من الجفاء والعرى ، ما لا ينهز القلوب ويحرك النفوس ، وتجد فى كلام الأدباء والشعراء من الهزال والعقم العلمى ما لا يغذى الأفكار ويقنع العقول ؛ ذلك لأن القوى العاقلة والقوى الشاعرة فى بنى الإنسان غير متكافئة. وعلى فرض تكافئهما فى شخص فإنهما لا تعملان دفعة واحدة بل على سبيل البدل والمناوبة. فكلام الشخص إما وليد فكرة ، وإما وليد عاطفة ، وإما ثوب مرقع يتألف من جمل نظرية تكون ثمرة للتفكير ومن جمل عاطفية تكون ثمرة للشعور. أما أن تأتى كل جملة من جمله جامعة للغايتين معا. فدون ذلك صعود السماء. وكيف يتسنى ذلك للإنسان ، وهو لم يوهب القوتين متكافئتين ، ولو تكافأتا لديه فإنه لا يستطيع أن يوجههما اتجاها واحدا فى آن واحد متقارنتين «ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه» أما القرآن فإنه انفرد بهذه الميزة بين أنواع الكلام ، لأنه تنزيل من القادر الذى لا يشغله شأن عن شأن ، والذى جمع بين الروح والجسد فى قران ، (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)

الخاصة الرابعة :

جودة سبك القرآن وإحكام سرده (١). ومعنى هذا أن القرآن بلغ من ترابط أجزائه ، وتماسك كلماته وجمله وآياته وسوره ، مبلغا لا يدانيه فيه أى كلام آخر ، مع طول نفسه ،

__________________

(١) يقال درع مسرّدة ومسرودة أى منسوجة متداخلة حلقها بعضها فى بعض فالمراد هنا أن القرآن مترابط الأجزاء متناسب تناسبا قويا.

٢١١

وتنوع مقاصده ، وافتنانه وتلوينه فى الموضوع الواحد. وآية ذلك أنك إذا تأملت فى القرآن الكريم ؛ وجدت منه جسما كاملا تربط الأعصاب والجلود والأغشية بين أجزائه ولمحت فيه روحا عاما يبعث الحياة والحس على تشابك وتساند بين أعضائه. فإذا هو وحدة متماسكة متآلفة ، على حين أنه كثرة متنوعة متخالفة. فبين كلمات الجملة الواحدة من التآخى والتناسق ، ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب وبين جمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ، ما جعلها وحدة صغيرة متآخذة الأجزاء متعاقبة الآيات. وبين سور القرآن من التناسب ما جعله كتابا سوىّ الخلق حسن السمت ، (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ). فكأنما هو سبيكة واحدة تأخذ بالأبصار وتلعب بالعقول والأفكار ، على حين أنها مؤلفة من حلقات ، لكل حلقة منها وحدة مستقلة فى نفسها ذات أجزاء ، ولكل جزء وضع خاص من الحلقة ، ولكل حلقة وضع خاص من السبيكة ، لكن على وجه من جودة السبك وإحكام السرد ، جعل من هذه الأجزاء المنتشرة المتفرقة ، وحدة بديعة متآلفة ، تريك كمال الانسجام بين كل جزء وجزء ، ثم بين كل حلقة وحلقة ثم بين أوائل السبيكة وأواخرها وأواسطها.

يعرف هذا الإحكام والترابط فى القرآن ، كل من ألقى باله إلى التناسب الشائع فيه ، من غير تفكك ولا تخاذل ، ولا انحلال ولا تنافر بينما الموضوعات مختلفة متنوعة ، فمن تشريع إلى قصص إلى جدل إلى وصف إلى غير ذلك. وكتب التفسير طافحة ببيان المناسبات ، فنحيلك عليها ، ونكتفى بمثل واحد نضربه مع الاختصار والاقتصار.

هذه سورة الفاتحة ، تأمل كيف تترابط وتتناسق فى حسن تخلص من معنى إلى معنى ، ومن مقصد إلى مقصد : لقد افتتحت متوجة «باسم الله» كما يتوج القاضى كل حكم من أحكامه باسم جلالة الملك ، لإعلان الجهة التى يستمد منها نفوذه فى صدور أحكامه ، ثم انتقل الكلام فيها سريعا إلى الاستدلال على أن الاستعانة إنما هى به تعالى وحده ، وذلك بإضافة الاسم إلى لفظ الجلالة الذى هو اسم الذات الجامع لصفات الكمال ، وبوصف لفظ الجلالة بأنه

٢١٢

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). ثم انتقل الكلام إلى إعلان أنه تعالى مستحق للمحامد كلها ، ما دام أنه المستعان وحده بالدليل. ثم انتقل الكلام إلى تدعيم هذا الاستحقاق بأدلة ثلاثة جرت على اسم الجلالة مجرى الأوصاف فى مقام حمده. (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). ثم انتقل الكلام إلى إعلان وحدانيته ، فى ألوهيته ، وربوبيته (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ما دام أنه هو المعين وحده ، ومستحق المحامد كلها وحده. ثم انتقل الكلام فى براعة إلى بيان المطمح الأعلى للإنسان ، وأن هذا المطمح الأعلى هو الهداية إلى الصراط المستقيم ، وأنه لا سبيل إلى الوصول إلى هذا المطمح عن طريق أحد إلا عن طريق الله وحده ، بقرينة ما سبق من أدلة التوحيد والتمجيد قبله. (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). ثم انتقل الكلام من حيث لا تشعر أو من حيث تشعر ، إلى تقسيم الخلق بالنسبة إلى هذه الهداية ثلاثة أقسام ، تنبيها وإغراء على المقصود ، وتحذيرا وتنفيرا من الوقوع فى نقيض هذا المقصود (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). وإذا الناس أمام عينيك بين منعم عليه بمعرفة الحق واتباعه ، ومغضوب عليه بمخالفة الحق مع العلم به ، وضال رضى أن يعيش عيشة الأنعام ؛ فى متاهة الجهالة والحيرة والضلال ، لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحق ليتشرف بمعرفته ويسعد باتباعه. ثم تنظر فى سورة البقرة ، فإذا هى وما بعدها ترتبط بالفاتحة ارتباط المفصل بالمجمل. فالهداية إلى الصراط المستقيم صراط من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، تشرحها سورة البقرة وما وليها من سور القرآن. حيث جاءتنا بتفاصيل هذه الهداية ، فى بيان كامل ، وعرض شامل.

أما بعد ، فقد يظن بعض الجهلة ، أن هذه الوحدة الفنية البيانية فى القرآن ، أمر تافه هين ، لا يسمو إلى حد التنويه به ، فضلا عن أن ينظم فى عداد ما هو مناط للاعجاز.

ولأجل الرد على هؤلاء ، نطلب منهم أن ينظروا نظرة فاحصة فى كلام البلغاء وحملة الأقلام. فإن لم يكن عندهم نظر ولا ذوق ، فليستمعوا إلى حكم نقدة البيان وصيارفته عليهم ، بأنهم

٢١٣

كثيرا ما يخطئون فى تنظيم أغراضهم إذا قالوا بل يأتون بها شتيتا مفككا غير متماسك ولا متجاذب ، مما يعاب الشعراء من أجله بسوء التخلص حين ينتقلون من غرض إلى غرض فى القصيدة الواحدة ومما يضطر الكتاب والعلماء والمؤلفين إلى تلافى هذا النقص ، بما يستخدمون فى تنقلاتهم بين أغراضهم ، من أسماء الإشارة وأدوات التنبيه والحديث عن النفس وكثرة التقسيم والترقيم والتبويب والعنونة ولفظ أما بعد نحو : هذا ، وإن ، ألا ، وإن قلنا كذا ونقول كذا ، ينقسم الكتاب إلى مباحث. المبحث الأول فى كذا الخ ، ينقسم هذا المبحث إلى نقاط أولها كذا الخ. ملاحظة. تنبيه : فذلكة. أما بعد الخ.

هذا فى كلام البشر. أما كلام مالك القوى والقدر. فإنه على تنوع أغراضه. وطول نفسه فى سوره وآياته. ينتقل من مقصد إلى مقصد. وينقلك أنت معه بين هذه المقاصد. غير مستعين بوسائل العجز المذكورة. بل بطريقة سحرية قد تشعر بها وقد لا تشعر. وحسبك أن تنظر فى المثال الآنف الذى قدمناه لك فى سورة الفاتحة ، وحبذا أن تنظر فى أطول سور القرآن وهى سورة البقرة. فإنك ستطرب وتعجب. وسيذهب بك الطرب والعجب إلى حد الذوق البالغ لهذا اللون من الإعجاز القاهر. وأدلك على كتاب النبأ العظيم فقد أجاد فى بيان هذا اللون وأبدع. وأشبع العقول والقلوب وأمتع بما عرض من التناسب والترابط بين آحاد هذه السورة!.

الخاصة الخامسة

براعته فى تصريف القول ، وثروته فى أفانين الكلام ، ومعنى هذا أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ وبطرق مختلفة ، بمقدرة فائقة خارقة ، تنقطع فى حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء. ولسنا هنا بسبيل الاستيعاب والاستقراء ، ولكنها أمثلة تهديك ، ونماذج تكفيك :

٢١٤

١ ـ منها تعبيره عن طلب الفعل من المخاطبين بالوجوه الآتية :

١ ـ الإتيان بصريح مادة الأمر ، نحو قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها).

٢ ـ والإخبار بأن الفعل مكتوب على المكلفين ، نحو (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ).

٣ ـ والإخبار بكونه على الناس نحو (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

٤ ـ والإخبار عن المكلف بالفعل المطلوب منه ، نحو (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أى مطلوب منهن أن يتربصن.

٥ ـ والإخبار عن المبتدأ بمعنى يطلب تحقيقه من غيره ، نحو (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) أى مطلوب من المخاطبين تأمين من دخل الحرم.

٦ ـ وطلب الفعل بصيغة فعل الأمر ، نحو (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أو بلام الأمر نحو (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

٧ ـ والإخبار عن الفعل بأنه خير (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى. قُلْ : إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ).

٨ ـ ووصف الفعل وصفا عنوانيا بأنه بر ، نحو (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى).

٩ ـ ووصف الفعل بالفرضية ، نحو «قد علمنا ما فرضنا عليهم فى أزواجهم» أى من بذل المهور والنفقة.

١٠ ـ وترتيب الوعد والثواب على الفعل ، نحو (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ).

١١ ـ وترتيب الفعل على شرط قبله نحو (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

٢١٥

١٢ ـ وإيقاع الفعل منفيا معطوفا عقب استفهام نحو (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ. أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أى تذكروا.

١٣ ـ وإيقاع الفعل عقب ترج ، نحو (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ١٤ ـ وترتيب وصف شنيع على ترك الفعل ، نحو (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ»).

ب ـ ومنها تعبيره عن النهى بالوسائل الآتية :

١ ـ الإتيان فى جانب الفعل بمادة النهى ، نحو (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ)

٢ ـ والإتيان فى جانبه بمادة التحريم ، نحو (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

٣ ـ ونفى الحل عنه ، نحو (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً).

٤ ـ والنهى عنه بلفظ لا ، نحو (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

٥ ـ ووصفه بأنه ليس برا ، نحو (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها).

٦ ـ ووصفه بأنه شر ، نحو (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ).

٧ ـ وذكر الفعل مقرونا بالوعيد ، نحو (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الخ.

٨ ـ وذكر الفعل منسوبا إليه الإثم ، نحو (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ).

٢١٦

٩ ـ ١٥ ونظم الأمر فى سلك ما هو بالغ الإثم والحرمة ، والإخبار عن الفعل بأنه رجس ، ووصفه بأنه من عمل الشيطان ، والأمر باجتنابه ورجاء الفلاح فى تركه ، وترتيب مضار مؤذية على فعله ، والأمر بالانتهاء عنه فى صورة الاستفهام. ونمثل لهذه الطرق كلها ، بتحريم الخمر والميسر فى قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟).

ج ـ ومنها تعبيره عن إباحة الفعل بالطرق الآتية :

١ ـ التصريح فى جانبه بمادة الحل ، نحو (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

٢ ـ والأمر به مع قرينة صارفة عن الطلب ، نحو (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا).

٣ ـ ونفى الإثم عن الفعل ، نحو (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

٤ ـ ونفى الحرج عنه ، نحو (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أى فى ترك القتال. أو فى الأكل من البيوت (١).

٥ ـ ونفى الجناح عنه فى غير ما ادعى فيه الحرمة ، نحو (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ، إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الخ (٢). أما ما ادعى

__________________

(١) تجد هذا النص الكريم فى سورة الفتح عقب توعد من يتخلف عن القتال فى قوله سبحانه (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ) الخ. ثم تجد هذا النص الكريم أيضا فى سورة النور نازلا بسبب وهو أن المسلمين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو ووضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والمريض والأعرج وعند أقاربهم ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون ويقولون .. نخشى ألا تكون نفوسهم بذلك طيبة.

(٢) نزلت فيمن تعاطى شيئا من الخمر والميسر قبل التحريم. فقرر لهم أن ذلك كان مباحا لهم.

٢١٧

فيه الحرمة فإن نفى الجناح عنه يصدق بوجوبه ، نحو (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

٦ ـ وإنكار تحريمه فى صورة استفهام ، نحو (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟).

٧ ـ والامتنان بالشىء ووصفه بأنه رزق حسن ، نحو (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً).

وهكذا تجد القرآن يفتنّ فى أداء المعنى الواحد بألفاظ وطرق متعددة ، بين إنشاء وإخبار ، وإظهار وإضمار ، وتكلم وغيبة وخطاب ومضى وحضور واستقبال ، واسمية وفعلية ، واستفهام وامتنان ، ووصف ، ووعد ووعيد إلى غير ذلك. ومن عجب أنه فى تحويله الكلام من نمط إلى نمط. كثيرا ما تجده سريعا لا يجارى فى سرعته. ثم هو على هذه السرعة الخارقة لا يمشى مكبا على وجهه ، مضطربا أو متعثرا ، بل هو محتفظ دائما بمكانته العليا من البلاغة ، (يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

ولقد خلع هذا التصرف والافتنان ، لباسا فضفاضا من الجدّة والروعة على القرآن ، ومسحه بطابع من الحلاوة والطلاوة ، حتى لا يمل قارئه ، ولا يسأم سامعه ، مهما كثرت القراءة والسماع. بل ينتقل كل منهما من لون إلى لون ؛ كما ينتقل الطائر فى روضة غناء من فنن إلى فنن ؛ ومن زهر إلى زهر.

واعلم أن تصريف القول فى القرآن على هذا النحو ؛ كان فنا من فنون إعجازه الأسلوبى كما ترى ، وكان فى الوقت نفسه منة يمنها الله على الناس ؛ ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر فى القرآن والإقبال عليه قراءة وسماعا ؛ وتدبرا وعملا ، وأنه لا عذر معها لمن أهمل هذه النعمة وسفه نفسه. اقرأ إن شئت قوله سبحانه : فى سورة الإسراء. (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ؛ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً)

٢١٨

وقوله سبحانه فى سورة الكهف : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) وقوله سبحانه فى سورة الرعد : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ).

الخاصة السادسة :

جمع القرآن بين الإجمال والبيان. مع أنهما غايتان متقابلتان لا يجتمعان فى كلام واحد للناس! بل كلامهم إما مجمل وإما مبين (١). لأن الكلمة إما واضحة المعنى لا تحتاج إلى بيان. وإما خفية المعنى تحتاج إلى ، بيان ولكن القرآن وحده هو الذى انخرقت له العادة ، فتسمع الجملة منه وإذا هى بينة مجملة فى آن واحد ، أما أنها بينة أو مبينة (بتشديد الياء وفتحها) فلأنها واضحة المغزى وضوحا يريح النفس من عناء التنقيب والبحث لأول وهلة ، فإذا أمعنت النظر فيها لاحت منها معان جديدة كلها صحيح أو محتمل لأن يكون صحيحا ، وكلما أمعنت فيها النظر زادتك من المعارف والأسرار ، بقدر ما تصيب أنت من النظر وما تحمل من الاستعداد على حد قول القائل.

«يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا»

ولهذا السر وسع كتاب الله جميع أصحاب المذهب الحضر من أبناء البشر ، ووجد أصحاب هذه المذاهب المختلفة والمشارب المتباينة ، شقاء أنفسهم وعقولهم فيه ، وأخذت الأجيال المتعاقبة من مدده الفياض ما جعلهم يجتمعون عليه ويدينون به ولا كذلك البشر

__________________

(١) المجمل ما له دلالة غير واضحة ، فخرج المهمل والمبين. والمبين ما لا خفاء فيه لا ما وقع إليه السياق. مثال الأول لفظ القرء ولفظ مختار ، وقوله تعالى : إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ لأن الأول متردد بين الحيض والطهر ، والثانى بين الفاعل والمفعول والثالث مجهول معناه قبل نزول آية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ). والمبين نحو والسارق والسارقة فاقطعوا ـ و ـ حرمت عليكم أمهاتكم.

٢١٩

فى كلامهم ، فإنهم إذا قصدوا إلى توضيح أغراضهم ، ضاقت ألفاظهم ولم تتسع لاستنباط وتأويل. وإذا قصدوا إلى إجمالها ، لم يتضح ما أرادوه ، وربما التحق عندئذ بالألغاز وما لا يفيد.

والأمر فى هذه الخاصة ظاهر غنى بظهوره عن التمثيل. وحسبك أن ترجع إلى كتب التفسير ، ففيها من ذلك الشيء الكثير (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).

الخاصة السابعة :

قصد القرآن فى اللفظ مع وفائه بالمعنى. ومعنى هذا أنك فى كل من جمل القرآن ، تجد بيانا قاصدا مقدرا على حاجة النفوس البشرية من الهداية الإلهية ، دون أن يزيد اللفظ على المعنى ، أو يقصر عن الوفاء بحاجات الخلق من هداية الخالق. ومع هذا القصد اللفظى البرىء من الإسراف والتقتير ، تجده قد جلى لك المعنى فى صورة كاملة ، لا تنقص شيئا يعتبر عنصرا أصليا فيها أو حلية مكملة لها ، كما أنها لا تزيد شيئا يعتبر دخيلا فيها وغريبا عنها. بل هو كما قال الله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

ولا يمكن أن تظفر فى غير القرآن ، بمثل هذا الذى تظفر به فى القرآن ، بل كل منطيق بليغ مهما تفوق فى البلاغة والبيان ، تجده بين هاتين الغايتين ، كالزوج بين ضرتين : بمقدار ما يرضى إحداهما يغضب الأخرى. فإن ألقى البليغ باله إلى القصد فى اللفظ وتخليصه مما عسى أن يكون من الفضول فيه ، حمله ذلك فى الغالب على أن يغض من شأن المعنى ، فتجيء صورته ناقصة خفية ، ربما يصل اللفظ معها إلى حد الإلغاز والتعمية. وإذا ألقى البليغ باله إلى الوفاء بالمعنى وتجلية صورته كاملة ، حمله ذلك على أن يخرج عن حد القصد فى اللفظ ، راكبا متن الإسهاب والإكثار ، حرصا على ألا يفوته شىء من المعنى الذى يقصده ولكن يندر حينئذ أن يسلم هذا اللفظ من داء التخمة فى إسرافه وفضوله ، تلك التخمة التى تذهب ببهائه ورونقه ، وتجعل السامع يتعثر فى ذيوله ، لا يكاد يميز بين زوائد المعنى وأصوله.

٢٢٠