مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

(ثانيتها) تيسير حفظ القرآن والمحافظة عليه ، لأن كل ما احتواه من تلك الوجوه المستلزمة للخفاء ، دال على معان كثيرة زائدة على ما يستفاد من أصل الكلام ، ولو عبر عن هذه المعانى الثانوية الكثيرة بألفاظ ، لخرج القرآن فى مجلدات واسعة ضخمة ، يتعذر معها حفظه والمحافظة عليه. (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي. وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).

وكذلك يدرك القارئ لدقة القرآن وعلو أسلوبه روعة ولذة تغريه على قراءته ، وتشجعه على استظهاره وحفظه.

(ثالثتها) ما ذكره الفخر الرازى بقوله : (متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق. وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب. قال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)).

(رابعتها) ما ذكره الفخر أيضا بقوله : (باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه ، يضطر الناظر فيه إلى تحصيل علوم كثيرة ، مثل اللغة والنحو وأصول الفقه مما يعينه على النظر والاستدلال. فكان وجود المتشابه سببا فى تحصيل علوم كثيرة).

(خامستها) ما ذكره أيضا بقوله : (باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه يضطر الناظر فيه إلى الاستعانة بالأدلة العقلية ، فيتخلص من ظلمة التقليد. وفى ذلك تنويه بشأن العقل والتعويل عليه ، ولو كان كله محكما لما احتاج إلى الدلائل العقلية ، ولظل العقل مهملا) اه.

ملاحظة :

يمكن اعتبار بعض هذه الحكم فى النوع الأول ، كما يمكن اعتبار بعض حكم النوع الأول هنا ، لكن بشيء من التكليف. ولقد راعينا ما يجب أن تراعيه من أن بعض هذه الحكم لا تتأتى إلا فى أنواع خاصة من المتشابهات ، ولكن المجموع يتحقق فى المجموع ، وذلك كاف فى صحة هذا العرض ، فاكتف أنت به ولاحظه ، وبالله تعالى التوفيق.

١٨١

متشابه الصفات

عرفنا أن المتشابهات تجمع ألوانا مختلفة. ونزيدك هنا أن من بينها لونين كثر الكلام فيهما (أولهما) فواتح السور ، نحو الم ، ق ، طس وما أشبهها. وقد أفضنا القول فيها بالمبحث السابع من الجزء الأول من هذا الكتاب. (ثانيهما) الآيات المشكلة الواردة فى شأن الله تعالى ، وتسمى آيات الصفات ، أو متشابه الصفات. ولا بن اللبان فيها تصنيف مفرد ، سماه :

(رد المتشابهات إلى الآيات المحكمات) مثل قوله سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وما أشبهه. وإنما أفرد هذا النوع بالذكر وبالتأليف لأنه كثر فيه القيل والقال ، وكان فتنة ارتكس فيها كثير من القدامى والمحدثين.

الرأى الرشيد فى متشابه الصفات

علماؤنا أجزل الله مثوبتهم ـ قد اتفقوا على ثلاثة أمرر تتعلق بهذه المتشابهات ، ثم اختلفوا فيما وراءها.

(فأول ما اتفقوا عليه) صرفها عن ظواهرها المستحيلة ، واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعا. كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة. وبما هو معروف عن الشارع نفسه فى محكماته؟

(ثانيه) أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات ، وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ، ويرد طعن الطاعنين.

(ثالثه) أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا ، وجب القول به إجماعا وذلك كقوله سبحانه (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعا. وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد ، هو الكينونة معهم بالإحاطة علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة.

١٨٢

وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع على ثلاثة مذاهب :

(المذهب الأول) مذهب السلف ، ويسمى مذهب المفوضة ، (بكسر الواو وتشديدها) وهو تفويض معانى هذه المتشابهات إلى الله وحده بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة. ويستدلون على مذهبهم هذا بدليلين.

أحدهما عقلى وهو أن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنما يجرى على قوانين اللغة واستعمالات العرب ، وهى لا تفيد إلا الظن ، مع أن صفات الله من العقائد التى لا يكفى فيها الظن ، بل لا بد فيها من اليقين ولا سبيل إليه ، فلنتوقف ولنكل التعيين إلى العليم الخبير.

والدليل الثانى نقلى ، يعتمدون فيه على عدة أمور : منها حديث عائشة السابق ، وفيه «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ؛ فأولئك الذين سمى الله ، فاحذرهم».

ومنها ما رواه الطبرانى فى الكبير عن أبى مالك الأشعرى أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا أخاف على أمتى إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) الحديث.

ومنها ما أخرجه ابن مردويه عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا. فما عرفتم منه فاعملوا ، وما تشابه فآمنوا به».

ومنها ما أخرجه الدارمى عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ابن صبيغ (١) قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر وقد أعدله عراجين النخل ، فقال له :

__________________

(١) كذلك جاء اسم ابن صبيغ فى كتاب الإتقان للسيوطى ، بلفظ ابن ، وبالغين المعجمة فى صبيغ مع صورة التصغير.

١٨٣

من أنت؟ فقال : أنا عبد الله بن صبيغ. فأخذ عمر عرجونا فضربه حتى دمى رأسه. وجاء فى رواية أخرى : فضربه حتى ترك ظهره دبرة ، ثم تركه حتى برأ ، ثم عاد ، ثم تركه حتى برأ ، فدعا به ليعود ، فقال : إن كنت تريد قتلى فاقتلنى قتلا جميلا. فأذن له إلى أرضه ، وكتب إلى أبى موسى الأشعرى : ألا يجالسه أحد من المسلمين» اه والدبرة بفتحات ثلاث هى قرحة الدابة فى أصل الوضع اللغوى ، والمراد هنا أنه صير فى ظهره من الضرب جرحا داميا كأنه قرحة فى دابة ورضى الله عن عمر ، فإن هذا الأثر يدل على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبعه متشابهات القرآن يكثر الكلام فيها ويسأل الناس عنها.

ومنها ما ورد من أن الإمام مالكا رضى الله عنه سئل عن الاستواء فى قوله سبحانه :

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول ، والسؤال عن هذا بدعة ، وأظنك رجل سوء. أخرجوه عنى. يريد ـ رحمة الله عليه ـ أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدل عليه الأوضاع اللغوية ، ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعا ، لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله بالدليل القاطع والكيف مجهول أى تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه ، ولا سلطان لنا به ، والسؤال عنه بدعة أى الاستفسار عن تعيين هذا المراد على اعتقاد أنه مما شرعه الله ، بدعة ؛ لأنه طريقة فى الدين مخترعة مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكمات وعدم اتباع المتشابهات وما جزاء المبتدع

__________________

ولكنى رأيت شيخ الإسلام المالكى بتونس ، وهو السيد محمد الطاهر بن عاشور ، يصوب فى بحث له أن اسمه «صبغ بن شريك أو ابن عسل التميمى» من غير كلمة ابن ، وبصاد مهملة مفتوحة ، وباء مكسورة ، وغين معجمة. ثم ذكر بعد هذا التصويب أن كثيرا من الناس يحرفونه فيقولون «ضبيع» بضاد معجمة ، وعين مهملة ، وبصيغة التصغير. ثم قال : ويقولون :أبو صبيغ.

١٨٤

إلا أن يطرد ويبعد عن الناس ، خوف أن يفتنهم ، لأنه رجل سوء. وذلك سر قوله «وأظنك رجل سوء. أخرجوه عنى» اه.

قال ابن الصلاح : على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها ، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه. ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها اه.

(المذهب الثانى) مذهب الخلف ، ويسمى مذهب المؤولة بتشديد الواو وكسرها وهم فريقان : فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين ، ثابتة له تعالى زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين ، وينسب هذا إلى أبى الحسن الأشعرى ، وفريق يؤولها بصفات أو بمعان نعلمها على التعيين ، فيحمل اللفظ الذى استحال ظاهره من هذه المتشابهات على معنى يسوغ لغة ، ويليق بالله عقلا وشرعا ، وينسب هذا الرأى إلى ابن برهان وجماعة من المتأخرين. قال السيوطى : وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه فقال فى الرسالة النظامية : «الذى نرتضيه دينا ، وندين الله به عقدا ، اتباع سلف الأمة ، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها» اه.

أما حجة أصحاب هذا المذهب فيما ذهبوا إليه فهو أن المطلوب صرف اللفظ عن مقام الإهمال الذى يوجب الحيرة بسبب ترك اللفظ لا مفهوم له ، وما دام فى الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم ، فالنظر قاض بوجوبه ، انتفاعا بما ورد عن الحكيم العليم ، وتنزيها له عن أن يجرى مجرى العجوز العقيم.

(المذهب الثالث) مذهب المتوسطين. وقد نقل السيوطى هذا المذهب فقال : وتوسط ابن دقيق العيد فقال : إذا كان التأول قريبا من لسان العرب لم ينكر ، أو بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذى أريد به مع التنزيه. وما كان معناه من هذه الألفاظ

١٨٥

ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف ، كما فى قوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) فنحمله على حق الله وما يجب له اه.

تطبيق وتمثيل :

ولنطبق هذه المذاهب على قوله سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، فنقول : يتفق الجميع من سلف وخلف على أن ظاهر الاستواء على العرش ، وهو الجلوس عليه مع التمكن والتحيز ، مستحيل لأن الأدلة القاطعة تنزه الله عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلى شىء منه ، سواء أكان مكانا يحل فيه أم غيره. وكذلك اتفق السلف والخلف على أن هذا الظاهر غير مراد لله قطعا ، لأنه تعالى نفى عن نفسه المماثلة لخلقه ، وأثبت لنفسه الغنى عنهم ، فقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقال (لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضا.

ثم اختلف السلف والخلف بعد ما تقدم ، فرأى السلفيون أن يفوضوا تعيين معنى الاستواء إلى الله ، هو أعلم بما نسبه إلى نفسه وأعلم بما يليق به ، ولا دليل عندهم على هذا التعيين. ورأى الخلف أن يؤولوا ، لأنه يبعد كل البعد أن يخاطب الله عباده بما لا يفهمون ، وما دام ميدان اللغة متسعا للتأويل وجب التأويل. بيد أنهم افترقوا فى هذا التأويل فرقتين ؛ فطائفة الأشاعرة يؤولون من غير تعيين ويقولون : إن المراد من الآية إثبات أنه تعالى متصف بصفة سمعية لا نعلمها على التعيين ، تسمى صفة الاستواء. وطائفة المتأخرين يعينون فيقولون : إن المراد بالاستواء هنا هو الاستيلاء والقهر ، من غير معاناة ولا تكلف ؛ لأن اللغة تتسع لهذا المعنى ، ومنه قول الشاعر العربى :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

أى استولى وقهر ، أو دبر وحكم ، فكذلك يكون معنى النص الكريم : الرحمن

١٨٦

استولى على عرش العالم ، وحكم العالم بقدرته ، ودبره بمشيئته وابن دقيق العيد يقول بهذا التأويل إن رآه قريبا ، ويتوقف إن رآه بعيدا.

وقل مثل ذلك فى نحو «ويبقى وجه ربك ـ ولتصنع على عينى ـ يد الله فوق أيديهم ـ والسموات مطويات بيمينه ـ يخافون ربهم من فوقهم ـ وجاء ربك ـ وعنده مفاتح الغيب». فالسلف يفوضون فى معانيها تفويضا مطلقا بعد تنزيه الله عن ظواهرها المستحيلة. والأشاعرة يفسرونها بصفات سمعية زائدة على الصفات التى نعلمها ، ولكنهم يفوضون الأمر فى تعيين هذه الصفات إلى الله. فهم مؤولون من وجه مفوضون من وجه. والمتأخرون يفسرون الوجه بالذات ولفظ (ولتصنع على عينى) بتربية موسى ملحوظا بعناية الله وجميل رعايته ، ولفظ اليد بالقدرة ، ولفظ اليمين بالقوة ، والفوقية بالعلو المعنوى دون الحسى ، والمجيء فى قوله (وَجاءَ رَبُّكَ) بمجيء أمره والعندية فى قوله (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) بالإحاطة والتمكن. أو بمثل ذلك فى الجميع.

إرشاد وتحذير :

لقد أسرف بعض الناس فى هذا العصر ، فخاضوا فى متشابه الصفات بغير حق ، وأتوا فى حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله ، ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه ، وتحتمل الكفر والإيمان ، حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات ، ومن المؤسف أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا. ومن المحزن أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح ، ويخيلون إلى الناس أنهم سلفيون من ذلك قولهم : إن الله تعالى يشار إليه بالإشارة الحسية ؛ وله من الجهات الست : جهة الفوق. ويقولون : إنه استوى على عرشه بذاته استواء حقيقيا ؛ بمعنى أنه استقر فوقه استقرارا حقيقيا ، غير أنهم يعودون فيقولون : ليس كاستقرارنا وليس على ما نعرف ، وهكذا يتناولون أمثال هذه الآية. وليس لهم مستند فيما نعلم إلا التشبث بالظواهر. ولقد تجلى لك مذهب السلف والخلف ، فلا نطيل بإعادته.

١٨٧

ولقد علمت أن حمل المتشابهات فى الصفات على ظواهرها مع القول بأنها باقية على حقيقتها ، ليس رأيا لأحد من المسلمين ، وإنما هو رأى لبعض أصحاب الأديان الأخرى كاليهود والنصارى ، وأهل النحل الضالة كالمشبهة والمجسمة. أما نحن ـ معاشر المسلمين ـ فالعمدة عندنا فى أمور العقائد هى الأدلة القطعية ، التى توافرت على أنه تعالى ليس جسما ولا متحيزا ولا متجزئا ولا متركبا ، ولا محتاجا لأحد ، ولا إلى مكان ولا إلى زمان ، ولا نحو ذلك : ولقد جاء القرآن بهذا فى محكماته إذ يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ويقول : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ* وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ويقول : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ. وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ويقول (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ. وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وغير هذا كثير فى الكتاب والسنة ، فكل ما جاء مخالفا بظاهره لتلك القطعيات والمحكمات ، فهو من المتشابهات التى لا يجوز اتباعها ، كما تبين لك فيما سلف.

ثم إن هؤلاء المتمسحين فى السلف متناقضون ، لأنهم يثبتون تلك المتشابهات على حقائقها ، ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث كالجسمية والتجزؤ والحركة والانتقال ، لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم ، مع أن القول بثبوت الملزومات ونفى لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم. فقولهم فى مسألة الاستواء الآنفة : إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز ، وقولهم بعد ذلك ليس هذا الاستواء على ما نعرف ، يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز. فكأنهم يقولون : إنه مستو غير مستو ، ومستقر فوق العرش غير مستقر ، أو متحيز غير متحيز وجسم غير جسم ، أو أن الاستواء على العرش ليس هو الاستواء على العرش. والاستقرار فوقه ليس هو الاستقرار فوقه ، إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت! فإن أرادوا بقولهم الاستواء على حقيقته ؛ أنه على حقيقته التى يعلمها الله ولا نعلمها نحن ، فقد اتفقنا ، لكن بقى أن تعبيرهم هذا موهم ، لا يجوز أن يصدر

١٨٨

من مؤمن ، خصوصا فى مقام التعليم والإرشاد. وفى موقف النقاش والحجاج ، لأن القول بأن اللفظ حقيقة أو مجاز. لا ينظر فيه إلى علم الله وما هو عنده ، ولكن ينظر فيه إلى المعنى الذى وضع له اللفظ فى عرف اللغة. والاستواء فى اللغة العربية يدل على ما هو مستحيل على الله فى ظاهره. فلا بد إذن من صرفه عن هذا الظاهر. واللفظ إذا صرف عما وضع له واستعمل فى غير ما وضع له خرج عن الحقيقة إلى المجاز لا محالة ما دامت هناك قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلى ... ثم إن كلامهم بهذه الصورة فيه تلبيس على العامة وفتنة لهم. فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه؟ وفى ذلك ما فيه من الإضلال وتمزيق وحدة الأمة ، الأمر الذى نهانا القرآن عنه. والذى جعل عمر يفعل ما يفعل بصبغ أو بابن صبيغ ، وجعل مالكا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بالذى سأله عن الاستواء. وقد مر بك هذا وذاك.

لو أنصف هؤلاء لسكتوا عن الآيات والأخبار المتشابهة ، واكتفوا بتنزيه الله تعالى عما توهمه ظواهرها من الحدوث ولوازمه ؛ ثم فوضوا الأمر فى تعيين معانيها إلى الله وحده ، وبذلك يكونون سلفيين حقا لكنها شبهات عرضت لهم فى هذا المقام ، فشوشت حالهم ، وبلبلت أفكارهم فلنعرضها عليك مع ما أشبهها والله يتولى هدانا وهداهم ، ويجمعنا جميعا على ما يحبه ويرضاه آمين.

دفع الشبهات الواردة فى هذا المقام

الشبهة الأولى ودفعها :

يقولون : إن القول بأن الله لا جهة له ، وأنه ليس فوقا ولا تحتا ولا يمينا ولا شمالا إلى غير ذلك ، يستلزم أن الله غير موجود ، أو هو قول بأن الله غير موجود ، فإن التجرد من الإنصاف بهذه المتقابلات جملة أمر لا يوسم به إلا المعدوم ومن لم يتشرف بشرف الوجود.

وندفع هذه الشبهة بأمور :

١٨٩

(أولها) أن هذا قياس للغائب على الشاهد ، وقياس الغائب على الشاهد فاسد. ذلك أن الله تعالى ليس يشبه خلقه حتى يكون حكمه كحكمهم فى وجوب أن يكون له جهة من الجهات الست ما دام موجودا وكيف يقاس المجرد عن المادة بما هو مادى؟ ثم كيف يستوى الخالق وخلقه فى جريان أحكام الخلق على خالقه؟ إن المادى هو الذى يجب أن يتصف بشيء من هذه المتقابلات ، وأن تكون له جهة من تلك الجهات. أما غير المادى فترتفع عنه هذه الصفات كلها ، ولا يمكن أن تكون له أية جهة من هذه الجهات جميعها. ونظير ذلك أن الإنسان لا بد أن يكون له أخذ الوصفين ، فإما جاهل وإما عالم. أما الحجر فلا يتصف بواحد منها البتة ، فلا يقال : إنه جاهل ولا إنه عالم ، بل العلم والجهل مرتفعان عنه ، بل هما ممتنعان عليه لا محالة ، لأن طبيعته تأبى قابليته لكليهما. وهكذا تنتفى المتقابلات كلها بانتفاء قابلية المحل لها ، أيا كانت هذه المتقابلات ، وأيا كان هذا المحل الذى ليس قابلا لها. فيمتنع مثلا أن توصف الدار بأنها سميعة أو صماء ، وأن توصف الأرض بأنها متكلمة أو خرساء ، وأن توصف السماء بأنها متزوجة أو أيم ، وهلم جرا.

(ثانيا) نقول لهؤلاء : أين كان الله قبل أن يخلق العرش والفرش والسماء والأرض؟

وقبل أن يخلق الزمان والمكان وقبل أن تكون هناك جهات ست؟ فإن قالوا : لم يكن له جهة ولا مكان ، نقول : قد اعترفتم بما نقول نحن به ، وهو الآن على ما عليه كان ، لا جهة له ولا مكان. وإن زعموا أن العالم قديم بقدم الله ، فقد تداووا من داء بداء ، واستجاروا من الرمضاء بالنار ، ووجب أن ننتقل بهم إلى إثبات حدوث العالم ، والله هو ولى الهداية والتوفيق.

(ثالثا) نقول لهؤلاء : إذا كنتم تأخذون بظواهر النصوص على حقيقتها ، فما ذا تفعلون بمثل قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) مع قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ)؟ أتقولون إنه فى السماء حقيقة ، أم فى الأرض حقيقة ، أم فيهما معا حقيقة؟ وإذا كان فى الأرض وحدها حقيقة فكيف تكون له جهة فوق؟ وإذا كان فيهما معا حقيقة فلما ذا يقال

١٩٠

له جهة فوق ولا يقال له جهة تحت؟ ولما ذا يشار إليه فوق ولا يشار إليه تحت؟ ثم ألا يعلمون أن الجهات أمور نسبية ، فما هو فوق بالنسبة إلينا ، يكون تحتا بالنسبة إلى غيرنا؟ فأين يذهبون!

(رابعا) نقول لهؤلاء : ما ذا تقولون فى قوله تعالى يد الله فوق يديهم بإفراد اليد ، مع قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) بتثنيتها ، ومع قوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) بجمعها. فإذا كنتم تعملون النصوص على ظواهرها حقيقة ، فأخبرونا : أله يد واحدة بناء على الآية الأولى؟ أم له يدان اثنتان بناء على الآية الثانية ؛ أم له أيدا أكثر من اثنتين بناء على الآية الثالثة؟

(خامسا) نقول لهؤلاء : قد ورد فى الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : من يدعونى فأستجيب له؟ من يسألنى فأعطيه؟ من يستغفرنى فأغفر له؟» رواه البخارى ومسلم وغيرهما. فكيف تأخذون بظاهر هذا الخبر ، مع أن الليل مختلف فى البلاد باختلاف المشارق والمغارب؟ وإذا كان ينزل لأهل كل أفق نزولا حقيقيا فى ثلث ليلهم الأخير ، فمتى يستوى على عرشه حقيقة كما تقولون؟ ومتى يكون فى السماء حقيقة كما تقولون؟ مع أن الأرض لا تخلو من الليل فى وقت من الأوقات ، ولا فى ساعة من الساعات كما هو ثابت مسطور ، لا يمارى فيه إلا جهول مأفون!

(سادسا) نقول لهؤلاء ما قاله حجة الإسلام الغزالى ، ونصه : «نقول للمتشبث بظواهر الألفاظ : إن كان نزوله من السماء الدنيا ليسمعنا نداءه فما أسمعنا نداءه فأى فائدة فى نزوله؟ ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العليا. فلا بد أن يكون ظاهر النزول غير مراد ، وأن المراد به شىء آخر غير ظاهره. وهل هذا إلا مثل من يريد وهو بالمشرق إسماع شخص فى المغرب ، فتقدم إلى المغرب بخطوات معدودة ، وأخذ يناديه وهو يعلم أنه لا يسمع نداءه ؛ فيكون نقله الإقدام عملا باطلا ، وسعيه نحو المغرب عبثا صرفا لا فائدة فيه. وكيف يستقر مثل هذا فى قلب عاقل؟» اه.

١٩١

الشبهة الثانية ودفعها :

قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه‌الله فى حاشيته على العقائد العضدية : «فإن قلت : إن كلام الله وكلام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤلف من الألفاظ العربية ، ومدلولاتها معلومة لدى أهل اللغة ، فيجب الأخذ بمدلول اللفظ كائنا ما كان.

قلت : حينئذ لا يكون ناجيا إلا طائفة المجسمة الظاهريون القائلون بوجوب الأخذ بجميع النصوص وترك طريق الاستدلال رأسا مع أنه لا يخفى ما فى آراء هذه الطائفة من الضلال والإضلال ، مع سلوكهم طريقا ليس يفيد اليقين بوجه ، فإن للتخاطبات مناسبات تردد بمطابقتها فلا سبيل إلا الاستدلال العقلى وتأويل ما يفيد بظاهره نقصا إلى ما يفيد الكمال. وإذا صح التأويل للبرهان فى شىء صح فى بقية الأشياء ، حيث لا فرق بين برهان وبرهان ، ولا لفظ ولفظ.

وقال فى قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) إن الوحى من الله للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنزيلا وإنزالا ونزولا ، لبيان علو مرتبة الربوبية لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض ومن الغريب أنهم يقولون فى الرد على هذا : إن علو الله على خلقه ، حقيقة أثبتها لنفسه فى كتابه ، لا حاجة لتأويله بعلو مرتبة الربوبية! وليت شعرى إذا لم تؤوله بعلو مرتبة الربوبية ، فما ذا نريد منه؟ وهل بقى بعد ذلك شىء غير العلو الحسى الذى يستلزم الجهة والتحيز؟ ولا يمكن نفى ذلك اللازم عنه متى أردنا العلو الحسى ، فإن نفى التحيز عن العلو الحسى غير معقول ، ولا معنى للاستلزام إلا هذا. أما هم فينفون اللوازم. ولا أدرى كيف ننفى اللوازم مع فرضها لوازم؟ هذا خلف. ولكن القوم ليسوا أهل منطق. والمتتبع لكلامهم يجد فيه العبارات الصريحة فى إثبات الجهة لله تعالى. وقد كفر العراقى وغيره مثبت الجهة الله تعالى ، وهو واضح ، لأن معتقد الجهة لا يمكنه

١٩٢

إلا أن يعتقد التحيز والجسمية ولا يتأتى غير هذا ، فإن سمعت منهم سوى ذلك فهو قول متناقض ، وكلامهم لا معنى له» اه.

الشبهة الثالثة ودفعها :

نقل السيوطى عن بعضهم أنه قال : «إن قيل : ما الحكمة فى إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى. (قلنا) إن كان (أى المتشابه) مما يمكن علمه فله فوائد : منها الحث للعلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائقه ، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب. ومنها ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات ، إذ لو كان كله محكما لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق ، ولم يظهر فضل العالم على غيره. وإن كان (أى المتشابه) مما لا يمكن علمه (أى بأن استأثر الله به) فله فوائد : منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه والتفويض والتسليم ، والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ وإن لم يجز العمل بما فيه ، وإقامة الحجة عليهم ، لأنه لما نزل بلسانهم ولغتهم ؛ وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم وأفهامهم ، دل على أنه نزل من عند الله ؛ وأنه هو الذى أعجزهم عن الوقوف» اه.

ونسترعى نظرك هنا إلى ما أسلفناه فى الحكم الماضية ، ثم إلى ما ذكره ابن اللبان فى مقدمة كتابه : (رد الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات) إذ قال ما خلاصته. «ليس فى الوجود فاعل إلا الله ، وأفعال العباد منسوبة الوجود إليه تعالى بلا شريك ولا معين فهى فى الحقيقة فعله ، وله بها عليهم الحجة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) ومن المعلوم أن أفعال العباد لا بد فيها من توسط الجوارح مع أنها منسوبة إليه تعالى وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى فى تجلياتها مظهرين : مظهر عبادى منسوب لعباده ، وهو الصور والجوارح الجثمانية. ومظهر حقيقى منسوب إليه ، وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية

(١٣ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

١٩٣

المنسوبة لعباده ، على سبيل التقريب لأفهامهم والتأنيس لقلوبهم. ولقد نبه فى كتابه تعالى على القسمين وأنه منزه عن الجوارح فى الحالين. فنبه على الأول بقوله : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) فهذا يفيد أن كل ما يظهر على أيدى العباد فهو منسوب إليه تعالى. ونبه على الثانى بقوله فيما أخبر عنه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صحيح مسلم : «ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ، ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها وقد حقق الله ذلك لنبيه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) وبقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وبهذا يفهم ما جاء من الجوارح منسوبا إليه تعالى ، فلا يفهم من نسبتها إليه تشبيه ولا تجسيم. ولكن الغرض من ذلك التقريب للأفهام ، والتأنيس للقلوب. والواجب سلوكه إنما هو رد المتشابه إلى المحكم على القواعد اللغوية ، وعلى مواضعات العرب وعلى ما كان يفهمه الصحابة والتابعون من الكتاب والسنة» اه ما أردنا نقله.

الشبهة الرابعة ودفعها :

نقل السيوطى أيضا عن الإمام فخر الدين الرازى أنه قال : «من الملحدة من طعن فى القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقال : إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبرى متمسك بآيات الجبر ، كقوله تعالى (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ، والقدرى يقول : هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى عنهم ذلك فى معرض الذم فى قوله. (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) وفى موضع آخر (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) ومنكر الرؤية متمسك بقوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)(١) ومثبت الجهة متمسك بقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (الرَّحْمنُ

__________________

(١) يظهر أن هنا سقطا ، لعله هكذا : ومثبت الرؤية متمسك بقوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ).

١٩٤

عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، والثانى متمسك بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ثم يسمى كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، والآيات المخالفة متشابهة ، وإنما آل فى ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ووجوه ضعيفة. فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذى هو المرجوع إليه فى كل الدين إلى يوم القيامة هكذا؟.

والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد : منها أنه يوجب مزيد المشقة فى الوصول إلى المراد. وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب إلى آخر ما نقلناه عنه فيما سبق من بيان حكم الله وأسراره فى ذكر المتشابهات فاجعلها على بال منك فى رفع هذه الشبهة ، وأضف إليها ما نقلناه آنفا عن ابن اللبان ، وما بسطناه فى دفع الشبهات السالفة. وارجع إلى ما كتبناه فى مثل هذا المقام بالمبحث السابع من هذا الكتاب.

الشبهة الخامسة ودفعها.

قال السيوطى فى كتابه الإتقان : أورد بعضهم سؤالا وهو أنه هل للمحكم مزية على المتشابه أولا؟ فإن قلتم بالثانى فهو خلاف الإجماع وإلا فقد نقضتم أصلكم فى أن جميع كلامه سبحانه سواء ، وإنه منزل بالحكمة.

وأجاب أبو عبد الله النكرباذى بأن المحكم كالمتشابه من وجه ويخالفه من وجه. فيتفقان فى أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع وأنه لا يختار القبيح. ويختلفان فى أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد فمن سمعه أمكنه أن يستدل به فى الحال. والمتشابه يحتاج إلى فكرة ونظر ليحمله على الوجه المطابق ولأن المحكم أصل والعلم بالأصل أسبق. ولأن المحكم يعلم ، مفصلا والمتشابه لا يعلم إلا مجملا اه.

١٩٥

أقول : ويمكن دفع هذه الشبهة بوجه أقرب ، وهو أن المحكم له مزية على المتشابه ، لأنه بنص القرآن هو أم الكتاب على ما سلف بيانه والاعتراض بأن هذا ينقض الأصل المجمع عليه وهو أن جميع كلامه سبحانه سواء وأنه منزل بالحكمة : الاعتراض بهذا ساقط من أساسه لأن المساواة بين كلام الله إنما هى فى خصائص القرآن العامة ، ككونه منزلا على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق وبالحكمة وكونه متعبدا بتلاوته ومتحدى بأقصر سورة منه ، ومكتوبا فى المصاحف ومنقولا بالتواتر ومحرما حمله ومسه على الجنب ونحو ذلك. والمساواة فى هذه الخصائص لا تنافى ذلك الامتياز الذى امتازت به المحكمات. وكيف يتصور التنافى على حين أن كلا من المحكم والمتشابه له حكمه وله مزاياه؟ فمزية المحكم أنه أم الكتاب إليه ترد المتشابهات ، ومزية المتشابه أنه محك الاختبار والابتلاء ، ومجال التسابق والاجتهاد ، إلى غير ذلك من الفوائد التى عرفتها. ثم كيف يتصور هذا التنافى والقرآن كله مختلف باختلاف موضوعاته وأحواله ، فمنه عقائد وأحكام ، وأوامر ونواه ، وعبادات وقصص وتنبؤات ، ووعد ووعيد ، وناسخ ومنسوخ ، وهلم مما يستنفد ذكره وقتا طويلا. ولا ريب أن كل نوع من هذه الأنواع له مزيته أو خاصته التى غاير بها الآخر ، وإن اشترك الجميع بعد ذلك فى أنها كلها أجزاء للقرآن ، متساوية فى القرآنية وخصائصها العامة وخلاصة هذا الجواب أن امتياز المحكم على المتشابه فى أمور ، ومساواته إياه فى أمور أخرى ، فلا تناقض ولا تعارض ، كما أن كل عضو من أعضاء جسم الإنسان له مزيته وخاصته التى صار بها عضوا والكل بعد ذلك يساوى الآخر فى أنه جزء للإنسان فى خصائصه العامة من حسن وحياة.

الشبهة السادسة ودفعها.

يقولون : إن الناظر فى موقف السلف والخلف من المتشابه ، يجزم بأنهم جميعا مؤولون ؛ لأنهم اشتركوا فى صرف ألفاظ المتشابهات عن ظواهرها. وصرفها عن ظواهرها تأويل لها

١٩٦

لا محالة. وإذا كانوا جميعا مؤولين فقد وقعوا جميعا فيما نهى الله عنه ، وهو اتباع المتشابهات بالتأويل ، إذ وصف سبحانه هؤلاء بأن فى قلوبهم زيغا ، فقال فى الآية السابقة. (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ).

وندفع هذه الشبهة (أولا) بأن القول بكون السلف والخلف مجمعين على تأويل المتشابه ، قول له وجه من الصحة ، لكن بحسب المعنى اللغوى أو ما يقرب من المعنى اللغوى. أما بحسب الاصطلاح السائد فلا ؛ لأن السلف وإن وافقوا الخلف فى التأويل ، فقد خالفوهم فى تعيين المعنى المراد باللفظ بعد صرفه عن ظاهره ، وذهبوا إلى التفويض المحض بالنسبة إلى هذا التعيين. أما الخلف فركبوا متن التأويل إلى هذا التعيين كما سبق تفصيله.

(ثانيا) أن القول بأن السلف والخلف جميعا وقعوا بتصرفهم السابق فيما نهى الله عنه ، قول خاطئ ، واستدلالهم عليه بالآية المذكورة استدلال فاسد ، لأن النهى فيها إنما هو عن التأويل الآثم الناشئ عن الزيغ واتباع الهوى بقرينة قوله سبحانه (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أى ميل عن الاستقامة والحجة ، إلى الهوى والشهوة. أما التأويل القائم على تحكيم البراهين القاطعة واتباع الهداية الراشدة ، فليس من هذا القبيل الذى حظره الله وحرمه وكيف ينهانا عنه وقد أمرنا به ضمنا بإيجاب رد المتشابهات إلى المحكمات ، إذ جعل هذه المحكمات هى أم الكتاب ، على ما سبق بيانه؟. ثم كيف يكون مثل هذا التأويل الراشد محرما وقد دعا به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس فقال فى الحديث المشهور : (اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل)؟

ويتلخص من هذا أن الله أرشدنا فى الآية إلى نوع من التأويل وهو ما يكون به رد المتشابهات إلى المحكمات. ثم نهانا عن نوع آخر منه. وهو ما كان ناشئا عن الهوى والشهوة ، لا على البرهان والحجة ، قصدا إلى الضلال والفتنة .. وهما لونان مختلفان ، وضربان بعيدان ، بينهما برزخ لا يبغيان.

١٩٧

وإذن فمن لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال فقد ضل ، كالظاهرية والمشبهة. ومن فسر لفظ المتشابه تفسيرا بعيدا عن الحجة والبرهان قائما على الزيغ والبهتان فقد ضل أيضا كالباطنية والاسماعيلية ، وكل هؤلاء يقال فيهم إنهم متبعون للمتشابه ابتغاء الفتنة. أما من يؤول المتشابه أى يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة ، لا طلبا للفتنة ، ولكن منعا لها ، وتثبيتا للناس على المعروف من دينهم ، وردا لهم إلى محكمات الكتاب القائمة وأعلامه الواضحة ، فأولئك هم الهادون المهديون حقا. وعلى ذلك درج سلف الأمة وخلفها وأئمتها وعلماؤها. روى البخارى عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عبّاس : إننى أجد فى القرآن أشياء تختلف علىّ. قال ما هو؟ قال : «فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون» وقال : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) وقال (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) وقال (قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) قال ابن عباس : «فلا أنساب بينهم فى النفخة الأولى ولا يتساءلون ، ثم فى النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون .. فأما قوله (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون : تعالوا نقول ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم ، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثا» إلى آخر الحديث .. نسأل الله أن يسلمنا ، وأن يهدينا سواء الصراط ، وصلى الله على سيدنا محمد النبى الأمى وعلى آله وصحبه وسلم ، آمين.

المبحث السادس عشر

فى أسلوب القرآن الكريم

الأسلوب فى اللغة :

يطلق الأسلوب فى لغة العرب إطلاقات مختلفة : فيقال للطريق بين الأشجار ، وللفن ، وللوجه ، وللمذهب ، وللشموخ بالأنف ، ولعنق الأسد. ويقال لطريقة المتكلم فى كلامه

١٩٨

أيضا ، وأنسب هذه المعانى بالاصطلاح الآتى هو المعنى الأخير ، أو هو الفن أو المذهب لكن مع التقييد.

الأسلوب فى الاصطلاح :

تواضع المتأدبون وعلماء العربية ، على أن الأسلوب هو الطريقة الكلامية التى يسلكها المتكلم فى تأليف كلامه واختيار ألفاظه ، أو هو المذهب الكلامى الذى انفرد به المتكلم فى تأدية معانيه ومقاصده من كلامه. أو هو طابع الكلام أو فنه الذى انفرد به المتكلم كذلك.

معنى أسلوب القرآن :

وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم هو طريقته التى انفرد بها فى تأليف كلامه واختيار ألفاظه ، ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به ، فإن لكل كلام إلهى أو بشرى أسلوبه الخاص به. وأساليب المتكلمين وطرائقهم فى عرض كلامهم من شعر أو نثر ، تتعدد بتعدد أشخاصهم ، بل تتعدد فى الشخص الواحد بتعدد الموضوعات التى يتناولها ، والفنون التى يعاجلها.

الأسلوب غير المفردات والتراكيب :

ونلفت نظرك إلى أن الأسلوب غير المفردات والتراكيب التى يتألف منها الكلام ، وإنما هو الطريقة التى انتهجها المؤلف فى اختيار المفردات والتراكيب لكلامه.

وهذا هو السر فى أن الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين من ناثرين وناظمين ، مع أن المفردات التى يستخدمها الجميع واحدة ، والتراكيب فى جملتها واحدة ، وقواعد صوغ المفردات وتكوين الجمل واحدة ، وهذا هو السر أيضا فى أن القرآن لم يخرج عن معهود العرب فى لغتهم العربية ، من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة ، بل جاء كتابا عربيا جاريا على مألوف العرب من هذه الناحية ، فمن حروفهم تألفت كلماته ، ومن كلماتهم

١٩٩

تألفت تراكيبه ، وعلى قواعدهم العامة فى صياغة هذه المفردات وتكوين التراكيب جاء تأليفه ، ولكن المعجز والمدهش والمثير لأعجب العجب ، أنه مع دخوله على العرب من هذا الباب الذى عهده ، ومع مجيئه بهذه المفردات والتراكيب التى توافروا على معرفتها ، وتنافسوا فى حلبتها ، وبلغوا الشأو الأعلى فيها ، نقول. إن القرآن مع ذلك كله وبرغم ذلك كله ، قد أعجزهم بأسلوبه الفذ ، ومذهبه الكلامى المعجز! ولو دخل عليهم من غير هذا الباب الذى يعرفونه ، لأمكن أن يلتمس لهم عذر أو شبه عذر ، وأن يسلم لهم طعن أو شبه طعن. (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ، ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) ولهذا المعنى وصف الله كتابه بالعروبة فى غير آية. فقال جل ذكره فى سورة يوسف (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وقال فى سورة الزخرف : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وقال فى سورة الزمر : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

مثال لهذا الفارق :

وبما أن الأمر قد اشتبه على بعض الناس حتى ضلوا فيه أو كادوا ، نمثل للفرق بين الأسلوب وبين المفردات والتركيب بمثالين حسيين أحدهما صناعة الخياطة ، والآخر صناعة الصيدلة أو تحضير العقاقير والأدوية : فالخياطون يختلفون فيما بينهم اختلافا بعيدا ما بين خامل ونابه فى صنعته ، وضعيف وبارع فى حرفته. وهذا الاختلاف لم يجئ من ناحية مواد الثياب المخيطة ، ولا من ناحية الآلات والأدوات والطرق العامة التى تستخدم فى الخياطة. إنما جاء الاختلاف من جهة الطريقة الخاصة التى اتبعت فى اختيار هذه المواد وتأليفها واستخدام قواعد هذه الصناعة فى شكلها وهندستها. وكذلك الصيادلة يختلفون فيما بينهم نباهة وخمولا. وبراعة وقصورا. لا من حيث مواد الأدوية وعناصرها ، ولا من حيث القواعد الفنية العامة فى تركيبها ، بل من حيث حسن اختيار هذه المواد ، ودقة تطبيق هذه القواعد فى تحضير العقاقير والأدوية ، حتى لقد نشاهد أن مزاج الجيد منها وأثره ونفعه ، يختلف بوضوح عن مزاج الردىء منها وأثره وضرره. وقل مثل هذا فى كل ما حولك من صناعات يختلف فيها الصناعون ومصنوعاتهم جودة ورداءة مع اتحاد مواد الصناعة الأولى وقواعدها العامة فى الجميع.

٢٠٠