مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

الآية الثالثة عشرة

(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) فإنها منسوخة بقوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وقد قيل بعدم النسخ ، وأن الآية الثانية متممة للأولى. فالرسول مخير بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرض عنهم ، وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية. وهذا ما نرجحه ، لأن النسخ لا يصح إلا حيث تعذر الجمع.

الآية الرابعة عشرة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) : فإن قوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) منسوخ بقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وقيل إنه لا نسخ ؛ لأن الآية الأولى خاصة بما إذا نزل الموت بأحد المسافرين وأراد أن يوصى ، فإن الوصية تثبت بشهادة اثنين عدلين من المسلمين أو غيرهم توسعة على المسافرين لأن ظروف السفر ظروف دقيقة ، قد يتعسر أو يتعذر وجود عدلين من المسلمين فيها ، فلو لم يبح الشارع إشهاد غير المسلمين لضاق الأمر ، وربما ضاعت الوصية. أما الآية الثانية فهى القاعدة العامة فى غير ظروف السفر.

الآية الخامسة عشرة

(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ. وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) فإنها منسوخة بقوله سبحانه : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ. وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ. وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ووجه النسخ أن الآية الأولى أفادت وجوب ثبات الواحد للعشرة ، وأن الثانية أفادت وجوب ثبات الواحد للاثنين. وهما حكمان متعارضان.

(١١ ـ مناهل ٢)

١٦١

فتكون الثانية. ناسخة للأولى وقيل لا تعارض بين الآيتين ولا نسخ. لأن الثانية لم ترفع الحكم الأول ، بداهة أنه لم يقل فيها : لا يقاتل الواحد العشرة إذا قدر على ذلك. بل هى مخففة فحسب ، على معنى أن المجاهد إن قدر على قتال العشرة فله الخيار رخصة من الله له بعد أن اعتز المسلمون. ولكنك ترى أن النسخ على هذا الوجه لا مفر منه أيضا ، لأن الآية الأولى عينت على المجاهد أن يثبت لعشرة ، والثانية خيرته بين الثبات لعشرة ، وعدم الثبات لأكثر من اثنين. ولا ريب أن التخيير يعارض الالزام على وجه التعيين.

الآية السادسة عشرة

«انفروا خفافا وثقالا» فإنها نسخت بآيات العذر ، وهى قوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وقيل إن الآية الأخيرة فى النفر للتعليم والتفقه لا للحرب ، والآيتان قبلها مخصصتان لا ناسختان للآية الأولى ، كأنه قال من أول الأمر : لينفر منكم خفافا وثقالا كل من احتيج إليه وهو قادر لا عذر له.

الآية السابعة عشرة

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) ، فإنها منسوخة بقوله سبحانه : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) لأن الآية خبر بمعنى النهى ، بدليل قراءة «لا ينكح» بالجزم ، والقراءات يفسر بعضها بعضا. وقيل بعدم النسخ ، تفسيرا للآية الأولى بأن الزانى المعروف بالزنى ، لا يستطيع أن ينكح إلا زانية أو مشركة ، لنفور المحصنات المؤمنات من زواجه. وكذلك المرأة المعروفة بالزنى لا يرغب فى نكاحها إلا زان أو مشرك ، لنفور المؤمنين الصالحين من زواجها.

١٦٢

والحق أن الآية منسوخة ، لأنها خبر بمعنى النهى كما سبق ، ولأن الأمر بالنسبة للمشرك والمشركة لا يستقيم إلا مع القول بالنسخ.

الآية الثامنة عشر

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ : مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) قيل إن هذه الآية منسوخة. لكن لا دليل على نسخها. فالحق أنها محكمة ، وهى أدب عظيم يلزم الخدم والصغار ، البعد عن مواطن كشف العورات ، حماية للأعراض من الانتهاك ، وحفظا للانظار أن ترى ما لا تليق رؤيته فى أوقات التبذل.

الآية التاسعة عشرة

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) نسخها قول الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ، وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ ، وَبَناتِ خالِكَ ، وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها ، خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

واعلم أن هذا النسخ لا يستقيم إلا على أن هذه الآية متأخرة فى النزول عن الآية الأولى وأن الله قد أحل للرسول فى آخر حياته ما كان قد حرّمه عليه من قبل ، فى قوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) الخ.

وذلك مروى عن على كرم الله وجهه ، وعن ابن عباس رضى الله عنه ، وعن أم سلمة رضوان الله عليها ، وعن الضحاك رحمه‌الله ، وعن الصديقة بنت الصديق رضى الله عنهما.

أخرج أبو داود فى ناسخه ، والترمذى وصححه ، والنسائى ، والحاكم وصححه أيضا ،

١٦٣

وابن المنذر وغيرهم ، عن عائشة رضى الله عنها قالت : «لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم» الخ.

والسر فى أن الله حرم على الرسول أولا ما عدا أزواجه ، ثم أحل له ما حرمه عليهن ، هو أن التحريم الأول فيه تطييب لقلوب نسائه ، ومكافأة لهن ، على اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، بعد أن نزلت آيات التخيير فى القرآن. ثم إن إحلال هذا الذى حرم على رسوله مع عدم زواج الرسول من غير هن بعد هذا الاحلال ، كما ثبت ذلك ، فيه بيان لفضله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومكرمته عليهن ، حيث قصر نفسه ولم يتزوج بغيرهن ، مع إباحة الله له ذلك.

وقد جاءت روايات أخرى فى هذا الموضوع تخالف ما ذكرناه ، لكن لم يثبت لدينا صحة شىء منها ولهذا رجحنا ما بسطناه. ولا يعكر صفو القول بالنسخ هنا ، ما نلاحظه من تأخر الآية المنسوخة عن الناسخة فى المصحف. لأن المدار على ترتيب النزول لا على ترتيب المصحف كما تعلم.

الآية العشرون

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فإنها نسخت بقوله سبحانه عقب تلك الآية : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ. فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ). وقيل لا نسخ ، بحجة أن الآية الثانية بيان للصدقة المأمور بها فى الأولى ، وأنه يصح أن تكون صدقة غير مالية ، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله. وأنت خبير بأن هذا ضرب من التكلف فى التأويل ، يأباه ما هو معروف من معنى الصدقة حتى أصبح لفظها حقيقة عرفية فى البذل المالى وحده. وقيل : إن وجوب تقديم الصدقة إنما زال بزوال سببه ، وهو تمييز المنافق من غيره. وهذا مردود بأن كل حكم منسوخ فإنما نسخه الله لحكمة ، من نحو مصلحة أو سبب كان يرتبط به الحكم الأول ، ثم زالت تلك المصلحة أو ذلك السبب.

١٦٤

الآية الحادية والعشرون

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا). قيل نسختها آية الغنيمة ، وهى قوله سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) : وبيان ذلك أن الآية الأولى تفيد أن زوجات المسلمين اللاتى ارتددن ولحقن بدار الحرب ، يجب أن يدفع إلى أزواجهن مثل مهورهن ، من الغنائم التى يغنمها المسلمون ويعاقبون العدو بأخذها.

والآية الثانية تفيد أن الغنائم تخمس أخماسا ثم تصرف كما رسم الشارع. ولكنك بالتأمل تستظهر معنا أنه لا نسخ ، لأن الآيتين لا نتعارضان ، بل يمكن الجمع بينهما ، بأن يدفع من الغنائم أولا مثل مهور هذه الزوجات المرتدات اللاحقات بدار الحرب ، ثم تخمس الغنائم بعد ذلك أخماسا وتصرف فى مصارفها الشرعية.

الآية الثانية والعشرون

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) فإنها منسوخة بقوله سبحانه فى آخر هذه السورة : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ. وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) الخ ... وبيان ذلك أن الآية الأولى أفادت وجوب قيامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الليل نصفه ، أو أنقص منه قليلا ، أو أزيد عليه. أما الثانية فقد أفادت أن الله تاب على النبى وأصحابه فى هذا ، بأن رخص لهم فى ترك هذا القيام المقدر ، ورفع عنهم كل تبعة فى ذلك الترك ، كما رفع التبعات عن المذنبين بالتوبة إذا تابوا.

١٦٥

ولا ريب أن هذا الحكم الثانى رافع للحكم الأول ، فتعين النسخ. وقد قيل فى تفسير هذه الآيات كلام كثير ، لا نرى حاجة إلى ذكره والله يكفينا كثرة القيل والقال ، ويتوب علينا من النزاع والخلاف ، ويجمع صفوفنا على دينه وحبه ، آمين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

المبحث الخامس عشر

فى محكم القرآن ومتشابهه

المعنى اللغوى :

لهذين اللفظين إطلاقات فى اللغة وإطلاقات فى الاصطلاح. فاللغويون يستعملون مادة الإحكام (بكسر الهمز) فى معان متعددة ، لكنها مع تعددها ترجع إلى شىء واحد ، هو المنع. فيقولون : أحكم الأمر أى أتقنه ومنعه عن الفساد. ويقولون : أحكمه عن الأمر أى رجعه عنه ومنعه منه. ويقولون : حكم نفسه وحكم الناس أى منع نفسه ومنع الناس عما لا ينبغى ويقولون : أحكم الفرس أى جعل له حكمة (بفتحات ثلاث) ، والحكمة ما أحاط بحنكى الفرس من لجامه تمنعه من الاضطراب. وقيل : «آتاه الله الحكمة» أى العدل أو العلم أو الحلم أو النبوة أو القرآن ؛ لما فى هذه المذكورات من الحوافظ الأدبية الرادعة عما لا يليق.

وكذلك يستعمل اللغويون مادة التشابه فيما يدل على المشاركة فى المماثلة والمشاكلة ، المؤدية إلى الالتباس غالبا. يقال : تشابها واشتبها أى أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا. ويقال : أمور مشتبهة ومشبهة ـ على وزان معظمة ـ أى مشكلة. والشبهة بالضم : الالتباس والمثل. ويقال شبه عليه الأمر تشبيها أى لبّس عليه (بضم الأول وتشديد الثانى مع كسره فى الفعلين). ومنه قول الله سبحانه وصفا لرزق الجنة (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). ومنه قوله حكاية عن بنى إسرائيل : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) انظر القاموس فى هاتين المادتين.

١٦٦

القرآن محكم ومتشابه :

ولقد جاء فى القرآن الكريم ما يدل على أنه كله محكم ، إذ قال سبحانه : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ). وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه ، إذ قال جل ذكره : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً). وجاء فيه ما يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه ، إذ قال عز اسمه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ولا تعارض بين هذه الإطلاقات الثلاثة ، لأن معنى إحكامه كله أنه منظم رصين ، متقن متين ، لا يتطرق إليه خلل لفظى ولا معنوى ، كأنه بناء مشيد محكم يتحدى الزمن ، ولا ينتابه تصدع ولا وهن. ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه بعضا فى إحكامه وحسنه ، وبلوغه حد الإعجاز فى ألفاظه ومعانيه ، حتى إنك لا تستطيع أن تفاضل بين كلماته وآياته فى هذا الحسن والإحكام والإعجاز ، كأنه حلقة مفرغة لا يدرى أين طرفاها.

وأما أن بعضه محكم وبعضه متشابه ، فمعناه أن من القرآن ما اتضحت دلالته على مراد الله تعالى منه ، ومنه ما خفيت دلالته على هذا المراد الكريم. فالأول هو المحكم ، والثانى هو المتشابه ، على خلاف يأتى بين العلماء فى ذلك. بيد أن الذى اتفقوا عليه ولا يمكن أن يختلفوا فيه ، هو أنه لا تنافى بين كون القرآن كله محكما أى متقنا ، وبين كونه كله متشابها أى يشبه بعضه بعضا فى هذا الإتقان والإحكام ، وبين كونه منقسما إلى ما اتضحت دلالته على مراد الله وما خفيت دلالته ، بل إن انقسامه هذا الانقسام محقق لما فيه كله من إحكام وتشابه بالمعنى السابق. وسيأتيك نبأ ذلك فى بيان الحكمة من وجود متشابهات خفية إلى جانب واضحات ظاهرة فى القرآن الكريم.

ويمكنك أن ترجع هذه التأويلات إلى الإطلاقات اللغوية السالفة. فالقرآن كله محكم أى متقن ، لأن الله صاغه صياغة تمنع أن يتطرق إليه خلل أو فساد فى اللفظ أو المعنى ، والقرآن متشابه ، لأنه يماثل بعضه بعضا فى هذا الإحكام ، مماثلة مفضية إلى التباس التمييز بين آياته وكلماته فى ذلك ، والقرآن منه محكم أى واضح المعنى المراد وضوحا يمنع الخفاء عنه ، ومنه متشابه فيه وجوه مختلفة من المماثلة مستلزمة لخفاء هذا المعنى المراد.

١٦٧

المعنى الاصطلاحى :

يطلق المحكم فى لسان الشرعيين على ما يقابل المنسوخ تارة ، وعلى ما يقابل المتشابه تارة أخرى. فيراد به على الاصطلاح الأول ، الحكم الشرعى الذى لم يتطرق إليه نسخ.

ويراد به على الثانى ما ورد من نصوص الكتاب أو السنة دالا على معناه بوضوح لا خفاء فيه ، على ما سيأتى تفصيله. وموضوع بحثنا هنا هو هذا الاصطلاح الثانى. أما الأول فقد بيناه فى المبحث السابق ، حيث عرفنا النسخ وبسطنا أدلته وأحكامه وما قيل فيه ، ومنه يعرف مقابله وهو المحكم ، «وبضدها تتميز الأشياء» وعلى هذا الاصطلاح يحمل ما أخرج عبد ابن عمير عن الضحاك قال : المحكمات ما لم ينسخ ، والمتشابهات ما قد نسخ.

آراء العلماء فى معنى المحكم والمتشابه

يختلف العلماء فى تحديد معنى المحكم والمتشابه اختلافات كثيرة :

١ ـ منها أن المحكم هو الواضح الدلالة الظاهر الذى لا يحتمل النسخ ، أما المتشابه فهو الخفى الذى لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا ، وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه ، كقيام الساعة والحروف المقطعة فى أوائل السور. وقد عزا الألوسي هذا الرأى إلى السادة الحنفية.

٢ ـ ومنها أن المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل أما المتشابه فهو ما استأثر تعالى بعلمه ، كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة فى أوائل السور. وينسب هذا القول إلى أهل السنة على أنه هو المختار عندهم.

٣ ـ ومنها أن المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل أما المتشابه فهو ما احتمل أوجها. ويعزى هذا الرأى إلى ابن عباس ، ويجرى عليه أكثر الأصوليين.

٤ ـ ومنها أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. أما المتشابه فهو الذى لا يستقل بنفسه ، بل يحتاج إلى بيان ، فتارة يبين بكذا ، وتارة يبين بكذا ، لحصول الاختلاف فى تأويله ويحكى هذا القول عن الإمام أحمد رضى الله عنه.

١٦٨

٥ ـ ومنها أن المحكم هو السديد النظم والترتيب ، الذى يفضى إلى إثارة المعنى المستقيم من غير مناف. أما المتشابه فهو الذى لا يحيط العلم بمعناه المطلوب من حيث اللغة ، إلا أن تقترن به أمارة أو قرينة. ويندرج المشترك فى المتشابه بهذا المعنى. وهو منسوب إلى إمام الحرمين.

٦ ـ ومنها أن المحكم هو الواضح المعنى الذى لا يتطرق إليه إشكال مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان. أما المتشابه فنقيضه. وينتظم المحكم على هذا ما كان نصا وما كان ظاهرا. وينتظم المتشابه ما كان من الأسماء المشتركة وما كان من الألفاظ الموهمة للتشبيه فى حقه سبحانه. وقد نسب هذا القول إلى بعض المتأخرين ، ولكنه فى الحقيقة رأى الطيبى إذ قال فيما حكى السيوطى عنه :

«المراد بالمحكم ما اتضح معناه ، والمتشابه بخلافه ، لأن اللفظ الذى يقبل معنى ، إما أن يحتمل غيره أولا. الثانى النص ، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك الغير أرجح أولا. الأول الظاهر ؛ والثانى إما أن يكون مساويه أولا. الأول هو المجمل ، والثانى المؤول. فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤول المتشابه.

ويؤيد هذا التقسيم أنه تعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه. فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله ويعضد ذلك أسلوب الآية ، وهو الجمع مع التقسيم ، لأنه تعالى فرق ما جمع فى معنى الكتاب ، بأن قال : (مِنْهُ آياتٌ. مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) وأراد أن يضيف إلى كل منهما ما شاء فقال أولا : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) إلى أن قال : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) وكان يمكن أن يقال : وأما الذين فى قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم) لكنه وضع موضع ذلك (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لإتيان لفظ الرسوخ ، لأنه لا يحصل إلا بعد التثبت العام والاجتهاد البليغ. فإذا استقام القلب على طريق الرشاد ورسخ القدم فى العلم ، أفصح صاحبه النطق بالقول الحق. وكفى بدعاء

١٦٩

الراسخين فى العلم : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) شاهدا على أن (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مقابل لقوله : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ). وفيه إشارة إلى أن الوقف تام على قوله «إلا الله» وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى ، وأن من حاول معرفته فهو الذى أشار إليه فى الحديث بقوله : (فاحذرهم) اه.

وهو كلام نفيس كما تراه : والحديث الذى نوه به أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) إلى قوله : (أُولُوا الْأَلْبابِ) قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم).

(٧) ومنها أن المحكم ما كانت دلالته راجحة ، وهو النص والظاهر ، أما المتشابه فما كانت دلالته غير راجحة ، وهو المجمل والمؤول والمشكل. ويعزى هذا الرأى إلى الإمام الرازى واختاره كثير من المحققين. وقد بسطه الإمام فقال ما خلاصته :

«اللفظ الذى جعل موضوعا لمعنى ، إما ألا يكون محتملا لغيره ، أو يكون محتملا لغيره. الأول النص ، والثانى إما أن يكون احتماله لأحد المعانى راجحا ولغيره مرجوحا ، وإما أن يكون احتماله لهما بالسوية. واللفظ بالنسبة للمعنى الراجح يسمى ظاهرا ، وبالنسبة للمعنى المرجوح يسمى مؤولا ، وبالنسبة للمعنيين المتساويين أو المعانى المتساوية يسمى مشتركا ، وبالنسبة لأحدهما على التعيين يسمى مجملا. وقد يسمى اللفظ مشكلا إذا كان معناه الراجح باطلا ، ومعناه المرجوح حقا.

إذا عرفت هذا فالمحكم ما كانت دلالته راجحة ، وهو النص والظاهر ؛ لاشتراكهما فى حصول الترجيح ، إلا أن النص راجح مانع من الغير ، والظاهر راجح غير مانع منه.

١٧٠

أما المتشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة ، وهو المجمل والمؤول والمشكل ؛ لاشتراكها فى أن دلالة كل منها غير راجحة. وأما المشترك فإن أريد منه كل معانيه فهو من قبيل الظاهر ، وإن أريد بعضها على التعيين فهو مجمل.

ثم إن صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح ، لا بد فيه من دليل منفصل. وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيا وإما أن يكون عقليا. والدليل اللفظى لا يكون قطعيا ، لأنه موقوف على نقل اللغات ، ونقل وجوه النحو والتصريف ، وموقوف على عدم الاشتراك ، وعدم المجاز ، وعدم الاضمار ، وعدم التخصيص ، وعدم المعارض العقلى والنقلى. وكل ذلك مظنون. والموقوف على المظنون مظنون.

وعلى ذلك فلا يمكن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معنى مرجوح بدليل لفظى فى المسائل الأصولية الاعتقادية. ولا يجوز صرفه إلا بواسطة قيام الدليل القطعى العقلى على أن المعنى الراجح محال عقلا وإذا عرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى ، فعند ذلك لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح ما هو؟ لأن طريقه إلى تعيينه إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز ، وبترجيح تأويل على تأويل. وذلك الترجيح لا يكون إلا بالدلائل اللفظية ، وهى لا تفيد إلا الظن. والتعويل عليها فى المسائل القطعية لا يفيد. لذا كان مذهب السلف عدم الخوض فى تعيين التأويل فى المتشابه ، بعد اعتقاد أن ظاهر اللفظ محال ، لقيام الأدلة العقلية القطعية على ذلك» اه.

نظرة فى هذه الآراء :

نحن إذا نظرنا فى هذه الآراء ، لا نجد بينها تناقضا ولا تعارضا ، بل نلاحظ بينها تشابها وتقاربا. بيد أن رأى الرازى أهداها سبيلا ، وأوضحها بيانا ؛ لأن أمر الإحكام والتشابه يرجع فيما نفهم ، إلى وضوح المعنى المراد للشارع من كلامه وإلى عدم وضوحه. وتعريف الرازى جامع مانع من هذه الناحية ، لا يدخل فى المحكم ما كان خفيا ، ولا فى

١٧١

المتشابه ما كان جليا ؛ لأنه استوفى وجوه الظهور والخفاء استيفاء تاما ، فى بيان تقسيمه الذى بناه على راجح ومرجوح ، والذى أعلن لنا منه أن الراجح ما كان واضحا لا خفاء فيه ، وأن المرجوح ما كان خفيا لا جلاء معه.

وقريب منه رأى الطيبى الذى قبله حتى كأنه هو ، غير أنه لم يستوف وجوه الظهور والخفاء استيفاء الرازى. أما رأى إمام الحرمين ففيه شىء من الإبهام.

وكذلك رأى الإمام أحمد لا ندرى ما مراده بالبيان الذى يحتاج إليه المتشابه ، ولا يحتاج إليه المحكم؟.

ورأى ابن عباس يخرج الظاهر من المحكم ، ويدخله فى المتشابه ، مع أنه من الواضحات واحتماله لغير معناه الراجح احتمال ضعيف ، لا يقدح فى ظهوره ووضوحه.

والرأى الثانى يعكس الآية ، فيدخل فى المحكم كثيرا من الخفيات ، ويقصر المتشابه على نوع واحد منها. فيكون تعريف المحكم فيه غير مانع ، وتعريف المتشابه غير جامع ، بالنسبة إلى المذهب المختار ، وهو مذهب الرازى.

والرأى الأول المنسوب إلى الأحناف ، يقصر تعريف المحكم على النص ، وتعريف المتشابه على ما استأثر الله بعلمه ، ويلزم عليه وجود واسطة لا تدخل فى المحكم ولا فى المتشابه. ويكون تعريفهما غير جامع بالنسبة للمذهب المختار أيضا.

آراء أخرى :

واعلم أن وراء هذه الآراء آراء أخرى.

(١) منها أن المحكم هو الذى يعمل به ، أما المتشابه فهو الذى يؤمن به ولا يعمل به.

١٧٢

وقد روى السيوطى هذا القول عن عكرمة وقتادة وغيرهما. وفيه أن ذلك قصر للمحكم على ما كان من قبيل الأعمال ، وقصر للمتشابه على ما كان من قبيل العقائد ، وإطلاق القول فيهما على هذا الوجه غير سديد. فإن أرادوا بالمحكم أنه هو الواضح الذى يؤخذ بمعناه على التعيين ، وبالمتشابه ما كان خفيا يجب الإيمان به دون تعيين لمعناه ، نقول : إن أرادوا ذلك فالعبارة قاصرة عن أداء هذا المراد ، والمراد منها لا يدفع الإيراد عليها.

(٢) ومنها أن المحكم ما كان معقول المعنى ، والمتشابه بخلافه ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان ، وفيه أن هذا التفسير قاصر عن الوفاء بكل ما كان واضحا وكل ما كان خفيا.

(٣) ومنها أن المحكم ما لم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه ، وفيه أن هذا المعنى بالنسبة إلى المتشابه أقرب إلى اللغة منه إلى الاصطلاح الذى عليه الجمهور ، وفيه إهمال لما اعتبر هنا من أمر الخفاء والظهور.

(٤) ومنها أن المحكم ما لم ينسخ ، والمتشابه ما نسخ ، وفيه أن هذا اصطلاح آخر نوهنا به سابقا.

ونظرا إلى أن هذه الآراء أضعف من تلك الآراء التى قدمناها ، وأبعد عنها فى ملحظها ومغزاها ؛ أفردناها بالذكر ، ولم نسلكها مع تلك فى سمط واحد.

وعلى كل حال فالأمر سهل وهين ؛ لأنه يرجع إلى الاصطلاح أو ما يشبه الاصطلاح ، ولا مشاحة فى الاصطلاح. ولو لا أن تفسير آية آل عمران التى مرت فى كلامنا وكلام الطيبى ، لا يتمشى بسهولة على هذه الآراء المرجوحة ، لما أتعبنا أنفسنا فى مناقشتها ونقدها ، وفى اختيار رأى الرازى من بينها.

١٧٣

منشأ التشابه وأقسامه وأمثلته

نعلم مما سبق أن منشأ التشابه إجمالا ، هو خفاء مراد الشارع من كلامه. أما تفصيلا فنذكر أن منه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ ، ومنه ما يرجع خفاؤه إلى المعنى ، ومنه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ والمعنى معا.

(فالقسم الأول) وهو ما كان التشابه فيه راجعا إلى خفاء فى اللفظ وحده ، منه مفرد ومركب ، والمفرد قد يكون الخفاء فيه ناشئا من جهة غرابته أو من جهة اشتراكه.

والمركب قد يكون الخفاء فيه ناشئا من جهة اختصاره ، أو من جهة بسطه ، أو من جهة ترتيبه.

مثال التشابه فى المفرد بسبب غرابته وندرة استعماله ، لفظ الأبّ بتشديد الباء فى قوله سبحانه. (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) وهو ما ترعاه البهائم. بدليل قوله بعد ذلك : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ). ومثال التشابه فى المفرد بسبب اشتراكه بين معان عدة ، لفظ اليمين فى قوله سبحانه : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أى فأقبل إبراهيم على أصنام قومه ضاربا لها باليمين من يديه لا بالشمال ، أو ضاربا لها ضربا شديدا بالقوة ؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين ، أو ضاربا لها بسبب اليمين التى حلفها ونوه بها القرآن إذ قال (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ). كل ذلك جائز. ولفظ اليمين مشترك بينها.

ومثال التشابه فى المركب بسبب اختصاره ، قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) فإن خفاء المراد فيه ، جاء من ناحية إيجازه والأصل : وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى لو تزوجتموهن ، فانكحوا من غير هن ما طاب لكم من النساء. ومعناه أنكم إذا تحرجتم من زواج اليتامى مخافة أن تظلموهن ؛ فأمامكم غيرهن فتزوجوا

١٧٤

منهن ما طاب لكم. وقيل إن القوم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى ، فأنزل الله الآية. ومعناها : إن خفتم الجور فى حق اليتامى فخافوا الزنى أيضا ، وتبدلوا به الزواج الذى وسع الله عليكم فيه ؛ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.

ومثال التشابه يقع فى المركب بسبب بسطه والإطناب فيه ، قوله جلت حكمته :

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فإن حرف الكاف لو حذف وقيل (ليس مثله شىء) كان أظهر للسامع من هذا التركيب الذى ينحل إلى : (ليس مثل مثله شىء) وفيه من الدقة ما يعلو على كثير من الأفهام.

ومثال التشابه يقع فى المركب لترتيبه ونظمه ، قوله جل ذكره (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً) فإن الخفاء هنا جاء من جهة الترتيب بين لفظ (قيما) وما قبله. ولو قيل : أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. لكان أظهر أيضا.

واعلم أن فى مقدمة هذا القسم فواتح السور المشهورة ، لأن التشابه والخفاء فى المراد منها. جاء من ناحية ألفاظها لا محالة.

(والقسم الثانى) وهو ما كان التشابه فيه راجعا إلى خفاء المعنى وحده ، مثاله كل ما جاء فى القرآن الكريم وصفا لله تعالى ، أو لأهوال القيامة ، أو لنعيم الجنة وعذاب النار فإن العقل البشرى لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق ، ولا بأهوال القيامة ، ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار. وكيف السبيل إلى أن يحصل فى نفوسنا صورة ما لم نحسه ، وما لم يكن فينا مثله ولا جنسه؟.

واعلم أن فى مقدمة هذا القسم المشكلات المعروفة بمتشابهات الصفات. فإن التشابه

١٧٥

والخفاء لم يجيء من ناحية غرابة فى اللفظ أو اشتراك فيه بين عدة معان أو إيجاز أو إطناب مثلا. فتعين أن يكون من ناحية المعنى وحده.

(القسم الثالث) وهو ما كان التشابه فيه راجعا إلى اللفظ والمعنى معا ، له أمثلة كثيرة منها قوله عز اسمه. (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) فإن من لا يعرف عادة العرب فى الجاهلية ، لا يستطيع أن يفهم هذا النص الكريم على وجهه. ورد أن ناسا من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من باب. فإن كان من أهل المدر نقب نقبا فى ظهر بيته ، يدخل ويخرج منه وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء ، فنزل قول الله. (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ، وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

فهذا الخفاء الذى فى هذه الآية ، يرجع إلى اللفظ بسبب اختصاره ؛ ولو بسط لقيل : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إذا كنتم محرمين بحج أو عمرة. ويرجع الخفاء إلى المعنى أيضا ، لأن هذا النص على فرض بسطه كما رأيت ، لا بد معه من معرفة عادة العرب فى الجاهلية وإلا لتعذر فهمه. قال الراغب فى المفردات القرآن : المتشابه بالجملة ثلاثة أضرب. متشابه من جهة اللفظ فقط ، ومن جهة المعنى فقط ، ومن جهتهما. (فالأول) ضربان ، أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة ، إما من جهة الغرابة ، نحو الأبّ ويزفّون ، أو الاشتراك كاليد واليمين. وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب ، وذلك ثلاثة أضرب ، ضرب لاختصار الكلام ، نحو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ). وضرب لبسطه نحو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لأنه لو قيل. ليس مثله شىء كان أظهر للسامع ، وضرب لنظم الكلام ، نحو (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً) تقديره ، أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا.

١٧٦

(والمتشابه من جهة المعنى) أوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة ، فإن تلك الأوصاف لا تتصور لنا ، إذ كان لا يحصل فى نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه.

(والمتشابه من جهتهما) خمسة أضرب. الأول : من جهة الكمية كالعموم والخصوص ، نحو اقتلوا المشركين ، والثانى : من جهة الكيفية كالوجوب والندب ، نحو (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) والثالث : من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ ، نحو (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) والرابع : من جهة المكان والأمور التى نزلت فيها ، نحو (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) فإن من لا يعرف عادتهم فى الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية ، الخامس : من جهة الشروط التى يصح بها الفعل ويفسد ، كشروط الصلاة والنكاح ... وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون فى فى تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم) اه.

وهو كلام بعيد ،؟؟؟؟ فى بعضه شيئا.

أنواع المتشابهات

يمكننا أن ننوع المتشابهات ـ على ضوء ما سبق ـ ثلاثة أنواع :

(النوع الأول) ما لا يستطيع البشر جميعا أن يصلوا إليه ، كالعلم بذات الله وحقائق صفاته ، وكالعلم بوقت القيامة ونحوه من الغيوب التى استأثر الله تعالى بها (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

(النوع الثانى) ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس ، كالمتشابهات التى نشأ التشابه فيها من الإجمال والبسط والترتيب ونحوها مما سبق.

(١٢ ـ مناهل العرفان ٢)

١٧٧

(النوع الثالث) ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم ، ولذلك أمثلة كثيرة من المعانى العالية التى تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب الله.

قال الراغب (المتشابه على ثلاثة أضرب : ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه ، كوقت الساعة وخروج الدابة ونحو ذلك ، وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام المغلقة. وضرب متردد بين الأمرين يختص به بعض الراسخين فى العلم ويخفى على من دونهم. وهو المشار إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس : (اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل)

هل فى ذكر المتشابهات من حكمة

عرفنا أن المتشابهات انواع ثلاثة ، ونزيدك هنا أن لهذه المتشابهات المتنوعة حكمة بل حكما فى ذكر الشارع إياها.

فالنوع الأول ـ وهو ما استأثر الله بعلمه ـ تلوح لنا فيه حكم خمس :

(أولاها) رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف الذى لا يطيق معرفة كل شىء. وإذا كان الجبل حين تجلى له ربه جعله دكا وخر موسى صعقا ، فكيف لو تجلى سبحانه بذاته وحقائق صفاته للإنسان؟ ومن هذا القبيل أخفى الله على الناس معرفة الساعة رحمة بهم كيلا يتكاسلوا ويقعدوا عن الاستعداد لها ، وكيلا يفتك يهم الخوف والهلع لو أدركوا بالتحديد شدة قربها منهم. ولمثل هذا حجب الله عن العباد معرفة آجالهم ، ليعيشوا فى بحبوحة من أعمارهم ، فسبحانه من إله حكيم ، رحمن رحيم.

(ثانيتها) الابتلاء والاختبار : أيؤمن البشر بالغيب ثقة بخبر الصادق أم لا؟ فالذين اهتدوا يقولون آمنا وإن لم يعرفوا على التعيين. والذين فى قلوبهم زيغ يكفرون به ، وهو الحق من ربهم ، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة والخروج من الدين جملة.

١٧٨

(ثالثتها) ما ذكره الفخر الرازى بقوله : «إن القرآن يشتمل على دعوة الخواص والعوام. وطبائع العوام تنبو فى أكثر الأمور عن إدراك الحقائق فمن سمع من العوام فى أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ، ظن أن هذا عدم ونفى محض ؛ فيقع فى التعطيل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما توهموه ، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح. فالقسم الأول وهو الذى يخاطبون به فى أول الأمر من باب المتشابه ، والقسم الثانى وهو الذى يكشف عن الحق الصريح هو المحكم» اه وهذه الحكمة ظاهرة فى متشابه الصفات.

(رابعتها) إقامة دليل على عجز الإنسان وجهالته ، مهما عظم استعداده وغزر علمه ، وإقامة شاهد على قدرة الله الخارقة ، وأنه وحده هو الذى أحاط بكل شىء علما ، وأن الخلق جميعا لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وهنالك يخضع العبد ويخشع ، ويطامن من كبريائه ويخنع ، ويقول ما قالت الملائكة بالأمس : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم».

قال بعض العارفين : (العقل مبتلى باعتقاد أحقية المتشابه ، كابتلاء البدن بأداء العبادة. كالحكيم إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ، ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه. وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره. وقيل : لو لم يبتل العقل الذى هو أشرف البدن ، لاستمر العالم فى أبهة العلم على التمرد ، فبذلك يستأنس إلى التذلل بذل العبودية والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها ، استسلاما واعترافا بقصورها ، ولهذا ختم الآية يريد آية (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) بقوله. (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) تعريضا للزائغين ، ومدحا للراسخين. يعنى من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه ، فليس من أولى العقول.

١٧٩

ومن ثم قال الراسخون فى العلم : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا ، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) فخضعوا لباريهم لاستنزال العلم اللدنى بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفسانى) اه.

(خامستها) ما ذكره الفخر الرازى أيضا بقوله : (لو كان ـ أى القرآن ـ كله محكما بالكلية ، لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد. وكان بصريحه مبطلا لجميع المذاهب المخالفة له. وذلك منفر لأرباب المذاهب الأخرى عن النظر فيه ، أما وجود المتشابه والمحكم فيه فيطمع كل ذى مذهب أن يجد فيه كل ما يؤيد مذهبه. فيضطر إلى النظر فيه ، وقد يتخلص المبطل عن باطله ، إذا أمعن فيه النظر ، فيصل إلى الحق).

يضاف إلى هذه الحكم الخمس ما ذكرناه عند الكلام على فواتح السور ودفع الشبهات عنها بالجزء الأول من هذا الكتاب (ص ٢١٩ ـ ٢٣٠) بالطبعة الثانية.

(وأما النوع الثانى والثالث من المتشابهات) فتلوح لنا فى ذكره واشتمال القرآن عليه حكم خمس أيضا.

(أولها) تحقيق إعجاز القرآن ، لأن كل ما استتبع فيه شيئا من الخفاء المؤدى إلى التشابه ، له مدخل عظيم فى بلاغته وبلوغه الطرف الأعلى فى البيان. ولو أخذنا فى شرح هذا لضاق بنا المقام ، وخرجنا جملة من هذا الميدان. إلى ميدان علوم البلاغة وما حوت من خواص وأسرار ، للإيجاز والإطناب والمساواة ، والتقديم والتأخير ، والذكر والحذف ، والحقيقة والمجاز ، ونحو ذلك.

١٨٠