مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

(من تلك الوقائع) أن استقبال بيت المقدس فى الصلاة لم يعرف إلا من السنة ، وقد نسخه قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

(ومنها) أن الأكل والشرب والمباشرة كان محرما فى ليل رمضان على من صام ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

(ومنها) أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبرم مع أهل مكة عام الحديبية صلحا كان من شروطه أن من جاء منهم مسلما رده عليهم. وقد وفى بعده فى أبى جندل وجماعة من المكيين جاءوا مسلمين. ثم جاءته امرأة فهم أن يردها فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ. فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) الآية.

شبهة للمانعين ودفعها :

أورد المانعون على هذا الاستدلال المعتمد على تلك الوقائع شبهة قالوا فى تصويرها :

يجوز أن يكون النسخ فيما ذكرتم ثابتا بالسنة ثم جاء القرآن موافقا لها ، وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ السنة بالسنة. ويجوز أن الحكم المنسوخ كان ثابتا أولا بقرآن نسخت تلاوته ثم جاءت السنة موافقة له وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ قرآن بقرآن.

وندفع هذه الشبهة بأنها قائمة على مجرد احتمالات واهية لا يؤيدها دليل ، ولو فتحنا بابها وجعلنا لها اعتبارا ، لما جاز لفقيه أن يحكم على نص بأنه ناسخ لآخر إلا إذا ثبت ذلك صريحا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولكن ذلك باطل بإجماع الأمة على خلافه ، واتفاقها على أن الحكم إنما يسند إلى دليله الذى لا يعرف سواه بعد الاستقراء الممكن.

١٤١

أدلة المانعين ونقضها :

١ ـ قالوا : إن قوله سبحانه وتعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يفيد أن السنة ليست إلا بيانا للقرآن ، فإذا نسخها القرآن خرجت عن كونها بيانا له.

وننقض هذا بأن الآية ليس فيها طريق من طرق الحصر. وعلى فرض وجود الحصر فالمراد بالبيان فى الآية التبليغ لا الشرح ، ولا ريب أن التبليغ إظهار. وعلى فرض أن الآية حاصرة للسنة فى البيان بمعنى الشرح لا التبليغ ، فبيانها بعد النسخ باق فى الجملة ، وذلك بالنسبة لما لم ينسخ منها ، وأنت تعلم أن بقاء الحكم الشرعى مشروط بعدم ورود ناسخ.

فتدبر ولاحظ التفصيل الذى ذكرناه هناك فى نقض الدليل لمانعى نسخ القرآن بالسنة ، فإنه يفيدك هنا.

٢ ـ قال المانعون أيضا : إن نسخ السنة بالقرآن يلبس على الناس دينهم ويزعزع ثقتهم بالسنة ، ويوقع فى روعهم أنها غير مرضية لله ، وذلك يفوت مقصود الشارع من وجوب اتباع الرسول وطاعته واقتداء الخلق به فى أقواله وأفعاله. ولا ريب أن هذا باطل ، فما استلزمه وهو نسخ السنة بالقرآن باطل.

وننقض هذا الاستدلال (أولا) بأن مثله يمكن أن يقال فى أى نوع آخر من أنواع النسخ التى تقولون بها. فما يكون جوابا لكم يكون مثله جوابا لنا.

(ثانيا) أن ما ذكروه من استلزام نسخ السنة بالقرآن لهذا الأمور الباطلة ، غير صحيح ، لأن أدلة القرآن متوافرة على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحى يوحى. وذلك يمنع لزوم هذه المحاولات الفاسدة ، ويجعل نسخ السنة بالقرآن كنسخ السنة بالسنة والقرآن بالقرآن ، فى نظر أى منصف كان.

١٤٢

٤ ـ نسخ السنة بالسنة

نسخ السنة بالسنة يتنوع إلى أنواع أربعة ، نسخ سنة متواترة بمتواترة ، ونسخ سنة آحادية بآحادية ، ونسخ سنة آحادية بسنة متواترة ، ونسخ سنة متواترة بسنة آحادية.

أما الثلاثة الأول فجائزة عقلا وشرعا. وأما الرابع وهو نسخ سنة متواترة بآحادية ، فاتفق علماؤنا على جوازه عقلا ، ثم اختلفوا فى جوازه شرعا ، فنفاه الجمهور وأثبته أهل الظاهر

أدلة الجمهور :

استدل الجمهور على مذهبهم بدليلين :

(أولهما) أن المتواتر قطعى الثبوت وخبر الواحد ظنى : والقطعى لا يرتفع بالظنى لأنه أقوى منه ، والأقوى لا يرتفع بالأضعف.

(ثانيهما) أن عمر رضى الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجعل لها سكنى ، مع أن زوجها طلقها وبت طلاقها وقد أقر الصحابة عمر على رده هذا ، فكان إجماعا. وما ذاك إلا لأنه خبر آحادي لا يفيد إلا الظن ، فلا يقوى على معارضة ما هو أقوى منه ، وهو كتاب الله إذ يقول : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) وسنة رسوله المتواترة فى جعل السكن حقا من حقوق المبتوتة.

ملاحظة :

روت كتب الأصول فى هذا الموضع خبر فاطمة بنت قيس بصيغة مدخولة ، فيها أن عمر قال حين بلغه الخبر : «لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندرى أصدقت أم كذبت ، حفظت أم نسيت» وعزا بعضهم هذه الرواية المدخولة إلى الإمام مسلم فى صحيحه والحقيقة أن الرواية بهذه الصورة غير صحيحة ، كما أن عزوها إلى مسلم غير صحيح.

١٤٣

والرواية الصحيحة فى مسلم وغيره ليس فيها كلمة «أصدقت أم كذبت». بل اقتصرت على كلمة «أحفظت أم نسيت». ومثلك ـ حماك الله ـ يعلم أن الشك فى حفظ فاطمة ونسيانها ، لا يقدح فى عدالتها وصدقها فإياك أن تخوض مع الخائضين من المستشرقين وأذنابهم فتطعن فى الصحابة وتجرحهم فى تثبتهم لمثل هذا الخبر المردود.

وإن شئت المزيد من التعليق على هذا الخبر وما شابهه ، فاقرأ ما كتبناه تحت عنوان :

(دفع شبهات فى هذا المقام) من كتابنا (المنهل الحديث فى علوم الحديث).

أدلة أهل الظاهر

اعتمد أهل الظاهر فى جواز نسخ المتواتر بالآحاد شرعا على شبهات ظنوها أدلة ، وما هى بأدلة.

(منها) أن النسخ تخصيص لعموم الأزمان ، فيجوز بخبر الواحد وإن كان المنسوخ متواترا ، كما أن تخصيص عموم الأشخاص يجوز بخبر الواحد وإن كان العام المخصوص متواترا.

وندفع هذا (أولا) بأن المقصود من النص المنسوخ جميع الأزمان ، وليس المقصود منه استمرار الحكم إلى وقت النسخ فقط. وإذن فالنسخ رفع لمقتضى العموم لا تخصيص للعموم.

فكيف يقاس النسخ على التخصيص الذى هو بيان محض للمقصود من اللفظ.

(ثانيا) أننا نمنع جواز تخصيص المتواتر بخبر الواحد كما هو رأى الحنفية.

(ومنها) أن أهل قباء كانوا يصلون متجهين إلى بيت المقدس فأتاهم آت يخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة ، فاستجابوا له ، وقبلوا خبره ، واستداروا وهم فى صلاتهم ، وبلغ ذلك رسول الله فأقرهم. وهذا دليل على أن خبر الواحد ينسخ المتواتر.

وندفع هذا بأن خبر الواحد فى هذه الحادثة احتفت به قرائن جعلته يفيد القطع ، وكلامنا

١٤٤

فى خبر الواحد الذى لا يفيد القطع ؛ وهذه القرائن التى تفيد القطع هنا ، نعلمها من أن الحادثة المروية حادثة جزئية حسية ، لا تحتمل الخطأ ولا النسيان ، وأنها تتصل بأمر عظيم هو صلاة جمع من المسلمين ، وأن الراوى لها صحابى جليل ، وأنه لا واسطة بينه وبين الرسول ، وأنه واثق من أنه إن كذب فسيفتضح أمره لا محالة ، وسيلاقى من العنت والعقاب ما يحيل العقل عادة معه تسبب هذا الراوى العظيم له. يضاف إلى هذا أن التوجه إلى بيت المقدس كان متوقع الانتساخ ، لما هو معروف من حب العرب وحب الرسول معهم لاستقبال الكعبة التى هى مفخرتهم ومفخرة آبائهم وأجدادهم. فكان عليه الصلاة والسلام يرفع وجهه إلى السماء انتظار النزول الوحى بذلك. (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

نسخ القياس والنسخ به

ينطوى تحت نسخ القياس والنسخ به صور ثلاث : (أولاها) أن ينسخ القياس حكما دل عليه قياس. ومثلوا ذلك بأن يوجب الشارع إكرام زيد لسخائه ، فنقيس عليه عمرا لوجود علة السخاء فيه. ثم بعد ذلك يوجب الشارع إهانة بكر لكونه سكيرا ، فنقيس عليه عمرا المذكور لوجود علة السكر فيه وبذلك ينتسخ وجوب إكرام عمرو بوجوب إهانته ، عند ترجيح هذا القياس الثانى على الأول.

(ثانيتها) أن ينسخ القياس حكما دل عليه نص ، كأن ينص الشارع على إباحة النبيذ ، ثم بعد ذلك يحرم الخمر لإسكاره ، فنقيس النبيذ عليه لوجود علة الإسكار فيه. وبذلك ينتسخ حكم الإباحة الثابت نصا ، بحكم التحريم الثابت قياسا.

(ثالثتها) أن ينسخ النص قياسا ، كأن يحرم الشارع الخمر لكونه مسكرا ، فنحمل عليه النبيذ لإسكاره ، ثم بعد ذلك ينص الشارع على إباحة النبيذ ، فتنسخ حرمة النبيذ الثابتة قياسا ، بإباحته الثابتة نصا.

١٤٥

وقد اختلف علماؤنا. فمنهم من منع نسخ القياس والنسخ به مطلقا. ومنهم من جوزه مطلقا. ومنهم من فصل. والجمهور على جواز نسخه والنسخ به إن كان قطعيا ، وعلى منعه إن كان ظنيا. والقطعى ما قطع فيه بنفى الفارق ، كقياس صب البول فى الماء الراكد على البول فيه ، فيأخذ حكمه وهو الكراهة.

أدلة المانعين مطلقا :

وقد استدل القائلون بمنع نسخ القياس مطلقا ؛ بأن نسخه يقتضى ارتفاع حكم الفرع مع بقاء حكم الأصل. وهذا لا يقبله العقل ، لأن العلة التى رتب عليها الشارع حكم الأصل موجودة فى الفرع ، وهى قاضية ببقاء الحكم فى الفرع ما دام باقيا فى الأصل.

ونوقش هذا الاستدلال بأمرين : (أحدهما) أن نسخ القياس لا يقتضى ما ذكروه ، بل يقتضى ارتفاع حكم الأصل تبعا لارتفاع حكم الفرع على معنى أن نسخ حكم الفرع يدل على أن الشارع قد ألغى العلة التى رتب عليها حكم الأصل وإلغاؤها يقتضى ارتفاع حكمه.

(والآخر) أنه لا مانع عقلا من أن ينسخ الشارع الفرع بناء على أنه اعتبر قيدا فى العلة لم يكن معتبرا من قبل. وهذا القيد موجود فى الأصل وليس موجودا فى الفرع.

هذا دليل المانعين لجواز نسخ القياس مطلقا مع مناقشته. أما الدليل على منعهم جواز النسخ به مطلقا ، فيتلخص فى أن المنسوخ به إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا. لا جائز أن يكون نصا ، لأن دلالته أقوى من دلالة القياس. والضعيف لا يرفع ما هو أقوى منه. ولا جائز أن يكون المنسوخ به إجماعا ، لأن الإجماع لا يصلح أن يكون ناسخا ولا منسوخا ، كما سيأتى تحققه. ولا جائز أن يكون قياسا ، لأنه يشترط لصحة القياس أن يسلم من المعارض المساوى له والأرجح منه ؛ وهذا القياس المتأخر مفروض أنه أرجح من الأول وإذن يتبين بظهوره بطلان القياس الأول. وإذا تبين بطلانه بطل القول بنسخه ، لأن النسخ رفع

١٤٦

لحكم ثابت من قبل. وهذا قد تبين خطؤه وعدم ثبوته.

ونوقش هذا الاستدلال بأن إطلاق القول بأن النص أقوى دلالة من القياس غير مسلم ، فإن هناك من النصوص ما تخفى دلالته حتى لا يقفهما إلا الخواص على حين أن هناك من الأقيسة ما تظهر دلالته لكل باحث منصف.

دليل المجوزين مطلقا :

واستند المجوزون لنسخ القياس والنسخ به مطلقا ، إلى أن القياس دليل شرعى لم يقم دليل عقلى ولا نقلى على امتناع نسخه أو النسخ به.

ونوقش هذا الاستدلال ، بأن إطلاقهم هذا يستلزم التسوية بين ظنى القياس وقطعيه ، ويستلزم جواز ارتفاع القطعى منه بالظنى ، وكلاهما غير مقبول عقلا ولا نقلا.

دليل الجمهور :

واستدل الجمهور على جواز نسخه والنسخ به إن كان قطعيا ، بأن القياس القطعى لا يستلزم نسخه ولا النسخ به محالا عقليا ولا شرعيا. واستدلوا على عدم جواز نسخه والنسخ به إن كان ظنيا ، بأن جواز ذلك يستلزم المحال. أما بيانه بالنسبة لعدم جواز نسخه ، فهو أن الناسخ له إما أن يكون قطعيا أو ظنيا ، وكلا هذين مبطل للقياس الأول ، والباطل لا ثبوت له حتى ينتسخ ويستدلون على أن كلا هذين مبطل للقياس الأول بأن اقتضاء القياس للحكم مشروط بألا يظهر له معارض مساو له أو أرجح منه. ولا ريب أن القياس القطعى المتأخر أقوى من الأول ، وأن الظنى أرجح منه حتى يعقل نسخه له ، فبظهور أحدهما يتبين بطلان ذلك القياس الأول وإذن فلا نسخ ودليلهم على عدم جواز النسخ به ، هو أن المنسوخ بالقياس الظنى إما أن يكون قطعيا أو ظنيا. لا جائز أن يكون قطعيا ، لأن الظن لا يقوى على رفع اليقين. ولا جائز أن يكون ظنيا ، لأن اقتضاء القياس الظنى للحكم ، مشروط بألا يظهر له معارض مساو له أو أرجح منه. وفى هذه الصورة قد ظهر له معارض وهو القياس المتأخر عنه

١٤٧

الذى لا بد أن يكون أرجح منه ، حتى يعقل نسخه له. وعلى هذا يكون القياس المتأخر مبينا بطلان اقتضاء القياس المتقدم للحكم ، لا ناسخا له.

نسخ الإجماع والنسخ به

جمهور الأصوليين على أن الإجماع لا يجوز أن يكون ناسخا ولا منسوخا واستدلوا على أنه لا يجوز أن يكون ناسخا ؛ بأن المنسوخ به إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا. لا جائز أن يكون نصا ، لأن الإجماع لا بد أن يكون له نص يستند إليه ؛ خصوصا إذا انعقد على خلاف النص. وإذن يكون الناسخ هو ذلك النص الذى استند إليه الإجماع لا نفس الإجماع ولا جائز أن يكون المنسوخ بالإجماع إجماعا ؛ لأن الإجماع لا يكون إلا عن مستند يستند إليه من نص أو قياس ، إذ الإجماع بدون مستند قول على الله بغير علم ، والقول على الله بغير علم ضلالة ، والأمة لا تجتمع على ضلالة. ومستند الإجماع الثانى لا بد أن يكون نصا حدث بعد الإجماع الأول ، لأن ذلك النص لو تحقق قبل الإجماع الأول ما أمكن أن ينعقد الإجماع على خلافه ولا ريب أن حدوث نص بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محال ، فما أدى إليه وهو نسخ الإجماع بالإجماع محال. ولا جائز أن يكون المنسوخ بالإجماع قياسا ، لأن الإجماع على خلاف القياس يقتضى أحد أمرين : إما خطأ القياس ، وإما انتساخه بمستند الإجماع وعلى كلا التقديرين فلا يكون الإجماع ناسخا ، واستدلوا على أنه لا يجوز أن يكون الإجماع منسوخا ، بأن الإجماع لا يعتبر حجة إلا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإذن فالناسخ له إما أن يكون نصا أو قياسا أو إجماعا. لا جائز أن يكون نصا ، لأن الناسخ متأخر عن المنسوخ! ولا يعقل أن يحدث نص بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا جائز أن يكون الناسخ الإجماع قياسا لأن نسخ الإجماع بالقياس يقتضى أن يكون الحكم الدال على الأصل حادثا بعد الرسول وهو باطل. ولا جائز أن يكون الناسخ للإجماع إجماعا ، لما سبق. وأما قولهم : هذا الحكم منسوخ إجماعا ، فمعناه أن الإجماع انعقد على أنه نسخ بدليل من الكتاب أو السنة ؛ لا أن الإجماع هو الذى نسخه.

١٤٨

المجوزون ومناقشتهم :

ما تقدم هو مذهب الجمهور : ولكن بعض المعتزلة وآخرين ، جوزوا أن يكون الإجماع ناسخا لكل حكم صلح النص ناسخا له. واستدلوا بأدلة : منها أن نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكوات ، ثابت بصريح القرآن ، وقد نسخ بإجماع الصحابة فى زمن الصديق على إسقاطه.

ونوقش هذا بوجوه : «أولها» أن الإجماع المذكور لم يثبت ، بدليل اختلاف الأئمة المجتهدين فى سقوط نصيب هؤلاء.

«ثانيها» أن العلة فى اعتبار المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة ، هى إعزاز الإسلام بهم. وفى عهد أبى بكر اعتز الإسلام فعلا ، بكثرة أتباعه واتساع رقعته ، فأصبح غير محتاج إلى إعزاز ، وسقط نصيب هؤلاء المؤلفة لسقوط علته.

«ثالثها» أنه على فرض صحة هذا الإجماع ، فإن الإجماع لا بد له من مستند.

وإذن فالناسخ هو هذا المستند ، لا الإجماع نفسه.

موقف العلماء من الناسخ والمنسوخ

العلماء فى موقفهم من الناسخ والمنسوخ يختلفون ، بين مقصر ومقتصد وغال فالمقصرون هم الذين حاولوا التخلص من النسخ إطلاقا سالكين به مسلك التأويل بالتخصيص ونحوه ، كأبى مسلم ومن وافقه. وقد بينا الرأى فى هؤلاء سابقا.

والمقتصدون هم الذين يقولون بالنسخ فى حدوده المعقولة ، فلم ينفوه إطلاقا. كم نفاه أبو مسلم وأضرابه ، ولم يتوسعوا فيه جزافا كالغالين ، بل يقفون به موقف الضرورة التى يقتضيها وجود التعارض الحقيقى بين الأدلة ، مع معرفة المتقدم منها والمتأخر.

والغالون هم الذين تزيدوا ، فأدخلوا فى النسخ ما ليس منه ، بناء على شبه ساقطة.

ومن هؤلاء أبو جعفر النحاس فى كتابه «الناسخ والمنسوخ» وهبة الله بن سلامة ،

١٤٩

وأبو عبد الله محمد بن حزم ، وغيرهم فإنهم ألفوا كتبا فى النسخ أكثروا فيها من ذكر الناسخ والمنسوخ ، اشتباها منهم وغلطا. ومنشأ تزيدهم هذا أنهم انخدعوا بكل ما نقل عن السلف أنه منسوخ وفاتهم أن السلف لم يكونوا يقصدون بالنسخ هذا المعنى الاصطلاحى بل كانوا يقصدون به ما هو أعم منه ، مما يشمل بيان المجمل وتقييد المطلق ونحوها.

منشأ غلط المتزيدين تفصيلا

ونستطيع أن نرد أسباب هذا الغلط إلى أمور خمسة :

(أولها) ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال سببه ، من المنسوخ. وعلى هذا عدوا الآيات التى وردت فى الحث على الصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين وقلتهم ، منسوخة بآيات القتال ، مع أنها ليست منسوخة. بل هى من الآيات التى دارت أحكامها على أسباب ، فالله أمر المسلمين بالصبر وعدم القتال فى أيام ضعفهم وقلة عددهم ، لعلة الضعف والقلة ثم أمرهم بالجهاد فى أيام قوتهم وكثرتهم ، لعلة القوة والكثرة. وأنت خبير بأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما وأن انتفاء الحكم لانتفاء علته لا يعد نسخا ، بدليل أن وجوب التحمل عند الضعف والقلة لا يزال قائما إلى اليوم ، وأن وجوب الجهاد والدفاع عند القوة والكثرة لا يزال قائما كذلك إلى اليوم.

(ثانيها) توهمهم أن إبطال الإسلام لما كان عليه أهل الجاهلية ، من قبيل ما نسخ الإسلام فيه حكما بحكم ، كإبطال نكاح نساء الآباء ، وكحصر عدد الطلاق فى ثلاث ، وعدد الزواج فى أربع ، بعد أن لم يكونا محصورين ، مع أن هذا ليس نسخا ، لأن النسخ رفع حكم شرعى ، وما ذكروه من هذه الأمثلة ونحوها رفع الإسلام فيه البراءة الأصلية وهى حكم عقلى لا شرعى :

(ثالثها) اشتباه التخصيص عليهم بالنسخ ، كالآيات التى خصصت باستثناء أو غاية مثل قوله سبحانه (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ

١٥٠

يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ومثل قوله (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ).

(رابعها) اشتباه البيان عليهم بالنسخ ، فى مثل قوله سبحانه : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ. وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) فإن منهم من توهم أنه ناسخ لقوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ، إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً). مع أنه ليس ناسخا له ؛ وإنما هو بيان لما ليس بظلم ، وببيان ما ليس بظلم يعرف الظلم ، «وبضدها تتميز الأشياء».

(خامسها) توهمهم وجود تعارض بين نصين ، على حين أنه لا تعارض فى الواقع.

وذلك مثل قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). فإن بعضهم توهم أن كلتا الآيتين منسوخة بآية الزكاة. لتوهمه أنها تعارض كلا منهما. على حين أنه لا تعارض ولا تنافى ، لأنه يصح حمل الانفاق فى كلتا الآيتين الأوليين على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقارب ونحو ذلك وتكون آية الزكاة معهما من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام. ومثل هذا لا يقوى على تخصيص العام ، فضلا عن أن ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقى لا بالنسبة إلى كل أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا.

الآيات التى اشتهرت بأنها منسوخة

قد عرفت أن المتزيدين أكثروا القول بالآيات المنسوخة غلطا منهم واشتباها. ونزيدك هنا أن بعض فطاحل العلماء تعقب هؤلاء المتزيدين بالنقد كالقاضى أبى بكر بن العربى وكجلال الدين السيوطى الذى حصر ما يصلح لدعوى النسخ من آيات القرآن فى اثنتين وعشرين آية ، ثم ذكر أن الأصح فى آيتى الاستئذان والقسمة الإحكام لا النسخ. وها هى ذى مشفوعة بالتعليق عليها ، مرتبة بترتيب المصحف الشريف :

١٥١

الآية الأولى

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قيل إنها منسوخة بقوله سبحانه : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) لأن الآية الأولى تفيد جواز استقبال غير المسجد الحرام فى الصلاة ، ما دامت الآفاق كلها لله ، وليست له جهة معينة. والثانية تفيد عدم جواز استقبال غيره فيها ، ما دامت تحتم استقبال المسجد الحرام فى أى مكان نكون فيه.

وقيل إن الآية المذكورة ليست منسوخة ، وإنما هى محكمة وهذا ما نرجحه ؛ لأنها نزلت ردا على قول اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) إذن فهى متأخرة فى النزول عن آية التحويل كما قال ابن عباس. وليس بمعقول أن يكون الناسخ سابقا على المنسوخ. ثم إن معناها هكذا إن الآفاق كلها لله ، وليس سبحانه فى مكان خاص منها ، وليس له جهة معينة فيها. وإذن فله أن يأمر عباده باستقبال ما يشاء من الجهات فى الصلاة ، وله أن يحولهم من جهة إلى جهة. وهذا المعنى ـ كما ترى ـ لا يتعارض وأن يأمر الله عباده وجوبا باستقبال الكعبة دون غيرها ، بعد أن أمرهم باستقبال بيت المقدس. وحيث لا تعارض فلا نسخ بل الآيتان محكمتان ويؤيد إحكام هذه الآية أن جملة (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وردت بنصها فى سياق الآيات النازلة فى التحويل إلى الكعبة ؛ ردا على من طعنوا فيه. اقرأ ـ إن شئت ـ قوله سبحانه (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها. قُلْ : لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ... وبعضهم يمنع التعارض ويدفع النسخ ، بأن آية (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) تفيد جواز التوجه إلى غير الكعبة فى خصوص صلاة النافلة سفرا على الدابة ، ويقول : إن هذا الحكم باق لم ينسخ. أما الآية الثانية فتفيد وجوب استقبال الكعبة فى الفرائض. وبعضهم يحمل الآية الأولى على التوجه فى الدعاء ، والثانية على التوجه فى الصلاة ، وإذن

١٥٢

لا تعارض على هذين الاحتمالين وحيث لا تعارض فلا نسخ ولكن هذين الرأيين وإن وافقا الرأى السابق فى إحكام الآية فهو مبنيان على تأويل فى معنى الآية يخالف الظاهر كما هو ظاهر. نعم إن آية (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ناسخة لما كان واجبا بالسنة من وجوب استقبال بيت المقدس ، على رأى من لا يمنع نسخ السنة بالقرآن.

الآية الثانية

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). فإنها تفيد أن الوصية للوالدين والأقربين فرض مكتوب ، وحق واجب ، على من حضرهم الموت من المسلمين. وقد اختلف فى نسخ هذه الآية وفى ناسخها. فالجمهور على أنها منسوخة وأن ناسخها آيات المواريث. وقيل إنها منسوخة بالسنة ، وهى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصية لوارث». وقيل منسوخة باجماع الأمة على عدم وجوب الوصية للوالدين والأقربين .. وقيل إنها محكمة لم تنسخ. ثم اختلف هؤلاء القائلون بالإحكام ، فبعضهم يحملها على من حرم الارث من الأقربين ، وبعضهم يحملها على من له ظروف تقضى بزيادة العطف عليه ، كالعجزة وكثيرى العيال من الورثة.

ورأيى أن الحق مع الجمهور فى أن الآية منسوخة وأن ناسخها آيات المواريث. أما القول باحكامها فتكلف ومشى فى غير سبيل ، لأن الوالدين ـ وقد جاء ذكرهما فى الآية ـ لا يحرمان من الميراث بحال ، ثم إن أدلة السنة متوافرة على عدم جواز الوصية لوارث ، محافظة على كتلة الوارثين أن تتفتت ، وحماية للرحم من القطيعة التى نرى آثارها السيئة بين من زين الشيطان لمورثهم أن يزرع لهم شجرة الضغينة قبل موته ، بمفاضلته بينهم فى الميراث عن طريق الوصية.

١٥٣

وأما القول بأن الناسخ السنة ، فيدفعه أن هذا الحديث آحادي والآحادي ظنى والظنى لا يقوى على نسخ القطعى وهو الآية .. وأما القول بأن الناسخ هو الاجماع فيدفعه ما بيناه من عدم جواز نسخ الاجماع والنسخ به ، نعم إن نسخ آية الوصية بآيات المواريث فيه شىء من الخفاء والاحتمال ، ولكن السنة النبوية أزالت الخفاء ورفعت الاحتمال ، حين أفادت أنها ناسخة ، إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول آية المواريث «إن الله أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث» .. وفى هذا المعنى ينقل عن الشافعى ما خلاصته .. «إن الله تعالى أنزل آية الوصية وأنزل آية المواريث ، فاحتمل أن تكون الوصية باقية مع المواريث واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية. وقد طلب العلماء ما يرجح أحد الاحتمالين ، فوجدوه فى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. «لا وصية لوارث» : وهذا الخبر وإن كان آحاديا لا يقوى على نسخ الآية فإنه لا يضعف عن بيانها وترجيح احتمال النسخ على احتمال عدمه فيها.

هذا ـ ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الشعبى والنخعى ذهبا إلى عدم نسخ آية الوصية (مستندين إلى أن حكمها هو الندب لا الوجوب فلا تعارض بينها وبين آية المواريث ، كما لا تعارض بينها وبين حديث : لا وصية لوارث) لأن معناه ، لا وصية واجبة وهو لا ينافى ندب الوصية وحيث لا تعارض فلا نسخ : ولكن هذا الرأى سقيم فيما نفهم ، لأنه خلاف الظاهر المتبادر من لفظ (كتب) المعروف فى معنى ، الفرضية ، ومن لفظ (حقا على المتقين) المعروف فى معنى الالزام. ومن شواهد السنة الناهية عن الوصية لوارث.

الآية الثالثة

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ، فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فإنها تفيد تخيير من يطيق الصوم بين الصوم

١٥٤

والافطار مع الفدية : وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) المفيد لوجوب الصوم دون تخيير على كل صحيح مقيم من المسلمين.

وقيل إن الآية محكمة لم تنسخ ، لأنها على حذف حرف النفى ، والتقدير «وعلى الذين لا يطيقونه فدية طعام مسكين». ويدل على هذا الحذف قراءة «يطوقونه» بتشديد الواو وفتحها ، والمعنى يطيقونه بجهد ومشقة. وإذن لا تعارض ولا نسخ. ويرد هذا الرأى (أولا) بأنه مبنى على أن فى الآية حذفا ، ولا ريب أن الحذف خلاف الأصل. أما قراءة «يطوقونه» بالتشديد ، فلا تدل على مشقة تصل بصاحبها إلى جواز الفطر بعد إيجاب الصوم من غير تخيير ، بل تدل على مشقة ما ، ولا شك أن كل صوم فيه مشقة ما خصوصا أول مشروعيته (ثانيا) أن أبا جعفر النحاس روى فى كتابه الناسخ والمنسوخ عن أبى سلمة بن الأكوع أنه قال : لما نزلت هذه الآية : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) كان من شاء منا صام ومن شاء أن يفتدى فعل ، حتى نسختها الآية بعدها.

الآية الرابعة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فان هذا التشبيه يقتضى موافقة من قبلنا فيما كانوا عليه من تحريم الوطء والأكل بعد النوم ليلة الصوم. وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ). كذلك قالوا ، ولكنك تعلم أن التشبيه لا يجب أن يكون من كل وجه ، وإذن فالتشبيه فى الآية الأولى لا يقضى بما ذكروه من وجوب موافقة أهل الكتاب فيما كانوا عليه فى صومهم ، استدلالا بالتشبيه فى قوله (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وعلى هذا فلا تعارض بين الآيتين ، وحيث انتفى التعارض انتفى النسخ.

١٥٥

الآية الخامسة

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. قُلْ : قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) فإنها تفيد حرمة القتال فى الشهر الحرام. وقد روى ابن جرير عن عطاء بن ميسرة أنها منسوخة بقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً). ونقل أبو جعفر النحاس إجماع العلماء ما عدا عطاء على القول بهذا النسخ. ووجه ذلك أن آية (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أفادت الإذن بقتال المشركين عموما. والعموم فى الأشخاص يستلزم العموم فى الأزمان. وأيدوا ذلك بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاتل هوازن بحنين وثقيفا بالطائف فى شوال وذى القعدة سنة ثمان من الهجرة. ولا ريب أن ذا القعدة شهر حرام ، وقيل إن النسخ لم يقع بهذه الآية ، إنما وقع بقوله سبحانه : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). فإن عموم الأمكنة يستلزم عموم الأزمنة.

ذلك رأى الجمهور. وهو محجوج فيما نفهم بما ذهب إليه عطاء وغيره ، من أن عموم الأشخاص فى الآية الأولى ، وعموم الأمكنة فى الآية الثانية ، لا يستلزم واحد منهما عموم الأزمنة. وإذن فلا تعارض ولا نسخ. بل الآية الأولى نبهت على العموم فى الأشخاص ، والثانية نبهت على العموم فى الأمكنة. وكلاهما غير مناف لحرمة القتال فى الشهر الحرام ، لأن عموم الأشخاص وعموم الأمكنة يتحققان فى بعض الأزمان الصادق بما عدا الأشهر الحرم. ويؤيد ذلك أن حرمة القتال فى الشهر الحرام لا تزال باقية ، اللهم إلا إذا كان جزاء لما هو أشد منه ، فإنه يجوز حينئذ لهذا العارض ، كما دل عليه قول الله فى الآية نفسها : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).

١٥٦

الآية السادسة

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ ، مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) فإنها منسوخة بقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) لأن الآية الأولى أفادت أن من توفى عنها زوجها يوصى لها بنفقة سنة وبسكنى مدة حول ما لم تخرج. فإن خرجت فلا شىء لها. وأما الثانية فقد أفادت وجوب انتظارها أربعة أشهر وعشرا. ولازم هذا أنه لا يجوز لها أن تخرج فى هذه المدة أو تتزوج.

وقيل إن ذلك تخصيص لا نسخ ؛ فإن المرأة قد تكون عدتها سنة كاملة إذا كانت حاملا ، ويرد هذا بأن الآية الأولى تفيد اعتداد المرأة حولا كاملا إذا كانت غير حامل أو كانت حاملا ولم يمكث حملها سنة. والآية الثانية قد رفعت هذا جزما. وذلك محقق للنسخ. على أن الاعتداد حولا كاملا فيما إذا كانت المرأة حاملا ، ليس لدلالة الآية الأولى عليه ، بل لآية (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وهذا لا يتقيد بعام ، بل ربما يزيد أو ينقص.

وقيل : إن الآية الأولى محكمة ، ولا منافاة بينها وبين الثانية ، لأن الأولى خاصة فيما إذا كان هناك وصية للزوجة بذلك ولم تخرج ولم تتزوج. أما الثانية ففي بيان العدة والمدة التى يجب عليها أن تمكثها. وهما مقامان مختلفان .. ويرد هذا بأن الآية الأولى تجعل للمتوفى عنها حق الخروج فى أى زمن وحق الزواج ، ولم تحرم عليها شيئا منهما قبل أربعة أشهر وعشر. أما الثانية فقد حرمتهما وأوجبت عليها الانتظار ، دون خروج وزواج طول هذه المدة ، فالحق هو القول بالنسخ ، وعليه جمهور العلماء.

١٥٧

الآية السابعة

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فإنها منسوخة بقوله سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) لأن الآية الأولى تفيد أن الله يكلف العباد حتى بالخطرات التى لا يملكون دفعها ، والآية الثانية تفيد أنه لا يكلفهم بها ، لأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها. والذى يظهر لنا أن الآية الثانية مخصصة للأولى وليست ناسخة. لأن إفادة الأولى لتكليف الله عباده بما يستطيعون مما أبدوا فى أنفسهم أو أخفوا ، لا تزال هذه الإفادة باقية ، وهذا لا يعارض الآية الثانية حتى يكون ثمة نسخ.

وقال بعضهم : إن الآية محكمة ، لأنها خاصة بكتمان الشهادة وإظهارها. ويرده أنه لا دليل على هذا التخصيص.

وقال بعضهم : إنها محكمة مع بقائها على عمومها ، والمعنى أن الله يحاسب المؤمنين والكافرين بما أبدوا وبما أخفوا ، فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين والمنافقين ... ويرده أن هذا العموم لا يسلم بعد ما تقرر من أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، سواء أكانت نفسا مؤمنة أم كافرة. لأن لفظ «نفسا» نكرة فى سياق النفى فيعم.

الآية الثامنة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) قال السيوطى : ليس فى آل عمران آية يصح فيها دعوى النسخ إلا هذه الآية. فقد قيل إنها منسوخة قول الله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). اه.

والذى يبدو لنا أنها غير منسوخة ، لأن التعارض الحقيقى بين الآيتين غير مسلم ، فإن تقوى الله حق تقواه المأمور بها فى الآية الأولى ، معناها الإتيان بما يستطيعه المكلفون من هداية الله ، دون ما خرج عن استطاعتهم ، وقد ورد تفسيرها بأن يحفظ الإنسان رأسه وما وعى ،

١٥٨

وبطنه وما حوى ، ويذكر الموت والبلى. ولا ريب أن ذلك مستطاع بتوفيق الله. فإذن لا تعارض بينها وبين قوله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وحيث لا تعارض فلا نسخ.

الآية التاسعة

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) قيل إنها منسوخة بآيات المواريث. والظاهر أنها محكمة ، لأنها تأمر بإعطاء أولى القربى واليتامى والمساكين الحاضرين لقسمة التركة شيئا منها. وهذا الحكم باق على وجه الندب ما دام المذكورون غير وارثين. ولا تعارض ولا نسخ.

نعم لو كان حكم إعطاء هؤلاء هو الوجوب ، ثم رفع بآيات المواريث ، وتقرر الندب بدليل آخر بدلا من الحكم الأول ، فلا مفر من القول بالنسخ. ولكن المأثور عن ابن عباس أن الآية محكمة غير أن الناس تهاونوا بالعمل بها. وهذا يجعلنا نرجح أن الأمر فى الآية كان للندب لا للوجوب من أول الأمر ، حتى يتأتى القول بإحكامها ؛ فتأمل.

الآية العاشرة

(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) نسخها قول الله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ). وقيل إنها غير منسوخة ، لأنها تدل على توريث مولى الموالاة. وتوريثهم باق غير أن رتبتهم فى الإرث بعد رتبة ذوى الأرحام. وبذلك يقول فقهاء العراق.

١٥٩

الآية الحادية عشرة

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً* وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) فإنها منسوخة بآية النور ، وهى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك بالنسبة إلى البكر رجلا كان أو امرأة ، أما الثيب من الجنسين فقد نسخ الحكم الأول بالنسبة إليهما ، وأبدل بالرجم الذى دلت عليه تلك الآية المنسوخة التلاوة ، وهى «الشيخ والشيخة. إذا زنيا فارجموهما البتة» وقد دلت عليه السنة أيضا.

وبعضهم يقول بالإحكام وعدم النسخ ، ذاهبا إلى أن الآية الأولى جاءت فيمن أتين مواضع الريب والفسوق ولم يتحقق زناهن. أما الثانية فإنها فيمن تحقق زناهن. ولكن هذا مردود من وجهين : «أحدهما» أنه تأويل يصادم الظاهر بدون دليل ، لأن قوله : (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) يتبادر منه مقارفتهن نفس الفاحشة ، لا مجرد غشيان مكانها والأخذ بأسبابها. (والآخر) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ «خذوا عنى ، خذوا عنى ، قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).

الآية الثانية عشرة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) قيل إن قوله «ولا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ قوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) وقد سبق القول

١٦٠