مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

(سادسا) أن الحكم الأشد الناسخ ، قد يكون هو المصلحة للعباد ، دون الحكم الأخف المنسوخ ، لأنه على رغم شدته وثقله يشتمل على داعية لامتثاله لا توجد فى الحكم الأول وقت النسخ. من ترغيب أو ترهيب ، أو تجليلة لمزايا وفوائد من وراء الحكم الجديد فى الدنيا أو فى الآخرة. تأمل آيتى التحريم النهائى للخمر وما انطوتا عليه من هذه الألوان ، ثم تأمل آيات مشروعية الجهاد وما فيها من ضروب الترغيب والترهيب وتحريك العزائم إلى السخاء بالنفوس والأموال إلى غير ذلك مما تدركه فى الأحكام الناسخة بأقل تبصر وإمعان.

الشبهة الثانية ودفعها :

يقول المانعون لنسخ الأخف بالأثقل سمعا فقط : إن الله تعالى يقول : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ). ومعنى هذا أن الشدائد التى كانت على من قبلنا رفعها الله عنا. ونسخ الأخف بالأشد مخالف لهذا الوعد الصريح ، فهو ممنوع سمعا.

وندفع هذه الشبهة بأن قصارى ما تفيده هذه الآية أن الله تعالى أعفى هذه الأمة المحمدية من أن يكلفها بما يصل فى شدته إلى تلك الأحكام القاسية التى فرضها على الأمم الماضية ، والتى ألزمهم بها إلزاما كأنها أغلال فى أعناقهم. وهذا لا ينفى أن تكون بعض الأحكام فى الشريعة الإسلامية أشد من بعض ، وأن ينسخ الله فيها حكما أخف بحكم أثقل منه ، ولكن لا يصل فى شدته وصرامته إلى مثل أحكام الماضين فى شدتها وصرامتها. فوعد الله بالتخفيف على هذه الأمة حق ، ونسخه حكما بما هو أثقل منه حق.

وخلاصة الجواب أن شدة بعض الأحكام الإسلامية إنما هو بالنسبة إلى بعضها الآخر. أما بالنسبة إلى أحكام الشرائع الأخرى فهى أخف منها قطعا.

الشبهة الثالثة ودفعها :

يقول هؤلاء أيضا : إن الله تعالى يقول : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ

١٢١

الْعُسْرَ) ويقول : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) ولا تيسير ولا تخفيف فى نقلنا من الأخف إلى الأثقل.

وندفع هذه الشبهة (أولا) بأن قصارى ما يدل عليه هذان النصان الكريمان ، هو أن الأحكام الشرعية كلها ميسرة مخففة فى ذاتها ، لا إرهاق فيها للمكلفين ، وإن كانت فيما بينها متفاوتة ، فبعضها أثقل أو أخف بالنسبة إلى بعض.

(ثانيا) أنه لو كان مفهوم الآية هو ما فهموا من التيسير والتخفيف المطلقين ، لانتقض ذلك بأصل التكليف ، لأن التكليف إلزام ما فيه كلفة.

(ثالثا) أن النص الأول : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) قد سيق فى معرض خاص ، هو الترخيص للمرضى والمسافرين أن يفطروا ويقضوا عدة من أيام أخر. وعلى هذا يكون معناه يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، فى ترخيصه للمرضى والمسافرين أن يفطروا رمضان ويقضوا عدة ما أفطروا .. وكذلك النص الثانى ، (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) قد سيق فى معرض خاص ، هو إباحة الله لعباده ، أن يتزوجوا الفتيات المؤمنات من الإماء ، إذا لم يستطيعوا طولا أن يتزوجوا الحرائر من المحصنات المؤمنات ، وبشرط أن يخشوا العنت أى يخافوا الوقوع فى الزنى.

وعلى هذا فالتخفيف المذكور فى هذا السياق ، معناه التخفيف بالترخيص لهؤلاء الفقراء الخائفين من العنت ، أن يتزوجوا إماء الله المؤمنات.

الشبهة الرابعة ودفعها :

يقول هؤلاء أيضا : إن قوله سبحانه (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يفيد أن النسخ لا يكون إلا بالأخف ، لأنه الخير ، أو بالمساوى ، لأنه المثل ، أما الأثقل فلا.

١٢٢

وندفع هذه الشبهة بأن الخيرية والمثلية فى الآية الكريمة ليس المراد منهما ما فهموا من الخفة عن الحكم الأول أو المساواة به. بل المراد بهما الخيرية والمثلية فى النفع والثواب ، على ما مر تفصيله. وعلى هذا فما المانع من أن يكون الأثقل الناسخ أكثر فائدة فى الدنيا ، وأعظم أجرا فى الآخرة من الأخف المنسوخ؟ أو يكون مساويا له فى الثواب ومماثلا له فى الأجر؟.

نسخ الطلب قبل التمكن من امتثاله

علماؤنا اتفقوا على أن نسخ الطلب قبل التمكن من العلم به ممتنع ، كما اتفقوا على أن نسخه بعد تمكن المكلف من امتثاله جائز ، لم يخالف فى ذلك إلا الكرخى فيما روى عنه من امتناع النسخ قبل تحقق الامتثال بالفعل .. أما نسخ الطلب بعد التمكن من العلم وقبل التمكن من الامتثال ، ففيه اختلاف العلماء : ذهب جمهور أهل السنة ومن وافقهم إلى جوازه ، وذهب جمهور المعتزلة ومن وافقهم إلى منعه. مثال ذلك قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فإن جمهورنا يجوزون نسخ وجوب الوصية المذكور فى هذه الآية بعد التمكن من العلم به وقبل أن يحضر الموت أحدا من المكلفين. أما جمهور المعتزلة فيقولون باستحالة نسخ هذا التشريع إلا بعد احتضار أحد المكلفين وتمكنه من الوصية. ولا يكتفى الكرخى فيما روى عنه بمجرد تمكن المكلف من الوصية ، بل لا بد عنده من أن يوصى بالفعل ، حتى يجوز النسخ بعده.

أدلة المثبتين لهذا النوع من النسخ :

إن الذين أجازوا هذا النوع من النسخ ، استدلوا له بثلاثة أدلة :

١٢٣

(أحدها) أن نسخ الطلب قبل التمكن من امتثاله لا يترتب على وقوعه محال عقلى. وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلا.

(ثانيها) أن النسخ قبل التمكن من الفعل ، مانع كسائر الموانع التى يمنع العبد منه ، إذ لا فارق بينه وبينها يؤثر. فلو لم يجز هذا النوع من النسخ لم يجز أن يأمر الله عبده بفعل فى مستقبل زمانه ثم يعوقه عنه بمرض أو نوم أو نحوهما ، لكن المشاهد غير ذلك باعتراف المانعين أنفسهم ، فكثيرا ما تحول الحوائل بين المرء وما أمره الله فى مستقبله. فليجز هذا النوع من النسخ أيضا.

(ثالثها) أن هذا النوع من النسخ قد وقع فعلا. والوقوع دليل الجواز وزيادة.

ثم إن لهم على وقوع هذا النوع من النسخ دليلين :

(الدليل الأول) أن الله تعالى حين حدثنا عن إبراهيم وولده إسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما. قال : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ : يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟ قالَ : يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنادَيْناهُ : أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) فأنت ترى فى هذا العرض الكريم ، لقصة إبراهيم الخليل وولده الذبيح إسماعيل ما يفيد أنه سبحانه قد أمر إبراهيم بذبح ولده ، ثم نسخ ما أمره به قبل أن يتمكن من تنفيذه وفعله.

١٢٤

أما أنه أمره بالذبح فيرشد إليه :

(أولا) قول إبراهيم لولده : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟) لأن رؤيا الأنبياء حق من ناحية ، ولأن مفاوضة إبراهيم لولده فى هذا الأمر الجلل ، تدل على أن هذا أمر لا بد منه من ناحية أخرى ، وإلا لما فاوضه تلك المفاوضة الخطيرة المزعجة التى هى أول مراحل السعى إلى التنفيذ.

(ثانيا) أن إسماعيل أجاب أباه بإعلان خضوعه وامتثاله لأمر ربه (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

(ثالثا) أن إبراهيم اتخذ سبيله إلى مباشرة الأسباب القريبة للذبح ، حيث أسلم ولده ، وأسلم إسماعيل نفسه (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)

(رابعا) أن الله ناداه بأنه قد صدّق الرؤيا ، أى فعل فعل من صدقها وحققها. ولو لم يكن هذا أمرا من الله واجب الطاعة ، ما مدحه الله على تصديقه لرؤياه ، وسعيه إلى تحقيق ما أمره مولاه!

(خامسا) أن الله فدى إبراهيم بذبح عظيم. فلو لم يكن ذبح إسماعيل مطلوبا ؛ لما كان ثمة داع يدعو إلى الفداء.

(سادسا) أن الله امتدح إبراهيم بأنه من المؤمنين ومن المحسنين المستحقين لإكرام الله إياه بالفرج بعد الشدة ، وقرر سبحانه أن هذا هو البلاء المبين ، وكافأه بأنه ترك عليه فى الآخرين «سلام على إبراهيم». وكل ذلك يدل على أن الله أمره فأطاع ، وابتلاه أشد الابتلاء فاستسلم وانصاع.

وأما أن الله نسخ هذا الأمر قبل تمكن إبراهيم من امتثاله ، فيرشد إليه محاولة إبراهيم للتنفيذ بالخطوات التى خطاها والمحاولات التى حاولها ، وهى مفاوضة ولده حتى يستوثق منه أو يتخذ إجراء آخر ، ثم استسلامهما بالفعل لحادث الذبح ؛ وصرعه فلذة كبده وقرة عينه على جبينه كما يضع السكين ويذبحه كما أمره رب العالمين. ولكن جاء النداء بالفداء قبل التمكن

١٢٥

من الامتثال وتنفيذ الذبح. وبعيد كل البعد ، بل محال فى مجرى العادة ، أن يكون إبراهيم قد وجد فرصة يتمكن فيها من الامتثال قبل ذلك ثم تركها ، حتى يقال : إن النسخ بالفداء حصل بعد التمكن من الذبح فثبت أن أمره بالذبح قد نسخ بالفداء قبل التمكن من الامتثال.

ووقوع هذا دليل الجواز ، بل هو أول دليل على الجواز.

(الدليل الثانى) أنه جاء فى السنة المطهرة ، ما يفيد أن الله تعالى فرض ليلة المعراج على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أمته خمسين صلاة ، ثم نسخ الله فى هذه الليلة نفسها خمسا وأربعين منها ، بعد مراجعات تسع من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين موسى وربه. وواضح أن هذا النسخ فى تلك المرات التسع كان من قبل أن يتمكن النبى وأمته من الامتثال. وهذا الوقوع أول دليل على الجواز كما هو مقرر.

شبهات المنكرين ودفعها

للمنكرين شبهات كثيرة ، منها ما صاغوه فى صورة أدلة على إنكارهم ، ومنها ما وجهوه إلى أدلة المثبتين السابقة فى صورة مناقشة لها وإبطال لدلالتها. وها هي ذى نضعها بين يديك مشفوعة بما يدحضها.

الشبهة الأولى ودفعها :

يقولون : لو نسخ الطلب قبل التمكن من امتثاله ، لكان طلبا مجردا من الفائدة ، ومثل هذا يكون عبثا. والعبث على الله محال.

وندفع هذه الشبهة بأن الطلب فى هذه الصورة لم يتجرد من الفائدة كما يزعمون. بل إن من فوائده وحكمته ابتلاء الله لعباده : أيقبلون أم يرفضون ، فإن قبلوه وأذعنوا له وآمنوا به ووطنوا أنفسهم على امتثاله فلهم أجر كبير ، وظهر فضلهم كما ظهر فضل إبراهيم فى ابتلائه بذبح ولده إسماعيل. مع أنه لم يتمكن من تنفيذ ما أمر به. ومن أبى من عباد الله مثل هذا الطلب بان ضلاله وخذلانه واستحق الحرمان والهوان ، عن عدل وإنصاف ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

١٢٦

الشبهة الثانية ودفعها :

يقولون : إن الفعل الذى ينسخ طلبه قبل التمكن من امتثاله. إما أن يكون مطلوبا وقت ورود النسخ أولا فإن كان مطلوبا وقت ورود النسخ أدى ذلك إلى توارد النفى والإثبات على شىء واحد ، وهو محال وإن لم يكن الفعل مطلوبا وقت ورود النسخ فلا نسخ ، لأن النسخ لا بد لتحققه من حكم سابق يرد عليه ويرفعه. والفرض هنا أنه ورد والحكم مرتفع.

وندفع هذه الشبهة (أولا) بأن الفعل لم يكن مطلوبا وقت ورود الناسخ. ولكن هذا لا ينفى حقيقة النسخ كما زعموا بل هو المحقق له ؛ لأن النسخ كالعلة فى ارتفاع الحكم ، والمعلول مقارن للعلة فى الزمن ، وإن تأخر عنها فى التعقل فالحكم إذن لا بد أن يرتفع عند ورود الناسخ بسبب وروده ، وإلا لم يعقل النسخ.

(ثانيا) أن هذه الشبهة تجرى فى كل صورة من صور النسخ ، وحينئذ لا مفر لهم من إحدى اثنتين : أن يمنعوا النسخ مطلقا ، مع أنهم لا يقولون به ، أو يكونوا فى شبهتهم هذه مبطلين.

الشبهة الثالثة ودفعها :

يقولون : إذا قال الشارع : «صوموا غدا» لزم أن يكون صوم الغد حسنا وفيه مصلحة ، فإذا نهى عنه قبل مجىء الغد لزم أن يكون قبيحا فيه مفسدة واجتماع الحسن والقبح فى شىء واحد فى آن واحد محال.

وندفع هذه الشبهة (أولا) بأنها قامت على أساس باطل ، هو قاعدة الحسن والقبح العقليين. وتقرير بطلان هذه القاعدة معروف عند الأشاعرة من أهل السنة.

(ثانيا) أن نهى الشارع عن الشيء المطلوب قبل التمكن من أدائه ، يتبين منه أن ذلك الشيء قبيح عقلا متى نهى الله عنه. أما طلبه قبل ذلك فلا يدل على حسنه هو ، إنما يدل على حسن ما اتصل به مما استلزمه ذلك الطلب ، وهو إيمان العباد به ، واطمئنان

١٢٧

نفوسهم إليه وعزمهم على تنفيذه. وفى ذلك ما فيه من ترويضهم على الطاعة ، وتعويدهم الامتثال ، وإثابتهم على حسن نياتهم وكأن المأمور به فى هذه الصورة هو المقدمات التى تسبق الفعل لا نفس الفعل ؛ بدليل نسخ الفعل قبل التمكن من امتثاله ، لكنهم أمروا بالفعل نفسه ، لأن عزمهم عليه والإتيان بمقدماته لا يتأتى إلا بالأمر على هذه الصورة فتأمل.

الشبهة الرابعة ودفعها :

يقولون : إن استدلالكم بقصة إبراهيم وولده الذبيح ، استدلال لا يسلم من جملة مؤاخذات.

(أولها) أن رؤيا إبراهيم ما هى إلا رؤيا رآها. فخيل إليه أنه مأمور بالذبح والحقيقة أنه لم يؤمر به.

والجواب أن رؤيا الأنبياء وحى حق ، لا باطل فيه ولا تخييل. والوحى يصيبهم ضرورى فى الموحى إليه بأن ما أوحى إليه حق. والأنبياء لا يتمثل لهم الشيطان ، ولا سلطان له عليهم لا فى اليقظة ولا فى المنام.

ومن ذا الذى يهمل عقله ، ويسفه نفسه ، فيصدق أن شيخا كبيرا فى جلالة إبراهيم خليل الرحمن يتأثر بخيال فاسد ، ويصدر عن وهم كاذب ، فى أن يقدم على أكبر الكبائر وهو قتل ولده ، وذبح وحيده وفلذة كبده ، بعد أن بشره مولاه بأنه غلام حليم ، ورزقه إياه على شيخوخة وهرم ، وحقق فيه ما بشره به فشب الوليد وترعرع ، حتى بلغ مع أبيه السعى فكان إبراهيم يراه وهو يسعى معه ، فيملأ عينه نورا ، وقلبه بهجة وحبورا.

(ثانيا) قالوا : إن إبراهيم على فرض كون رؤياه حقا ، لم يك مأمورا بذبح ولده ، إنما كان مأمورا بالعزم على الذبح فحسب ، امتحانا له بالصبر على هذا العزم. ولا ريب أن إبراهيم بمحاولته التى حاولها وصورها القرآن ، قد عزم وأدى ما وجب عليه ، فلا نسخ.

١٢٨

والجواب من وجهين : (أحدهما) أن الامتحان الذى ذكروه ، لا يتحقق إلا بالعزم على ما أوجبه عليه لأن العزم على ما ليس بواجب لا يجب. وإذن فإبراهيم كان قد وجب عليه ذبح ولده ، حتى يكون عزمه على ذلك واجبا يتحقق به معنى الابتلاء والاختيار.

(والآخر) أن المأمور به لو كان هو العزم دون الذبح ، لما كان هناك معنى للفداء لأن إبراهيم قد فعل كل ما أمره به ربه ، لم يترك شيئا ولم يخفف الله عنه شيئا. على زعمهم.

(ثالثها) قالوا : إن الأمر فى الحقيقة كان بمقدمات الذبح من إضجاع إبراهيم لولده ، وصرعه إياه على جبينه ، وإمراره لسكينه ، وما أمر إبراهيم بالذبح.

والجواب أن إبراهيم قد جاء بهذه المقدمات ، فإذا كانت هى المأمور به دون الذبح ، فقد أدى إبراهيم كل ما عليه ، فأى معنى للفداء إذن؟

(رابعها) قالوا : إن إبراهيم على فرض أنه كان مأمورا بالذبح نفسه ، قد بذل وسعه فى الامتثال والتنفيذ. ولكن الله تعالى قلب عنق الذبيح نحاسا أو حديدا حتى لا ينقطع. فسقط التكليف عن إبراهيم لهذا العذر المانع لا لوجود الناسخ.

والجواب من ثلاثة أوجه : (الأول) أن ما ذكروه من انقلاب عنقه حديدا أو نحاسا ، خبر موضوع ورواية هازلة لا أصل لها. (الثانى) أن وجوب الذبح لو سقط لهذا العذر ، لما كان هناك معنى للفداء. (الثالث) أنهم إذا جوزوا أن يأمرنا الله تعالى بالشىء ثم يحول بيننا وبينه بعذر من الأعذار ، فلا معنى لأن ينكروا أن يأمرنا الله بالشىء ثم يحول بيننا وبينه بالناسخ ، لأنه ليس بين الحيلولتين فارق مؤثر.

(خامسها) قالوا : إن إبراهيم قد أدى الواجب وذبح ولده فعلا ، ولكن الجرح قد اندمل ، وعنق الذبيح قد اتصل والتأم ، فلا نسخ.

(٩ ـ مناهل العرفان ٢)

١٢٩

والجواب (أولا) أن هذه الرواية موضوعة أيضا ، بل هى أدخل فى الكذب وأبعد عن ظاهر آيات القصة من الرواية السابقة. ولو حصل ذلك لحدثنا القرآن به ، لأنه ليس أقل شأنا من أمر الفداء ، أو لحدثنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم به على الأقل. ولو كان النقل متواترا ؛ لأن مثله مما تتوافر الدواعى على نقله وتواتره.

(ثانيا) أن هذا الواجب إذا كان قد أدى على أتم وجوهه ، وذبح إبراهيم ولده بالفعل ، ولم يحدث مانع ولم يوجد ناسخ ، فأى معنى للفداء؟

(سادسها) قالوا : لا نسلم أن وجوب الذبح قد سقط عن إبراهيم بورود الفداء ، بل هو باق حتى يذبح الفداء ، فلو قصر فى ذبحه لأثم إثم من كلف بذبح ولده ولم يذبحه ، ولو كان وجوب ذبح الولد مرتفعا بورود الفداء ما صح تسمية الفداء فداء ، كما لم يصح تسمية استقبال الكعبة بعد استقبال بيت المقدس فداء وذلك لأن حقيقة الفداء لا بد فيها من أمرين يقوم أحدهما مقام الآخر فى تلقى المكروه. وعلى هذا لا نسخ.

والجواب ، أن هذا كلام أشبه باللغو ، فإنهم لا يستطيعون أن ينكروا أن إبراهيم لو ذبح ولده بعد نزول الفداء كان آثما. فيكون ذبحه إياه وقتئذ حراما وقد كان قبل نزول الفداء واجبا. وينطبق عليه تمام الانطباق أنه رفع حكم شرعى بدليل شرعى. ولا معنى للنسخ إلا ذلك.

الشبهة الخامسة ودفعها :

يقولون : إن استدلالكم بنسخ فرضية الصلوات الخمسين فى ليلة المعراج ، استدلال باطل ، لأنه خبر غير ثابت. وجمهور المعتزلة ينكرون المعراج جملة. ومن أثبته منهم نفى خبر فرضية الصلوات الخمسين وما ورد عليها من نسخ. وقال : إن ذلك من وضع القصاص. واستدل على أنها زيادة موضوعة بأنها تقتضى نسخ الحكم قبل التمكن من العلم به ، وهو ممنوع بالإجماع. ووجه هذا الاقتضاء أن فرض الخمسين صلاة لم يكن على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، بل

١٣٠

كان عليه وعلى أمته معه. وقد نسخ قبل أن تعلم به الأمة. وعلى تسليم صحة هذه الزيادة لا نسلم أن ذلك كان فرضا على العزم والتعيين ، بل فوض الله تعالى ذلك إلى اختيار الرسول ومشيئته. فإن اختار الخمسين فرضها ، وإن اختار الخمس فرض الخمس.

وندفع هذه الشبهة (أولا) بأن خبر المعراج ثابت من طرق صحيحة متعددة ، لا من طريق واحد. وإنكار أهل الأهواء والبدع له ، لا يغض من قيمة ثبوته ، بل يغض من قيمتهم هم. قال عبد الظاهر البغدادى : وليس إنكار القدرية خبر المعراج إلا كإنكارهم خبر الرؤية والشفاعة وعذاب القبر والحوض والميزان. والخبر الصحيح لا يرد يطعن أهل الأهواء كما لم يرد خبر المسح على الخفين بطعن الروافض والخوارج فيه ، وكما لم يرد خبر الرجم بإنكار الخوارج له.

(ثانيا) أن هذه الزيادة ثابتة فى الصحيحين وغيرهما. وعلى فرض خلو بعض الروايات منها ، فإن ذلك لا يضيرها لأن زيادة الثقة مقبولة ، وهذه رواية ثقات عدول ضابطين بلغوا شأوا بعيدا من الثقة والعدالة والضبط ، حتى روى البخارى ومسلم عنهم فى صحيحيهما ، وحسبك برجال البخارى ومسلم فى الصحيحين.

(ثالثا) أن قولهم : هذا نسخ للحكم قبل تمكن الأمة من العلم به ، لا يفيدهم شيئا ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرض الله عليه الخمسين صلاة فى كل يوم وليلة كما فرضها على أمته.

وقد علم الرسول بذلك طبعا ، ونسخ الله هذا الفرض بعد علم الرسول به وقبل تمكنه من امتثاله. وذلك كاف فى إثبات ما نحن بسبيله من نسخ الطلب قبل التمكن من الامتثال.

(رابعا) أن قولهم : إن فرض الخمسين لم يكن فرضا عزما ، كلام فاسد لا برهان لهم به ، بل نفس الرواية ترد عليهم ، وتثبت أن الأمر لم يوكل إلى مشيئة الرسول ، إن اختار الخمسين فرضها الله خمسين ، وإن اختار الخمس فرضها الله خمسا كما يزعمون. ذلك أن الله قال له فى هذا المعرض : «فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة» وقبل الرسول

١٣١

ذلك طائعا مختارا ، وهبط على اسم الله ، حتى إذا لقى موسى سأله موسى ما فعل ربك؟ قال : فرض على وعلى أمتى خمسين صلاة فقال له موسى : ارجع إلى ربك واسأله التخفيف ، وذكر له أنه خبر بنى إسرائيل من قبله فعجزوا وما زال به حتى رجع إلى مقام المناجاة ، وسأل التخفيف من مولاه ، فحط عنه خمسا ، وعاد إلى موسى فراجعه ، وما زال يرجع بين موسى وربه ، وفى كل مرة يحط الله عنه خمسا ، حتى لم يبق إلا خمس من الخمسين. وأشار عليه موسى أيضا أن يرجع ويسأل التخفيف ، فاعتذر بأنه سأل حتى استحيى. فهل بعد ذلك كله يصح فى الأذهان أن يقال أو أن يفهم أن فرض الخمسين لم يكن فرضا عزما ، وأن الله فوض الأمر فى اختيار الخمسين أو الخمس إلى مشيئة رسوله؟ (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً).

النسخ فى دوراته بين الكتاب والسنة

النسخ فى الشريعة الإسلامية قد يرد به القرآن وقد ترد به السنة. والمنسوخ كذلك قد يرد به القرآن وقد ترد به السنة. فالأقسام أربعة.

١ ـ نسخ القرآن بالقرآن

(القسم الأول) نسخ القرآن بالقرآن. وقد أجمع القائلون بالنسخ من المسلمين على جوازه ووقوعه. أما جوازه فلأن آيات القرآن متساوية فى العلم بها وفى وجوب العمل بمقتضاها. وأما وقوعه فلما ذكرنا وما سنذكر من الآيات الناسخة والمنسوخة. وهذا القسم يتنوع إلى أنواع ثلاثة : نسخ التلاوة والحكم معا ، ونسخ الحكم دون التلاوة ، ونسخ التلاوة دون الحكم. وقد أشبعنا الكلام عليها فيما سبق.

١٣٢

٢ ـ نسخ القرآن بالسنة

(القسم الثانى) نسخ القرآن بالسنة. وقد اختلف العلماء فى هذا القسم بين مجوز ومانع. ثم اختلف المجوزون بين قائل بالوقوع وقائل بعدمه. وإذن يجرى البحث فى مقامين اثنين. مقام الجواز ومقام الوقوع ..

(ا) مقام الجواز :

القائلون بالجواز هم مالك وأصحاب أبى حنيفة وجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة. وحجتهم أن نسخ القرآن بالسنة ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره. أما الأول فظاهر ، وأما الثانى فلأن السنة وحى من الله كما أن القرآن كذلك ، لقوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ولا فارق بينهما إلا أن ألفاظ القرآن من ترتيب الله وإنشائه ؛ وألفاظ السنة من ترتيب الرسول وإنشائه ، والقرآن له خصائصه وللسنة خصائصها. وهذه الفوارق لا أثر لها فيما نحن بسبيله ، ما دام أن الله هو الذى ينسخ وحيه بوحيه. وحيث لا أثر لها ، فنسخ أحد هذين الوحيين بالآخر ، لا مانع يمنعه عقلا كما أنه لا مانع يمنعه شرعا أيضا ، فتعين جوازه عقلا وشرعا.

هذه حجة المجيزين. أما المانعون ـ وهم الشافعى وأحمد فى إحدى روايتين عنه وأكثر أهل الظاهر ـ فيستدلون على المنع بأدلة خمسة ، وها هي ذى مشفوعة بوجوه نقضها.

(دليلهم الأول) أن الله تعالى يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). وهذا يفيد أن وظيفة الرسول منحصرة فى بيان القرآن. والسنة إن نسخت القرآن لم تكن حينئذ بيانا له ، بل تكون رافعة إياه.

١٣٣

وننقض هذا الاستدلال (أولا) بأن الآية لا تدل على انحصار وظيفة السنة فى البيان ؛ لأنها خالية من جميع طرق الحصر. وكل ما تدل عليه الآية هو أن سنة الرسول مبينة للقرآن ، وذلك لا ينفى أن تكون ناسخة له. ونظير هذه الآية قوله سبحانه (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) ، فإنه يفيد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذير للعالمين. ولا تنفى عنه أنه بشير أيضا للعالمين.

(ثانيا) أن وظيفة السنة لو انحصرت فى بيان القرآن ، ما صح أن تستقل بالتشريع من نحو إيجاب وتحريم ؛ مع أن إجماع الأمة قائم على أنها قد تستقل بذلك كتحريمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ذى مخلب من الطيور وكل ذى ناب من السباع ، وكحظره أن يورث بقوله «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة».

(ثالثها) أن السنة نفسها نصت على أنها قد تستقل بالتشريع وإفادة الأحكام ، يحدثنا العرباض بن سارية رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام فقال : «أيحسب أحدكم متكئا على أريكة يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما فى هذا القرآن. ألا إنى قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر. وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إلا إذا أعطوكم الذى فرض عليهم».

(رابعا) أنه على فرض دلالة الآية على الحصر ، فالمراد بالبيان فيها التبليغ لا الشرح. ولقد بلغ الرسول كل ما أنزله الله إلى الناس ، وهذا لا ينافى أنه نسخ ما شاء الله نسخه بالسنة.

(خامسا) أنه على فرض دلالة الآية على الحصر ، ودلالة البيان على خصوص الشرح ، فإن المراد بما أنزل إلى الناس ، هو جنسه الصادق ببعضه ، وهذا لا ينافى

١٣٤

أن تكون السنة ناسخة لبعض آخر ، فيكون الرسول مبينا لما ثبت من الأحكام ، وناسخا لما ارتفع منها.

(دليلهم الثانى) أن القرآن نفسه هو الذى أثبت أن السنة النبوية حجة ، فلو نسخته السنة لعادت على نفسها بالإبطال ، لأن النسخ رفع ، وإذا ارتفع الأصل ارتفع الفرع. والدليل على أن القرآن هو الذى أثبت حجية السنة ما نقرؤه فيه من مثل قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).

وننقض هذا الاستدلال (أولا) بأن كلامنا ليس فى جواز نسخ السنة لنصوص القرآن الدالة على حجيتها حتى ترجع على نفسها بالإبطال ، بل هو فى جواز نسخ ما عدا ذلك مما يصح أن يتعلق به النسخ.

(ثانيا) أن ما استدلوا به حجة عليهم لأن وجوب طاعة الرسول واتباعه ، يقضى بوجوب قبول ما جاء به على أنه ناسخ.

(دليلهم الثالث) أن قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) قد جاء ردا على من أنكروا النسخ وعابوا به الإسلام ونبى الإسلام بدليل قوله سبحانه قبل هذه الآية : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). ومعلوم أن روح القدس إنما ينزل بالقرآن. وإذن فلا ينسخ القرآن إلا بقرآن.

وننقض هذا الاستدلال بأن الكتاب والسنة كلاهما وحى من الله ، وكلاهما نزل به روح القدس ، بدليل قوله سبحانه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) فالذهاب إلى أن ما ينزل به روح القدس ، هو خصوص القرآن ، باطل.

(دليلهم الرابع) أن الله تعالى يقول : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ : ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي).

وهذا يفيد أن السنة لا تنسخ القرآن ، لأنها نابعة من نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٣٥

وندفع هذا الاستدلال بمثل ما دفعنا به سابقه ، وهو أن السنة ليست نابعة من نفس الرسول على أنها هوى منه وشهوة ؛ بل معانيها موحاة من الله تعالى إليه ، وكل ما استقل به الرسول أنه عبر عنها بألفاظ من عنده ، فهى وحى يوحى وليست من تلقاء نفسه على هذا الاعتبار ، وإذن فليس نسخ القرآن بها تبديلا له من تلقاء نفسه ، إنما هو تبديل بوحى.

(دليلهم الخامس) أن آية : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) تدل على امتناع نسخ القرآن بالسنة ، من وجوه ثلاثة : (أولها) أن الله تعالى قال : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله.

(ثانيها) أن قوله : «نأت» يفيد أن الآتى هو الله. والسنة لم يأت بها الله ، إنما الذى أتى بها رسوله.

(ثالثها) أن قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) يفيد أن النسخ لا يصدر إلا عمن له الاقتدار الشامل ، والملك الكامل ، والسلطان المطلق ، وهو الله وحده.

وندفع الوجه الأول من هذا الاستدلال بأن النسخ فى الآية الكريمة أعم من أن يكون فى الأحكام أو فى التلاوة ، والخيرية والمثلية أعم من أن يكونا فى المصلحة أو فى الثواب ، وقد سبق بيان ذلك. وإذن فقد تكون السنة الناسخة خيرا من القرآن المنسوخ من هذه الناحية ، وإن كان القرآن خيرا من السنة من ناحية امتيازه بخصائصه العليا دائما.

وندفع الوجه الثانى بأن السنة وحى من الله وما الرسول إلا مبلغ ومعبر عنها فقط.

فالآتى بها على الحقيقة هو الله وحده.

١٣٦

وندفع الوجه الثالث بأنا نقول بموجبه وهو أن الناسخ فى الحقيقة هو الله وحده والسنة إذا نسخته فإنما تنسخه من حيث إنها وحى صادر منه سبحانه.

شبهتان ودفعهما

(١) لقائل أن يقول : إن من السنة ما يكون ثمرة لاجتهاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا ليس وحيا أوحى إليه به ، بدليل العتاب الذى وجهه القرآن إلى الرسول فى لطف تارة وفى عنف أخرى. فكيف يستقيم بعد هذا أن نقول : إن السنة وحى من الله؟.

والجواب أن مرادنا هنا بالسنة ، ما كانت عن وحى جلى أو خفى ، أما السنة الاجتهادية ، فليست مرادة هنا البتة ، لأن الاجتهاد لا يكون إلا عند عدم النص ، فكيف يعارضه ويرفعه؟ وقد شرحنا أنواع السنة فى كتابنا (المنهل الحديث فى علوم الحديث) فارجع إليه إن شئت.

(٢) ولقائل أن يقول : إن من السنة ما كان آحاديا. وخبر الواحد مهما صح فإنه لا يفيد القطع ، والقرآن قطعى المتن ، فكيف ينسخ بالسنة التى لا تفيد القطع؟ ومتى استطاع الظن أن يرفع اليقين؟.

والجواب أن المراد بالسنة هنا السنة المتواترة دون الآحادية. والسنة المتواترة قطعية الثبوت أيضا كالقرآن. فهما متكافئان من هذه الناحية ، فلا مانع أن ينسخ أحدهما الآخر. أما خبر الواحد فالحق عدم جواز نسخ القرآن به ، للمعنى المذكور ، وهو أنه ظنى والقرآن قطعى ، والظنى أضعف من القطعى فلا يقوى على رفعه.

والقائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة الآحادية ، اعتمادا على أن القرآن ظنى الدلالة ، حجتهم داحضة ، لأن القرآن إن لم يكن قطعى الدلالة فهو قطعى

١٣٧

الثبوت ، والسنة الآحادية ظنية الدلالة والثبوت معا فهى أضعف منه فكيف ترفعه؟.

(ب) مقام الوقوع :

ما أسلفناه بين يديك كان فى الجواز. أما الوقوع فقد اختلف المجوزون فيه : منهم من أثبته ومنهم من نفاه «ولكل وجهة هو موليها» وهاك وجهة كل من الفريقين ، لتعرف أن الحق مع النافين.

استدل المثبتون على الوقوع بأدلة أربعة :

(الدليل الأول) أن آية الجلد وهى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) تشمل المحصنين وغيرهم من الزناة. ثم جاءت السنة فنسخت عمومها بالنسبة إلى المحصنين ، وحكمت بأن جزاءهم الرجم.

وقد ناقش النافون هذا الدليل بأمرين : (أحدهما) أن الذى ذكروه تخصيص لا نسخ. (والآخر) أن آية «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» هى المخرجة لصور التخصيص. وإن جاءت السنة موافقة لها وقد سبق الكلام على آية «الشيخ والشيخة» فى عداد ما نسخت تلاوته وبقى حكمه ، فلا تغفل.

(الدليل الثانى) أن قوله تعالى. (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). منسوخ

بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصية لوارث».

وقد ناقشه النافون بأمرين :

(أولهما) أن الحديث المذكور خبر آحاد ، وقد تقرر أن الحق عدم جواز نسخ القرآن بخبر الآحاد.

١٣٨

(ثانيها) أن الحديث بتمامه يفيد أن الناسخ هو آيات المواريث ، لا هذا الحديث. وإليك النص الكامل للحديث المذكور : «إن الله أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث».

ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود فى صحيحه ، ونصه «عن ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) وكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية المواريث.

(الدليل الثالث) أن قوله سبحانه : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ. فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً). منسوخ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا عنى خذوا عنى. قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».

وقد ناقشه النافون (أولا) بأن الناسخ هنا هو آية الجلد وآية الشيخ والشيخة ، وإن جاء الحديث موافقا لهما.

(ثانيا) بأن ذلك تخصيص لا نسخ ، لأن الحكم الأول جعل الله له غاية هو الموت أو صدور تشريع جديد فى شأن الزانيات. وقد حققنا أن رفع الحكم ببلوغ غايته المضروبة فى دليله الأول ليس نسخا.

(الدليل الرابع) أن نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطيور ، ناسخ لقوله سبحانه : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).

وقد ناقشه النافون بأن الآية الكريمة لم تتعرض لإباحة ما عدا الذى ذكر فيها ،

١٣٩

إنما هو مباح بالبراءة الأصلية والحديث المذكور ما رفع إلا هذه البراءة الأصلية ، ورفعها لا يسمى نسخا كما سلف بيانه.

من هذا العرض يخلص لنا أن نسخ القرآن بالسنة لا مانع يمنعه عقلا ولا شرعا. غاية الأمر أنه لم يقع لعدم سلامة أدلة الوقوع كما رأيت.

٣ ـ نسخ السنة بالقرآن

هذا هو القسم الثالث. وفيه خلاف العلماء أيضا بين تجويز ومنع على نمط ما مر فى القسم الثانى ، بيد أن صوت المانعين هنا خافت ، وحجتهم داحضة. أما المثبتون فيؤيدهم دليل الجواز كما يسعفهم برهان الوقوع. ولهذا نجد فى صف الإثبات جماهير الفقهاء والمتكلمين ، ولا نرى فى صف النفى سوى الشافعى فى أحد قوليه ومعه شرذمة من أصحابه ، ومع ذلك فنقل هذا عن الشافعى فيه شىء من الاضطراب أو إرادة خلاف الظاهر.

دليل الجواز :

استدل المثبتون على الجواز هنا ، بمثل ما استدلوا على القسم السالف ، فقالوا : إن نسخ السنة بالقرآن ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره. أما الأول فظاهر ، وأما الثانى فلأن السنة وحى كما أن القرآن وحى ولا مانع من نسخ وحى بوحى لمكان التكافؤ بينهما من هذه الناحية.

أدلة للوقوع والجواز :

واستدلوا على الوقوع بوقائع كثيرة ، كل واقعة منها دليل على الجواز كما هى دليل على الوقوع ، لما علمت من أن الوقوع يدل على الجواز وزيادة.

١٤٠