مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

وندفع هذه الشبهة (أولا) بأنا لا نسلم أن الكتاب الذى بأيديهم هو الإنجيل الذى نزل على عيسى ، إن هو إلا قصة تاريخية وضعها بعض المسيحيين ، يبين فيها حياة المسيح وولادته ونشأته ودعوته والأماكن التى تنقل فيها ، والآيات التى ظهرت على يديه ، ومواعظه ومناظراته. كما يتحدث فيها عن ذلك الحادث الخيالى حادث الصلب. وعلى رغم أنها قصة فقد عجزوا عن إقامة الدليل على صحتها وعدالة كاتبها وأمانته وضبطه ، كما أعياهم اتصال السند وسلامته من الشذوذ والعلة. بل ثبت علميا تناقض نسخ هذه القصة التى أسموها الإنجيل ، مما يدل على أنها ليست من عند الله ولو كانت من عند الله ما أتاها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وصدق الله فى قوله عن القرآن : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

(ثانيا) أن سياق هذه الكلمة فى إنجيلهم ، يدل على أن مراده بها تأييد تنبؤاته ، وتأكيد أنها ستقع لا محالة ، أما النسخ فلا صلة لها به نفيا ولا إثباتا. وذلك لأن المسيح حدث أصحابه بأمور مستقبلة ، وبعد أن انتهى من حديثه هذا أتى بهذه الجملة التى تشبثوا بها : «السماء والأرض تزولان وكلامى لا يزول». ولا ريب أن لسياق الكلام تأثيره فى المراد منه. وهكذا شرحها المفسرون منهم للإنجيل وقالوا : إن فهمها على عمومها لا يتفق وتصريح المسيح بأحكام ، ثم تصريحه بما يخالفها. من ذلك أنه قال لأصحابه ـ كما جاء فى إنجيل متى ـ : «إلى طريق أمم لا تمضوا ، ومدينة للسامرين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالجرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» وهذا اعتراف بخصوص رسالته لبنى إسرائيل. ثم قال مرة أخرى ـ كما جاء فى إنجيل مرقس ـ :

«اذهبوا إلى العالم أجمع. واكرزوا بالإنجيل للخليقة». فالقول الثانى ناسخ للأول.

١٠١

(ثالثا) أن هذه الجملة على تسليم صحتها وصحة رواتها وكتابها الذى جاءت فيه. لا تدل على امتناع النسخ مطلقا. إنما تدل على امتناع نسخ شىء من شريعة المسيح فقط فشبهتهم على ما فيها. قاصرة قصورا بينا عن مدعاهم.

٣ ـ شبهة العيسوية :

يقول هؤلاء اليهود أتباع أبى عيسى الأصفهانى : لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الله تعالى قد أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة ، ولأن التوراة قد بشرت بمجيئه ، ولا سبيل أيضا إلى القول بعموم رسالته ، لأن ذلك يؤدى إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته ، وشريعة إسرائيل مؤبدة ، بدليل ما جاء فى التوراة من مثل : «هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات والأرض» وإنما هو رسول إلى العرب خاصة. وعلى هذا فالخلاف بينهم وبين من سبقهم ، أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وشبهتهم التى ساقوها متكافئة مع دعواهم هذه ، ويفهم من اقتصارهم على هذا أنهم يجوزون أن تتناسخ الشرائع سمعا ، فيما عدا هذه الصورة.

وندفع شبههم هذه بأمرين :

(أولهما) أن دليلهم الذى زعموه ، هو دليل العنانية والشمعونية من قبلهم ، ولقد أشبعناه تزييفا وتوهينا ، بالوجوه الستة التى أسلفناها آنفا. فالدفع هنا هو عين الدفع هناك ، فيما عدا الوجه الأول.

(ثانيهما) أن اعترافهم بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به فى التوراة ، يقضى عليهم لا محالة أن يصدقوه فى كل ما جاء به ، ومن ذلك أن رسالته عامة ، وأنها ناسخة للشرائع قبله ، حتى شريعة موسى نفسه ، الذى قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخصوصه : «لو كان أخى موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى»

١٠٢

أما أن يؤمنوا برسالته ، ثم لا يصدقوه فى عموم دعوته ، فذلك تناقض منهم لأنفسهم ، ومكابرة للحجة الظاهرة لهم ، (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ ، كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)!.

٤ ـ شبهة أبى مسلم :

النقل عن أبى مسلم مضطرب ، فمن قائل : إنه يمنع وقوع النسخ سمعا على الاطلاق. ومن قائل : إنه ينكر وقوعه فى شريعة واحدة. ومن قائل : إنه ينكر وقوعه فى القرآن خاصة ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات ، وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن. وأبعد الروايات عن الرجل هى الرواية الأولى ، لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبى مسلم ينكر وقوع النسخ جملة اللهم إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط ، فإنها تهون حينئذ ، على معنى أن ما نسميه نحن نسخا ، يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا. وإلى ذلك ذهب بعض المحققين ؛ قال التاج السبكى : إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذى نسميه نحن نسخا ، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه. ويسميه تخصيصا اه.

احتج أبو مسلم بقوله سبحانه : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). وشبهته فى الاستدلال أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا. والنسخ فيه إبطال لحكم سابق.

وندفع مذهب أبى مسلم وشبهته بأمور أربعة :

(أولها) أنه لو كان معنى الباطل فى الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته ، لكان دليله قاصرا عن مدعاه ، لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ

١٠٣

وهو نسخ الحكم دون التلاوة ، فإنه وحده هو الذى يترتب عليه وجود متروك العمل فى القرآن. أما نسخ التلاوة مع الحكم أو مع بقائه ، فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل.

(ثانيها) أن معنى الباطل فى الآية ما خالف الحق ، والنسخ حق. ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل ، وأحكامه مسايرة للحكمة ، وأخباره مطابقة للواقع وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل ، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأى حال ، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). وبالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزل».

ولعلك تدرك معى أن تفسير الآية بهذا المعنى ، يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه ، منها إلى نفيه وامتناعه ، لأن النسخ ـ كما قررنا ـ تصرف إلهى حكيم ، تقتضيه الحكمة ، وترتبط به المصلحة.

(ثالثها) أن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظى لا يعدو حدود التسمية ، نأخذ عليه أنه أساء الأدب مع الله ، فى تحمسه لرأى قائم على تحاشى لفظ اختاره ـ جلت حكمته ـ ودافع عن معناه بمثل قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها). وهل بعد اختيار الله اختيار؟ وهل بعد تعبير القرآن تعبير؟ (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

(رابعها) أن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص ، وقد فصلناها فيما سبق ، فارجع إليها إن شئت ، حتى تعلم شطط صاحبنا فيما ذهب إليه. جنبنا الله الشطط وطريق العوج.

ملاحظة

تشيع لأبى مسلم بعض الباحثين من قدامى ومحدثين ، وحطبوا فى حبله قليلا أو كثيرا.

وذاعت شبهات حديثة فاسدة حول تشريع الإسلام للنسخ ، ولكنها لا تخرج عند

١٠٤

الإمعان عن نطاق الشبهات الآنفة التى دحضناها. لهذا نكتفى بما ذكرناه عما لم نذكره ، فرارا من التكرار وتجنبا لإثارة الخصام ، وحبا فى الوصول إلى الحقيقة بسلام.

طرق معرفة النسخ

لا بد فى تحقق النسخ ـ كما علمت ـ من ورود دليلين عن الشارع ، وهما متعارضان تعارضا حقيقيا ، لا سبيل إلى تلافيه بإمكان الجمع بينهما على أى وجه من وجوه التأويل. وحينئذ فلا مناص من أن نعتبر أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، دفعا للتناقض فى كلام الشارع الحكيم. ولكن أى الدليلين يتعين أن يكون ناسخا ، وأيهما يتعين أن يكون منسوخا؟ هذا ما لا يجوز الحكم فيه بالهوى والشهوة ، بل لا بد من دليل صحيح يقوم على أن أحدهما متأخر عن الآخر. وإذن فيكون السابق هو المنسوخ ، واللاحق هو الناسخ ولنا إلى هذا الدليل مسالك ثلاثة :

(أولها) أن يكون فى أحد النصين ما يدل على تعيين المتأخر منهما ، نحو قوله تعالى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). ونحو قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ونحو قوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ، ولا تقولوا هجرا».

(ثانيها) أن ينعقد إجماع من الأمة فى أى عصر من عصورها على تعيين المتقدم من النصين والمتأخر منهما.

(ثالثها) أن يرد من طريق صحيحة عن أحد من الصحابة ما يفيد تعيين أحد النصين المتعارضين للسبق على الآخر أو التراخى عنه. كأن يقول : نزلت هذه الآية بعد تلك الآية

١٠٥

أو نزلت هذه الآية قبل تلك الآية أو يقول : نزلت هذه عام كذا ، وكان معروفا سبق نزول الآية التى تعارضها أو كان معروفا تأخرها عنها.

أما قول الصحابى : هذا ناسخ وذاك منسوخ ، فلا ينهض دليلا على النسخ ، لجواز أن يكون الصحابى صادرا فى ذلك عن اجتهاد أخطأ فيه فلم يصب فيه عين السابق ولا عين اللاحق خلافا لابن الحصار ... وكذلك لا يعتمد فى معرفة الناسخ والمنسوخ على المسالك الآتية :

١ ـ اجتهاد المجتهد من غير سند ، لأن اجتهاده ليس بحجه.

٢ ـ قول المفسر هذا ناسخ أو منسوخ من غير دليل ، لأن كلامه ليس بدليل.

٣ ـ ثبوت أحد النصين قبل الآخر فى المصحف ، لأن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول.

(٤) أن يكون أحد الراويين من أحداث الصحابة دون الراوى للنص الآخر ، فلا يحكم بتأخر حديث الصغير عن حديث الكبير. لجواز أن يكون الصغير قد روى المنسوخ عمن تقدمت صحبته ، ولجواز أن يسمع الكبير الناسخ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن يسمع الصغير منه المنسوخ ، إما إحالة على زمن مضى ، وإما لتأخر تشريع الناسخ والمنسوخ كليهما.

٥ ـ أن يكون أحد الراويين أسلم قبل الآخر فلا يحكم بان ما رواه سابق الإسلام منسوخ ، وما رواه المتأخر عنه ناسخ ، لجواز أن يكون الواقع عكس ذلك.

٦ ـ أن يكون أحد الراويين قد انقطعت صحبته ، لجواز أن يكون حديث من بقيت صحبته سابقا حديث من انقطعت صحبته.

٧ ـ أن يكون أحد النصين موافقا للبراءة الأصلية دون الآخر ، فربما يتوهم أن الموافق لها هو السابق ، والمتأخر عنها هو اللاحق ، مع أن ذلك غير لازم ، لأنه لا مانع من تقدم ما خالف البراءة الأصلية على ما وافقها مثال ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا وضوء مما مست

١٠٦

النار» فإنه لا يلزم أن يكون سابقا على الخبر الوارد بإيجاب الوضوء مما مست النار ، ولا يخلو وقوع هذا من حكمة عظيمة ، هى تخفيف الله عن عباده بعد أن ابتلاهم بالتشديد.

قانون التعارض :

وعلى ذكر التعارض فى هذا الباب ، نبين لك أن النصين المتعارضين إما أن يتفقا فى أنهما قطعيان أو ظنيان ، وإما أن يختلفا فيكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا. أما المختلفان فلا نسخ بينهما ، لأن القطعى أقوى من الظنى ، فيؤخذ به ، وما كان اليقين ليترك بالظن. وأما المتفقان فإن علم تأخر أحدهما بطريق من تلك الطرق الثلاث المعتمدة ، فهو الناسخ والآخر المنسوخ. وإن لم يدل عليه واحد منها وجب التوقف. وقيل يتخير الناظر بين العمل بهما.

هذا كله إذا لم يمكن الجمع بين النصين بوجه من وجوه التخصيص والتأويل. وإلا وجب الجمع ، لأن إعمال الدليلين أولى من إعمال دليل وإهدار آخر ، ولأن الأصل فى الأحكام بقاؤها وعدم نسخها فلا ينبغى أن يترك استصحاب هذا الأصل إلا بدليل بين.

ما يتناوله النسخ

إن تعريف النسخ بأنه رفع حكم شرعى بدليل شرعى ، يفيد فى وضوح أن النسخ لا يكون إلا فى الأحكام. وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ ، لكن فى خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات ومدلولات الأخبار المحضة ، فلا نسخ فيها على الرأى السديد الذى عليه جمهور العلماء.

أما العقائد فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل ، فبدهى ألا يتعلق بها نسخ.

وأما أمهات الأخلاق فلأن حكمة الله فى شرعها ، ومصلحة الناس فى التخلق بها.

١٠٧

أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن ، ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم ، حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير.

وأما أصول العبادات والمعاملات فلوضوح حاجة الخلق إليهما باستمرار ، لتزكية النفوس وتطهيرها ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة فى رفعها بالنسخ.

وأما مدلولات الأخبار المحضة فلأن نسخها يؤدى إلى كذب الشارع فى أحد خبريه الناسخ والمنسوخ. وهو محال عقلا ونقلا. أما عقلا فلأن الكذب نقص ، والنقص عليه تعالى محال. وأما نقلا فلمثل قوله سبحانه : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً).

نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان : إحداهما أن تنزل الآية مخبرة عن شىء ثم تنسخ تلاوتها فقط. والأخرى أن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شىء ثم ينهانا أن نتحدث به.

وأما الخبر الذى ليس محضا. بأن كان فى معنى الإنشاء ، ودل على أمر أو نهى متصلين بأحكام فرعية عملية ، فلا نزاع فى جواز نسخه والنسخ بة ، لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ.

مثال الخبر بمعنى الأمر قوله تعالى : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) فإن معناه ازرعوا.

ومثال الخبر بمعنى النهى قوله سبحانه : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) فإن معناه لا تنكحوا مشركة ولا زانية (بفتح التاء) ولا تنكحوهما (بضم التاء) ، لكن على بعض وجوه الاحتمالات دون بعض.

والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها ، أن فروعها هى ما تعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد ، أو هى كمياتها وكيفياتها. وأما أصولها فهى ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف.

١٠٨

واعلم أن ما قررناه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية العلمية دون سواها ، هو الرأى السائد الذى ترتاح إليه النفس ويؤيده الدليل ، وقد نازع فى ذلك قوم لا وجه لهم ، فلنضرب عن كلامهم صفحا :

«وليس كل خلاف جاء معتبرا

إلا خلاف له حظ من النظر»

ويتصل بما ذكرنا أن الأديان الإلهية لا تناسخ بينها فيما بيناه من الأمور التى لا يتناولها النسخ. بل هى متحدة فى العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات وفى صدق الأخبار المحضة فيها صدقا لا يقبل النسخ والنقض. وإن شئت أدلة فهاك ما يأتى من القرآن الكريم : ـ ١ ـ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).

٢ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

٤ ـ (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).

٥ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

٦ ـ (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ).

١٠٩

٧ ـ (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ).

٨ ـ (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ).

٩ ـ (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ).

١٠ ـ (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ : يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) إلى آخر ما جاء فى قصة لقمان.

أنواع النسخ فى القرآن

النسخ الواقع فى القرآن ، يتنوع إلى أنواع ثلاثة : نسخ التلاوة والحكم معا ، ونسخ الحكم ، دون التلاوة ، ونسخ التلاوة دون الحكم.

(١) أما نسخ الحكم والتلاوة جميعا ، فقد أجمع عليه القائلون بالنسخ من المسلمين ويدل على وقوعه سمعا ما ورد عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : «كان فيما أنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحر من ، ثم نسخن بخمس معلومات. وتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن». وهو حديث صحيح. وإذا كان موقوفا على عائشة رضى الله عنها فإن له حكم المرفوع ، لأن مثله لا يقال بالرأى ، بل لا بد فيه من توقيف. وأنت خبير بأن جملة : عشر رضعات معلومات يحرمن ، ليس لها وجود فى المصحف حتى تتلى ، وليس العمل بما تفيده من الحكم باقيا ، وإذن يثبت وقوع نسخ التلاوة والحكم جميعا. وإذا ثبت وقوعه ثبت جوازه ؛ لأن الوقوع أول دليل على الجواز. وبطل مذهب المانعين لجوازه شرعا ، كأبى مسلم وأضرابه.

(٢) وأما نسخ الحكم دون التلاوة فيدل على وقوعه آيات كثيرة :

١١٠

منها أن آية تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) منسوخة بقوله سبحانه : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ). على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية ، مع أن تلاوة كلتيهما باقية.

ومنها أن قوله سبحانه : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) منسوخ بقوله سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) على معنى أن حكم تلك منسوخ بحكم هذه ، مع بقاء التلاوة فى كلتيهما كما ترى.

(٣) وأما نسخ التلاوة دون الحكم ، فيدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر بن الخطاب وأبى بن كعب أنهما قالا : «كان فيما أنزل من القرآن : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة اه. وأنت تعلم أن هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتى المصحف ولا على ألسنة القراء ، مع أن حكمها باق على إحكامه لم ينسخ.

ويدل على وقوعه أيضا ما صح عن أبى بن كعب أنه قال : «كانت سورة الأحزاب توازى سورة البقرة أو أكثر» مع أن هذا القدر الكبير الذى نسخت تلاوته لا يخلو فى الغالب من أحكام اعتقادية لا تقبل النسخ. ويدل على وقوعه أيضا الآية الناسخة فى الرضاع ؛ وقد سبق ذكرها فى النوع الأول.

ويدل على وقوعه أيضا ما صح عن أبى موسى الأشعرى أنهم كانوا يقرءون سورة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى طول سورة براءة ، وأنها نسيت إلا آية منها ، وهى : «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب.»

١١١

وإذا ثبت وقوع هذين النوعين كما ترى ، ثبت جوازهما ، لأن الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرر. وإذن بطل ما ذهب إليه المانعون له من ناحية الشرع ، كأبى مسلم ومن لف لفه. ويبطل كذلك ما ذهب إليه المانعون له من ناحية العقل ، وهم فريق من المعتزلة شذ عن الجماعة فزعم أن هذين النوعين الأخيرين مستحيلان عقلا.

ويمكنك أن تفحم هؤلاء الشذاذ من المعتزلة بدليل على الجواز العقلى الصرف لهذين النوعين فتقول : إن ما يتعلق بالنصوص القرآنية من التعبد بلفظها ، وجواز الصلاة بها ، وحرمتها على الجنب فى قراءتها ومسها ، شبيه كل الشبه بما يتعلق بها من دلالتها على الوجوب والحرمة ونحوهما ، فى أن كلا من هذه المذكورات حكم شرعى يتعلق بالنص الكريم وقد تقتضى المصلحة نسخ الجميع ، وقد تقتضى نسخ بعض هذه المذكورات دون بعض ، وإذن يجوز أن تنسخ الآية تلاوة وحكما ، ويجوز أن تنسخ تلاوة لا حكما ؛ ويجوز أن تنسخ حكما لا تلاوة. وإذا ثبت هذا بطل ما ذهب إليه أولئك الشذاذ من الاستحالة العقلية للنوعين الأخيرين.

شبهات أولئك المانعين ودفعها

وتتميما للفائدة نعرض عليك شبهاتهم ، مفندين لها شبهة شبهة.

الشبهة الأولى ودفعها :

يقولون : إنّ الآية والحكم المستفاد منها متلازمان تلازم المنطوق والمفهوم ، فلا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر.

والجواب أن التلازم بين الآية وحكمها مشروط فيه انتفاء المعارض وهو الناسخ ، أما إذا وجد الناسخ فلا تلازم ، والأمر حينئذ للناسخ ، إن شاء رفع الحكم وأبقى على التلاوة ، وإن شاء عكس وإن شاء رفعهما معا ، على حسب ما تقتضيه الحكمة أو المصلحة. ونظير

١١٢

ذلك أن التلازم بين منطوق اللفظ ومفهومه مشروط فيه انتفاء المعارض. أما إذا وجد منطوق معارض للمفهوم ؛ فإن المفهوم حينئذ يعطل ، ويبقى العمل بالمنطوق وحده.

الشبهة الثانية ودفعها :

يقولون : إن نسخ الحكم دون التلاوة ، يستلزم تعطيل الكلام الإلهى وتجريده من الفائدة. وهذا عيب لا يرضى به عاقل لأقل نوع من كلامه ، فكيف يرضى به الله لأفضل كلامه؟.

والجواب أنا لا نسلم هذا اللزوم. بل الآية بعد نسخ حكمها دون تلاوتها ، تبقى مفيدة للاعجاز ، وتبقى عبادة للناس. وتبقى تذكيرا بعناية الله ورحمته بعباده حيث سن لهم فى كل وقت ما يساير الحكمة والمصلحة من الأحكام يضاف إلى ذلك أن الآية بعد نسخ حكمها ، لا تخلو غالبا من دعوة إلى عقيدة ، أو إرشاد إلى فضيلة ، أو ترغيب فى خير ؛ ومثل ذلك لا ينسخ بنسخ الحكم ، بل تبقى الآية مفيدة له ، لأن النسخ لا يتعلق به كما مر.

الشبهة الثالثة ودفعها :

يقولون : إن بقاء التلاوة بعد نسخ الحكم ، يوقع فى روع المكلف بقاء هذا الحكم ، ذلك تلبيس وتوريط للعبد فى اعتقاد فاسد ومحال على الله أن يشكك أو يورط عبده.

والجواب أن ذلك التلبيس وهذا التوريط ، كان يصح ادعاؤهما واستلزام نسخ الحكم دون التلاوة لهما ، لو لم ينصب الله دليلا على النسخ. أما وقد نصب عليه الدلائل ، فلا عذر لجاهل ، ولا محل لتوريط ولا تلبيس ، لأن الذى أعلن الحكم الأول بالآية وشرعه ، هو الذى أعلن بالناسخ أنه نسخه ورفعه : «قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين».

(٨ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

١١٣

اللهم اهدنا بهداك يا رب العالمين. فإنه لا هادى إلا أنت. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

الشبهة الرابعة ودفعها :

يقولون : إن الآية دليل على الحكم ، فلو نسخت دونه لأشعر نسخها بارتفاع الحكم. وفى ذلك ما فيه من التلبيس على المكلف والتوريط له فى اعتقاد فاسد :

وندفع هذه الشبهة بأن تلك اللوازم الباطلة تحصل لو لم ينصب الشارع دليلا على نسخ التلاوة ، وعلى إبقاء الحكم. أما وقد نصب الدليل على نسخ التلاوة وحدها ، وعلى إبقاء الحكم وتقرير استمراره كما فى رجم الزناة المحصنين ، فلا تلبيس من الشارع على عبده ولا توريط.

الشبهة الخامسة ودفعها :

يقولون : إن نسخ التلاوة مع بقاء الحكم عبث لا يليق بالشارع الحكيم ؛ لأنه من التصرفات التى لا تعقل لها فائدة.

وندفع هذه الشبهة بجوابين :

(أحدهما) أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجردا من الحكمة ، ولا خاليا من الفائدة ، حتى يكون عبثا ، بل فيه فائدة أى فائدة. وهى حصر القرآن فى دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره ، وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه ، وذلك سور محكم ، وسياج منيع ، يحمى القرآن من أيدى المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص ، لأن الكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ، ثم حاول أحد تحريفه ، سرعان ما يعرف ، وشد

١١٤

ما يقابل بالإنكار وبذلك يبقى الأصل سليما من التغيير والتبديل ، مصداقا لقوله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

والخلاصة أن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات فى أحكام شرعية عملية ، حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام ، نسخ سبحانه هذه الآيات فى تلاوتها فقط ، رجوعا بالقرآن إلى سيرته من الإجمال ، وطردا لعادته فى عرض فروع الأحكام من الإقلال ، تيسيرا لحفظه وضمانا لصونه (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

(ثانيهما) أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة فى هذا النوع من النسخ ، فإن عدم العلم بالشىء لا يصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء ، وإلا فمتى كان الجهل طريقا من طرق العلم؟ ثم إن الشأن فى كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم ، أن يصدر لحكمة أو لفائدة ، نؤمن بها وإن كنا لا نعلمها على التعيين. وكم فى الإسلام من أمور تعبدية ، استأثر الله بعلم حكمتها ، أو أطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه والمحبوبين لديه ، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

ولا بدع فى هذا ، فرب البيت قد يأمر أطفاله بما لا يدركون فائدته لنقص عقولهم ، على حين أنه فى الواقع مفيد ، وهم يأتمرون بأمره وإن كانوا لا يدركون فائدته. والرئيس قد يأمر مرءوسيه بما يعجزون عن إدراك سره وحكمته ، على حين أن له فى الواقع سرا وحكمة وهم ينفذون أمره وإن كانوا لا يفهمون سره وحكمته.

كذلك شأن الله مع خلقه فيما خفى عليهم من أسرار تشريعه ، وفيما لم يدركوا من فائدة نسخ التلاوة دون الحكم. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

١١٥

النسخ ببدل وبغير بدل

الحكم الشرعى الذى ينسخه الله ، إما أن يحل ـ سبحانه ـ محله حكما آخر أولا. فإذا أحل محله حكما آخر فذلك هو النسخ ببدل. وإذا لم يحل محله حكما آخر فذلك هو النسخ بغير بدل ، وكلاهما جائز عقلا وواقع سمعا على رأى الجمهور.

مثال النسخ ببدل أن الله تعالى نهى المسلمين أول الأمر عن قتال الكفار ، ورغبهم فى العفو والصفح ؛ بمثل قوله سبحانه : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم نسخ الله هذا النهى وأذنهم بالجهاد فقال : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ، وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ. وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً. وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ).

ثم شدد الله وعزم عليهم فى النفير للقتال ، وتوعدهم إن لم ينفروا فقال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا. فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى. وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا. وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

١١٦

ومثال النسخ بلا بدل أن الله تعالى أمر بتقديم الصدقة بين يدى مناجاة الرسول فقال. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) ثم رفع هذا التكليف عن الناس من غير أن يكلفهم بشيء مكانه ، بل تركهم فى حل من ترك الحكم الأول دون أن يوجه إليهم حكما آخر. فقال : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ).

شبهة ودفعها

ذلك مذهب الجمهور من العلماء ، ولكن بعض المعتزلة والظاهرية يقولون : إن النسخ بغير بدل لا يجوز شرعا. وشبهتهم فى هذا أن الله تعالى يقول : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها). ووجه اشتباههم أن الآية تفيد أنه لا بد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم آخر هو خير منه أو مثله. ولكنها شبهة مدفوعة بما ذكرنا من النصين السابقين فى تقديم الصدقة بين يدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واحتجاجهم بآية «ما ننسخ» على الوجه الذى ذكروه احتجاج داحض ، لأن الله تعالى إذا نسخ حكم الآية بغير بدل ، فهمنا بمقتضى حكمته أو رعايته لمصلحة عباده أن عدم الحكم صار خيرا من ذلك الحكم المنسوخ فى نفعه للناس. وصح أن يقال حينئذ إن الله نسخ حكم الآية السابقة ، وأتى بخير منها فى الدلالة على عدم الحكم الذى بات فى وقت النسخ أنفع للناس وخيرا لهم من الحكم المنسوخ. ومعنى آية «ما ننسخ» لا يأبى هذا التأويل ، بل يتناوله كما يتناول سواه ، والنسخ فيها أعم من نسخ التلاوة والحكم مجتمعين ومنفردين ، ببدل وبغير بدل والخيرية والمثلية فيها أعم من الخيرية والمثلية فى الثواب وفى النفع. وقد مر بيان ذلك فيما سبق عند الكلام على أدلة النسخ عقلا.

١١٧

نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل

النسخ إلى بدل يتنوع إلى أنواع ثلاثة :

(أولها) النسخ إلى بدل أخف على نفس المكلف من الحكم السابق كنسخ تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم فى ليل رمضان بإباحة ذلك ؛ إذ قال سبحانه : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ، هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ. عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ، وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

(ثانيها) النسخ إلى بدل مساو للحكم الأول فى خفته أو ثقله على نفس المكلف ، كنسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة فى قوله سبحانه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

وهذان النوعان لا خلاف فى جوازهما عقلا ووقوعهما سمعا عند القائلين بالنسخ كافة.

(ثالثها) النسخ إلى بدل أثقل من الحكم المنسوخ. وفى هذا النوع يدب الخلاف : فجمهور العلماء يذهبون إلى جوازه عقلا وسمعا ، كالنوعين السابقين ، ويستدلون على هذا بأمثلة كثيرة تثبت الوقوع السمعى ، وهو أدل دليل على الجواز العقلى كما علمت. من تلك الأمثلة أن الله تعالى نسخ إباحة الخمر بتحريمها. ومنها أنه تعالى نسخ ما فرض من مسالمة الكفار المحاربين بما فرض من قتالهم (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ، ومنها أن حد الزنى كان فى فجر الإسلام لا يعدو التعنيف والحبس فى البيوت ، ثم نسخ

١١٨

ذلك بالجلد والنفى فى حق البكر ، وبالرجم فى حق الثيب. ومنها أن الله تعالى فرض على المسلمين أولا صوم يوم عاشوراء ، ثم نسخه بفرض صوم شهر رمضان كله مع تخيير الصحيح المقيم بين صيامه والفدية ، ثم نسخ سبحانه هذا التخيير بتعيين الصوم على هذا الصحيح المقيم إلزاما.

شبهات المانعين ودفعها

ذلك ما ارتآه الجمهور. ولكن قوما شطوا فمنعوا هذا النوع الثالث عقلا. وآخرون أسرفوا فمنعوه سمعا. وكلهم محجوجون بما ذكرنا من الأدلة. غير أنا لا نكتفى بذلك ، بل نعرض عليك شبهاتهم ، ونفندها بين يديك لئلا تنخدع ولا نسمح لأحد أن ينخدع!؟

الشبهة الأولى ودفعها :

يقول المانعون لهذا النوع عقلا : إن تكليف الله لعباده لا بد أن يكون لمصلحة راجعة إلى العباد لا إليه. ومحال أن يكون لغير مصلحة ، وإلا كان الله سبحانه عابثا. ومحال أن يكون لمصلحة تعود على الله ، لأنه تعالى هو الغنى عن خلقه جميعا. وإذا كان التكليف راجعا لمصلحة العباد وحدهم ، فلا بد أن يكون على حالة تدعو إلى امتثالهم. وليس فى نقل العباد من الأخف إلى الأشد داعية إلى امتثالهم. بل هو العكس من ذلك : فيه تزهيد لهم فى الطاعة ، وتثبيط لهم عن الواجب. وكل ما كان كذلك يمتنع أن يصدر من الله عقلا.

وندفع هذه الشبهة : (أولا) بأن هذه سفسطات مفضوحة ، ومغالطات مكشوفة ، عمى فيها هؤلاء أو تعاموا عن الحقائق الواقعة فى التشريع ، وهى نقل العباد فعلا من أحكام خفيفة إلى أحكام أشد منها. كما مثلنا آنفا.

(ثانيا) أننا نقلب حجة هؤلاء عليهم ، ونرد كيدهم فى نحرهم ، ونعمل سلاحهم

١١٩

فى أعناقهم ، ونقول لهم : إن مصلحة العباد التى هى مقصود الشارع الحكيم الرحيم ، تقضى أن يكون تكليفه إياهم على حالة تدعو إلى امتثالهم ، وذلك بأن يتدرج بهم ، فيمهد ويمهد للتكليف الخفيف بتكليف أخف منه ، ويمهد للتكليف الثقيل بتكليف خفيف ، وللتكليف الأثقل بتكليف ثقيل ، لأن الناس لو بوغتوا من أول الأمر بالثقيل مثلا لعجزوا ونفروا وانعكس المقصود من هدايتهم. ولذلك نشاهد حكماء المربين ، وساسة الأمم القادرين يبتدئون فى تربيتهم وسياستهم بأيسر الأمور ، ثم بعد ذلك يتدرجون ولا يطفرون.

(ثالثا) أن دليلهم هذا منقوض بما لا يسعهم إنكاره ، وهو تكليف الله عباده ابتداء ونقلهم من الإباحة المطلقة أو البراءة الأصلية إلى مشقة التكاليف المتنوعة. فما يكون جوابا لهم عن هذه يكون جوابا لنا عما منعوه هنا.

(رابعا) أنهم متناقضون ، فإن مصلحة العباد التى جعلوها مناط شبهتهم تأبى مفاجأة الناس بالأشد من غير تمهيد بالأخف ، ومذهبهم لا يأبى التكليف من أول الأمر بالأشد دون تمهيد بالأخف!.

(خامسا) أننا لا نسلم أن مقصود الشارع من التكاليف هو مجرد مصالح الناس ، بل تارة يكون المقصد هو المصلحة ، وتارة يكون المقصد هو الابتلاء والاختبار ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، حتى لا يكون لأحد بعد تمايز الناس بابتلائه حجة. وقد أعلن الله هذا المقصد الثانى فى آيات كثيرة ، منها قوله سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ). ومنها قوله عز اسمه : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ). ومنها قوله جلت حكمته (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

وإذن فنسخ الحكم بأشد قد يكون ابتلاء للعباد ، إن لم يكن مصلحة لهم. وتلك حكمة بالغة تلغى عن الله العبث.

١٢٠